От вероисповедания к революции (1): Теоретические предпосылки
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Жанры
والحقيقة أنه ليس هناك علم «أشرف» من علم آخر؛ فالعلوم كلها على مستوى واحد؛ لأن الموضوعات كلها على مستوى واحد، لا تفاضل بينها في الشرف أو القيمة، علم النبات ليس أشرف من علم الحشرات، وعلم الحيوان ليس أشرف من علم النبات، والعلوم الإنسانية ليست أشرف من العلوم الطبيعية، والعلوم الإلهية ليست أفضل من العلوم الإنسانية، وتعبر ألفاظ «أشرف» و«أفضل» عن أحكام قيمة وليس عن أحكام واقع، كما تعبر عن إسقاط من الإنسان على الواقع وليس عن الواقع ذاته. إن موضوعات الطبيعة لا تتفاوت فيما بينها شرفا وكمالا، بل يقع التفاوت في أعمال الإنسان.
3
وإذا كان لموضوع الذات شرف، فهو أنه أول حقيقة يقينية يبدأ منها الإنسان، وهي ذاته وصفاته وفي مقدمتها الفكر، فهي ذات مفكرة، وأفعالها وأولها التغيير والتطوير، فهي ذات فاعلة؛ أي أن الحقيقة اليقينية الأولى التي يضعها العلم ويبدأ منها هي أن الإنسان نظر وعمل، وأن الذات فكر وسلوك، وشرف الذات ناتج عن كونها خالصة متعالية مفارقة، تشير إلى مستوى لامادي مثل المعيار في المنطق، فالخالص أساس الشائب، والصوري مقياس المادي؛ ومن ثم كان علم أصول الدين علما معياريا، نظريا صوريا خالصا، على أساسه يمكن إقامة علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، يتميز الموضوع إذن بكل خصائص العلم المجرد، مثل الشمول والعلو. موضوع العلم هو الشامل لا المتعين، والعام لا الخاص، والمتعالي لا الطبيعي الذي لا يفارق مادته، شرف الموضوع في أنه المبدأ العام الذي ينتسب إليه الإنسان نظرا وعملا، وهو ذاته التي تصل إلى حد الإطلاق عند تحقيق رسالتها، وحين تمتد وتنتشر وتحتوي العالم داخلها فتتحول إلى مطلق.
ويضع علم الكلام ذات الرسول مع ذات الله، كلاهما موضوعان شريفان، وبالرغم مما في هذا الوضع من نقص في التنزيه للذات الإلهية ومساواتها على نفس درجة الشرف لذات النبي، فإن الذوات الإنسانية لا تتفاضل أيضا فيما بينها، فلا توجد ذات إنسانية أشرف من ذات إنسانية أخرى حتى ولو كانت ذات النبي، الكل بشر، يتمثل نفس الأساس النظري، ويحققه بنفس أنماط السلوك، وليس للنبي وظيفة زائدة على وظائف سائر البشر إلا التبليغ الذي يمكن أن يقوم به أي إنسان، أما صلة النبي كمبلغ بمصدر الرسالة فهو خارج نطاق العلم وأدخل في نظرية النبوة والاتصال في علوم الحكمة.
وإذا نظرنا إلى نتائج العلم التي انتهى إليها في أشرف الموضوعات، وهي الذات الإلهية والذات النبوية، لوجدنا أنها لا تليق بها؛ فقد حدث تأليه للأشخاص عند غلاة الشيعة، كما ظهر تجسيم للذات في عموم الشيعة، كما حدث تشبيه عند أهل السنة، ولم يظهر التنزيه إلا عند المعتزلة، وبالرغم من أن هذا التنزيه أيضا هو تجريد إنساني عال، وإطلاق للصفات الإنسانية إلى أقصى حد، إلا أنهم لم يقدر لآرائهم الاستمرار والبقاء بعد انتصار «الأشعرية» كعقيدة رسمية للدولة، حتى هذا التنزيه الاعتزالي قائم على قدر من التشخيص للذات الإلهية وتصورها على أنها ذات إنسانية لها صفات وأفعال، فما أملنا فيه، ورغبنا في تحقيقه، ولم نستطع جعلناه صفات إيجابية للذات الإلهية، وما تصورنا أنه نقص وعيب فينا نفيناه عن الذات الإلهية، وما عجزنا عن التعبير عنه قسناه على أنفسنا؛
4
ومن ثم انتهى الحديث عن أشرف الموضوعات إلى حديث الإنسان عن نفسه ورجعنا إلى الموضوع الطبيعي.
وبالإضافة إلى هذا الانتقاص من شأن أشرف الموضوعات بتأليه الأشخاص وتأليه الطبيعة، والتجسيم والتشبيه والتشخيص، وهي كلها أخطاء في تصور الألوهية، يتدخل أشرف الموضوعات في الحياة الإنسانية ليقضي على كيانها واستقلالها؛ ففي أفعال الإنسان أدى تصور أشرف الموضوعات إلى القول بالجبر أو بالكسب الذي لا يختلف كثيرا عن الجبر، ووضعت الحرية الإنسانية موضع الشك، كما أدى في تصور العقل إلى إنكار استقلاله وقدرته على فهم الظواهر، وجعله تابعا مبررا لا بادئا وناقدا. أدى أشرف الموضوعات إلى إثبات أولوية النقل؛ كلام الله، على العقل وهو كلام الإنسان وفهمه وإدراكه، كما كان من الضروري جعل أشرف الموضوعات مسئولا عن الخير والشر معا في العالم، وليست مسئولية الأوضاع الاجتماعية وممارسة الأفراد لحرياتهم، وفي الطبيعة كان من الضروري السماح لأشرف الموضوعات بالتدخل بإرادته المشخصة في سير قوانين الطبيعة وإنكار ثبوتها واطرادها مما يفسح المجال للأسطورة والخرافة، وفي عمل الإنسان كان من الطبيعي لأشرف الموضوعات أن يرعى الإنسان برحمته ويرجئ عمله عن إيمانه، وأن يعفو، وأن يغفر، وأن يتوب على الناس معطيا الأولوية للإيمان على العمل؛ ومن ثم خرج الفعل من الإيمان، وتحول الإيمان إلى إيمان العجائز والضعفاء، وترك الفعل الإنساني حتى يفعل الحاكم ما يشاء، وفي السياسة كان من الطبيعي أن يعين أشرف الموضوعات الحاكم، وأن يطالب الناس بالطاعة والولاء الدائم للسلطة القائمة على الحق الإلهي، وليس على الاختيار الإنساني أو العقد الاجتماعي الذي يمكن أن يفسخ إذا ما خرج الحاكم على بنوده وشروطه، وأصبح الحاكم هو المنقذ والمخلص وليس فعل الإنسان وجهده ورقابته على ما يدور حوله وأمامه. صحيح أنه كانت هناك اتجاهات معارضة تنكر التأليه والتشبيه والتشخيص، وتؤول ذلك كله على أنه مجاز، وتثبت حرية الأفعال، وتؤكد أولوية العقل على النقل، وتجعل الإنسان مسئولا عن الخير والشر، والعمل معبرا عن الإيمان، وترى في الطبيعة كمونا وقوانين ثابتة وطبائع الأشياء، وتجعل من مستقبل الإنسان أملا إنسانيا ونزوعا نحو الكمال وليس تشخيصا لعوالم متخيلة تلعب فيها الذات المشخصة الدور الرئيسي، وتصر على الشورى والبيعة كأساس للحكم، ولكن هذه الاتجاهات ما دامت منقوضة باتجاهات أخرى معارضة، فإنها تكون مجرد وجهات نظر لأصحابها إن لم توصف بالخروج على التقليد والإجماع، وإن لم تتهم بالإلحاد والكفر، فأصبح الخطأ بديلا عن الصواب، والباطل اختيارا أمام الحق، وقد يتهرب الجميع عن الحق والصواب، نظرا وعملا، بدعوى أن فيهما «قولان». (2) من حيث المنهج
وإذا كان الشرف من ناحية المنهج؛ فالمناهج كلها على مستوى واحد من الشرف، كل منهج له موضوعه، وكل موضوع له منهجه، ويكون الخطأ في المنهج أساسا باستعمال منهج غير ملائم لموضوعه، فالموضوع التجريبي الحسي يلائمه منهج استقرائي، والموضوع العقلي الصوري يلائمه منهج استنباطي، والموضوع الإنساني الشعوري يلائمه منهج استبطاني يقوم على تحليل الظواهر الشعورية، ولما كانت موضوعات علم الكلام قد عرضها القدماء على أنها موضوعات عقلية، فقد استعمل المنهج العقلي في دراستها وفهمها دون المناهج الاستقرائية أو الشعورية، في حين أن العقائد الإسلامية موجهات للسلوك تفعل في الناس، وتؤثر في مجرى حياتهم؛ ومن ثم لزمت المناهج الاستقرائية الإحصائية لمعرفة هذا الجانب العملي من العقائد، وضرورة إلحاق المناهج الاجتماعية بالمناهج العقلية، كما أن العقائد الإسلامية تجارب إنسانية عامة يمكن التحقق من معانيها عن طريق تحليل وإدراك دلالاتها؛ ومن ثم إلحاق مناهج التحليل الشعوري بالمناهج العقلية النقلية التقليدية، وليس هناك منهج أشرف من منهج، فالمناهج كلها على مستوى الشرف على حد سواء.
ولكن السؤال هو: هل استطاع علم الكلام اعتمادا على المناهج العقلية التي مارسها القدماء الوصول إلى الأسس النظرية للعقائد أي إلى أصول الدين؟ هل كان استعمال العلم للعقل استعمالا برهانيا أم استعمالا جدليا؟ هل استطاع العقل أن يوصلنا إلى اليقين، أم أنه لم يتجاوز حدود الظن؟ هل استعمل العقل استعمالا مستقلا، أم أنه كان قائما على النقل؟ الحقيقة أن علم الكلام لم يعطنا إلا أسسا ظنية للعقائد، بدليل اختلافها وتضاربها، وكلها تدعي اليقين والصواب.
Неизвестная страница