مقدمة
القسم الأول: من باريس
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
القسم الثالث: خواطر سائح
القسم الرابع: بين العلم والدين
القسم الخامس: بين الجد والهزل
مقدمة
القسم الأول: من باريس
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
القسم الثالث: خواطر سائح
Неизвестная страница
القسم الرابع: بين العلم والدين
القسم الخامس: بين الجد والهزل
من بعيد
من بعيد
تأليف
طه حسين
مقدمة
هذه فصول متفرقة لا يكاد يجمع بينها إلا أنها كتبت من بعيد. كتبت من بعيد في المكان، وكتبت من بعيد في الزمان أيضا. فأكثرها كتب من باريس، وبعضها كتب من ڤينا، وقليل جدا منها كتب في القاهرة.
وأقدم هذه الفصول عهدا كتب سنة 1923، وأحدثها عهدا كتب سنة 1930؛ فهي كما ترى جاءت من بعيد في المكان والزمان جميعا.
وقد يظهر للنظرة الأولى أن بعد المكان لا يؤثر في كتابة الكاتب، ولكنك إذا قرأت هذه الفصول وما يشبهها فستتبين في غير شك أن النأي عن الدار والتنقل في أقطار الغربة يثيران في نفس الكاتب من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة والاستقرار، ومما يهيئان الكاتب تهيئة خاصة للشعور والحس، وللتفكير والتعبير، لا تستقيم له حين يكون مقيما مستقرا في داره بين أهله ومواطنيه، يرى في كل يوم مثل ما كان يراه من قبل، لا تكاد تختلف الظروف التي تحيط به إلا اختلافا يسيرا بطيئا، لا يكاد يحس.
Неизвестная страница
فليس من شك إذن في أن لبعد المكان أثرا في إعداد الكاتب للكتابة، أثرا فنيا خاصا، غير هذا الأثر الظاهر الذي يراه الناس حين يقرءون ما يكتبه المسافر عما يرى ويشهد من الأقطار.
ومن أجل هذا جمعت هذه الفصول التي كتبت من بعيد في سفر واحد، وقد يظهر للنظرة الأولى أيضا أن بعد الزمان بفصل من الفصول، أو كتاب من الكتب، لا أثر له في ذلك الفصل أو هذا الكتاب، ولكن قليلا من التفكير أيضا يدل على أن من الخير أن نعود بين حين وحين، إلى ما كنا نكتبه في الأعوام التي مضت، وبعد بها العهد؛ لنرى كيف كنا نكتب ، وكيف كنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نحس ونشعر ونفكر، وكيف أصبحنا نرى الناس والأشياء؛ لنتبين في جملة موجزة مقدار ما أدركنا من تطور الحس والشعور والتفكير والتعبير أيضا. ولست أخفي عليك أني قد قرأت هذه الفصول التي كتبت كلها أثناء ثمانية أعوام، ومضى بيني وبين آخرها أكثر من خمسة أعوام في شيء من الحنان إلى تلك العهود التي كنا نشكو فيها المشقة والجهد، ونضيق فيها بالحياة والأحياء، ثم أصبحنا الآن نود لو تعود إلينا أو لو نعود إليها لا ليعود إلينا معها الشباب؛ بل لتعود إلينا معها حياة هي من غير شك خير من الحياة التي نحياها الآن.
كنا في تلك العهود أحرارا نفكر ونقول، كما نريد أن نفكر ونقول، كنا نلقى ألوانا من المقاومة فلا تزيدنا إلا طموحا إلى الحرية وإمعانا فيها، وكنا ننظر إلى الجهاد في سبيل الرأي وحرية الرأي على أنه حاجة من حاجات الحياة، وضرورة من ضرورات الوجود الحر، فأين نحن من هذا الآن؟
كنا نشكو أحيانا ظلم الحكومات وجنوحها إلى الاستبداد ونصرها للجمود، ولكنا كنا نجد الشعب دائما مواتيا لنا، يمنحنا نصره، ووده، وعطفه، وتأييده. أما الآن فقد اشتد عنف السلطان، وأسرف في الشدة حتى اضطر الكتاب والخطباء إلى أن يفكروا ويقدروا، ويطيلوا التفكير والتقدير قبل أن يكتبوا أو يقولوا، وقد وجد الاستبداد الرسمي المتصل لنفسه أنصارا وأعوانا من طبقات الشعب لم يكن ليظفر بهم من قبل. فوجدت أحزاب مهما تكن ضئيلة قليلة الخطر؛ فهي أحزاب منظمة تناصر الجور والاستبداد، وتدعو إلى التأخر والرجوع إلى وراء، وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فقد كثر الاضطراب في نظمنا السياسية، وطال عهد البلاد بحكومات لم تكن تقدر الحق ولا العدل ولا القانون، ولم تكن تقصر في التماس الأعوان ولا الأنصار، بألوان الترغيب والترهيب. فليس الغريب أن توجد الأحزاب التي تكره النظر إلى أمام وتحب النظر إلى وراء، وإنما الغريب ألا توجد، والغريب أيضا أن تكون من الضعف والضآلة وقلة الخطر بحيث هي الآن.
وكثير من الذين سيقع في أيديهم هذا السفر قد قرءوه حين نشر فصولا مفرقة، ولكن كثيرا جدا من الذين سيقع في أيديهم هذا السفر لم يقرءوه، ولم يعرفوا من فصوله شيئا؛ لأنهم كانوا أطفالا يدرجون، وصبية يختلفون إلى المدارس الابتدائية حين نشرت كثرة هذه الفصول، ثم هم الآن شباب يتمون درسهم الثانوي، أو يأخذون في درسهم الجامعي، فمن حقهم أن يروا كيف كنا نجاهد الحياة حين كانوا هم يستقبلون الحياة باسمين. فإلى هؤلاء القراء الناشئين أهدي هذه الفصول سعيدا راضيا؛ لأنهم سيرون حين يقرءونها أني كنت أتحدث إلى الذين سبقوهم بنفس الآراء التي أتحدث بها إليهم الآن، وأني كنت أدعو الذين سبقوهم إلى نفس المثل العليا التي أدعوهم إليها الآن، ولست أدري إلى أي حد أتيح لي التوفيق مع الذين سبقوهم، ولكن أرجو أن يكون توفيقي معهم أعظم وأقوى وأبقى أثرا.
يونيو سنة 1935
طه حسين
القسم الأول: من باريس
(1) في السفينة
تحية طيبة زكية إليك أيها القارئ الكريم من كاتب حرم التحدث إليك حينا، وكثيرا ما نازعته نفسه إلى هذا التحدث فلم يجد إليه سبيلا.
Неизвестная страница
مرضت أسبوعا، وسافرت أسبوعا، فلم أستطع أن أتحدث إليك، ولقد كنت إلى ذلك مشوقا، ولم تكن تنقصني الخواطر التي تصلح موضوعا للأحاديث، فإن المرض والسفر كليهما ممتلئان بهذه الخواطر التي تصلح موضوعا للنجوى بين الكاتب وقارئه، ولكني كنت عاجزا العجز كله عن أن أملي الخواطر أو أسطرها، وأحسب أني لا أزال عاجزا عن إملاء هذه الخواطر أو تسطيرها؛ لأن بعضها قد ذهب مع المرض والسفر، فلست أذكر منه قليلا ولا كثيرا، ولأن بعضها الآخر قد بقي في نفسي، ولن يذهب ولن يجد النسيان إليه سبيلا، ولكن ليس من سبيل إلى إملائه وتسطيره؛ لأن الوفاء بحقه ليس بالشيء اليسير.
وكيف أستطيع مثلا أن أفي لهؤلاء الأصدقاء الكرام البررة الذين عادوني فأحسنوا العيادة، وودعوني فأحسنوا التوديع، بما أنا مدين لهم به من شكر وثناء. كيف أفي لهم بذلك وهو أجل من أن يفي به كاتب، وأدق من أن يصل إليه واصف، ولا تظن أني أغلو أو أسرف كما جرت بذلك عادة الكتاب إذا أرادوا شكرا أو ثناء، فأنا أبعد الناس عن الغلو، وأشدهم بغضا للإسراف، ويكفيني إذا أردت شيئا أن أسميه باسمه، أو أدل عليه باللفظ الذي وضع له، ولكني كنت أريد أن أحدثك عما بعثت في نفسي عيادة العائدين، وتوديع المودعين، من عواطف مختلفة، وألوان من الشعور متباينة، تختلف باختلاف العائدين والمودعين، وما لهم في نفسي من منزلة، وما لي في قلوبهم من مكانة، ففي ذلك شيء من النفع، وفيه بنوع خاص شيء من اللذة، ولكن محاولة ذلك شاقة؛ لأن هناك عواطف قد لا تجد لها أسماء، وضروبا من الشعور قد لا تجد لها عبارات تؤديها وتفي بما لها من حق. فليس الناس جميعا سواء في حبهم لك، وعطفهم عليك، وليس الناس جميعا سواء فيما تضمر لهم من حب، وما تدخر لهم من مودة. وإذن فتأثرك بعيادتهم وتوديعهم يختلف باختلاف منزلتك في نفوسهم ومكانتهم من قلبك، ولكن هل تستطيع أن تصف ذلك حق الوصف؟ أم هل تستطيع أن تجهر منه بالشيء الكثير؟ أما أنا فأعتقد أن ذلك على نفعه ولذته محال؛ لأن الحياة الاجتماعية وما تواضع الناس عليه في صلاتهم وعلاقاتهم، تحول بيننا وبين ذلك وتأباه كل الإباء، فلأكتف إذن بما كان ينبغي أن أكتفي به منذ بدأت هذه الكلمة، وبما يكتفي الناس به من تسجيل الشكر والثناء للعائدين جميعا والمودعين جميعا، دون أن أفرق بينهم في اللفظ، وإن اضطررت واضطر غيري من الناس إلى التفرقة بينهم في نجوى النفس وحديث الضمير. ولنحتمل إذن، راضين أو كارهين، هذا الظلم البين الذي تضطرنا إليه حياة الاجتماع، فليس هو أثقل ما تضطرنا إليه الحياة الاجتماعية من ضروب الظلم والتقصير، ولو أننا ذهبنا نحلل هذه الحياة وما فيها من ظلم وبغي، ومن إفراط وتفريط، لما انتهينا إلى حد، ولما فرغنا من القول.
ومهما يكن من شيء فإن هناك شعورا لذيذا لا يستطيع أن يتقيه إنسان حساس. يحدث في نفسك أثناء المرض وأوقات السفر حين ترى من حولك ناسا يعطفون عليك ويرقون لك، ويؤثرونك بالمودة واللطف. لذيذ جدا هذا الشعور الذي ينبعث في نفسك حينئذ، فيشعرك بأنك لست وحيدا في الحياة، وبأن هناك قلوبا قد تخفق مع قلبك، ونفوسا قد تشاركك في الألم وتشاركك في اللذة، ولست أعرف شعورا يفوق هذا الشعور لذة وحسن موقع في النفس، والحق أن حظي من هذا الشعور العظيم، وأن اغتباطي به واستعذابي إياه قد رافقاني من القاهرة إلى باريس فحمدت مرافقتهما، وأنست إليهما في أوقات الوحشة.
نعم؛ في أوقات الوحشة! فأنت إذا سافرت إلى مكان بعيد فعبرت البحر وقطعت الفجاج، تحس شيئا من الوحشة غير قليل، مهما تكن لذة السفر، ومهما يكن اغتباطك بما ستلقى إذا استقر بك المقام، ومهما يكن رفاقك في هذا السفر الطويل اللذيذ. ولقد كان يرافقني في هذا السفر أحب الناس إلي، وأعزهم علي، وأرأفهم بي، وأشدهم مشاركة لي في لذات الحياة وآلامها؛ كانت ترافقني زوج برة كريمة، وطفلان هما كل ما آمل في الحياة، ومع هذا فقد وجدت شيئا من الوحشة تسليت عنه بهذا الشعور اللذيذ الذي كان يرافقني، بذكرى أولئك الأصدقاء العائدين والمودعين، بألفاظهم الحلوة، وعباراتهم التي كانت تمتلئ رفقا وودا وإيثارا.
أعبرت البحر؟ أأحسست في السفنية ما أجد من ضروب الحس، وما أشعر به من مختلف الشعور؟ يتحدث الناس بأن الأمد بين مصر وأوروبا قصير، وبأن عبور البحر لذيذ، وبأنه أمن لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، وبأن المسافر ليس عليه إلا أن يركب السفينة، ويستسلم لما فيها من راحة ولذة وتسلية، حتى ينقضي السفر، ولا سيما إذا كان مثلي لا يخشى الدوار ولا يتعرض لشره. بذلك يتحدث الناس، ولعلهم محقون، بل لا أشك في أنهم محقون، ولكني أعترف بأني لم أشعر بذلك، ولم أحس هذا الأمن وهذه الدعة يوما من الأيام منذ ألفت عبور البحر، وإنما وجدت ويظهر أني سأجد دائما إلى جانب هذه اللذة التي يحسها من يعبر البحر شعورا خفيا جدا . لا أقول إنه الخوف، ولا أقول إنه يشبه الخوف، وإنما أقول إنه يظهر الإنسان على قيمته الحقيقية، وعلى مكانته الصحيحة من هذا الوجود. نعم، ليس هذا الشعور خوفا، وليس شيئا يشبه الخوف، ولكنه شيء ينبئ الإنسان بأنه ضئيل، ضئيل جدا لا يكاد يذكر، وبأن حياته شيء أوهن من نسج العنكبوت، لا قدرة له على الثبات، ولا على مقاومة الأحداث. وإذا أحس الإنسان أنه ضئيل إلى هذا الحد، وأن أسباب حياته واهية واهنة إلى هذا الحد، ملكه شيء من البؤس والإشفاق أحسب أن وصفه عسير.
اضطرب البحر ذات ليلة اضطرابا شديدا، واصطخبت أمواجه وعصفت الريح، فكنت لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وصوتا لأخشاب السفينة يشبه الشكوى، وكان السفر نياما فكنت لا تسمع صوت إنسان، وكان هذا المزاج المؤتلف من هذه الأصوات الثلاثة التي ذكرتها لك وحده يملك عليك سمعك ونفسك، ويضطرك إلى أن تحلله وتفكر فيه، وإلى أن تفكر في نفسك وتقيسها إلى هذا الروع الذي يكتنفك، والهول الذي يحيط بك، ولم يكن في نفسي شيء من الخوف ولا من الإشفاق؛ لأني أعلم أن ذلك شيء مألوف، وأنك تعبر البحر كما تقطع شارعا من الشوارع، ومع ذلك فقد شعرت حقا في هذه الليلة بأن الإنسان ليس شيئا مذكورا، كما أنه لم يكن شيئا مذكورا، وكما أنه لن يكون شيئا مذكورا ما دامت الطبيعة على ما هي عليه من القوة والجلال.
في مثل هذا الوقت يذكر المؤمن ربه ويلجأ إليه، ويتقرب إليه بضروب العبادة وفنون التقوى، وفي هذا الوقت يؤمن الملحد إن كان ضعيفا، ويزداد عتوا إن كان ممعنا في الإلحاد، فيسخر من الحياة كما يسخر من الموت، يهزأ بما اشتملت عليه هذه، ويزدري ما عسى أن يخفيه هذا، وأعترف بأني في هذا الوقت أحسست شيئا قد ينكره علي المؤمنون والملحدون جميعا، أحسست أن إيمان المؤمن وإلحاد الملحد ضرب من الكبرياء، وغلو الإنسان في تقدير نفسه وإكبار منزلتها. فإن هذا المؤمن الذي يعتقد أن خالق الكون ومدبره، خالق هذا الكون العظيم الذي لا تشعر بعظمته وأنت مستقر في دارك، أو لاه بالتحدث إلى رفاقك، أو القراءة في كتابك، وإنما تشعر بعظمته حين لا تسمع إلا هدير البحر، وعصف الريح، وشكوى السفينة، وحين تشعر شعورا واضحا جدا بأن أسباب الحياة ضعيفة واهية، وبأن أقل شيء يستطيع أن يحطم هذه السفينة التي تقلك، وأن يقطع كل ما بينك وبين النجاة من سبب فتصبح نسيا منسيا، كأنك لم تكن قط، وكأنك لم تعرف أحدا، وكأن أحدا لم يعرفك. أقول إن المؤمن الذي يعتقد أن خالق هذا الكون العظيم ومدبره يختصه بالبر والرحمة، فيعنى به ويحوطه ويحفظه من الطوارئ، ويعصمه من الأحداث، ويرعاه في كل لحظة، بل في كل جزء من أجزاء اللحظة، متكبر يرى نفسه شيئا مذكورا يستحق هذه العناية المقدسة العظمى، مع أن في هذا الكون ما لا يقاس الإنسان إليه عظمة وجلالا.
وهذا الملحد الذي يستشعر الإلحاد ويتخذه مذهبا وعقيدة، فيعاند وينازع، ويدفع عن إلحاده كما يدفع المؤمن عن إيمانه، وينكر الله كما يثبته المؤمن، ويعتقد أن العقل كل شيء، وأن آثار العقل وحدها خليقة بالإجلال والإكبار، وأن نجاة الإنسان في عبادة العلم والإذعان له، لا في إكبار الدين والخضوع لأوامره ونواهيه. هذا الملحد الذي يمعن في الغرور بقوة العقل والعلم وآثارهما، وبأنه قد سخر لنفسه الطبيعة فذلل الماء والهواء والبخار، واتخذ الطبيعة لنفسه عبدا يأمر فتطيع وينهى فتنتهي، مغرور متكبر؛ لأن عقله وعلمه وقوته وذكاءه مهما تبلغ من العظمة والسلطان، فلن تستطيع أن تعصمه من الأحداث، ولا أن تجعله بمأمن من أقل هذه الأحداث خطرا وأحطها مكانة. بهذا شعرت وفي هذا فكرت، وأعترف بأني لم ألم المؤمن على إيمانه، ولا الملحد على إلحاده، وإنما أحسست شيئا من الإشفاق على هذا وذاك، وتمنيت لو أتيح للإنسان أن يكون مؤمنا وعالما دون أن يغلو في التعصب للدين أو للعلم. تمنيت للإنسان لو استطاع أن يجمع بين هاتين القوتين اللتين ليس له عنهما غنى ولا منصرف. فإن قوة الدين تعصمه من اليأس والهلع ، وتفتح أمامه أبوابا من الأمل الذي ليس له حد، وتمكنه أن يلقى الخطوب ويتجشم الأخطار راضيا مطمئنا راجيا مستبشرا، وقوة العلم تمكنه من الحياة. ولكن أيستطيع الإنسان حقا أن يجمع في نفسه بين هاتين القوتين، وأن يطمئن إلى كلتيهما اطمئنانا بريئا من التناقض والاضطراب، يطمئن إلى الدين دون أن ينكر العقل، ويطمئن إلى العقل دون أن يجحد الدين؟
يتحدثون أن كثيرا من العلماء قد وفقوا إلى هذا، وأن «باستور» على جلال خطره وبعد أثره في العلم كان أشد الناس تدينا وأكثرهم إيمانا، فمتى يكثر في الناس أمثال «باستور»؟
على أن هذا الشعور وما استتبع في نفسي من تفكير أو هذيان لم يكن كل شيء أحسسته في السفينة، فقد كانت هناك أشياء أخرى لا تخلو من نفع. كان أكثر رفاقنا في السفينة من الإنجليز، وكنت أجهل الإنجليز، وما زلت أجهلهم، ولكني كنت أتصورهم قوما أميل إلى الجد منهم إلى الهزل، وأميل إلى القطوب منهم إلى الابتهاج، وأميل إلى السكون والتؤدة منهم إلى الحركة والنزق، ولعلهم كذلك، ولكنهم لم يكونوا كذلك في السفينة، فلم أر جماعة أميل إلى الفرح وأشد تعلقا بأسبابه ولا أكثر إمعانا في الضحك، وهذه اللذة البريئة من هذه الجماعات الإنجليزية التي كانت تملأ السفينة، والتي كانت تقضي يومها وجزءا من ليلها في فرح ومرح ونشاط عظيم، وحسبك أن غرفة المائدة لم يكن يملؤها أثناء الطعام إلا قهقهة عالية جدا متصلة جدا لا تعرف الهدوء ولا الانقطاع، تمتزج فيها أصوات الرجال والنساء امتزاجا لا يخلو من لذة، ولا يعجز عن أن يحملك على الضحك وإن كنت أشد الناس جدا وأكثرهم عبوسا.
Неизвестная страница
شيء آخر وجدته في السفينة فأذكرني أول يوم قضيته في فرنسا، بل أول ساعة قضيتها في باريس سنة 1914، هذا الشيء، أو بعبارة أصح: هذا الشخص، هو حلاق السفينة. اضطررت إلى غرفة هذا الحلاق، واضطررت طبعا أيضا إلى أن أسمع لحديث هذا الحلاق، وأحاديث الحلاقين مشهورة من قديم الزمان وفي جميع البيئات، في بغداد والقاهرة، في آسيا وأوروبا، في العصر القديم والعصر الحديث، بالثقل والسخف، وبأنها مصدر الملل والأذي، ولكني أؤكد لك أن حديث حلاق «الإسفنكس» لم يكن ثقيلا ولا سخيفا ولا مملا، بل أؤكد لك أن حديثه كان لذيذا ممتعا، بل أوصيك بأن تتحدث إلى حلاق «الإسفنكس» إذا ركبت «الإسفنكس».
تحدث إلي حلاق «الإسفنكس» في سياسة فرنسا وفي ساسة فرنسا من جميع وجوهها: مع ألمانيا ومع إنجلترا، في سوريا وفي الجزائر، وقارن لي حلاق «الإسفنكس» بين المذهبين الإنجليزي والفرنسي في الاستعمار، وألم لي حلاق «الإسفنكس» بطرف من سياسة الأحزاب البرلمانية في بلده، وكان حلاق «الإسفنكس» اشتراكيا من الوجهة النظرية، ولكنه يائس من مذهبه الاشتراكي، فهو كغيره من الناس في الحياة العملية، وأؤكد لك أني وجدت لذة جديدة عظيمة في الاستماع إلى حلاق «الإسفنكس»، وذكرت أول خادم فرنسية لقيتها في مرسيليا سنة 1914، فتحدثت إلي بما يشبه هذا الحديث، وتمنيت لو كنا جميعا في مصر كحلاق «الإسفنكس»! وأحسب أنا سنقطع زمنا طويلا جدا قبل أن تصل كثرتنا المطلقة من التعليم والتهذيب إلى حيث وصل حلاق «الإسفنكس».
قرأت في السفينة قصة تمثيلية صغيرة عنوانها «الملك»، وضعها الكاتبان الفرنسيان «روبير دي فلير» و«كيافيه» فضحكت لها كثيرا، وأعجبت بها كثيرا، ودعوت بالحياة للحرية كثيرا، وكنت أحب أن أحدثك عن هذه القصة، ولكن أخلاقنا السياسية والاجتماعية لا تسمح بذلك، ومع هذا فليس في القصة شيء غريب، وإنما يصف الكاتبان زيارة ملك خيالي لمدينة باريس، ويتخذان هذا الوصف سبيلا إلى تناول النظم السياسية والاجتماعية كلها بأشد النقد شناعة وأكثره مرارة، يذمان نظام الملكية، ويذمان نظام الجمهورية، ويسخران من الديمقراطية كما يسخران من الأرستقراطية، وكما يسخران من الاشتراكية. القصة هجاء شنيع للجماعة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان، وقد اختار الكاتبان باريس موضعا لهذه القصة؛ لأن باريس تكاد تختصر العالم الإنساني على اختلاف أزمنته وأمكنته.
لا أستطيع أن أحدثك عن هذه القصة، ولكني أستطيع أن أوصيك بقراءتها، فستجد فيها نفعا وستجد فيها لذة. ثم وصلت إلى باريس صباح أمس، فإذا الناس جميعا يلهجون بشيء واحد ، تنطق به أفواههم، وتكتب فيه صحفهم، لا يلقى أحدهم الآخر إلا سأله عنه وتحدث إليه فيه أسفا مرة أشد الأسف، معجبا مرة أخرى أشد الإعجاب، جامعا في أكثر الأحيان بين ذلك الأسف وهذا الإعجاب، وهو موت الممثلة الفرنسية «سارة برنار»، ولكنني قد أطلت، فسأحدثك عن «سارة برنار» في غير هذا المقال.
باريس في 28 مارس سنة 1923 (2) سارة برنار
تركت القاهرة يوم الأربعاء ووصلت إلى باريس يوم الثلاثاء، فإذا الناس يتحدثون بموت «سارة برنار» أو لا يتحدثون إلا بموت «سارة برنار»، وإذا كثير منهم لا يكتفي بالحزن الصامت أو الإعجاب المقتصد، بل يتحدث ويشرح ويفصل، ويروي ما سمع وما رأى، ويصف ما أحس وما شعر به حين شهد «سارة برنار» تلعب في «ذات الكاميليا» أو في «النسير» أو في «المجد» أو في غيرها من القصص، وربما تحدث عما رأى وسمع من أبهة «سارة برنار» ومجدها وافتتان الناس بها وافتتانها هي بالناس، وعما كانت تكسب من مال لا يحصى فتنفقه وتستدين، ثم تكسب فتؤدي الدين ثم تستدين من جديد، وعما كان بينها وبين كبار الناس وزعمائهم في العالمين من صلات قوية أو ضعيفة، متينة أو رثة، وعما قدم إليها الملوك من تجلة، وأهدى إليها العظماء من تكرمة، وعن جمالها الباهر، وصوتها الساحر، وأعاجيبها وألاعيبها وافتنانها في كل شيء: في الهزل والجد، في التمثيل والتصوير والنقش والكتابة والعبث، وعن هذا الضعف الشديد الذي كان يلازم جسمها فيجعل حياتها في أكثر الأحيان معلقة بين اليأس والرجاء، أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء، وهذه القوة المدهشة التي كانت تلازم نفسها في كل وقت من أوقاتها، وفي كل طور من أطوار حياتها؛ فتجشمها الأهوال، وتكلفها الأعاجيب، وتثب بها من أوروبا إلى أمريكا وإلى أستراليا ثم إلى مصر، ثم إلى فرنسا، ثم إلى السويد والنرويج وغيرها من بلاد الله، وتقف الناس منها موقف الحائرين الدهشين الذين يعجبون ويعجبون إلى غير حد، وهم لا يدرون بم يعجبون؟ بالذكاء النادر؟ بالجمال الباهر؟ بالصوت الساحر؟ بالقوة التي لا حد لها ؟ بالأمل الذي لا يخشى اليأس ولا يحسب له حسابا؟ بالنفس التي ليس لها مثيل ...؟ بهذا كله كان الناس يعجبون؛ سواء منهم من أحبها، وسواء منهم من أبغضها. كل بها معجب، وكل لها مكبر في كل وقت وفي كل طور.
بهذا كله كان الناس يتحدثون يوم نعيت إليهم «سارة برنار»، ومن قبل ذلك أنبأتهم الصحف بأن «سارة برنار» مشرفة على الموت؛ فجزعوا وهلعوا، وأسرعت جماعاتهم المختلفة إلى بيت المريضة فازدحمت حوله وامتلأ بها الشارع، وكان من هذه الجماعات من يتاح له الدخول إلى بيت المريضة فيسأل ويستعلم ويكتب اسمه ثم ينصرف، وكان من هذه الجماعات من لا يتاح له هذا الحظ فيرابط في الشارع يتنسم الأنباء ويتصيد الأخبار، يرى الصحفي فيسأله، ويلمح الطبيب فيستنبئه، كذلك قضى جمهور ضخم من أهل باريس يوم احتضار «سارة برنار»، فلما كان الموت لم يخل الشارع ولا البيت من هذا الجمهور، وإنما ازداد به امتلاء وازدحاما، وما هي إلا أن جهزت الميتة بجهازها الأخير حتى أذن للناس فأقبلوا على البيت أفواجا، وأخذوا يمرون أمام هذه الجثة الهامدة التي طالما بعثت فيهم الحياة يوما كاملا ثم تشييع الجنازة، فتقول الصحف: إن 600 ألف من أهل باريس اشتركوا فيه، وإن ألفين من الشرطة اشتركوا في حفظ النظام، وإن أرصفة الشوارع التي مرت بها الجثة كانت مكتظة بالناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأسنانهم، وإن الزهر كان ينثر على التابوت من أولئك الذين ثقلت بهم سطوح الدور والحوانيت وامتلأت بهم نوافذها. ولم يكن الشعب وحده المحتفل بتشييع هذه الممثلة، وإنما احتفلت به الجمهورية وبلدية باريس، وتنافستا أيهما تقوم بنفقات الجنازة، ولم تكن فرنسا وحدها المحتفلة بتشييع هذه الممثلة، وإنما اشتركت فيه أوروبا وأمريكا، ومن الملوك والملكات من أرسل إلى أسرة الممثلة يعزيها ويعطف عليها.
كان هذا كله في الأسبوع الماضي، وكنت في باريس أسمع الناس يتحدثون به، وأقرأ ما كانت الصحف وما لا تزال تكتب فيه، فكنت أسأل نفسي إلى أي حد يبلغ إعجاب الناس بالنبوغ وإكبارهم للنابغين، إذا كان هؤلاء الناس من الرقي العلمي والخلقي بحيث يفهمون النبوغ والنابغين ...؟ وكنت أذكر مصر في هذا كله، وكيف يستطيع مصري ألا يذكر مصر وأهل مصر كلما رأى أو سمع ما يبهره ويسحره! كنت أذكر مصر وأسأل نفسي: متى يتاح لمصر نابغة «كسارة برنار»؟ أو على أقل تقدير متى يبلغ أهل مصر من الرقي العلمي والخلقي ما يمكنهم من أن يقدروا نابغة «كسارة برنار»؟ لم تنبغ في السياسة، ولا في الدين، ولا في العلم، وإنما نبغت في الفن، وفي فن هو سيء الحظ جدا عند المصريين، نبغت في التمثيل الذي يزدريه أكثر المصريين، ويفهمه قليل من المصريين على غير وجهه، ولا يفهمه حقا بين المصريين إلا نفر يكادون يحصون.
لم أسمع «سارة برنار» ولم يتح لي على طول ما أقمت في باريس أن أحضرها في ملعب من ملاعب التمثيل، فلست أستطيع أن أحدثك برأيي فيها، ولست أستطيع أن أكون لي فيها رأيا، ولكني أستطيع أن أحدثك برأي الناس فيها، وبرأي الناس الذين لا يتهمون، ولا تستطيع أنت ولا أنا أن نضع آراءهم وأحكامهم موضع الشك، ولكن من «سارة برنار»؟ لا يعرف أبوها، وإنما يقولون إنها ولدت سنة 1844 في باريس أو في برلين، ولا يتفق الذين يقولون إنها ولدت في باريس على موضع ميلادها، بل إن «سارة برنار» نفسها ذكرت لهذا الميلاد موضعين مختلفين، وتحدثت أن تذكرة ميلادها قد مزقت أو ضاعت، ويقول الناس إن أباها كان هولانديا إسرائيليا تنصر، ويقول آخرون إن أباها كان فرنسيا عظيما مشتغلا بالسياسة الدولية، ويتفقون جميعا على أن أمها «جولي برنار» لم تكن تنتسب إلى أسرة مستقرة، وإنما كانت من هؤلاء الناس الرحل الذين ينتقلون من مكان إلى مكان لا يستقرون في وطن ولا يطمئنون إلى دار، كانت أمها يهودية وكان أبوها مسيحيا أو يهوديا تنصر، كان اسمها الأول «روزين برنار»، ويقال إن أباها النصراني أو المتنصر ألح في أن تكون تربيتها دينية، فنشأت في الدير، وتأثرت بحياته تأثرا شديدا حتى أظهرت الرغبة في أن تكون راهبة، ولكنها اشتركت في تمثيل قصة دينية مدرسية؛ فأعجب بها أحد من رآها «الدوق دي مورني» ونصح بأن تتخصص للتمثيل، وشملها منذ ذلك الوقت بحمايته، فذهبت إلى الكونسرڤتوار
Conservatoire (مدرسة التمثيل) ونالت فيه إعجاب أساتذتها، ولكن فوزها في المسابقة لم يكن باهرا ولا متصلا، ثم اتصلت بملاعب كثيرة مختلفة فلم تنل من الفوز ما كانت ترجو، فيئست أو كادت تيأس من التمثيل ومن فرنسا.
Неизвестная страница
وليس في هذا شيء من العجب، فأكثر النابغين عرف سوء الحظ قبل أن يعرف المجد ونباهة الذكر، وربما كان من أهم الأسباب التي حالت بين الممثلة وبين الفوز الباهر نفس نبوغها، فقد كانت لها طرائق مختلفة ومذاهب غريبة لم يألفها الجمهور ولم يطمئن إليها، فلم يكن غريبا ألا يشتد إعجابه وتهالكه عليها. على أن «سارة برنار» لم تكد تبلغ الثلاثين حتى كانت عضوا شريكا في أكبر دار من دور التمثيل في «بيت موليير»، وكانت تلعب القصص المختلفة على تباين عصورها ومذاهبها، وكانت تبلغ في هذه القصص فوزا عظيما في كثير من الأوقات حتى كتب إليها «فكتور هوجو» سنة 1877 يقول: «لقد كنت عظيمة خلابة. لقد أثرت في أنا المجاهد الشيخ، ولقد كان الجمهور في وقت من الأوقات سعيدا يملؤه الحنان فيصفق، أما أنا فكنت أبكي.»
ربما كان من الحق أن توازن بين «سارة برنار» وبين «السيبياد» الأتيني المشهور، كلاهما كان فتنة المدينة التي نشأ فيها، وكلاهما كان يحب إعجاب الناس به وتحدثهم عنه، ويتكلف لذلك الأعاجيب، ويفعل في سبيله ما لا تبيحه العادة ولا تسمح به الأوضاع المألوفة. يقال إن «السيبياد» كان له كلب فتن الأتينيين فتحدثوا عنه دهرا، فلما انتهى إعجابهم به كفوا عن الحديث فيه، فقطع «السيبياد» ذنب الكلب ليعود فيذكروه. وكانت أعاجيب «السيبياد» ونفقاته أكثر من أن تحصى، وكان لا يتكلف هذه النفقات وتلك الأعاجيب إلا ليفتن الناس، ويحملهم على إطالة الإعجاب به والتفكير فيه، كان سيئ السيرة وكان له زوج برة شريفة جزعت لسوء سيرته فذهبت إلى «الأركون» تطلب الطلاق، وبلغ ذلك «السيبياد» فأسرع إلى مجلس «الأركون»، فلما رأى زوجته بين يديه انهال عليها لثما وتقبيلا وملاطفة، وحملها بين ذراعيه وعاد بها إلى بيته، والأتينيون من حوله يصفقون له ويهتفون باسمه وامرأته بين ذراعيه قد رضيت عنه واطمأنت إليه. كذلك كان «السيبياد» وكذلك كانت «سارة برنار»، كانت فتنة باريس، وكانت تحرص على أن تظل فتنة باريس، فكانت تفعل كل شيء يجعلها حديثا لأهل باريس.
كانت تملأ غرفتها بالهياكل العظمية، وتنام بمنظر من الناس في تابوت مبطن بالحرير الأبيض، وتستأنس كثيرا من الحيوان الوحشي. كانت تدهش الناس بأزيائها المختلفة الغريبة، تتخذ زي الرجال حينا، وبدعا من أزياء النساء حينا آخر. كانت تدهش الناس بأحاديثها ومقالاتها وصورها، وكانت على اختلاف متصل عنيف مع مدير «بيت موليير» حتى كان يسميها هذا المدير «الآنسة ثورة».
1
فلما كانت سنة 1880 ضاقت «سارة برنار» بالحياة في باريس، وأحست أن هذه المدينة لا تسعها، بل إن فرنسا كلها لا تسعها، فاستردت حريتها، وخرجت من «بيت موليير» خروجا عنيفا وقفها أمام القضاء الذي قضى عليها بغرامة، وسافرت إلى لندرة، ثم إلى السويد والنرويج، ثم إلى أمريكا، وكان سفرها إلى أمريكا فخما ضخما كثر حوله الضجيج والعجيج، وقال كثير من مؤرخيها: إن كثيرا من الملكات لم تظفر بما ظفرت به هذه الممثلة من الفوز والإكبار في هذه السياحة. ولم تقف أسفارها إلى هذا الحد، بل زارت أكثر أقطار الأرض المتحضرة، ونالت فيها فوزا باهرا لم يكن مقصورا عليها، بل كان يتناول فرنسا معها، ولقد ذهبت في بلاد المجر مرة فرفعت الأعلام الفرنسية في كل مكان ذهبت إليه رغم الأوامر التي صدرت من فينا بحظر ذلك.
ولهذا فتن الممثلون بهذه الممثلة التي كانت أحسن سفير نشر الدعوة الفرنسية في أقطار الأرض، وأحسن تمثيل العقل الفرنسي والفن الفرنسي والأدب الفرنسي، حتى قرنها كثير من الكتاب إلى نابليون، ولست أدري إلى أي حد تصح هذه المقارنة، ولكني لا أشك في أن «سارة برنار» خدمت فرنسا ورفعت ذكرها إلى حد لم يبلغه كثير من قوادها الفاتحين.
أما نبوغها الفني، فلست أستطيع أن أحدثك عنه، وإنما أترك ذلك للناقد الفرنسي «جول ليتمر» الذي كان بها مفتونا، والذي يحدثنا بأن مصدر نبوغها وافتتان الناس بها ثلاثة أشياء: صوتها الذي سماه فكتور هوجو ومن بعده الفرنسيون جميعا: «الصوت الذهبي»، يقال إنها كانت تتغنى في تمثيلها بالنثر والشعر جميعا، وكانت ماهرة في تصوير صوتها صورا مختلفة ملائمة غريبة لموضوع الحديث الذي كانت تتناوله، فكان صوتها مرة يشبه الغدير المنساب، وأخرى يتلوى ويتهدج، ومرة يرتفع، وأخرى ينخفض، حتى كان الجمهور معلقا بهذا الصوت الضئيل القوي الشفاف.
الثاني: حركاتها في الملعب، فقد يحدثنا «جول ليمتر» بأنها أحدثت في التمثيل ما لم يحدثه أحد قبلها، فكانت تلعب بجسمها كله؛ أي إنها كانت تحقق ما تمثله، فلم تكن تخيل إلى الناس أنها تلثم أو أنها تعانق، وإنما كانت تلثم وتعانق بالفعل، وكانت تفعل ما هو أبلغ في الدهشة من اللثم والمعانقة.
الثالث: ذكاؤها، فقد كانت أقدر الممثلين على فهم الفصول التي كانت تلعبها، كانت تفهم هذه الفصول كما فهمها المؤلف، وربما فهمتها خيرا مما فهمها المؤلف، ومن هنا خلقت «سارة برنار» كثيرا من القصص، وكثيرا من المؤلفين، ولن يستطيع «فرنسوا كوبيه» ولا «إدمون روستان» أن يستأثرا بما أدركا من فوز في ملاعب التمثيل إنما «لسارة برنار» الحظ الموفور من هذا الفوز.
وانظر إلى هذا الوصف الذي نشرته «الألستراسيون» وكتبه «إدمون روستان»، فهو وحده يعطيك منها صورة خليقة بها:
Неизвестная страница
تقف عربة أمام باب، فتسرع بالنزول منها امرأة قد التفت في الفرو الكثير، تشق الجماعات التي اجتمعت حين سمعت جرس عربتها تاركة لهذه الجماعات إحدى بسماتها، ثم تصعد في خفة سلما ملتوية، وتغير على «لوج» مزدهر شديد الدفء، فتلقي في ناحية حقيبتها ذات الشرائط التي تحتوي على كل شيء، وفي ناحية أخرى قلنسوتها، تزينها أجنحة العصافير، وإذا هي قد نحفت فجأة حين خرجت من فروها فما هي إلا غمد من الحرير الأبيض، ثم تقذف بنفسها على ملعب مظلم، فلا تكاد تصل حتى تبعث الحياة في جماعة ممتقعة تتثاءب في الظلام ، تذهب، تجيء ، تبعث الحمية في كل ما تمس، تأخذ مجلسها في المخبأ، تنظم المنظر، تشير إلى ما ينبغي من الحركات ونبرات الصوت، تقف، تطلب الإعادة، تزأر غضبا، تجلس، تبسم، تشرب الشاي، تمسح جبينها، توشك أن يغمى عليها، تثب فجأة إلى الطبقة الخامسة من الملعب وتظهر لصاحب الأزياء مطربة، وتبحث في خزائن «الأقمشة» وتؤلف الأزياء، تنظم، ترتب، تهبط إلى «لوجها» لتعلم النساء اللاتي يظهرن في الملعب كيف ينبغي أن يرجلن شعورهن، ثم تعيد منسقة طاقات الزهر، ثم تسمع مائة رسالة، وترق لبعض الاستعطافات، تفتح غالبا حقيبتها الرنانة التي تحوي من كل شيء، تفاوض حلاقا إنجليزيا، تعود إلى المسرح لتنظم إضاءة منظر من المناظر، تسب أدوات الإضاءة، تقف عامل الضوء على إساءته، يمر بها أحد العمال فتذكر غلطة اقترفها أمس فتصعقه بسخطها، تعود إلى لوجها لتتعشى. تجلس إلى المائدة ممتقعة في جلال مهيئة ما ستعمل، تأكل في ضحك غريب، ليس لديها الوقت لتتم عشاءها، تلبس ثيابها للتمثيل بينما يحدثها المدير من وراء ستار ألوانا من الأحاديث، تمثل متهالكة، تدبر ألف شيء بين الفصول، ينتهي التمثيل فتبقى في الملعب لتدبر أمرها إلى الساعة الثالثة صباحا، ولا تعتزم السفر إلا حين ترى الناس جميعا من حولها ينامون وقوفا احتراما لها، تصعد إلى عربتها، تتمطى في فروها مفكرة فيما ستجد من لذة حين تستلقي في السرير، ثم تقهقه لأنها ذكرت أن هناك من ينتظرها في البيت ليقرأ عليها قصة ذات خمسة فصول، تعود إلى البيت، تسمع القصة، تفتن بها، تبكي، تقبلها، لا تستطيع النوم، فتنتهز الفرصة لتدرس دورا من أدوار التمثيل ...
كذلك وصفها «إدمون روستان»، أما أنا فلست أدري أأعجب بالوصف أم بالموصوف؟! ولكني أعتقد أني بهذه الترجمة السقيمة قد أعطيتك حسن صورة لهذه الممثلة النابغة، ولست أريد أن أختم أنا هذا المقال، وإنما أريد أن يختمه «جول ليتمر» بهذه الكلمة الحلوة التي كتبها يودع بها «سارة برنار» وقد اعتزمت أحد أسفارها إلى أمريكا:
نتمنى لك يا سيدتي سفرا سعيدا، آسفين أشد الأسف؛ لأنك ستفارقيننا زمنا طويلا ، ستظهرين نفسك هناك لقوم حظهم من الفن والأدب قليل، يسيئون فهمك وينظرون إليك كما ينظرون إلى عجل ذي قوائم خمس، ويرون فيك الشخص الغريب الصاخب لا الفنانة الخلابة إلى غير حد. قوم لن يقدروا نبوغك إلا لأنهم دفعوا ثمنا باهظا ليستمعوا إليك، اجتهدي في أن تحتفظي بظرفك وأن تعيديه إلينا كاملا، فإني آمل أن تعودي وإن كانت أمريكا بعيدة الشقة، وإن كنت قد تحملت من الخطوب وتجشمت من الأخطار ما لم تتحمل ولم تتجشم أبطال الأساطير، إذن عودي إلى «بيت موليير» واستريحي إلى الإعجاب والحب اللذين يدخرهما لك هذا الشعب الباريسي طيب القلب الذي يعفو لك عن كل شيء؛ لأنه مدين لك بكثير من لذاته الكبرى، ثم في مساء لذيذ موتي فجأة على مسرح التمثيل في صيحة هائلة من صيحات الجزع، فإن الشيخوخة أثقل من أن تحتمليها، وإذا كان لديك من الوقت ما يمكنك من التفكير قبل أن تنغمسي في الليل الأبدي فاحمدي - كما يفعل مسيو «رينان» - العلة الأولى الخفية. لعلك لم تكوني من أشد النساء في هذا العصر حكمة واعتدالا، ولكنك عشت أكثر مما عاشت جماعات ضخمة، وكنت من أجمل مظاهر الظرف التي أطافت بالناس فأحسنت عزاءهم في هذا العالم المتغير، عالم الظواهر الطبيعية.
باريس في أول أبريل سنة 1923 (3) بينيلوب
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
ولكنه لم يكن طيف هند ولا عبدة، ولم يكن طيف عربية ولا مصرية ولا أوروبية، وإنما كان طيف امرأة بقي اسمها في ذاكرة الإنسانية، وذهبت بشخصيتها الغير والأحداث، ولعلها لم توجد قط، ولعل التاريخ لم يعرف من أمرها قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فقد قضيت الليل أفكر فيها، بل أسمع إلى حديثها ومناجاته، هادئة مرة ثائرة مرة أخرى، يملؤها الحنان حينا، وتملكها الوحشية حينا آخر، قضيت الليل أفكر فيها وأسمع لأحاديثها ونجواها حين كانت تتحدث إلى خدمها، وحين كانت تتحدث إلى عاشقها، وحين كانت تتحدث إلى مرضع زوجها، وحين كانت تناجي الآلهة متلطفة آنا ومحنقة آنا آخر، ثم حين كانت تناجي خيال زوجها الغائب، وتتحدث إلى زوجها وقد آب بعد غياب طويل. قضيت الليل أفكر فيها وأستمع لحديثها، وأعجب بقدرة الفن - لا أقول على إحياء من مات وتجديد ما اندثر، بل - على خلق ما لم يوجد، والتخييل إليك أنه قد وجد، وأثر في الحياة آثارا أبقى من أن ينالها الفناء، لم يكن هذا الطيف طيف عربية ولا مصرية ولا أوروبية، وإنما كان طيف يونانية، كان طيف «بينيلوب» زوج «أوليس»
ulysse
بطل «الأودسا».
سمعتها أمس في دار من دور الموسيقى «في الأوبرا كوميك»
Неизвестная страница
opera-comique
تتغنى عشقها ولوعتها وحزنها لبعد من أحبت وجزعها لقرب من كرهت، ففتنت بها ولم أفارق صوتها ولا عواطفها طوال الليل وجزءا غير قليل من النهار.
لست أدري أقرأت «الأودسا» أم لم تقرأ، وأنا أسمح لنفسي بهذا الشك لأني أعلم علم يقين وتجربة أن الأدب اليوناني سيئ الحظ في مصر، وأن سوء حظه قد بلغ من الشدة إلى حيث لا نستطيع تقديره أو تقدير عواقبه السيئة. نجهل الأدب اليوناني - لا أقول جهلا تاما بل أقول - جهلا فاحشا مخزيا لا يليق بقوم يحبون الحياة أو يطمعون فيها، نجهل هذا الأدب جهلا فاحشا بحيث نستطيع أن نحصي المصريين الذين يعلمون ما «الأودسا» وما «الإلياذة» ومن «أوليس» ومن «بينيلوب»، ومع ذلك فقد كانت «الأودسا» و«الإلياذة» وما زالتا وستظلان دائما ينبوع الحياة للأدب والفن: للشعر والنثر والنحت والتصوير والتمثيل والموسيقى، بليت القرون ولم تبل «الإلياذة» و«الأودسا»، فنيت الأمة اليونانية وفنيت الأمة الرومانية، واختلفت العصور والظروف على أوروبا في العصر المتوسط وفي العصر الحديث، وستفنى أمم وتختلف عصور وظروف، وتظل آيات «الإلياذة» و«الأودسا» جديدة خالدة محتفظة بقوتها وبهائها ورونقها على وجه الدهر وتعاقب الأحداث، ولا نكاد نحن نفترض وجود «الإلياذة» و«الأودسا»، فإذا افترضنا وجودهما فلا نكاد نعلم بشيء مما فيهما.
إلى هذا الحد وصلنا من الجهل بمصدر الحياة للأدب والفن، ويظهر أنا إذا لم نستطع أن نمعن النظر في هذا الجهل أكثر مما أمعنا، فليس وراء هذا الحد مطمع لمن يحب الجهل ويرغب فيه. أقول إذا لم نستطع أن نمعن في هذا الجهل أكثر مما أمعنا فيظهر أنا لا نريد، ولا نحاول أن نخلص منه قليلا أو كثيرا، يظهر أنا سنظل على ما نحن فيه من جهل الأدب اليوناني والفن اليوناني؛ لأنا نرى كل شيء يتغير في مصر، ونرى الرقي تناول كل شيء إلا التعليم، فهو بحمد الله باق حيث كان؛ لأن المشرفين عليه لا يفكرون في تغييره، ولعلهم غير قادرين على أن يفكروا في تغييره. سيظل تلاميذنا يخلطون بين أتينا وصقلية كما يخلطون بين الإسكندر وهانيبال، ولكني بعدت عن هذا الطيف الذي أرقت له آخر الليل بعد أن طربت له أول الليل ... قلت إن «الأودسا» و«الإلياذة» كانتا وستظلان ينبوعا للحياة الأدبية والفنية، فقد ألهمتا شعراء اليونان على اختلاف فنونهم وأساليبهم، وألهمتا الفنيين من اليونان، بل ألهمتا فلاسفة اليونان، وكذلك صدر عنهما شعراء الرومان، وكذلك صدر عنهما وما يزال يصدر عنهما شعراء الإفرنج منذ القرن السابع عشر إلى ما شاء الله، ولقد كانت القصة الموسيقية التي شهدتها أمس أثرا من آثار «الأودسا» اجتمع فيه جمال الشعر وجمال الموسيقى وجمال الغناء وجمال الفن الآلي في التمثيل، فكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع أصوات الآلات الموسيقية وألحانها، واختلاف نغمها الذي كان يرق حتى لا يكاد يسمع، وكان يغلظ حتى يكاد يصم السامعين، وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذه الأصوات الإنسانية العذبة الرخيمة تمازج نغم الموسيقى متغنية بهذا الشعر الجميل الرقيق الذي يمثل أرق العواطف الإنسانية وأصدقها وأدناها من الوفاء والحب والإخلاص، وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذا كله وتنظر إلى مسرح التمثيل فترى هذه الجزيرة اليونانية القديمة كما وصفتها «الأودسا» في جمالها القديم الرائع الذي يزيده بهجة وسحرا ما اتخذ الممثلون من أزياء، وما اصطنعوا من آنية ومتاع. كنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين كنت تسمع ما تسمع وترى ما ترى، ولم يكن ينغص عليك هذه اللذة إلا أنها كغيرها من جميع لذات الحياة قصيرة محدودة المدى لن تتجاوز ساعة أو ساعتين. ذلك فيما أعتقد أخص ما تمتاز به اللذة الحقيقية التي تملك عليك نفسك وعواطفك، وتسحر السحر كله.
تمتاز هذه اللذة بأنك تشعر حين تشعر بها بشيء من الحزن يصاحبها؛ لأنها ستنقضي بعد حين طويل أو قصير، وأنت تحب ألا تنقضي، وأنت تود لو كانت خالدة، أو لو انقضت بانقضائها الحياة.
اشترك في هذه القصة الموسيقي الفرنسي «جبرئيل فوريه»
gabriel faure ، والشاعر الفرنسي «رينيه فوشو»
renee fauchois ، ومثلت منذ عشر سنين فأعجب بها الجمهور، وابتهج لها الناقدون، ولكنهم لم يجرءوا على أن يحكموا لها أو عليها؛ ذلك لأن فيها شيئا من الغرابة كثيرا، فهي لا تمثل الحياة في عصر نفهمه فهما يسيرا سهلا، وإنما تمثل الحياة في عصر بعيد منا كل البعد، بل لعل هذا العصر لم يعرفه التاريخ، وإذن، فليس من اليسير أن يصدق تمثيلها للحياة، وليس من اليسير أن نحسها نحن كما نحس الحياة التي نحياها بحيث تتأثر لها نفوسنا، وتهتاج لها عواطفنا، فتبعث فينا ضروب الإحساس والشعور التي تبعثها فينا الحياة الواقعة.
تردد الناس في الحكم لهذه القصة أو عليها، ولكن كانت الحرب العظمى فهزت النفوس والعواطف، وسهلت على الناس فهم هذا الشعر القصصي القديم الذي مثل ما أصاب الإنسان من محن فأحسن تمثيله، وصور ما اختلف على حياة الأفراد والجماعات من أحداث فأجاد التصوير. فلما استؤنف تمثيل هذه القصة لم يتردد أحد، ولم يشك إنسان، وإنما ظهر الإعجاب صريحا قويا لا يعدله إعجاب، فأجمع الناقدون على أن هذه القصة آية من آيات الموسيقى الفرنسية، وكان يكفي أن ترى الجمهور أمس لتعلم أن الناقدين لم يخطئوا ولم يسرفوا.
عزيز علي أن أجهل الموسيقى، وأن يضطرني هذا الجهل إلى ألا أتحدث إليك بجمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، ولكني إذا جهلت الموسيقى وعجزت على الحديث فيها، فإني أحسها وأشعر بها، وأستطيع أن أعلم أني سمعت شيئا طربت له، أو سمعت شيئا نفرت منه، وأشهد أني لم أنفر أمس، بل إني لم أطرب أمس، وإنما سحرت سحرا ليس فوقه سحر ... أشهد أني لم أكن أشك حين كنت أسمع هذه الموسيقى أني في جزيرة «إيتاك» وأني بمحضر من أولئك الأبطال القدماء، بل أشهد أني حين كنت أسمع هذه الموسيقى لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يصف لي واصف ما يمثله المنظر من هذه الجزيرة المشرفة على البحر التي يعمرها هواء رقيق ناعم شفاف، والتي تزدان بكثبانها وتلالها الصغيرة تهبط إلى البحر متدرجة قليلا قليلا.
Неизвестная страница
نعم لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يوصف لي المنظر؛ لأن الموسيقى كانت تغنيني عن هذا الوصف، فكنت أحس في الموسيقى القرب من البحر، وكنت أسمع في الموسيقى أمواج البحر تضطرب وتصطخب رقيقة حينا كأنها حديث العاشقين، غليظة حينا آخر كأنها قصف الرعد، وكنت أجد في الموسيقى رقة الهواء ونعومته، وكنت أسمع هذه الموسيقى فلا أشك في أن الجو كان صافيا رائقا، أو أنه كان كدرا يهيئ للعاصفة، كنت لا أشك في شيء من هذا، وكنت لا أشك في شيء آخر هو أجل من هذا خطرا وأعظم شأنا، كنت لا أشك في أن هذه القطعة الموسيقية تمثل ما يحدث في نفسي الآن من اضطراب العواطف واصطخابها، وما يقع بينها من تنازع ومشادة، وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، تمثل هذا الضعف الذي يسلبك كل قوة على المقاومة، ويجعلك غير قادر إلا على أن تفتح جفنيك لتسقط منهما قطرات الدمع متتابعة منهمرة! وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الغيظ والحنق، هذا الغيظ الذي تنقبض له أعصابك، فإذا جبينك مقطب، وإذا الدم يغلي في رأسك، وإذا أنت قد أطبقت يديك، وإذا أنت تقاوم هذا الميل الشديد الذي يدفعك إلى أن تثب وتهجم على فريستك، لم أكن أشك في شيء من هذا؛ لأني كنت أحسه، وأتنقل فيه من طور إلى طور، بل هناك ما هو خير من هذا، هناك هذه القطع الموسيقية التي تبعث في نفسك شيئا من الحنان والرحمة ، ومن الطمأنينة والدعة لا أستطيع أن أصفه، ولا يستطيع إنسان أن يصفه؛ لأن وصفه لم يتح للجمل والألفاظ، إنما أتيح للأنغام والألحان وحدها، ولكني عاجز - كما قلت - عن أن أصف جمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية.
أفتريد أن أصف جمالها من الوجهة الأدبية؟ لقد كنت أحب ذلك وأرغب فيه، ولكن أليس خيرا من هذا الوصف الذي لا يمكن إلا أن يكون موجزا مختصرا أن ترجع إلى هذا الجمال في أصله، وأن تستقيه من ينبوعه، فتقرأ النشيد الرابع والعشرين من «الأودسا» تجد في هذا النشيد قصر الملك «أوليس» قد غاب عنه صاحبه منذ عشر سنين؛ لأنه ذهب إلى «تروادة» وانتصر فيها، فلما أراد العودة إلى بلده عبث به وبأسطوله «بوزيدون» إله البحر فأضله الطريق، وأخضعه لطائفة من المحن، وبينما كان الملك وأصحابه يخضعون لعبث «بوزيدون» وغيره من الآلهة، كانت الملكة «بينيلوب» تنتظر زوجها في لوعة وحسرة، وفي حب ووفاء، وكانت طائفة من زعماء اليونان قد احتلت قصر الملك، وأخذت تعبث بما فيه ومن فيه، فتأكل شاء الملك وثيرانه، كما تقول القصة، وتشرب خمره، وتعبث برقيقه، وتلح على الملكة في أن تختار من بينهم رجلا يكون لها زوجا فيخلف «أوليس» على ملك «إيتاك».
كانت هذه الطائفة تلح وكانت الملكة تقاوم، فلما أعيتها المقاومة أخذت تراوغ، فأعلنت إلى هؤلاء الزعماء أنها ستختار من بينهم زوجا إذا فرغت من نسج كفن، أخذت نفسها بنسجه لأبي زوجها، وقبل الزعماء منها ذلك، فأخذت تنسج الكفن يومها حتى إذا كان الليل نقضت ما أبرمت، ثم تستأنف النسج إذا أصبحت، والنقض إذا أمست، والزعماء ينتظرون ويعبثون بالقصر وما فيه ومن فيه.
فإذا كان الفصل الأول من القصة ظهرت خادمات القصر يغزلن ويتحدثن فيما بينهن، وحديثهن لذيذ، فهن يتغنين ما هن فيه من ألم وحرمان، وهن يتغزلن بجمال الزعماء، وترغب كل واحدة منهن في واحد منهم، وهن يرثين للملكة وينكرن عليها غلوها في الوفاء، وإنهن لفي ذلك إذ يقبل الزعماء يريدون أن يتحدثوا إلى الملكة، وتأبى الخادمات إنباء الملكة بمكانهم؛ لأنهن لا يستطعن أن يدخلن عليها إلا إذا دعين. وبينما الزعماء في حوار مع الخادمات تقبل مرضع الملك فتمانعهم، ويكون بينها وبينهم حوار ومسابة، ثم تقبل الملكة فيشتد الخلاف بينها وبين الزعماء، تهينهم وتنعي عليهم وهم يتملقونها ويتلطفون بها، تمانعهم وتأبى عليهم ما يريدون وهم يلحون عليها في أن تسرع فتختار من بينهم زوجا، ثم يقدم شيخ رث فان يطلب الصدقة والمأوى، فينبذه الزعماء وتئويه الملكة، وهذا الشيخ هو «أوليس» قد وصل إلى جزيرته وأمرته الإلهة «أتينا» أن يتنكر ويحتال في طرد الغاصبين والانتقام منهم، لا تعرفه الملكة، ولكن المرضع تعرفه وتعاهده على أن تخفي أمره. ينصرف الزعماء وينصرف الشيخ إلى طعامه، وتبقى الملكة وحدها فتنقض ما نسجت، ولكن الزعماء كانوا قد رصدوا لها فاستكشفوا حيلتها؛ فيغيظهم ذلك، ويعلنون إلى الملكة أن الغد لن ينقضي حتى تكون قد اختارت لها زوجا، ثم ينصرفون وتخرج الملكة ومرضع الملك لتذهبا إلى شاطئ البحر كما اعتادتا منذ سنين تترقبان سفينة ما لعلها تقبل وعلى ظهرها الملك، ويتبعهما الشيخ. فإذا كان الفصل الثاني رأيت رعاة الملك يتحدثون فيما بينهم، ويتمنى بعضهم لبعض ليلا سعيدا، ويتغنون جمال الطبيعة وسحرها، ثم تقبل الملكة ومن معها فيكون بينها وبين الشيخ حديث بديع يظهر فيه ما يضمر الزوجان من حب ووفاء، ومن لهفة ولوعة، ولكن الملك يخفي نفسه، فإذا سئل عن أمره أخبر بغير الحق، واتخذ هذا الإخبار وسيلة إلى التغزل بزوجه من طرف خفي، ولكن في جمال ورقة وحسن مدخل، ثم تجزع الملكة إشفاقا من غد؛ فيقترح عليها الشيخ أن تعلن إلى الزعماء أنها ستختار من بينهم من يستطيع أن يشد قوس «أوليس»، ثم تنصرف الملكة، ويتعرف الملك بعد ذلك إلى رعاته، ويأمرهم أن يكونوا في القصر غدا، وأن يتخذوا السلاح ليعينوه على الانتقام. فإذا كان الفصل الثالث رأيت الملك وحده يتغنى غضبه وسخطه، وحرصه الشديد على الانتقام، ثم يكون بينه وبين مرضعه ورعاته أحاديث قصيرة، ثم يقبل الزعماء وقد تهيئوا للقصف واللهو، فيسخرون من الشيخ ويريدون طرده، ثم يبدو لهم فيتخذونه سخرية يسقونه ويضحكون منه، ويظهر الشيخ أنه سكران، وتقبل الملكة فتعلن إليهم أن من شد قوس «أوليس» ورمى عنها فهو زوجها، فيعجزون جميعا، ويتقدم الشيخ الفاني إلى القوس فيشدها ويرمي عنها، ولكن في صدر أحد الزعماء.
هنا يظهر الملك نفسه وينتقم لشرفه وثروته وملكه، يعينه الرعاة على هذا، ثم تنتهي القصة بمظهر الحب والغبطة بينه وبين الملكة من جهة، وبينه وبين الشعب من جهة أخرى.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب، وأنها من السذاجة والسهولة بحيث تلائم القرن التاسع أو العاشر قبل المسيح أيام أنشئت «الإلياذة» و«الأودسا»، ولكني أضمن لك لذة عظيمة إذا قرأت هذه القصة، ولذة لا حد لها إذا قرأتها في «الأودسا»، فأما إذا شهدت القصة الموسيقية في «الأوبرا كوميك» فلست أدري ماذا أضمن لك، وإنما أحدثك صادقا بأني قضيت ليلة سعيدة كنت أحسبني أثناءها في عالم آخر، ولم أتنبه إلى أني في الأرض إلا حين سمعت ابنتي تتغنى وتصيح، ورأيت ابني يعبث بما حوله، وسمعت أمه تزجره وتنهاه.
باريس في 4 مايو 1923 (4) شك ويقين
قوم يشكون فيغلون في الشك، وقوم يوقنون فيسرفون في اليقين، وأولئك وهؤلاء معرضون للخطأ الشديد، ومخاصمون للعلم الصحيح. الشاكون مخطئون ومخاصمون للعلم؛ لأنهم ينكرون أنفسهم وينكرون العلم، والموقنون مخطئون ومخاصمون للعلم؛ لأنهم ينكرون التطور الذي هو قوام الحياة، ولكن أولئك وهؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يختارون الشك ولا يختارون اليقين، وأحسب أنهم إنما يشكون أو يوقنون لأن أمزجتهم قد ألفت بحيث تستتبع الشك أو اليقين، بل أحسب أن لما نأكل وما نشرب وما نحس، بل وللهواء الذي نتنفسه، والجو الذي نعيش فيه، والكتاب الذي نقرؤه، والخطبة التي نسمعها، أثرا فيما يعرض لنا من شك أو يقين.
زعم بعض الكتاب أن أبا العلاء إنما شك لأنه أسرف في أكل العدس والزيت، فساء هضمه، وتبع ذلك سوء رأيه في الحياة، قد يكون هذا حقا، وقد يكون باطلا، ولكني لا أشك في أننا مدينون بأطوارنا العقلية لهذه المؤثرات الكثيرة المختلفة التي تكتنفنا سواء منها المادي والمعنوي.
حدثتك في مقال مضى بهذه المحاورة التي شهدتها في المؤتمر حول وجود سقراط والشك فيه، ولقد قرأت اليوم شيئا أغرب وأدعى إلى العجب من الشك في سقراط.
Неизвестная страница
قرأت أن هناك عالما فرنسيا من علماء الفلك المعروفين قد كتب في هذه الأيام الأخيرة كتابا سماه «مملكة السموات»، وفي هذا الكتاب الذي يقال إنه ممتع جدا فصل يبحث فيه المؤلف عن حركة الأرض، ويثبت فيه أن من المستحيل أن تثبت بطريقة علمية قاطعة أن الأرض تدور ... إذن فنحن لا ندري من شأن الأرض شيئا، أدائرة هي أم ساكنة، وكل هذه الأدلة الكثيرة المختلفة التي جمعها العلماء منذ حوكم «جاليله»
galilee
إلى الآن ليثبتوا بها أن الأرض تدور، كل هذه الأدلة فاسدة أو غير منتجة، بل يذهب الأستاذ «نورمان»
nordmann
صاحب الكتاب المذكور، إلى أبعد من هذا جدا، فيزعم أن دوران الأرض شيء ليس إلى إثباته أو نفيه من سبيل، وإذن فقد قضي علينا - إن صحت آراء الأستاذ «نورمان» - أن نجهل أبدا شأن الأرض فلا نعلم أساكنة هي أم دائرة!
سنقول: وأي شيء يصيبنا إن علمنا بأن الأرض دائرة أو ساكنة أو جهلنا دورانها وسكونها؟ ربما لم يصبنا شيء، فسنأكل ونشرب وننام ونستمتع باللذات ونتجرع مرارة الآلام سواء أكانت الأرض ساكنة أم دائرة، ولكن ماذا تقول في أولئك العلماء الذين يبحثون عن العلم للعلم، لا تعنيهم نتائجه العملية، والذين يموت أحدهم غما إذا ظهر خطؤه في رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؟
كنت أقرأ في أعداد «السياسة» الأخيرة محاضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد بخيت في الرد على «نورمان»، فرأيته يبذل كل ما يستطيع من قوة وجهد وينفق علمه الواسع ليثبت أن الإسلام دين العلم، بل ليثبت شيئا آخر غير هذا، وهو أن القرآن الكريم لا يناقض بلفظه ولا بمعناه أصلا من أصول العلم الحديث، بل هو فوق هذا يشتمل على أصول العلم الحديث. ورأيت الأستاذ يستنبط من القرآن الكريم كروية الأرض وحركتها حول الشمس وحول نفسها واختلاف الفصول واختلاف الليل والنهار، فأعجبت بهذا الجهد العنيف الذي لا مصدر له إلا البر والتقوى، ومن قبل ذلك قرأت أشياء كثيرة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - حاول فيها مثل ما حاول الأستاذ الشيخ محمد بخيت، والناس في مصر وفي الشرق يعجبون بمثل هذه المحاولة؛ لأنها تظهرهم في منزلة من الحضارة ليست أقل ولا أدنى من منزلة الأوروبيين الذين اخترعوا العلم الحديث، وإن كنت أنا لا أحب هذه المحاولة ولا أتكلفها، وربما كرهتها ونفرت منها؛ لأنها تفسد النصوص، وتحمل على الغلو في التأويل. كنت إذن أقرأ محاضرة الأستاذ الشيخ بخيت وأعجب بها، فلما قرأت ما قرأت اليوم تحدثت إلى نفسي بما يأتي:
لو صح ما ذهب إليه الأستاذ «نورمان» وأقره العلماء، وأصبح الإجماع منعقدا على أن الأرض لا تدور كما كان منعقدا على ذلك منذ قرون وحين أنزل القرآن الكريم، فأين يذهب هذا الجهد العنيف الذي بذله الأستاذ الشيخ بخيت والأستاذ الشيخ محمد عبده ليثبتا أن القرآن يدل على أن الأرض تدور؟ وهل يبذل الأستاذ الشيخ محمد بخيت وخلفاء الأستاذ الشيخ محمد عبده جهدا عنيفا ليثبتوا أن القرآن يدل على أن الأرض لا تدور؟ وإذن فكيف نستطيع أن نفهم دلالة القرآن على أن الأرض تدور وعلى أن الأرض لا تدور؟
ليس هناك من شك في أن المسلمين في العصور الأولى كانوا يعتقدون أن الأرض لا تدور، وأن القرآن يدل على أنها لا تدور؛ لأن الإجماع كان منعقدا يومئذ على أنها لا تدور، ثم جاء علماء أوروبا وشياطينهم فزعموا أن الأرض تدور، وكانت حرب بينهم وبين عامة الناس وزعماء الديانات، ثم انعقد الإجماع على أن الأرض تدور، وجاء قسيس من دعائم «الفاتيكان» الذي حكم على «جاليله» فجمع أدلة لا تحصى على أن الأرض تدور، ثم جاء الأستاذ «نورمان» وشيطانه فزعما لنا أن الأرض قد لا تدور، وربما جاء العلماء وشياطينهم فأقروا صاحبنا وشيطانه على أن الأرض لا تدور، أو على أنه من المستحيل أن نجزم بأنها تدور، أو بأنها لا تدور! وإذن، وإذن فما قيمة الشك وما قيمة اليقين، وما قيمة العلم، وما قيمة النص، وما قيمة التأويل؟ أليس من الخير ألا نغلو في الشك ولا نغلو في اليقين؟ أليس من الخير أن نكتفي بالترجيح؟ ثم أليس من الخير ألا نحمل نصوص القرآن وغير القرآن من الكتب الدينية أوزار الشك وأوزار اليقين، وهذه النتائج الكثيرة المختلفة المضطربة المتناقضة التي تنشأ عن أمزجتنا المختلفة المضطربة المتناقضة، والتي تنشأ عما نأكل وما نشرب وما نرى وما نسمع وما نحس؟ أليس من الخير أن نجعل القرآن الكريم وغيره من الكتب الدينية في حصن مقدس منيع لا تصل إليه أبخرة العدس والفول والزيت والطعمية وغير ذلك مما نأكل لنهضمه مرة ولا نهضمه مرة أخرى، وينشأ عن سهولة الهضم وعسره حسن تفكيرنا أو سوءه، اللهم إني أعتقد أن الأرض قد تدور وقد لا تدور، وأنها قد تكون كرة أو سطحا أو كمثرى، وأن الزمان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن المكان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن «نيوتن»
newton
Неизвестная страница
قد يصيب وقد يخطئ، وأن «إنستين»
enstein
قد يحق وقد يبطل. كل هذا ممكن، ولكن هناك شيئا لا أحب أن يحتمل أوزار هذا الإمكان وهذا التناقض وهذا التردد، وهو القرآن وغير القرآن من الكتب الدينية، إنا لنحسن الإحسان كله إذا رفعنا الدين ونصوصه عن اضطراب العلم وتناقضه، فماذا يرى العلماء؟
باريس في 27 أبريل سنة 1923 (5) العلم والثروة
في مصر أغنياء كثيرون، ولكن معظمهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين؛ لأنهم لا يفقهون الثروة ولا يقدرونها، ولا يفهمون ما ينبغي أن توجد هذه الثروة من صلة بينهم وبين مواطنيهم وهم أغنياء، وكل حظهم من ثروتهم أن يأكلوا كثيرا، ويستمتعوا بلذات مادية لا تتجاوز الحس إلى القلب، أو إلى العقل. ثروتهم مقصورة على أجسامهم، فإن وصلت إلى نفوسهم فهي لا تمس منها إلا موضع الضعف والغرور، تمس الفخر والتيه، تمس العجب والخيلاء، لكنها لا تمس الذكاء، ولا تمس عاطفة الرحمة بالبائس، ولا تمس عاطفة الإعانة على الخير.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم أشد بؤسا من الفقراء المعوزين؛ لا ينتفعون بثروتهم أحياء، ولا ينتفع الناس بثروتهم بعد موتهم. هم لا يملكون الثروة، وإنما يحملونها على ظهورهم لينقلوهم من جيل إلى جيل، يحملون الثروة عن آبائهم لينقلوها إلى أبنائهم ليعبروا بها النهر، وكثيرا ما تنوء بهم هذه الثروة فتغرق ويغرقون معها، ولا يظفر أبناؤهم منها إلا بالتعس والبؤس وسوء الحال.
في مصر أغنياء كثيرون، ولكنهم في الحق معوزون!
وفي أوروبا أغنياء، ولكنهم أبعد الناس عن الفقر، وأدناهم إلى الغنى حقا؛ لأنهم يفهمون الثروة، ويحسنون الانتفاع بها في حياتهم الخاصة، وفي حياة أممهم ومدنهم وقراهم وأسرهم، فهم يتمتعون بالثروة حقا، يجنون منها لذة الجسم، ولذة القلب، ولذة العقل. بل يجنون منها اللذة الصحيحة في الحياة وتخليد الاسم بعد الموت. ينفعون وينتفعون، ليسوا عالة على قومهم، وليس قومهم عليهم عالة. إنما هم يفهمون أن الثروة أداة من أدوات المنفعة العامة المشتركة التي ينبغي أن يستمتع بها الناس جميعا، كل على القدر الذي يتاح له. هم يملكون الثروة ويحسنون التصرف فيها، لا يشترون بها الطعام والشرب واللباس فحسب، وإنما يشترون بها أيضا الحب والعطف والإجلال وحسن الأحدوثة في الحياة وبعد الموت. ليسوا أنعاما ينقلون أثقال الثروة من جيل إلى جيل، وإنما هم ناس يملكون الثروة ويستثمرونها فيفيدون ويستفيدون. ليسوا عبيدا للمادة، وإنما هم سادتها، يملكونها ويسخرونها لحياة الإنسان والترفيه عليه.
اقرأ في جريدة «الطان» أن رجلا أهدى إلى جامعة باريس عشرة ملايين، لإقامة حي خاص يسكنه الطلبة الذين يدرسون في هذه الجامعة، بحيث يتاح لهؤلاء الطلبة أن يعيشوا في منازل صحيحة يجدون فيها ما يمكنهم من الدرس النافع بين ضروب الراحة والنعيم، واقرأ في جريدة «الطان» أن امرأة أوصت بثروتها كلها لجامعة باريس، وثروتها تكاد تبلغ الخمسة عشر مليونا، واقرأ في جريدة «الطان» أن هذه المرأة قبل أن تموت أهدت إلى كثير من الجامعات مقادير مختلفة من المال، وأنها أهدت مرة إلى جامعة باريس مقدارا من المال تنفقه في طبع الرسائل التي يقدمها الطلبة الفقراء لنيل الدكتوراه، وأهدت مرة أخرى إلى جامعة باريس ما يمكنها من إنشاء درس لأدب القرن الثامن عشر وتاريخه، وأن امرأة أخرى أهدت إلى جامعة باريس ثروة تغل عليها 35000 فرنك في السنة؛ لترقية البحث عن «الراديوم» في الطب، وأن رجلا ترك لها نصف مليون، وأن أستاذا في مدرسة ثانوية ترك ثروته التي تبلغ 76408 فرنكات لإعانة طلبة التاريخ الحديث، وأن امرأة تركت مليونا لإعانة المؤرخين على بحثهم التاريخي. واقرأ في الصحف المختلفة أن دور التمثيل والموسيقى ومنازل اللهو واللعب قد خصصت جزءا من دخلها في يوم من الأيام لإعانة العلماء على تأسيس المعامل العلمية المختلفة. بل اقرأ ما هو أغرب من هذا؛ اقرأ تعاون الفقراء والمعوزين وافتنانهم في جمع المقادير المختلفة من المال لإعانة العلماء على تأسيس المعامل وتكميلها، واقرأ في الوقت نفسه مقالات طويلة مرة ملؤها السخط والغضب والغيظ؛ لأن العلماء يشكون فقر المعامل ونقصها، ويستعينون الجمهور فلا يعينهم ولا يمنحهم من المال ما ينبغي أن يمنحهم. هذا الجود وهذا البذل اللذان أشرت إليهما في أول هذه الكلمة لا يرضيان ولا يقنعان، ومع ذلك ففقر العلم في فرنسا إضافي جدا؛ لأن الدولة والأفراد والجماعات يخصونه بعناية عظمى، وآية ذلك ما وصلت إليه فرنسا من الرقي العلمي الذي لا يزال مطمح أمم كثيرة في أوروبا بعد.
كتبت في غير هذا المقال منذ أشهر أن العلم مهما اشتد غناه وعظمت ثروته فهو فقير محتاج إلى المعونة؛ لأنه يحيا، وحاجة من عاش لا تنقضي، فسيظل العلماء يشكون وسيظل الناس يبذلون. هذا في فرنسا، أما في مصر فالثروة كثيرة ضخمة تنوء الأغنياء، ولسنا نستطيع أن نذكر فقر العلم أو حاجته إلى المعونة؛ لأننا لا نستطيع أن نذكر العلم في مصر، فليس لمصر علم، وإنما هي في علمها عالة على أوروبا وأمريكا تستعير منهما كل شيء، وهي لا تحسن الاستعارة، ولا تستطيع أن تستعير منهما ما هي في حاجة إليه أو جزءا موفورا مما هي في حاجة إليه؛ لأنها لا تجد من المال ما يمكنها من أن تستعير هذا المقدار العلمي الذي هي محتاجة إليه لتعيش، أما إذا احتاجت إلى السيارات والدراجات والحلي وفاخر اللباس وبديع الأداة والآنية، فما أكثر المال وما أيسر البذل! هنا تظهر ثروة الأغنياء ويظهر سخاؤهم فتكثر في مصر هذه الأدوات المختلفة التي يفيد قليلها ويضر كثيرها.
Неизвестная страница
نعم، نحن أغنياء أجواد إذا احتجنا إلى متاع الدنيا، فأما إذا احتجنا إلى غذاء العقل والقلب ففقرنا لا يعدله فقر. هناك علوم مزهرة في أوروبا وأمريكا ونحن لا نسمع بها في مصر؛ إما لأننا لا نحاول أن نسمع بها، وإما لأننا نضع أصابعنا في آذاننا حتى لا نسمع بها، فنحتاج إلى أن ننفق المال في جلبها إلى بلادنا، ولكني واثق بأن لونا من ألوان البدع في الحلي أو الملابس أو السيارات أو الأزرار لا يكاد يظهر في باريس أو في نيويورك حتى نسمع به، ونرغب فيه، ونتهالك عليه، والنتيجة أننا في حياتنا الظاهرة كأرقى الشعوب مدنية وحضارة، وربما كنا أفخر لباسا وزينة من أغنياء باريس ونيويورك ولندرة، فإذا رآنا الأوروبي خيل إليه أننا ناس مثله نلبس كما يلبس بل خيرا مما يلبس، ونزدان كما يزدان بل خيرا مما يزدان، يحسبنا مثله إذا رآنا، ولكنه لا يكاد يمتحننا ويخبرنا حتى يشعر بأن وراء هذه الزينة وهذه المظاهر الفناء أو شيئا يشبه الفناء، وماذا تريد من قوم يجلبون من أوروبا كل ما ييسر عليهم الحياة المادية، ويمكنهم من الاستمتاع بلذاتها المادية، فإذا ذكر العلم والأدب والفن هزوا الرءوس والأكتاف، بل هم يفعلون شرا من هذا، فالعلم في بلادهم ولكنهم يعمون أو يتعامون عنه، لا يرونه ولا يشعرون به، ويحسه الأوروبيون والأمريكيون على بعد الشقة فيسعون إليه ويحملونه إلى بلادهم، حتى إذا نبه منا نابه فأحس كما يحس الناس، واشتاق إلى ما يشتاق إليه الناس، وأراد أن يكون مصريا يعرف مصر كما يعرف الفرنسي فرنسا، اضطر إلى أن يبحث عن مصر في باريس أو لندرة أو برلين، يا للخزي! بل قد يحتاج إلى أن يبحث عن مصر في أثينا!
لقد قلنا هذه الأشياء، وقلناها وسنقولها ونقولها، فلم يحفل بنا أحد، ولن يحفل بنا أحد، اللهم إلا جماعة الراغبين اليائسين وهم قليلون، فأما القادرون على أن ينفعوا، فأما القادرون على أن يفيدوا بلادهم، فهم عن النفع والفائدة في شغل، وما أنت والعلم تحدثهم به وتثقل عليهم فيه، وهم أرغب في هذا المتاع الباطل الذي يبهر العين ويخلب النظر ويحمل فلانا على أن يقول: لقد رأيت سيارة فلان فأعجبتني ولأشترين مثلها! رأيت عالما مصريا أو أديبا مصريا أو فنيا مصريا يروقنا أن يكون لدينا مثله، فذلك شيء لا يخطر لأغنيائنا على بال، ولقد أكتب هذه الكلمة وأنا أثق الثقة كلها بأن كثيرا من أغنيائنا سيقرءونها، وينالون كاتبها بالسخط والنعي؛ لأنه يحدثهم بما لا خير فيه.
لدينا جامعة أنشئت منذ خمس عشرة سنة، ولولا لطف الله بها لماتت، على أنها ليست بعيدة من الموت، ولقد أظهر أغنياؤنا ميلا شديدا إلى تأييد هذه الجامعة وإعانتها؛ لأن ذلك كان بدعا يومئذ وكان فيه فخر للباذلين. فلما انقضى البدع هبطت الرغبة، وفتر الميل، وحبس الذين بذلوا المال أموالهم فلم يعطوا، ولم يفوا بما وعدوا أن يعطوا. لا تذكر الحرب فإن الحرب لم تسئ إلى مصر، ولم تنزل الفقر بأهلها، ولقد أساءت الحرب إلى فرنسا فزعزعت ثروتها وخربت جزءا عظيما منها، بل زعزعت نظامها الاجتماعي فلم يزدها ذلك إلا حبا للعلم وتشجيعا للعلم وإعانة للعلماء، ولم يضع عليها من ذلك شيء؛ فقد أتاح لها العلم أن تنتصر، أما أغنياؤنا فقد ضاعف الله عليهم ثروتهم أضعافا مضاعفة، فلم يزدهم ذلك إلا ضنا وحبسا للمال عن وجوه الخير، وتهالكا على اللذات المادية، والحكومة والأفراد في ذلك سواء، فلست أنسى الوزارة النسيمية الأولى وما أنفقت من المال لإصلاح سيارات الحكومة، فقد كان ذلك يكاد يبلغ نصف المليون من الجنيهات، أما الجامعة، فكانت الحكومة تعينها بألفي جنيه قبل أن تبلغ ميزانيتها عشرين مليونا، فبلغت هذه الميزانية أربعين مليونا، ولم تزد إعانة الجامعة، وإنما أنذرت الجامعة مرات بقطع هذه الإعانة ! وكانت وزارة الأوقاف تمنحها معونة قدرها خمسة آلاف جنيه أيام النظام القديم، فلما أقبل النظام الجديد نقصت هذه الإعانة حتى بلغت 1800 جنيه! ولست أدري أفتقرت وزراة الأوقاف، ولعل افتقارها كافتقار الحكومة المصرية؟ ثم نحن نطلب الاستقلال، نزعم أن ليس بيننا وبين أهل أوروبا فرق، وأن من حقنا أن نستمتع بنظام الحياة الذي يستمتعون به، وقد يكون هذا حقا، ولكن يجب أن نعترف بأن أهل أوروبا وأمريكا لم يصلوا إلى حياتهم الراقية الحرة بالتهالك على السيارات والحلي وملابس الحرير وما يشبهها، وإنما وصلوا إليها بالتهالك على العلم والرغبة فيه، يجب أن نحمد الله على أن الدستور قد صدر، فلئن يئسنا من الحكومة ومن الأفراد فلن نيأس من الأمة ممثلة في البرلمان، ويقيننا أن هذا البرلمان لن يغفر في المستقبل لوزارة المعارف مثل هذه الأغلاط المنكرة، لن يغفر لوزارة المعارف ما وصلت إليه حال التعليم في مصر من ضعف وفساد، ولن يغفر لوزارة المعارف أن تظل مصر من الجهل والضعف بحيث توجد علوم لا تسمع بها مصر ولا يأخذ المصريون منها بنصيب.
باريس في 11 مايو سنة 1923
القسم الثاني: أسبوع في بلجيكا
1
مؤتمر العلوم التاريخية
كنا ألفا أو نزيد على الألف، كلنا يعنى بالتاريخ أو بعلم أو فن من هذه العلوم والفنون التي يحتاج إليها التاريخ، وقد اجتمعنا من أطراف الأرض على اختلاف أوطاننا، وأدياننا، ولغاتنا، ومناهجنا في الحياة، لا يجمع بيننا إلا شيء واحد، هو أننا نشتغل بالتاريخ أو بفن يتصل بالتاريخ.
كنا ألفا أو نزيد على الألف، وكنا مختلفين مؤتلفين، مفترقين متفقين، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا المؤتمر، ولقد أريد أن أحدثك عن هذا الأسبوع الذي قضيته في بلجيكا، ولكني لا أدري كيف أحدثك؛ لأني لا أدري كيف أبدأ الحديث.
في نفسي أشياء كثيرة، كثيرة جدا، أريد أن أتحدث بها إليك، ولكني أشعر بشيء من الاضطراب في تنظيم هذه الأشياء الكثيرة وترتيبها، وتقديم بعضها على بعض، كل هذه الأشياء خليقة أن تقال، وكل هذه الأشياء جليلة الخطر، فلأتحدث إليك كما تلهمني المصادفة على غير نظام، وفي غير ترتيب.
Неизвестная страница
أشعر بأن كثيرا من المصريين سيسخرون من التاريخ والمؤرخين ومن المؤتمر والمؤتمرين؛ لأن التاريخ ليس من هذه العلوم التي تظهر فائدتها في الحياة العملية اليومية، وليس من العلوم التي تعين صاحبها على أن يفلسف كما يقتضي العصر الذي نعيش فيه، وإنما هو علم متواضع يزيد في تواضعه أنه قد نزل في هذا العصر الحديث عن ميزة قديمة كانت ترفع شأنه وتعلي مكانته، ذلك أن الناس كانوا يتخذون الماضي وسيلة إلى فهم المستقبل، أو بعبارة أوضح: وسيلة إلى الاستعداد للمستقبل، وكانوا يتخذونه وسيلة إلى فهم الإنسانية وتفسير ما في حياتها من غموض، فكان التاريخ يختلط بالفلسفة أو كان التاريخ فنا من فنون الفلسفة، وكان الناس يعتقدون أن له فائدة عملية؛ لأنه يعين على حسن الاستعداد للحياة، فكانوا يكلفون بالتاريخ ويتهالكون عليه، وكانت للتاريخ مكانة عليا بين العلوم، وكانت للمؤرخين مكانة عليا بين العلماء.
ولكن التاريخ تواضع ونزل عن هاتين الميزتين، وأصبح لا يزعم لنفسه الفضل فيحسن الاستعداد للمستقبل، ولا يزعم لنفسه القدرة على حل ألغاز الحياة، بل أصبح التاريخ يحذر الناس من تلك الأساليب القديمة التي كانت تقيس غدا إلى أمس وتفسر اليوم بما وقع منذ قرون. أصبح التاريخ يحذر الناس من هذه الأساليب القديمة، ويسخر من أولئك الذين يبحثون عن الثورة الفرنسية وما أحدثت من نظم في السياسة والاجتماع في تاريخ اليونان والرومان، ثم يرثي لأولئك الفرنسيين الذين خدعتهم هذه الأساليب في أواخر القرن الثامن عشر فظنوا أنهم يحيون بثورتهم الديمقراطية اليونانية أو نظم السياسة الرومانية، واتخذوا لهذه النظم أسماء اقتبسوها من تاريخ أتينا وتاريخ روما. أصبح التاريخ ينكر هذه الأساليب، ويحذر الناس منها، ويسخر من المستمسكين بها، بل أصبح التاريخ ينكر فلسفة التاريخ ويقنع بشيء واحد متواضع، ولكنه جليل الخطر، وهو الوصول إلى استكشاف الحقائق التي وقعت في الماضي استكشافا علميا صحيحا معتمدا على البحث لا على الفلسفة.
فهو كالكيمياء لا يزعم لنفسه القدرة على تحويل المعادن وإيجاد الذهب ، وإنما يزعم لنفسه البحث عن الحقائق من حيث هي حقائق لا أكثر ولا أقل.
إلى هذه المنزلة وصل التاريخ، فما أسرع ما زهد فيه الناس ورغبوا عنه، ولا سيما في مصر! ولقد أذكر حديثا طويلا جرى بيني وبين أحد المصريين الأذكياء، كان ينكر فيه قيمة التاريخ؛ وكانت حجته في هذا الإنكار أن التاريخ لا يفيد فائدة عملية، ولا يمكن الناس من أن يكسبوا حياتهم أو يرفهوا هذه الحياة.
أذكر هذا الحديث وأحاديث أخرى فأشعر بأن ناسا كثيرين في مصر سيسخرون من التاريخ، ومن مؤتمر التاريخ، ولكني أؤكد لك أيها القارئ أني لا أسخر من هذا ولا ذاك، وإنما أكلف بالتاريخ، وأعجب بمؤتمر التاريخ، وأرجو أن يكلف كثيرون بالتاريخ، ولكننا قد نصل إلى هذه المنزلة يوم نشعر بأن العلم يجب أن يطلب لأنه علم، لا لأنه يمكنك من أن تعيش أو من أن تعيش عيشة مترفة.
لا أسخر من التاريخ، وفي الأرض ناس كثيرون لا يسخرون من التاريخ. فقد حدثتك في أول هذا المقال بأننا كنا ألفا أو نزيد على الألف، وكنا من جميع أقطار الأرض، ولم يكن منا من يسخر من التاريخ، ولقد كان الذين نظموا المؤتمر ودعوا إليه في دهش وحيرة لا حد لهما، كانوا لا يطمعون في أن يبلغ عدد المؤتمرين خمسمائة، فإذا عدد المؤتمرين قد تجاوز الألف. كانوا يطمعون في أن يستجيب لهم الناس من أطراف الأرض، وإنما كانوا ينتظرون أن يستجيب لهم أهل أوروبا الغربية، وأهل أمريكا الشمالية، فإذا القارات الخمس يستجبن لهذه الدعوة، وإذا البرازيل والهند وأستراليا ومصر وأفريقيا الجنوبية وأوروبا الشمالية والصين واليابان والروسيا ترسل من يمثلها في هذا المؤتمر. وأحب أن تلاحظ أن ألمانيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر لأنها لم تدع إليه، وأن الروسيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر كما ينبغي لأنها لم تدع، وإنما اشتركت في المؤتمر الجماعات الروسية المتفرقة في أنحاء أوروبا، وأن النمسا اعتذرت عن الاشتراك في المؤتمر؛ لأنها لم تجد من المال ما يمكنها من إيفاد من يمثلها ، ومع هذا كله فقد بلغ هذا المؤتمر الخامس من الفوز ما لم يبلغه مؤتمر تاريخي من قبل.
زاد عدد أعضائه على الألف، وزاد عدد الخطب التي ألقيت فيه والمذكرات التي قدمت إليه على ثلاثمائة، ولم يستطع المؤتمر أن يجتمع للاشتراك في البحث والمناقشة، إنما اضطر أن يوزع العمل ويقسم نفسه أقساما بلغت ثلاثة عشر قسما. اضطرت أقسام كثيرة إلى أن تقسم نفسها وتوزع العمل فيما بينها، فانقسم بعضها أربعة أقسام، ولم يكن من الممكن لعضو من أعضاء المؤتمر أن يتتبع العمل في المؤتمر، وإنما كان كل عضو مضطرا إلى أن يتتبع العمل في القسم الذي هو فيه، وربما أباح أحدنا لنفسه أن يترك قسمه ليسمع خطبة أو مذكرة تلذه أو تعنيه في قسم آخر، فيفعل ذلك كارها؛ لأنه يترك في قسمه خطبا ومذكرات كان يود لو يستمع لها. ولقد كان أعضاء المؤتمر يلتقون فيسأل أحدهم صاحبه: هل قدمت إلى المؤتمر شيئا؟ نعم في موضوع كذا. فيجيبه: هذا شيء لا يحتمل! لقد كنت أريد أن أسمع لك ولكني شغلت في قسمي بموضوع لم يكن بد من الاستماع له. أما أنا فضيق الصدر، فقد فاتتني خطبة فلان ومذكرة فلان. وماذا تريد أن نصنع وقد أبت الطبيعة أن تستطيع تعديد أشخاصنا والاستماع في وقت لكل ما نحب أن نستمع له؟
وكان المؤتمر يفكر في طبع ما سيلقى فيه من الخطب أو يقدم إليه من المذكرات، فألفى نفسه أمام مشكلة مالية لا قدرة له على حلها، وحسبك أنه كان يلقى في الساعة الواحدة وفي أكثر من عشرين غرفة أكثر من عشرين خطبة! وكنا في هذا المؤتمر كالتلاميذ في المدرسة، نجتمع في الساعة التاسعة صباحا فما نزال مجتمعين إلى الظهر، ثم ننصرف للغداء ونعود في الساعة الثانية فما نزال مجتمعين إلى الساعة الخامسة. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفنا إلى زيارات واستقبالات قد نظمت في القصر مرة، وفي البلدية مرة أخرى، وعند وزير المعارف مرة ثالثة، وفي المتاحف والمجامع العلمية مرة رابعة، بحيث كان من المستحيل أن يفكر العضو في شيء غير المؤتمر وأعمال المؤتمر إذا كان عضوا مخلصا في عمله معنيا بفنه حقا، وهنا يجب أن ألاحظ أن الأعضاء لم يكونوا جميعا على حظ واحد من الإخلاص للفن والعناية به، وذلك شيء حسن في نفسه؛ فحسبك ثلاثمائة خطبة أو مذكرة وما استتبعت من البحث والمناقشة، ولو أن الأعضاء جميعا خطبوا أو قدموا المذكرات أو اشتركوا في البحث والمناقشة لما انتهت أعمال المؤتمر في أسبوع أو أسابيع.
كثير من الأعضاء أقبل يسمع ويرى، ويتعرف إلى المؤرخين على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم، وكثير منهم أقبل للرياضة والسياحة، واتخذ المؤتمر تعلة لما كان يريد.
كثيرة جدا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات، فلست أذكر الفائدة الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ، وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنا دقيق الملاحظة لتجد لذات متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج، وما لكل واحد منهم من عادة أو خلق أو مزية أو نقيصة. والحق أني قد استفدت كثيرا من الوجهة العلمية التاريخية، ولكني مع هذا ضحكت كثيرا وسخطت كثيرا، فقد كان حولي من الناس من يضحك كما كان حولي منهم من يبعث السخط، ولكني سأحدثك عن هذا كله في مقال آخر بعد أن أقص عليك طرفا من أعمال المؤتمر.
Неизвестная страница
باريس في 16 أبريل سنة 1923
2
لا أذكر ما كان يضطرب في نفسي من خواطر الأسى والإعجاب، ومن عواطف الأسف والأمل أثناء الطريق بين باريس وبروكسل، حين كنا نعبر هذه البلاد التي دمرتها الحرب تدميرا فلم تذر فيها شيئا إلا أتت عليه، والتي كان أهلها مشردين في أقطار فرنسا، يتكلفون ألوان المشقة، ويستجدون ضروب الإحسان، ليستقروا بعد تشريد وليشبعوا بعد جوع، فأصبحت هذه البلاد، ولما تمض على الحرب أعوام، عامرة ومزدهرة مستكملة أو آخذة في استكمال وسائل الحياة العاملة المنتجة الناعمة المترفة. كنت آسف وكنت آمل، كنت آسى لقسوة الإنسان على الإنسان، وكنت أعجب بقدرة الإنسان على إصلاح ما أفسدت يد الإنسان ، ولكني لا أريد أن أذكر ذلك أو أطيل فيه، وإنما أحدثك بما وجدت حين وصلت إلى مدينة بروكسل ظهر الأحد 8 أبريل.
كان البرد شديدا، وكانت تعصف في المدينة ريح قوية مثلجة، ولكن المدينة كانت هائجة مائجة، أو بعبارة أصح: كانت فرحة مرحة، كان الناس يتغنون ويضحكون ويفتنون في اللذات البريئة. فكنت لا تسمع إلا أصواتا صافية مجلوة، تنبعث بألفاظ الهناء والسرور، وكنت لا ترى إلا أعلاما منشورة تعبث بها الريح، كنت لا تسمع ولا ترى إلا شيئا يسر ويرضي ويبعث البهجة في النفوس. كان أهل بلجيكا ذلك اليوم في عيد، كانوا يحتفلون بميلاد الملك ألبير. لم يكن احتفالهم رسميا فحسب، لم يكن مقصورا على قصر الملك ودواوين الحكومة. لم يكن احتفالا تراد به المجاملة، وإنما كان احتفالا حقا. كانت القلوب تحتفل بالملك ألبير، وكانت الألسنة تنطلق بما يملأ القلوب من فرح، وكان الوجوه تصف ما يغمر النفوس من ابتهاج، وكانت هذه الجماعات المختلفة التي تنطلق في الشوارع منها ما ينشد النشيد البلجيكي، ومنها ما يتغنى «بالمرسيلييز»، ومنها ما يتغنى بأحدث الأغاني الباريسية التي تتردد في «مونمارتر». أقول: كانت كل هذه الجماعات آية ساطعة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم ويعجبون به، ويحتفلون ببلجيكا الناهضة حين يحتفلون بعيد ألبير؛ لأن ألبير يمثل في نفوسهم هذا الوطن الذي تألم وأهين، ولقي ضروب الذلة ثم انتصر وثأر لنفسه، وهو الآن ينهض ويستأنف الحياة قويا نشيطا كأقوى وأنشط ما كان قبل الحرب.
نعم: كانت هذه الجماعات آية بينة على أن البلجيكيين يحبون ملكهم، ويرونه رمز آلامهم وآمالهم حقا، ومهما أنس فلن أنسى جماعة من الرجال والنساء صادفناها في أحد الشوارع، وقد تبادلت القلانس، فلبس الرجال قلانس النساء ولبس النساء قلانس الرجال، وامتلأ الشارع بهم حتى وقف الترام، وانقطعت الحركة وهم يتغنون:
اصعد فوق! اصعد فوق! فسترى مونمارتر.
وكن واثقا جدا بأنك سترى شيئا جديدا.
من فوق إذا كان الجو صحوا فسترى من باريس إلى شارتر.
إذا كنت لم تر هذا فاصعد فوق، اصعد فوق فسترى مونمارتر.
بذلك كانوا يتغنون، وكانت تقطع هذا الغناء من وقت إلى وقت قهقهة عالية تصعد في السماء، وتحملها الريح وتفرقها في أنحاء المدينة، وإنهم ليمضون كذلك وإننا لنتبعهم وإذا الغناء قد انقطع، وإذا الأصوات قد خفتت، وإذا الرءوس حاسرة، وإذا جلال مهيب قد انبسط على هذه الجماعات الفرحة، وإذا صمت رهيب يشعرك بأن هناك شيئا جديدا. بأن هناك شيئا مقدسا.
Неизвестная страница
كان هناك شيء جديد مقدس. كانت الجماعة قد وصلت إلى عمود المؤتمر، وهو الذي أقيم سنة 1830 حين استقلت بلجيكا وصدر دستورها، وهو الذي يظل قبر الجندي المجهول الذي اتخذ رمزا لما قدمت بلجيكا من ضحايا في الحرب الماضية، وصلت الجماعة إلى هذا العمود فتبدل فرحها ومرحها إجلالا وتقديسا لرمز الاستقلال ورمز الجهاد الوطني!
وما أشك أن هؤلاء الناس الذين كانوا يجلون استقلالهم، ويقدسون رمز ضحاياهم، كانوا يذكرون في هذه اللحظة نفسها مع الإجلال والإكبار الملك ألبير، الذي جاهد وتألم واحتمل كل ما يمكن أن يحتمله الملك المخلص للدفاع عن وطنه أولا وعن عرشه ثانيا! في هذا اليوم عرفت قيمة ما يمكن أن يوجد بين الشعوب والملوك من صلات الحب والمودة والعطف.
الحب وحده مصدر هذا الابتهاج والإجلال، فليس الملك ألبير مستبدا ولا راغبا في الاستبداد، وليس الشعب البلجيكي خانعا ولا مستعدا للخنوع، ولعل الذين قرءوا تاريخ بلجيكا يعلمون أن الصلة بين البلجيكيين وملوكهم قائمة على أن الملوك يتلقون سلطانهم من الشعب، فهم نوابه وممثلوه، لا سادته وزعماؤه.
وما لي أذهب بعيدا وقد افتتح المؤتمر التاريخي يوم الاثنين 9 أبريل بمحضر من الملك والملكة وولي العهد والبرنس شارل وأخته البرنسيس ماري جوري. فلما قدم رئيس المؤتمر إلى الملك والملكة والأمراء تحية المؤتمر، ذكر الديمقراطية ورقيها في بلجيكا، واقتناع الملك بأن لا رقي للشعوب ولا استقرار للعروش إلا إذا كانت الديمقراطية الصحيحة الواسعة أساس الصلة بين الشعوب والعروش، فصفق الناس جميعا وابتسم الملك والملكة.
باريس في 17 أبريل سنة 1923
3
قلت في أول هذه الفصول: إن كثرة أعضاء المؤتمر من جهة، وكثرة مواد العمل من جهة أخرى، قد اضطرتا المؤتمر إلى أن يقسم نفسه إلى لجان، ولست أرى بأسا من ذكر هذه اللجان ليرى المشتغلون بالتاريخ في مصر كيف يتصور علماء أوروبا التاريخ، وكيف يقسمونه إلى أقسامه المختلفة.
انقسم المؤتمر إلى ثلاث عشرة لجنة وهي: (1)
تاريخ الشرق. (2)
تاريخ اليونان والرومان. (3)
Неизвестная страница
تاريخ العصر البيزنطي. (4)
تاريخ القرون الوسطى. (5)
التاريخ الحديث والتاريخ العصري، وهذه اللجنة تنقسم إلى أربع لجان جزئية:
الأولى:
لجنة التاريخ الحديث التي ينتهي عملها إلى الثورة الفرنسية.
الثانية:
لجنة التاريخ العصري التي يبتدئ عملها من الثورة.
الثالثة:
لجنة تاريخ القارة الأمريكية.
الرابعة:
Неизвестная страница
لجنة تاريخ الاستعمار والاستكشاف.
وأحب أن تلاحظ أن هذين القسمين الأخيرين - تاريخ القارة الأمريكية وتاريخ الاستعمار - لم يستقلا بالبحث وتخصص العلماء إلا في هذه السنين الأخيرة، وهما يوشكان أن يصبح كل واحد منهما قسما مستقلا استقلالا تاما عن غيره من بقية أقسام التاريخ. (6)
التاريخ الديني، وهذه اللجنة تنقسم إلى لجنتين جزئيتين:
الأولى:
لجنة تاريخ الديانات من حيث هي؛ أي من وجهتها الفكرية والعملية.
الثانية:
لجنة تاريخ الكنيسة، وهي تنقسم إلى لجنتين، تبحث الأولى عن تاريخ الكنيسة منذ نشأتها إلى آخر القرن الثاني عشر.
وتبحث الثانية عن تاريخ الكنيسة منذ أول القرن الثالث عشر. (7)
تاريخ الحقوق، وهذه اللجنة تنقسم إلى لجنتين:
الأولى:
Неизвестная страница
لجنة تاريخ الحقوق في العصر القديم.
الثانية:
لجنة تاريخ الحقوق في القرون الوسطى وفي العصر الحديث. (8)
التاريخ الاقتصادي. (9)
تاريخ الحضارة، وقد انقسمت هذه اللجنة إلى ثلاث لجان:
الأولى:
لجنة تاريخ الحضارة في العصر القديم.
الثانية:
لجنة تاريخ الحضارة في القرون الوسطى وفي العصر الحديث.
الثالثة:
Неизвестная страница
لجنة تاريخ الطب. (10)
تاريخ الفن والآثار، وتنقسم إلى لجنتين:
الأولى:
لجنة تاريخ الفن.
الثانية:
لجنة الآثار. (11)
المناهج التاريخية والعلوم المتصلة بالتاريخ، وقد انقسمت هذه اللجنة إلى لجنتين:
الأولى:
لجنة مناهج البحث التاريخي.
الثانية:
Неизвестная страница
لجنة العلوم المتصلة بالتاريخ كعلم النقوش والخطوط، وما إلى ذلك. (12)
لجنة البحث عن مصادر تاريخ العالم أثناء الحرب العظمى. (13)
لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية.
وكان المنظمون للمؤتمر قد خصصوا له قصر المجامع العلمية، فظهر أن هذا القصر على سعته وكثرة غرفه أضيق من أن يسع هذه اللجان، واضطر المنظمون إلى أن يقرروا لجانا كثيرة في مواضع مختلفة قريبة أو بعيدة من قصر المؤتمر.
وكانوا قد أجمعوا أن يفتتح المؤتمر بعد ظهر الاثنين 9 أبريل، وأن يشرع في أعماله بعد ذلك، ولكن كثرة الأعمال وكثرة ما كان يجب أن يلقى من الخطب ويقدم من المذكرات؛ اضطر المؤتمر إلى أن يبدأ في عمله قبل أن يفتتح رسميا. فاجتمعت اللجان، وبدأت بسماع الخطب والمذكرات صباح الاثنين؛ أي قبل أن يفتتح المؤتمر رسميا.
وكنا قد ذهبنا يوم الأحد إلى سكرتارية المؤتمر فوجد كل منا طائفة من الأوراق تنتظره، وقد كتب عليها اسمه، وهذه الأوراق عبارة عن برنامج أعمال المؤتمر ومختصر ما كان قد قدم من المذكرات وبطاقات الدعوة إلى القصر، وعند وزير المعارف، وفي الجامعة، وفي البلدية، ثم بطاقة شخصية تثبت أن صاحبها عضو في المؤتمر، ثم علامة من المعدن يعلقها العضو في صدره ليتميزه الناس، وليستغني بها عن إظهار بطاقته كلما أراد أن يدخل دارا من دور المؤتمر.
وعلمنا حينئذ أننا سنبدأ أعمالنا صباح الاثنين قبل الافتتاح الرسمي، فلما كان يوم الاثنين ذهبنا جميعا إلى الأماكن التي خصصت للجان التي يجب أن يشترك فيها كل منا. ذهبت إلى لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية، وفي هذه اللجنة قدمت مذكرتي صباح الاثنين، وكان موضوعها «نص معاهدة دفاعية هجومية» عقدت سنة 692 للهجرة (1292 للمسيح) بين الملك الأشرف خليل بن قلاوون وابن جايم الثاني ملك أراجون وأخويه وصهريه، وكلهم ملوك لإسبانيا المسيحية. وجدت نص هذه المعاهدة العربي في الجزء الرابع عشر من كتاب صبح الأعشى، وفي هذا النص اضطراب كثير، وضروب من التحريف غريبة، فكنت أمام صعوبتين؛ الأولى: تصحيح هذه النص، وتقويم ما فيه من الاضطراب والتحريف. الثانية: إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عقدت حقا بين مصر وإسبانيا المسيحية في ذلك العصر.
وقد وفقت إلى تذليل هاتين الصعوبتين بواسطة استكشاف النص أو الترجمة الإسبانية اللاتينية لهذه المعاهدة التي لم يكن نصها العربي معروفا للمؤرخين قبل اليوم، ولم يكن هذا البحث يسيرا ولا سهلا. فحسبك أن القلقشندي الذي روى نص هذه المعاهدة عن كتاب لابن المكرم سماه «تذكرة اللبيب ونزهة الأديب» قد روى هذا النص دون أن يفهم قيمته التاريخية، بل دون أن يفهمه بوجه ما، فحرف وبدل ولم يصف المعاهدة إلا بأنها حسنة الإنشاء. وحسبك أن أسماء الملوك والبلاد كانت من التحريف بحيث كان يكفي أن تقرأها لتشك في صحة المعاهدة.
فملك أراجون جايم الثاني يسمى في المعاهدة «دون حاكم»، ولفظ حاكم لفظ عربي خالص لا يمكن أن يكون اسما لملك مسيحي من ملوك إسبانيا، وتحريفه ظاهر سهل، ولكن بشرط أن تصل إلى أصله المسيحي، ولست أدري على من تلقى تبعة هذا التحريف، أعلى المؤلف أم على الناسخ أم على المصحح؟ ولكني أعلم أن هذا الكتاب الجليل الذي سأخصه بفصل أو فصلين لو أنه صحح تصحيحا علميا متينا، وأشرف على طبعه ناس يتقنون هذا الفن، ويلمون بأصوله وباللغات الأجنبية، ويستطيعون أن يتصرفوا في هذه اللغات كتابة وترجمة، لخرج من المطبعة الأميرية نافعا حقا ميسرا للباحثين، من المصريين وغير المصريين، سبل البحث عن التاريخ، ولكن الذين أشرفوا على طبع هذا الكتاب، على حسن نيتهم وإتقانهم للغة العربية وما إليها، وتصحيح الحروف، يجهلون التصحيح العلمي وما يحتاج إليه من بحث وتنظيم جهلا تاما، وهم إلى ذلك لا يعرفون لغة أجنبية، وأحسب أنهم لم يدرسوا التاريخ، ولا يستطيعون التصرف فيه، ولا تأول نصوصه وتفسيرها، ولهذا كان نفع الكتاب قليلا وعسيرا جدا بنوع خاص. وحسبك أنك لا تجد فيه ثبتا بأسماء الأشخاص والأمكنة، فأنت مضطر إلى أن تقرأ الكتاب كله - أو تتصفحه على أقل تقدير - لتعرف: أألم الكتاب بالموضوع الذي تبحث عنه أم لم يلم؟ ومع هذا فأنا أعتقد أن هذا الكتاب أنفع كتاب تاريخي طبع باللغة العربية لمن أراد أن يدرس النظم السياسية في البلاد الإسلامية عامة وفي مصر خاصة، ولمن أراد أن يدرس العلاقات الدولية بين المسلمين من جهة وبينهم وبين غيرهم من جهة أخرى، ولكن صبح الأعشى أنساني ما كنت فيه من قصص المؤتمر.
سمعت في هذه اللجنة يوم الاثنين مذكرة قدمها أحد المندوبين «لتشيكوسلوفاكيا» عما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا و«تشيكوسلوفاكيا» بمقتضى معاهدة سان جرمان بعد الحرب العظمى، ودارت حول هذه المذكرة مناقشة قيمة اتخذت اللجنة بعدها قرارا لو عمل به لاستفادت منه مصر، وخلاصة هذا القرار أن المحفوظات في كل بلد تتبع هذا البلد فهي حق من حقوقه لا يصح أن يعتدي عليه معتد بحكم الفتح أو بأي سبب آخر، وإنما يجب أن تبقى هذه المحفوظات ملكا للبلد الذي هي فيه، وليس يتناول هذا القرار المحفوظات التي تمس الإدارة أو الشئون السياسية وحدها، وإنما يتناول المحفوظات جميعا إدارية كانت أو سياسية أو فنية أو علمية، ومهما يكن تاريخها.
Неизвестная страница