وهما في هذا كله وإذا الرقيب أو المفتش يقبل ساخطا صاخبا يسبق الشر مقدمه، فإذا دخل دخل معه مكر سيئ وحقد لا حد له. وهو يهين هذين الرجلين أبشع الإهانة وينذرهما أقبح النذير؛ فأما الفتى فصابر مالك نفسه، وأما الآخر فمغتاظ محفظ يريد أن يخرج عن طوره ولكنه يكظم غيظه في مشقة. ولا يكاد المفتش ينحني على أحد الأسرة ليتبين نظافته حتى يثب ريشار إلى أداة حادة يريد أن يهوي بها على المفتش ليقتله، ولكن صديقه ينزع الأداة من يده انتزاعا ويرده عما أراد ردا سريعا فيه عنف، فيسقط مغشيا عليه لأن ساقه المريضة قد مست في عنف. ويلتفت المفتش فيرى الفتى قائما وفي يده الأداة الحادة، فيدعو بالحرس ليأخذوه وقد وثق أنه كان يريد قتله، وهو ينذره بالموت وبالعذاب قبل الموت. ولكن الفتى قد استطاع أن يفلت من الحرس وأن يمضي أمامه كالسهم، ونحن نسمع طلق الرصاص ولكن الستار يلقى دون أن نعرف شيئا.
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في برلين بعد سنة كاملة من هذه القصة التي سمعت خلاصتها. ونحن في بيت ريشار نرى زوجه «آنا» تتحدث إلى صديقتها ماري حديثا عاديا أول الأمر؛ حديث البؤس والضنك وما انتهى إليه أمر الألمان من الإعدام بتأثير الحرب، حتى أصبحوا لا يجدون الخبز كلما طلبوا وإنما يوزع عليهم توزيعا؛ توزعه عليهم الحكومة على أن يدفعوا ثمنه. وهذه الفتاة تتحدث عن هذا في غير تكلف ولا شكوى، فهو شيء مألوف. ولكن الحديث لا يلبث أن يأخذ شكلا آخر حادا خطيرا ملؤه الشر والنكر، فأخت هذه الفتاة قد خانت زوجها مضطرة إلى الخيانة: زوجها في ميدان القتال قد طالت غيبته، وعجزت هي عن أن تجد ما تنفق، ثم أتيح لها رجل أعانها وأعان بقية أسرتها على الحياة. وقد عاشت مقاومة نقية حينا، ولكن الضرورة والحاجة الملحة والجوار المتصل في غرفة واحدة إذا كان الليل وإذا كان النهار؛ كل ذلك قد انتهى إلى غايته المحتومة. وهذه المرأة قد أصبحت أما، ولكن زوجها قد أرسل ينبئ بأنه قادم في إجازة عسكرية. وهو قادم اليوم والفتاة خائفة على أختها وعلى نفسها أيضا، ولها في ذلك فلسفة تصور حياة هذه الطبقات الفقيرة البائسة في ذلك الوقت تصويرا دقيقا، فلا بد من أن يعقل الرجال ومن أن يلتمسوا المعاذير لنسائهم البائسات، أو من أن يقبلوا هذه المعاذير على أقل تقدير. ومنهم من يلتمسها، ومنهم من يقبلها، ولكن منهم مع ذلك من لا يستطيع أن يرضى هذه الكوارث أو يطمئن إليها، وإنما تأخذه غيرة تنتهي به إلى أن يقتل نفسه أو إلى أن يقتل غيره. والفتاة تشفق من هذا كله وصديقتها آنا تهدئها جاهدة، وإن كانت فيما بينها وبين نفسها تعذر الرجال؛ فهم يلقون في الميدان ما يلقون من الشر ويحتملون ما يحتملون من الجهد، ومن حقهم إذا عادوا إلى دورهم أن يستمتعوا بحياة نقية هادئة فيها خفض ولين. ولكن النساء البائسات ماذا يصنعن وكيف يعشن وما ذنبهن إذا اضطرتهن الحياة إلى ما لا يحببن ولا يردن؟ على أن هذه الصديقة العاقلة الرشيدة تتمنى أن تنقضي هذه القصة في أقل ما يمكن من الشر. وهي تريد أن تعين تلك المرأة البائسة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فهي تطلب إلى ماري أن ترسلها إليها لتقيم معها ساعات، حتى إذا أقبل زوجها لم يلقها وحدها. فلعل محضرها أن يخفف الصدمة بين هذين الزوجين.
وقد خرجت ماري وخلت آنا إلى طعامها تهيئه، ولكنها لم تكد تخلو حتى يطرق الباب. ولا تكاد تأذن حتى يدخل عليها فتى لا تعرفه، ولكنه يدعوها باسمها ويتحدث إليها حديث الزوج المحب. وقد عرفناه نحن، فهو كارل، وقد نجا إذن في هربه وقضى عامه متنقلا من مكان إلى مكان، حتى انتهى إلى برلين وانتهى إلى آنا. وهو يتحدث إليها حديث الزوج الذي يعرف من أمرها كل شيء جملة وتفصيلا، هي تنكر ذلك أشد الإنكار وترتاع له أشد الارتياع وتكاد تفقد له صوابها؛ فهي لا تعرف هذا الرجل ولم تره قط، وهي لا تدري كيف عرف من أمرها ما عرف حين تزوجت وبعد أن تزوجت، وعرف أمرها حين كانت صبية تلعب في فناء الدار، وحين كانت صبية تختلف إلى المدرسة. وهو لا يكتفي بهذا الحديث، ولكنه يزعم لها أنها تحبه الآن، وأنها أحبته دائما، وأنها انتظرته وما زالت تنتظره وقد أقبل لميعاده. وأنت بالطبع تقدر وقع هذه الأحاديث الغريبة المروعة في نفس هذه المرأة الهادئة المطمئنة؛ لما هي فيه من بؤس وحرمان، ولا سيما منذ أنبأتها الحكومة بأن زوجها قد سقط في ميدان الشرف منذ أول الحرب. فهي أرملة منذ أربعة أعوام، تعيش مع الذكرى واليأس من لقاء الزوج. وهذا الرجل قد أقبل عليها فجأة يحدثها كل هذه الأحاديث، ويزعم لها أنها تحبه وأنه يحبها، وأنها كانت تنتظره وأنه لم يخلق إلا لها. وهو لا يزعم في صراحة أنه زوجها ريشار، ولكنه لا ينكر ذلك ولا يأباه، وإنما يلمح به ويشير إليه. ونحن حين نشهد هذا أو نقرؤه نتبين تأثير بيراندلو في الكاتب وفي قصته. ولكن امض معي قليلا فسنتبين تأثير الكاتب الآخر «فرود»؛ ذلك أننا نحس في وضوح واضح أن هذه المرأة قد أخذت تستكشف أنها أحبت هذا الرجل الغريب، وهي تقاوم هذا الحس وتجاهده وتريد أن تخفيه، وهي تعنف هذا الرجل وتزجره، ولكننا نحس مع ذلك في صوتها ونرى في بعض ما يبدو على وجهها أنها تحبه، وأن شيئا خفيا كان مختبئا في أعماق نفسها غير الشاعرة، قد أخذ يظهر شيئا فشيئا؛ وهو هذه الصلة الجنسية أو هذا الميل أو هذه الجاذبية الجنسية التي لا نشعر بها والتي تسيطر على ما نعمل وعلى ما نقول، والتي يتخذها «فرود» موضوعا لبحثه وفلسفته.
هذه المرأة تحب هذا الرجل، وتحاول أن تنكر هذا الحب وأن تخفيه، ولكن الحياة الممتعة ستكرهها على التسليم والإذعان لهذا الحب الخفي الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا إلى الإفلات من سلطانه العظيم. وهذه امرأة تقبل ومعها طفل ترضعه، هي التي تحدثنا عنها آنفا، ولا تكاد تدخل ويستقر بها المقام حتى يقبل زوجها فرحا مسرورا؛ لأنه سيقضي أسبوعا مع امرأته. على أنه لا يكاد يراها ويرى معها هذا الطفل وتنبئه باسم أبيه، حتى يعود أدراجه صامتا لا يقول شيئا، متوجها نحو المحطة ليأخذ القطار وليعود إلى الميدان. لقد يئس من إجازته ومن حبه ومن حياته، فعاد إلى حيث الموت يسعى إلى الناس ويسعى الناس إليه.
وهذا المشهد المريع خليق أن ينبه «آنا» إلى الخطر الذي تتعرض له إن أطاعت هذا الحب الخفي أو استسلمت لهذا الرجل. وهي تقاوم لأنها شعرت بهذا الخطر، ولأنها امرأة شريفة نقية لم تفقد صوابها بعد. ولكن انظر هذه صديقتها ماري قد أقبلت، ولا تكاد ترى هذا الرجل حتى يتحدث إليها حديث من يعرفها ويعرف حياتها معرفة دقيقة، فتنكر ذلك وتسأل هذا الرجل من هو فلا يجيبها، فتسأل صديقتها عن هذا الرجل، من هو؟ فتنبئها بأنه ريشار، فإذا أنكرت الفتاة ذلك لأنها تعرف ريشار ولأنها تعرف أنه قد قتل في أول الحرب، زعمت لها صاحبتها أنه ريشار وأنه لم يقتل وأنه قد عاد. والفتاة تلح في الإنكار وترمي الرجل بأنه كاذب خادع، ولكن آنا تدافع عنه وتزعم أن لا كذب مع الاقتناع. وقد فهمت الفتاة أن صديقتها تحب هذا الرجل، فقبلت ذلك وانصرفت محزونة يائسة راثية لهذا الزوج البائس، ولكنها عاذرة صديقتها في الوقت نفسه. ولا تكاد (آنا) تخلو إلى كارل حتى تستأنف مقاومتها له وامتناعها عليه، ولكن ماذا تجدي المقاومة وماذا يفيد الامتناع بعد هذا الإذعان الذي ظهر آنفا، وبعد هذا الاعتراف الذي أعلنته منذ حين إلى صديقتها الفتاة. إنها مذعنة آخر الأمر، مذعنة في شيء من الحزن والرثاء لزوجها، قد ضعفت واستسلمت وأخذت دموعها تنهمل، ولكن كارل قد نهض إليها فالتزمها، ولذا هي تستسلم له وتمنحه من حبها ما يريد.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد مضت أشهر خمسة على هذه القصة التي يصورها الفصل الثاني، وقد انقضت الحرب منذ وقت قصير ، وقد أخذ الجنود يعودون إلى أوطانهم، وقد انقضت الحرب في ميدان القتال، ولكنها استؤنفت في الدور بين الرجال والنساء؛ بين هؤلاء الذين كانوا يؤدون واجبهم الوطني وهؤلاء النساء اللاتي عجزن عن مقاومة الشر والامتناع على الإثم؛ إما لأنهن عجزن عن النهوض بأثقال الحياة، وإما لأنهن عجزن عن مقاومة الطبائع الإنسانية التي لا تذعن للخلق والدين والقانون إلا كارهة وبشرط أن تعينها الظروف على هذا الإذعان.
هذا الزوج يعود فإذا امرأته قد خانته، فهو يقتلها أو يقتل خليلها أو يقتل نفسه، أو لا ينتهي إلى القتل ولكنه يعذب نفسه أو يعذب امرأته أو يعذب نفسه وامرأته جميعا. وهذا الزوج قد يذعن لما لا بد من الإذعان له؛ فيعيش على مضض. وهذا الزوج قد يكون أيسر طبيعة وأهدأ مزاجا، فيقبل ما لا يقبل ويطمئن إلى ما لا يطمئن الناس إليه. وصاحبتنا آنا سعيدة من غير شك، قد استكشفت أنها تحب صاحبها كارل حبا خاصا لم تحسه لزوجها، بل لم تحس لزوجها حبا يشبهه أو يقاربه. وهي حامل، وهي مبتهجة بهذا الحمل الذي لم يتح لها مع زوجها؛ لأنها لم تكن تجد من حب زوجها مثل ما كانت تجد من حب هذا الفتى. وليست الحياة في برلين ناعمة، وإن كانت الحرب قد انقضت؛ فالبؤس شديد، والفقر ملح، وحاجات الناس على اختلافها عسيرة ليس إلى إرضائها من سبيل.
انظر إلى هؤلاء النساء دهشات أشد الدهش؛ لأن إحداهن رأت برتقالة تعرض في بعض الحوانيت. هذا عجيب، هذا خيال، هذا حلم من غير شك. برتقالة تعرض في الأسواق؟ لعلها مصنوعة. كلا، هي برتقالة حقا ولكنها معروضة لترى لا لتباع.
آنا إذن سعيدة، ولكنا نرى صاحبها كارل شقيا بائسا قلقا أشد القلق مشفقا أشد الإشفاق؛ فقد عاد إلى بيته وامرأته غائبة في بعض شأنها، فوجد كتابا فضه وقرأه، فليته لم يقرأ، فالكتاب من ريشار وهو ينبئ بنجاته وبمقدمه.
والفتى قلق خائف من غير شك. هو لا يخاف من ريشار، ولكنه يخاف من آنا. فستعلن الحرب بينه وبين الزوج، وستكون آنا موضوع هذه الحرب، فمن تختار وإلى من تميل؟ وهذه آنا قد أقبلت فرحة مبتهجة مستبشرة بالحياة، وهو يلقاها محبا لها، عطوفا عليها، مشفقا أن يؤذيها الجهد. ولكنه يتحدث إليها بأمر الكتاب فلا تظهر الاحتفال به أول الأمر، فإذا ألح عليها أدركها ضميرها ففرغت وسمعت منه. وكان في نفسها هذا الصراع العنيف بين الوفاء الذي يفرضه عليها حبها القديم وصدق زوجها في هذا الحب، ويفرضه عليها الدين والقانون، وبين الحب؛ هذا الحب الذي كان خفيا فظهر، وهذا الصراع عنيف ولكنه قصير. فهي لا تستطيع أن تعيش إلا مع صاحبها كارل. وكيف تستطيع الحياة مع غيره وهو أبو هذا الجنين الذي يضطرب في أحشائها؟ ثم هي تحبه مهما تكن الظروف ومهما ترد أوضاع الحياة. هي تحبه وهي عاجزة كل العجز عن أن تخلص من هذا الحب. وهي راضية بما فرض القضاء، فستلقى زوجها وستنبئه بكل شيء. فإن شاء أرسلها فعاشت سعيدة، وإن شاء قتلها فأدت ثمن السعادة التي استمتعت بها في هذه الأشهر الخمسة الماضية. وهي قد اطمأنت إلى هذا واستأنفت حركتها في البيت، وهي تهيئ المائدة، وتهيئها اليوم على خير حال؛ تضع عليها غطاء أبيض ناصعا وتضع عليها بعض الزهر. تريد أن يكون عشاؤها مع صاحبها فرحا مبتهجا. فمن يدري؟ وقد انصرف الفتى لبعض شأنه وصعدت هي عند صديقتها لحظة، ولكن ماذا؟ هذا الباب يطرق ثم يفتح ثم يدخل ريشار، رثا، سيئ الحال، قذرا، عظيم اللحية، كأنه متوحش قد أقبل من بعض الغابات. ولكنه مبتهج سعيد شديد الرضى، كثير الاستبشار. ولم لا؟ أليس في بيته الذي طالما ذكره وذكره وحن إليه؟ فقد بلغه الآن، وهو يراه ويستمتع بالحياة فيه، وسيرى امرأته بعد حين.
Неизвестная страница