وهو سيدعو ابنته وسيعلن إليها ما صمم عليه لا يقبل في ذلك حوارا ولا جدالا، وهو يضرع إلى الفتاة في ألا تهجره، ولا تنصرف عنه، ولا تتركه نهبا للوحدة القاسية. وقد انصرف عنها لحظة فإذا الفتاة آسفة لأنها لم تبلغ ما كانت تريد. كانت تريد أن تقطع ما بينها وبين هذا الرجل من سبب، ولكنه أثار في نفسها الرحمة؛ فرقت له، وبقيت معه، وعجزت عن إيذائه. وهذا فتى شاب قد أقبل عليها، فلما رأته طلبت إليه أن يعود أدراجه، فليس له في حبها أمل، وهذا الفتى يحبها ويعجبها، وهي تميل إليه، بل تفتن به. ولكن ماذا تصنع؟ وقلبها رحيم رقيق لا يريد أن يؤذي هذا الشيخ، والفتى يلمح لها بالزواج فلا تحفل بتلميح ولا بتصريح؛ لأن لها قلبا قد يحب الشباب، ولكنه يرحم الشيوخ. وهذا الشيخ يقبل فينصرف الفتى، ولكن الشيخ قد رابه مكان هذا الشاب، فهو يسأل عنه الفتاة في خوف، والفتاة ترده إلى الأمن في حزم؛ لأنها تريد أن يصدر وفاؤها عن اختيار، لا عن مراقبة، ولا عن قهر. ويطمئن الشيخ إلى هذا الحزم، ويمضي الحديث بينه وبين صاحبته في الحب، والأسرة، يتكلف الشيخ الشجاعة والجرأة والقوة، وتضحك منه الفتاة في شيء من العطف وتنصح له بألا يتخذ لغة الأبطال حين يتحدث عما سيكون بينه وبين ابنته من حوار. وهذا الخادم قد أقبل ينبئ الشيخ بمقدم ابنته، فتنصرف عنه الفتاة، وقد أوصته بالشجاعة والجلد، وهذه ابنته قد أقبلت عليه، فقبلته وقبلها، ثم أخذ يتحدث إليها عن أمره في لهجة الحازم المصمم الذي لا يقبل مراجعة ولا جدالا. وكلما همت ابنته أن تتحدث اضطرها إلى الصمت، ومضى في حديثه، حتى إذا استطاعت ابنته أن تقول شيئا أعلنت إليه أنها تشجعه وتؤيده وتعجب به كل الإعجاب. هنا يدهش الشيخ لأنه لم يكن ينتظر من ابنته كل هذا، بل هو كان ينتظر منها نقيض هذا.
ولكن ابنته تنبئه بأن حياتها وآراءها قد تغيرت منذ ثلاثة أشهر، فهي ضيقة بأسرة زوجها، وهي ضيقة بزوجها نفسه، وهي ضيقة بهذه الحياة المنظمة المتشابهة المطردة التي لا خروج فيها عن التقاليد ولا تجاوز فيها للمألوف. وهي تواقة إلى الحرية مشوقة إلى الهواء الطلق، وقد أتيح لها منذ حين ما كانت ترغب فيه وتشتاق إليه، فقد عاد من أفريقيا الوسطى صديق لزوجها شاب كان زميلا له في المدرسة، ثم فرقت بينهما الأيام.
عاد من أفريقيا الوسطى عودة الظافر المنتصر الذي جاهد حتى فاز، والذي كون لنفسه في الأخلاق والحياة والتقاليد آراء لا يألفها الناس. وهو حلو الحديث، طريف الأنباء، خصب العقل، واسع القلب، وهو يرى الحرية قوام الحياة ويبيح طلب اللذة والانتهاء إليها حين تشتهيها النفس. وهي لم تقع في شركه بعد، ولكنها تحب حديثه وتمضي معه على أجنحة الخيال إلى آماد لا تحد، وهي تستمد منه الدفاع عن أبيها حين تهاجمه أسرة زوجها، فهو يعلمها أن من القلوب ما لا يبلغه الشيب، وأن اللهو مباح للإنسان ما وسعه اللهو، والشيخ يسمع من ابنته هذا الحديث في هدوء ظاهر، واضطراب خفي، ولكنه عنيف، فإذا فرغت ابنته من حديثها، كان الحق قد استبان للشيخ، وكان قد كون لنفسه رأيا لن ينصرف عنه، فهو لن يمضي في حبه لتلك الفتاة؛ لأن ما يبيح لنفسه من الحرية التي قد لا ينكرها القانون يغري ابنته بحرية آثمة يأباها النظام. هو في لهوه لا يخون أحدا، ولكنه يغري ابنته بخيانة زوجها. هو إذن ليس حرا؛ لأنه لم يخلق وحيدا في الحياة، ولأنه ليس ملكا خالصا لنفسه من دون ابنته، ومن دون أسرته، ومن دون الناس. هو إذن مضطر إلى أن يثوب إلى الرشد الاجتماعي، وإلى أن يضحي بحبه في سبيل ابنته، وفي سبيل النظام الاجتماعي الذي لا يقوى الفرد على إنكاره والخروج عليه. أكانت ابنته صادقة فيما ألقت إليه من حديث؟ أكانت ماكرة به، تريد أن تصور له الغي، وآثاره البشعة وأن ترده إلى الرشد وصراطه المستقيم؟ من يدري؟ ولكن الشيخ أعلن إلى ابنته تضحيته لهذا الحب، وهي تطلب الروية والأناة، فيأبى عليها، ويصرفها عن نفسه، ثم يدعو الفتاة التي كانت تنتظر فينبئها محزونا صادق الحزن بانهزام الحب وانتصار العرف، وتهم الفتاة أن تقاوم مخلصة، ولكنه يأبى عليها الحديث، ويصرفها في حنان، وقد وعدها أن يكتب إليها، وسألها أن تكتب إليه. وهذه أخته التي رأيناها في أول الفصل قد أقبلت تهنئه برجوعه إلى الرشد، وهو يلقاها في غير نشاط ويصرفها في غير عنف، فإذا خلا إلى نفسه تحدث إليها بهذا الشعر الجميل:
إني لأعرف على الساحل نهيرا حكيما، صافي الماء إلى أقصى غايات الصفاء، فإذا نظرت فيه رأيت شابا قد ذوى شبابه وأدركه الذبول، ليس فرحا ولا مبتهجا، ولكنه على ذلك راض مطمئن.
ملهاة السعادة
وأظنك لا تكره أن تلهو بعض الشيء عن حياتنا هذه اليومية التي يستقبلنا صبحها بما يحزن، ويلقانا مساؤها بما يسوء. ولا بأس من أن تقرأ الجهاد هذه المرة، فتجد فيه ما يسليك عن قصة وزير التقاليد مع مدرسة أسيوط، ومتاعها اليسير الذي اشتراه وزعم أنه هدية، والذي أخذه وزعم أنه حمل إليه. فمن الخير أن تألم لهذه المأساة الصغيرة الحقيرة، ولكن من الخير أن تسلو عن هذه المأساة الصغيرة الحقيرة أيضا. وأنا متطوع يا سيدي بأن أسليك وأسلي وزير التقاليد نفسه عما في هذه القصة مما يخجل، ويحزن، ويسوء. وأؤكد لوزير التقاليد أني دفعت إلى قراءة هذه القصة لألتمس فيها التسلية عن قصته، وأني دفعت إلى الحديث عن هذه القصة لأسلي القراء عن قصته، وأن شيئا من العطف عليه والرفق به، فهو خليق بالعطف والرفق، يدعوني إلى أن أسليه هو عما قد تثير هذه القصة في نفسه من ألم وحسرة واستحياء.
وقصتي هذه خليقة أن تسلي وأن تلهي؛ فصاحبها لم يضعها إلا لهذا. أستغفر الله، بل هو وضعها لهذا، ووضعها لما يناقض هذا كل المناقضة. وضعها للتسلية والتلهية، ووضعها كذلك للتأمل والتفكير. ففي القصة عبث مضحك، وفي القصة فلسفة عميقة خالدة، وحسبك أنها تعرض عليك غرور الحياة. والناس جميعا يعرفون غرور الحياة، ويؤمنون به، ولكنهم ينسونه أحيانا حين يملأ هذا الغرور قلوبهم ونفوسهم، فليس عليهم بأس من أن يذكروه، وقد يستكشفونه أحيانا فتضيق به صدورهم وتتأذى له نفوسهم، ولا بأس عليهم من أن يعزوا عن هذا الأذى وذلك الضيق، ومن أن ينبهوا إلى أننا قد خلقنا لنغر وإلى أننا محتاجون إلى هذا الغرور لنتعزى به عن أثقال الحياة ولنستعين به على احتمال هذه الأثقال، ولنستمد منه النشاط الخصب لكل عمل منتج مفيد.
وكاتبنا قد لاحظ هذا كله، وفكر فيه تفكيرا قويا حين وضع قصته هذه الجميلة الرائعة، بل هو قد ذهب - كما سنرى - إلى أبعد من هذا، فود لو عنيت الدولة بتلهية الناس وتسليتهم وشغلهم بالغرور عن أن يطيلوا التفكير في آلام الحياة وأثقالها، فإن ذلك بعض ما يجب على الدولة لدافع الضرائب. وما دامت الدولة تكفل الأمن والعلم والسلم للمواطنين، فقد يكون من الحق عليها أن تكفل لهم اللهو أيضا، وأن تحميهم من اليأس من هذا العدو المنكر الذي يأتيهم من أنفسهم، كما تحميهم من غارة العدو الخارجي الذي يتربص بهم الدوائر ليغير على الوطن، وليقتحم الحدود. وأنا أعلم أن هذا المذهب في السياسة قد لا يرضي وزير التقاليد؛ لأن فيه شيئا من الدعابة، ووزير التقاليد صاحب جد، ولأن فيه شيئا من العبث، ووزير التقاليد لا يحب العبث. أليس قد أغلق معهد التمثيل لأن فيه شيئا من الإسراف في أموال الدولة؟ فأموال الدولة لا تجبى لتنفق في اللهو، ولكنها تجبى لتنفق في تأثيث بيوت الوزراء بما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه من أكواب الشاي وموائد اللعب. ولكن وزير التقاليد يستطيع أن يقبل هذا المذهب السياسي ما دام بعيدا عن الحكم، فأما حين يرقى إلى المنصب ويستقر فيه، فهو يستطيع أن يرفضه رفضا وأن يعرض عنه إعراضا.
ولست أدري ما الذي يغريني بوزير التقاليد اليوم، وما الصلة بين هذا الحديث وبين وزير التقاليد، ولكنها قصة تذكر بقصة، وعبث يدعو إلى التفكير في عبث، فلندع وزير التقاليد - وإن كنا لا نحب أن ندع وزير التقاليد - ولنتحدث عن قصة هذا الكاتب الروسي العظيم.
ولا بد من أن تهيئ نفسك لقصة كثيرة الدوران والتعقيد، محتاجة إلى شيء غير قليل من الصبر والأناة، فأنا سأبذل كل ما أملك من الجهد لتيسيرها، ولكنها رغم ذلك لن تكون يسيرة كهذه القصص التي تعودت أن تسمع حديثي عنها. وحسبك أنها قصة روسية، وأن كاتبها متأثر بالكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو أو مؤثر فيه، فالنقاد يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا.
Неизвестная страница