Мемуары - Али ат-Тантави
ذكريات - علي الطنطاوي
Издатель
دار المنارة للنشر والتوزيع
Номер издания
الخامسة
Год публикации
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
Место издания
جدة - المملكة العربية السعودية
Жанры
ذكريات
علي الطنطاوي
الجزء الأول
طبعة جديدة
راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف
مجاهد مأمون ديرانية
دار المنارة
للنشر والتوزريع
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر
الطبعة الخامسة
٢٠٠٦
دار المنارة
للنشر والتوزريع
ص ب ١٢٥٠ جدة ٢١٤٣١ المملكة العربية السعودية
هاتف ٦٦٠٣٦٥٢ فاكس ٦٦٠٣٢٣٨ المستودع ٦٦٧٥٨٦٤
1 / 4
بين يَدَي الذّكريات
كان تدوين هذه «الذكريات» ونَشْرُها حُلمًا حمله علي الطنطاوي في قلبه وأملًا ظلّ يراوده سنين طِوالًا، حتى قال -في بعض سطور مقدمته لكتاب «تعريف عام» - إنه يرضى أن يتنازل عن كل ما كتبه ويوفق الله إلى إكمال ذلك الكتاب (تعريف عام) وكتاب الذكريات. وتأخّرَ الأمر، وأجّل جدي الشروعَ فيه ثم ما زال يؤجّل، ومرت السنون بإثر السنين، حتى كان يومٌ من أيام سنة ١٩٨١ جاءه فيه زهير الأيوبي، يسعى إلى إقناعه بنشر ذكرياته في مجلة «المسلمون» التي كان قد ابتدأ صدورها في ذلك الحين، فما زال يُلحّ عليه حتى وافق على نشرها فيها.
لقد استجاب لهذا الإلحاح وهو لا يتصور ما هو مُقْدم عليه، وأكاد أجزم أنه لو كان يعلم لأحجم وما أقدم، فقد هوّنوا عليه الأمر في البداية حتى راح يتحدث وهم يكتبون ما يقول، وظهرت في مجلة «المسلمون» حلقتان كذلك، ولكنه ما لبث أن استُثيرت همّته ودَبَّت فيه الحماسة فتحول إلى كتابة الحلقات بنفسه، ومضى فيها تجرّ كلُّ حلقةٍ حلقةً بعدها حتى قاربَت ربعَ ألف حلقة. وأحسب أنه لو لم يوافق -في ذلك اليوم- على الشروع بهذا المشروع لما رأينا هذه الذكريات بين أيدينا قط.
1 / 5
ما سبق هو الذي قلته منذ سنوات في الكتاب الذي كتبته عن جدي ﵀ (علي الطنطاوي: أديب الفقهاء وفقيه الأدباء)، واليومَ أقول عن نفسي المقالَةَ ذاتَها، وأعترف بأنني كنت سأُحْجم كما كان سيُحْجِم لو عرفتُ ما سأنفقه في مراجعة هذه الذكريات من جهد ووقت. لقد تهيّبت الإقدامَ على «الذكريات» منذ البداية ودافعت هذه المهمةَ ما استطعت، وكان من خطتي أن أراجع الكتب جميعَها قبل أن أقحم نفسي في بحر الذكريات اللُّجَاج، لكنني -على ما بالغت في الحساب والتقدير- لم أقدّر أن يبلغ العمل في مراجعتها الصعوبةَ التي لقيتُها فيه ولا أن يستهلك الوقتَ الذي أنفقتُه.
وهأنذا اليوم أخط كلمات هذه المقدمة ويكاد عامٌ بأكمله ينصرم منذ بدأت بمراجعة السطور الأولى من الذكريات، لا أقول إني أنفقته كلَّه فيها، لكنني أجرؤ أن أقول غيرَ مبالغ ولا متزيّد إنني قد أنفقت فيها نصف أيام العام كاملة أو تزيد!
* * *
لقد كان العمل صعبًا لطول هذا الكتاب وتنوّع موضوعاته، وأنا زدته على نفسي صعوبةً حين أردت أن أقترب من الكمال؛ أعني أنني سعيت إلى غاية الإتقان الممكن، أما الكمال الحقيقي فلا يقدر عليه الناس، إنما هو من عمل ربّ الناس.
اجتهدت -أولًا- في تصحيح أخطاء الطبعات السابقة، وهي كثيرة، ولا سيما في الأجزاء المتأخرة. فقد استغنى جدي ﵀ حين صدرت تلك الأجزاء عن المصحِّحين واعتمد
1 / 6
على تصحيحه. على أنه من المقرَّر في صناعة النشر أن المؤلف لا ينبغي له مراجعة تجارب طباعة ما يكتب، ذلك أنه يقرأ بعقله لا يقرأ بعينيه، أي أنه يمرّ بالكلمات فيرى ما كتبه ابتداءً ويُغفل -لاشعوريًا- الاضطرابَ والخطأ الناشئ من عمل طابعي النَّص. ذلك فضلًا عن أنه كان قد كَبُر وكلَّ وملَّ حينما نُشرت الأجزاء الأخيرة، فكان عاقبة ذلك أن ازدحمت تلك الأجزاء بالأخطاء ازدحامًا عجيبًا، حتى لا أكاد أبالغ لو قلت إن الجزأين السابع والثامن خاصة قد زادت أخطاء الطباعة في كل منهما على ألف خطأ. بل لقد بلغ الأمر في واحدة من الحالات أن انتقلت صفحات كاملة من حلقة من الحلقات إلى موضع قَصِيّ، فصار يفصل بين جزء من المقالة والجزء الآخر عشراتٌ من الصفحات!
ولم يقتصر الأمر على الخطأ المطبعي بل كَثُرَ السَّقْط (الحذف)، فسقطت أحيانًا كلمات منفردة وأحيانًا أخرى جُمَل كاملة وسطور عدّة، واضطربت أبيات كثيرة من الشعر واختلّ ميزانها بسبب نقص كلمات فيها أو طباعة بعضها خطَأً. وما أكثرَ الكلمات التي طُبعت خطَأً حتى صار المعنى الذي يفهمه القارئ عَجَبًا من العجب، وحتى صار البحث لتصحيحها -في بعض الأحيان- أقربَ إلى حل لغز من الألغاز أو فكّ أسرار أُحْجِيّة من الأُحجيّات.
كان عليّ أن أقرأ النصّين، نصّ الكتاب ونصّ المقالة المنشورة في الجريدة، لكي أقع على مواطن الخطأ والخلل، واضطررت غيرَ مرة إلى مراجعة الأصل المخطوط أو المادة المسجَّلة بحثًا عن تصويب خطأ خفي أو خلل غامض. فكان
1 / 7
من جملة ما وجدته أن الطبعات السابقة من الذكريات قد فقدت نصفَ إحدى الحلقات بسبب خطأ وقع فيه الذين جمعوا مادة الطبعة الأولى من الكتاب، فأعدتها إلى موضعها (١) (وهي في الجزء الثالث). وفي الجزء ذاته أضفت حلقة لم يسبق نشرها من قبل، وهي الحلقة السابعة والتسعون (٢)، فتغيّر بإدراج هذه الحلقة ترتيبُ سائر الحلقات الآتية بعدها في الذكريات.
وقد اجتهدت في ضبط أكثر أسماء الأعلام والأماكن الواردة في هذا الكتاب بالشَّكْل، ولا سيما حيثما أحسست أنها أسماء بعيدة عن مألوف عامة القرّاء، رجاءَ أن يلفظوها لفظًا صحيحًا. وكذلك ضبطت بالشَّكْل كلَّ لفظ غريب قدّرتُ أن يستصعب النطقَ به بعضُ القرّاء، ثم شكّلت كل ما ورد من الشعر (ولم يكن شيءٌ منه مشكولًا في الطبعة السابقة)، فالشعر يفقد وزنه إذا اختلّت قراءته، وغريبُ اللفظ فيه أكثر من سواه.
ووحّدت رَسْمَ الكلمات التي وردت في الطبعة السابقة في صور شتى، إذ لا يجوز أن يتعدد رسم الاسم الواحد في الكتاب الواحد، فقد وجدت -مثلًا- «سوريا» و«سورية» عَلَمًا على البلد، فجعلتها «سوريا» بالألف حيثما وردت، لأن مذهب كتابة أسماء البلدان بتاء مربوطة قد اندثر اليوم بعدما كان شائعًا في أخريات
_________
(١) ذلك هو شطر الحلقة السادسة والسبعين؛ انظر صفحة ١٠٧ في الجزء الثالث من هذه الطبعة الجديدة.
(٢) انظر تعليقي عليها في الصفحة ٣٧٩ من الجزء الثالث لمعرفة سبب خلوّ الطبعات السابقة منها.
1 / 8
القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فلم تعد تجد اليوم «فرنسة» و«إيطالية» مثلًا بل «فرنسا» و«إيطاليا». وكذلك وجدت في الذكريات «أمريكا» و«أميركا» و«أوروبا» بواو ثانية و«أوربا» بلا واو، فجعلت ذلك كله «أميركا» و«أوربا» لأنه هو مذهب جدي ﵀ في كتابة هذه الأسماء. وقل مثل ذلك في اختلاف رسم اسم العلَم (العمودي والعامودي مثلًا)، وعشرات من أمثال ذلك. وقد وقعَت أخطاء الرسم هذه كلها وكثيرٌ من أخطاء الإملاء (التي صحّحتها) وبعضُ الأخطاء المضحكة في تبديل كلمة بأخرى، كل ذلك وقع حينما توقف جدي عن كتابة الحلقات بخط يده وتحوّل إلى إملائها بصوته، فصارت تُسَجَّل على شريط يذهب إلى الجريدة فيَطبع طابِعُها الحديثَ الذي يسمعه كما يسمعه، فما أكثرَ الأعاجيب التي كنتَ تجدها مطبوعة عندئذ، أكثرُها صحّحه جدي في وقته وأقلها وجد طريقه إلى الكتاب المنشور!
أما الحواشي التي أضفتها إلى الكتاب فقد سرت فيها على خطتي المألوفة التي اتّبعتها في كل ما راجعته من كتب جدي من قبل؛ فأنا أوضح فيها ما أجده غامضًا غموضًا أقدّر حاجة عامة القراء إلى إيضاحه (وهو في هذه الذكريات أكثر من سواه فيسائر الكتب بسبب خصوصية الزمان والمكان) أو موجَزًا إيجازًا يصلح معه بعض التفصيل والبيان، وإذا أشار إلى مقالة له أو كتاب ذكرتُ المقالة أو ذكرت الكتاب، وربما وجدته قد طرح المسألة في صيغة الشكّ أو التساؤل، فعندئذ أتابعه فيها بقدر ما أملك من التدقيق والتوثيق، كضبط بيت من الشعر أو نسبته إلى قائله، أو تحقيق معلومة تاريخية، وأمثال ذلك مما ستجدونه في مواضعه.
1 / 9
وسوف يجد قارئ هذه الذكريات أن في بعض مواضعها تكرارًا، فيقرأ في حلقة وصفًا لأحداث قرأ عنها في حلقة مضت أو حديثًا عن أعلام سبق الحديث عنهم فيما مرّ من حلقات (وهو أمر اعتذر منه المؤلف غيرَ مرّة في ثنايا الذكريات) (١)، وكل ذلك تركته لم أمسّ منه شيئًا ولم أعلق عليه مشيرًا إلى تكراره، لأن المناسبة جرّت إليه هنا كما جرّت إليه هناك، ولأن الحديث -وإن تكرر- قد جاء بصورة غير الصورة أو بكلمات غير الكلمات. الموضعُ الوحيد الذي تدخّلتُ فيه بالحذف كان حين حذفت قطعة طويلة مكررة بكلماتها وحروفها جميعًا، وهي نحو خمس صفحات كانت في الحلقتين ٢٠٧ و٢٠٨ من الطبعة القديمة (وهما اليوم الحلقتان ٢٠٨ و٢٠٩ في الجزء السابع)؛ فقد أفرد جدي ﵀ الحلقة الخامسة والسبعين من ذكرياته للحديث عن الخط الحديدي الحجازي، ثم عاد بعد سنتين فكرر عنه الحديثَ في هاتين الحلقتين، فلم أشكّ في أنه قد سها ونسي وتابعه الناشر في سهوه ونسيانه.
* * *
بقي أن أوضّح أمرًا ربما كان قد أثار تساؤل بعض القراء الذين قرؤوا الكتاب في طبعته القديمة: لماذا بدأ علي الطنطاوي الحلقات الأولى من هذه الذكريات بالحديث عن مدرسته، ثم
_________
(١) قال في أول الحلقة ١٧٥: "لمّا اقترحوا عليّ كتابة هذه الذكريات لم يكن لها في ذهني صورة، ولم يكن تحت يدي أوراق مكتوبة أعتمد عليها، وكنت أغبط من يكتب ذكرياته ويرجع إلى مذكرات كتبها في حينها ... أكتب والله الحلقة ولا أكاد أذكر ما قلت قبلها، ولا أدري شيئًا عمّا سأكتب بعدها".
1 / 10
عاد بعد خمسَ عشرةَ حلقة ليتحدث عن جدّه وأصل أسرته، وبعد عشرين حلقة ليحدثنا عن أبيه، وأربع وأربعين حلقة ليحدثنا عن أمه؟ نعم، لقد عوّدَنا أن يقفز من موضوع إلى آخر وأن يقطع موضوعًا فيَصِلَه بعد عشر حلقات أو عشرين، أو لا يصله أبدًا، لكن المنطق أن يبدأ المرءُ حديثَه عن نفسه بالحديث عن منشأ أسرته وعن أجداده وآبائه، وذلك قبل أن يتفرّع مشرّقًا ومغرّبًا.
والجواب هو أن ما ترونه أمامكم بعد هذه الصفحات وفي رأسه رقم (١) ليس هو الفصل الأول في الحكاية ولا هو أولى حلقات الذكريات، بل هو الحلقة الثالثة، أما الحلقتان الأولى والثانية فلم تظهرا في الكتاب قط.
لقد جاء الأستاذ زهير الأيوبي يطلب من جدي ابتداءً أن يكتب ذكرياته في «المسلمون»، فلما فشل في حمله على الكتابة هوّن له الأمر فعرض عليه أن يتحدث على سجيته فيسجَّل حديثُه ثم يُحرَّر ويُنشَر، فاستسهل المسألة فوافق على العرض. قال في المقدمة التي تقرؤونها في الصفحات الآتيات: "ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحدًا من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، فسمع مني ونقل عني وكتب حلقتين كانتا من براعة الاستهلال لهذا الكتاب. وما قصّر أحسن الله إليه، ولكن لا يَحُكّ جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله عليّ أن أعاد بعضَ نشاطي إليّ، فبدأت أكتب".
وهكذا ظهرت الحلقة الأولى في الصفحة الأولى من العدد الرابع من أعداد مجلة «المسلمون» (الوليدة يومئذ) في الرابع والعشرين من محرم عام ١٤٠٢ (٢٠/ ١١/١٩٨١)، وتلتها الحلقة
1 / 11
الثانية في الأسبوع الذي بعده، وفي هاتين الحلقتينتحدث جدي ﵀ عن أصل أسرته وعن جده وأبويه وبيته الذي نشأ فيه صغيرًا والكُتّاب الذي دخله ثم المدراس التي تنقّل بينها، كل ذلك حدّث به حديثًا مختصَرًا لا تفصيل فيه ولا تطويل، لأنه لم يكن قد اختطّ خطة لكتابة هذه الذكريات ولا درى أنه سيتوسع فيها بالقَدْر الذي صنع من بعد (١). فلما رأى حديثه منشورًا في المجلة بقلم المحرر وأسلوبه اتّقَدت حماسته وشمّر عن ساعده، واستلّ من غمده قلمًا كان قد طواه وشرع يكتب ذكرياته بنفسه، فثَمّ كان مبتدَأ الذكريات المنشورة وكانت أولى حلقات هذا الكتاب.
* * *
هذا مُجمَل عملي في هذه الطبعة الجديدة من «الذكريات»، لعلّي أفي به صاحبَها بعضَ الفضل الذي أنا مَدين له به، وإنه لكثير. وأرجو أن أشاركه في أجر الانتفاع بما فيها، فأكسب أجرًا أجده في صحيفتي يوم الحساب، وإني إليه يومئذ لمحتاج.
مجاهد مأمون ديرانية
جُدّة: جُمادى الأولى ١٤٢٧
_________
(١) فلما مضى يحدثنا ذلك الحديث الممتع المطوَّل عن طفولته وذكريات المدرسة وأخبار الرِّفاق والمدرّسين، لما صنع ذلك لم يكن بدٌّ من أن يعود بتفصيل مشابه إلى أصله وأسرته، وأن يقف الوقفة الطويلة مع أمه وأبيه، فصنع ذلك بعدما سار في الذكريات الشوط الطويل.
1 / 12
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم لك الحمد، اللهم وفّقنا لما ترضى واختم لنا بالحسنى. وبعد:
فهذه ذكرياتي، حملتُها طول حياتي وكنت أعُدّها أغلى مقتنياتي، لأجد فيها يومًا نفسي وأسترجع أمسي؛ كما يحمل قِربةَ الماء سالكُ المَفازة لتردّ عنه الموت عطشًا. ولكن طال الطريق وانثقبت القِربة، فكلما خطوت خطوة قطرَت منها قطرة. حتى إذا قارب ماؤها النفاد، وثقل عليّ الحمل، وكَلّ مني الساعد، جاء مَن يرتق خرقَها ويحمل عني ثقلها ويحفظ لي ما بقي فيها من مائها، وكان اسمه زهير الأيوبي.
جاءني يطلب مني أن أدوّن ذكرياتي في مجلة «المسلمون» لمّا عزم الأخوان الأستاذان هشام ومحمد ابنا أخي الأستاذ علي حافظ على إصدارها. وكان نشرُ هذه الذكريات إحدى أمانيّ الكِبار في الحياة، ولطالما عزمت عليها ثم شُغلت عنها، وأعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها، ثم لم أكتبها، بل أنا لم أشرع بها؛ لأني لا أكتب إلا للمطبعة. لذلك لم أجد عندي شيئًا مكتوبًا أرجع عند تدوين الذكريات إليه وأعتمد عليه، وما استودعتُ الذاكرة ضعفت الذاكرة عن حفظه وعجزَتْ عن تذكّره؛ لذلك
1 / 13
أجّلت وماطلت وحاولت الهرب من غير إبداء السبب، وهو يحاصرني ويسدّ المهارب عليّ ويمسك بأدبه ولطفه وحسن مدخله، يمسك لساني عن التصريح بالرفض. ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحدًا من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، واخترنا الأخ العالِم الأديب إبراهيم سرسيق، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين كانتا من براعة الاستهلال لهذا الكتاب. وما قصّر أحسن الله إليه، بل لقد تطوّل وأحسن وأجمل، ولكن لا يَحُكّ جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله عليّ أن أعاد بعض نشاطي إليّ، فبدأت أكتب.
ولولا زهير الذي اقترح، ولولا إبراهيم الذي نشّط وشجّع، لما كتبتُ؛ فلهما وللأستاذين هشام ومحمد، ولَدَي الأستاذ علي حافظ وابنَي أخ الأستاذ عثمان حافظ، رائد الصحافة في هذه البلد، لهم الشكر.
والشكر لولدي وصهري صاحب دار المنارة التي تقدّم الطبعة الأولى من هذه الذكريات، ولحفيدي الذي عمل على ترتيبها وتنسيقها وإعدادها للطبع. وإن كان صهري محمد نادر حتاحت وحفيدي مجاهد ديرانية مني، ليسا غريبين عني، فإن شكرتهما فحمدًا لله أن رزقني مثلهما، وإلاّ فما يشكر امرؤٌ نفسَه.
والشكر للأستاذ محمد علي دولة، الذي آثر العمل في نشر الكتب على التعليم الذي كان من أهله وكان موفَّقًا فيه، لما يجد في النشر من نفع الناس ورجاء ثواب الله. فهو الذي وقف على
1 / 14
طبع الكتاب ووضع فيه ذوقه وفنه وخبرته وتجرِبته.
* * *
بدأتُ كتابة الذكريات وليس في ذهني خطّة أسير عليها ولا طريقة أسلكها، وأصدُق القارئ أني شرعت فيها شبه المكرَه عليها، أكتب الحلقة ولا أعرف ما يأتي بعدها، وكثيرًا ما كنت أنسى ما الذي كتبته في التي قبلها، فجاءت غريبة عن أساليب المذكّرات وطرائق المؤرّخين؛ فمن المؤرّخين من مشى مع السنين اقتداء بشيخهم وشيخ المفسّرين الطبري، فقطّع الحادث الواحد تقطيعًا فأضاع وَحدته وأبلى جِدّته، ومنهم من جمع الأحداث، ربط مبداها بمنتهاها ولكنه أخفى زمانها.
ووجدت الذين كتبوا مذكّراتهم في هذه الأيام منهم من اعتمد على وثائق مدوَّنة أو وصف للحادثات كتبه في حينها. وأنا لا أملك إلا بعض الأوراق الرسمية المدرسية أو الوظيفية أو الصور الشمسية، وكثيرٌ منها لم يكُن تحت يدي وأنا أكتب، وقلت لنفسي: إن جاءت مهوّشة على غير نظام فكذلك الدنيا؛ الدنيا فيها صحو ومطر، ومسرّة وكدر، ويسر وعسر، وضحك وبكاء، وشدة ورخاء. ولكن هل يأتي ذلك على ترتيب معروف ونهج واضح؟
كذلك جاءت ذكرياتي.
ولعلي إن مدّ الله في الأجل ونشّطني للعمل أعود إليها فأستأنف النظر فيها فأَنْظمها في خيط واحد، أضمّ النظير إلى نظيره، أجمع الأشياء وأؤلف بين النظائر حتى يأتي الحديث
1 / 15
مسلسَلًا. وإن لم يقدَّر لي ذلك فحسبي أن أنقذت من النسيان ما أمكن إنقاذه.
هذا وأنا إلى الآن قد كتبتُ (أو أنا على الصحيح قد أمليتُ وكتبوا) (١) مئة وثلاثين حلقة ولا أزال في سنة ١٣٥٩هـ، فهل أصل إلى نهاية الشوط؟
اللهم إن أحييتني فوفّقني لما يرضيك، وإن توفّيتني فعلى دينك، واكتب لي بكرمك العفوَ عن سيئاتي والنجاةَ يوم الحساب.
مكة المكرمة: صفر ١٤٠٥هـ
علي الطنطاوي
_________
(١) الصحيح أنه كتب وأملى؛ فقد كتب بيده ثمانين حلقة، ثم كَلّ من الكتابة ومَلّ فصار يُملي الحلقة إملاء، يسجّلها بصوته على شريط فتطبعها الجريدة، ثم تردّها إليه مطبوعة لتصحيحها قبل نشرها (مجاهد).
1 / 16
- ١ -
ذكريات لا مذكّرات
هذه ذكريات وليست مذكّرات؛ فالمذكّرات تكون متسلسلة مرتبة، تمدها وثائق معدَّة أو أوراق مكتوبة وذاكرة غضة قوية. وأنا رجل قد أدركه الكِبَرُ فكلّت الذاكرة وتسرب إلى مكامنها النسيان. والنسيان آفة الإنسان، وإن كان نعمة من الله. ولولا أن المرء ينسى آلام الحياة ما استطاع السكون إليها ولا الرضا بها.
وليس لديّ أوراق مكتوبة أدوّن فيها الحادثة حين حدوثها وأصف أثرها في نفسي، وهذا تفريط كامل مني لم يعد إلى تداركه من سبيل، لذلك أوصي كل قارئ لهذه الفصول أن يتّخذ له دفترًا يدوّن فيه كل عشية ما رأى في يومه، لا أن يكتب ماذا طبخ وماذا أكل ولا كم ربح وكم أنفق، فما أريد قائمة مطعم ولا حساب مصرف، بل أريد أن يسجّل ما خطر على باله من أفكار وما اعتلج في نفسه من عواطف، وأثر ما رأى أو سمع في نفسه، لا ليطبعها وينشرها (فما كل الناس من أهل الأدب والكتابة والنشر) ولكن ليجد فيها -يومًا- نفسَه التي فقدها.
لا تعجبوا من هذا الكلام، فنحن في تبدّل مستمرّ؛ كل يوم
1 / 17
يموت فيّ شخص ويولد شخص جديد، والميت أنا والمولود أنا. خلايا جسدي تتجدد كلها كل بضع سنوات حتى لا يبقى منها شيء مما كان (١). عواطف نفسي تتبدّل، فأحب اليوم ما كنت أكره بالأمس وأكره ما كنت أحبّ. أحكام عقلي تتغير، فأصوّب ما كنت أراه خطأ وأخطّئ ما كنت أجده صوابًا.
فإذا كانت خلايا الجسد تتجدّد، وعواطف النفس تتغير، وحكم العقل يتبدّل، فما هو العنصر الثابت الذي لا يتبدّل ولا يتغير؟ أقول: "قال لي عقلي" و"قلت لنفسي"، فمَن أنا -إذن- إذا كان عقلي غيري فأقول له وكانت نفسي غيري فتقول لي؟
العنصر الثابت الباقي هو الذي لا ينقص إن قُطع عضو من أعضائي ولا يموت إن متّ، بل يبقى حيًا يحاسَب، فيكافَأ أو يعاقَب. هذا العنصر هو «أنا» الحقيقي، وهو شيء من غير عالمنا الأرضي فلا تنطبق عليه قوانين علومنا الأرضية، هو الروح (٢).
هذا تفسير قولي إن من تعوّد أن يكتب كل يوم في هذا الدفتر وجد فيه يومًا نفسَه التي فقدها.
قلت إني أدوّن ذكريات لا أكتب مذكّرات. أنا لا أستطيع أن أكتب قصة حياتي متسلسلة مرتّبة لأني أعتمد على ذاكرة فقدَت حِدّتها وأبلت الأيامُ جِدّتَها، فقد أنسى الحادثة في موضعها ثم
_________
(١) وإن كانت خلايا الدماغ -كما قالوا- أطول بقاءً وأقلّ تبدّلًا.
(٢) هذه المعاني أفضتُ فيها موسَّعة في كتبي وفي أحاديثي في الإذاعة والرائي (أي التلفزيون).
قلت: انظر «تعريف عام بدين الإسلام» ص٢١ - ٢٢ (مجاهد).
1 / 18
أذكرها في غير موضعها.
وعيبٌ آخر عندي، هو عيب كتب الأدب العربي القديم ومن نشأ عليها وألِفها، هو الاستطراد والخروج عن الموضوع. هذا كتاب «الحيوان» للجاحظ مثلًا، أسألُ من قرأه منكم: كم في أبوابه ممّا يدل عليه عنوانه؟ هل التزم فيه علم الحيوان (أي علم الحياة) أم ذهب به الاستطراد يمينًا وشمالًا فتكلم في كل شيء؟ هذا هو أسلوب كتبنا الأدبية، فلا تلوموني -وقد نشأت عليها- أن أسلك سبيلها.
لقد صار الاستطراد عادة لي. أعترفُ أنها عادة سيئة، ولكنْ ما أكثرَ العادات السيئة التي لزمتنا فلم نستطع الانفكاك عنها! ولو كانت من المحرّمات لأكرهت نفسي على تركها، فليس لمسلم يأتي المحرّمات أن يحتجّ بتعوده عليها، ولكنها -لسوء حظي- ليست من المحرّمات.
ولطالما كنت أخطب في الحشد الكبير أو أتكلم في الإذاعة أو الرائي (وأحاديثي فيهما كلها ارتجال ليس أمامي ورقة مكتوبة أقرأ فيها)، فأستطرد وأخرج عن الخط، فإذا انتهى الاستطراد وقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة، فلا أذكر من أين خرجت ولا إلى أين أعود. ولا تسألوني مَن هو هذا الشيخ، فإن المثل خلّد ذِكر الحمار ونسي اسم الشيخ ليعلّمنا أن خلود الأسماء ليس الدليلَ على عظمة أصحابها.
والمذكّرات يكتبها أرباب المناصب ورجال السياسة وقادة الجيوش، الذين شاركوا في صنع الأحداث فاستحقّوا أن تكون
1 / 19
مذكّراتهم من مصادر التأريخ لهذه الأحداث (بعد ضرب بعضها ببعضٍ وتمحيص ما ورد فيها، لأن كل خبّاز يجرّ النار إلى قرصه وكل راوٍ لقصة يكبّر دوره فيها ويصغّر أو يمحو دور غيره). ولست من هؤلاء، وإن كنت قد شاركت -من فوق المنبر، أو من وراء المذياع، أو من بين سطور الصحف والكتب- في كثير من الأحداث في بلدي. شاركت فيها ولم أكن من صانعيها ولا من قاطفي أثمارها. وإني طول عمري أقرب إلى العزلة، أعيش بين كتبي وقلة من إخواني، ذهب جلّهم إلى رحمة الله.
وقد يقرأ امرؤٌ ما كتبت في الحادث العظيم أو يسمع ما قلت فيه، فيحسب أني أنا مدبّر الأمر وأني مديره، لا يعلم أني جئت من بيتي فدخلت من الباب الخلفي إلى المنبر، ثم نزلت من المنبر فخرجت من الباب الخلفي إلى بيتي، وإن كانت لي مواقف حوّلت مسار الحوادث وأقامَت وأقعدَت وأثارت وحمّست، لا يزال يذكرها كثير من أهل بلدي.
عفوًا فأنا لا أمدح نفسي، وأنا أعلم أن الحديث عن النفس ثقيل على السمع، وكلمة «أنا» ليست من الكلمات المستساغات، ولكن ماذا أصنع وأنا أدوّن ذكريات موضوعها «أنا»، فإن لم أتكلم عن نفسي في سرد ذكرياتي فعمّن تريدون أن أتكلم؟ ولكن لكم عليّ عهدًا أنا موفٍ به إن شاء الله، هو ألاّ أقول إلاّ الحقّ وألاّ أذكر مما صنعت إلاّ ما يشهد كل مَن «عاصره» أنني صنعته.
وبيان آخر: الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قُدُمًا، لا يعرج على شيء ولا يلتفت إليه، ولكن السائح يسير متمهلًا ينظر يَمْنةً ويَسْرةً، فإن رأى منظرًا عجيبًا وقف عليه،
1 / 20
وإن أبصر شيئًا غريبًا صوّره، وإن مرّ بأثر قديم سأل عن تاريخه، فيكون له من سَيره متعة ويكون له منه منفعة. وأنا لا أحب في هذه الذكريات أن أمشي مشية الجندي، بل أسير مسيرة السائح.
لا أكون مغمض العينين لا يرى من الدنيا إلاّ نفسه، كالذي يدخل بهو المرايا في «فرساي»، ولا أريد أن أتحدث عن نفسي وحدها وأغفل ما حولي. ولعلّ وصف ما كان حولي أجدى على القراء من سرد قصة حياتي وحدها؛ ذلك أن ما كان في صغري أمرًا عاديًا صار الآن عند أكثر الناس تاريخًا.
* * *
دمشق التي عرفتها وأنا صغير ليست دمشق التي نراها الآن؛ تبدلت دُورُها وحاراتها وأزياء أهلها وكثير من أعرافهم وأوضاعهم، ودخل الحديث عنها في باب التاريخ. ولست أصف هنا دمشق، فإن لي كتابًا اسمه «دمشق» فيه صور من جمالها وعِبَر من نضالها، ونشرت في «الرسالة» في عَشر الثلاثين من هذا القرن الميلادي (أو الثلاثينيات كما تقولون) مقالات كثيرة عنها (١).
وفي الدنيا اليوم مدن كثيرة موغلة في القِدَم، حتى إن التاريخ نفسه لم يدرك ولادتها، ولكن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة في الدنيا. وفي الدنيا مدن كثيرة بارعة الجمال، ولكن
_________
(١) انظر -بشكل خاص- مقالة «دمشق التي عرفتها وأنا صغير» في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» ومقالة «حديث عن دمشق» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).
1 / 21
دمشق (في نظر أهلها على الأقل) أجمل مدن الدنيا. أوْ كانت أجمل بلاد الدنيا، فأفسدنا نحن -أهلَها- جمالها.
أدهشَت غوطتُها العربَ لمّا رأوها، فأنطقت شعراءهم بروائع البيان وخوالد القصائد. فأين اليوم الغوطة؟ الغوطة الغربية قطعنا أشجارها وقلعنا أورادها وأزهارها، ورمينا فوق رأسها الحجارة والأبرق (أي الإسمنت المسلّح)، فقتلناها خنقًا ودفنّاها حية، وأقمنا عليها بيوتًا طبقاتها صناديق وعلب لسردين البشر جعلناها قبورًا لها.
تبدلت دمشق حتى جوها. مَن كان يحتاج في صيف دمشق إلى مراوح فضلًا عن المكيّفات؟ متى كانت تصل الحرارة فيها إلى أربعين درجة مئوية؟ كان إخواننا من أهل المملكة السعودية وأهل العراق يصيّفون في دمشق نفسها، وما كنا نحن -أهل دمشق- نعرف الانتقال في الصيف إلى الجبال. فما الذي غيّرها؟ مَن ألهب هواءها وسدّ مسارب النسيم الناعش إليها؟ نحن، نحن الذين قطعوا أشجارها. الناس يزرعون ونحن نقلع، وهم يحوّلون الصحارى بساتين ونحن نمسخ البساتين صحراء. ما صنعنا هذا اليوم ولا قبل خمس سنين، بل هي جناية جنيناها على دمشق من عشرات مضت من السنين، حتى ضاع الجاني وقُيّدت «جناية من مجهول»!
حتى الغوطة الشرقية، الغوطة الكبرى، ما سلمت منا ولا نجت من أذى أيدينا. في طرف الغوطة منطقة تُدعى «درب الجوز» أعرفها أنا، فيها من أشجار الجوز ما لا يحيط بجذع الشجرة منها رجلان إذا مدّا أيديهما، لست أدري من هو العبقري
1 / 22