Смерть единственного мужчины на земле
موت الرجل الوحيد على الأرض
Жанры
شريط رفيع من ضوء الفجر كان يسقط من شق النافذة على وجه فتحية، يضيء نصف وجهها بشعاع رمادي، كانت عيناها نصف مغمضتين كأنما ترى وهي نائمة، وكان أنفها مرتفعا حادا، وشفتاها مطبقتين مزمومتين كأنما على شيء لا تريد أن يفلت منها أثناء النوم، ويكشف الضوء الرمادي عن عنقها الناعم الأبيض الذي يهبط إلى ثدي ناعم أبيض خرج من فتحة جلبابها وقبض الطفل عليه بفمه وأسنانه ويديه الاثنتين، ومن حول كتفيه الصغيرتين تلتف ذراع فتحية متقلصة العضلات تشد الطفل إليها بكل قوتها، كأن هناك قوة أخرى تنتزع منها الطفل.
ثبتت عينا الشيخ حمزاوي على نصف وجهها من الجانب مندهشا ومتحيرا، أيكون هذا النصف مختلفا إلى هذا الحد عن النصف الآخر الذي لا يكشفه الضوء الآن، والذي يحمل ملامح فتحية زوجته التي يعرفها؟ لم يكن يعرف إلى أي حد يختلف هذا النصف عن النصف الآخر، أو ما وجه الخلاف تماما، لكن الملامح التي يراها الآن ليست بالتأكيد ملامح زوجته فتحية ولا تشبهها في شيء، وإن كان الأنف هو الأنف، والفم هو الفم، والعنق هو العنق، والثدي هو الثدي ... ويزيد من دهشته وحيرته أنه واثق تمام الثقة أنها ليست سوى فتحية، وأنها زوجته، وأنه متأكد من هذه الحقيقة مائة بالمائة كتأكده من حقيقة وجود الله.
من ير وجهه في تلك اللحظة يرى أنه غير متأكد من شيء؛ عيناه رغم أنهما مفتوحتان ثابتتان، إلا أن عضلة حولهما ترتعش، وضوء الفجر قد سقط من النافذة فوق وجهه فأصبح شاحبا، وصنع من تحته ظلا طويلا فكأنما أصبح وجهه وجهين؛ وجها أعلى هو وجهه الحقيقي الذي يعرفه كل أهل كفر الطين، ومن تحته وجه آخر لا يعرفه أحد ولا يمكن أن يتعرف عليه أحد؛ فهو لا يشبه أي أحد في كفر الطين، ولا يشبه أي أحد من الإنس أو الجن، وقد يكون وجه شيطان أو ملاك، بل قد يكون وجه الله ذاته إذا عرف أحد كيف يكون وجه الله.
لكن الشيخ حمزاوي كان يشعر في تلك اللحظة أنه أبعد ما يكون عن الله. أحيانا كان يشعر بقرب شديد من الله، وبالذات ظهر الجمعة أثناء الصلاة حين يصطف من خلفه جميع رجال البلد وعلى رأسهم العمدة ذاته، يقفون جميعهم من ورائه، لا يستطيع الواحد منهم أن يحرك ذراعه أو يده أو حتى أصبعه إلا بعد أن يبدأ الشيخ حمزاوي، ولا يستطيع الواحد منهم أن يفتح فمه أو يهمس لنفسه بآية من الآيات إلا بعد أن يبدأ الشيخ حمزاوي.
في تلك اللحظات يدرك الشيخ حمزاوي أنه أقرب إلى الله من أي رجل منهم، وإن كان هو العمدة، وتسري فوق جسده قشعريرة أشبه باللذة أو السعادة النادرة التي لم يعرفها إلا وهو طفل صغير حين كان يضرب أطفال الجيران بالطوب، فيجرون بعيدا عنه خائفين. يتعمد أن يتلكأ في قيامه وقعوده وركوعه، وينظر من حين إلى حين بطرف عينيه إلى الخلف ليرى العمدة وصفوف الرجال وهم ينتظرون في خشوع أية حركة من رأسه أو يده أو حتى أصبع يده الصغير.
على أن الصلاة مهما تلكأ وأبطأ كانت تنقضي بعد دقائق، وينفض الرجال عنه، بل إن بعضهم قد يدوس على قدمه وهم يهرولون خلف العمدة وفي أيديهم التظلمات والرجوات مكتوبة على «عرض الحال» أو ورقة طويلة بيضاء ألصقت عليها الدمغة؛ يلعن في سره هؤلاء القوم الكفرة الذين لا يعرفون ربنا ولا يجرون إلا وراء متاع الدنيا الزائل، ويسير بخطواته البطيئة وحيدا إلى بيته، عصاه تدق الأرض وسبحته الصفراء تهتز بين أصابعه المرتجفة. تدق رجفة أصابعه حين يرى زوجته فتحية، لكنه يخفي الرجفة بصوت عال غليظ يحاول أن يجعله أغلظ مما هو، ويسعل ويتنحنح بصوت الرجال المعهود ليؤكد لها وللجيران أنه عاد إلى البيت وأنه الزوج ورجل البيت.
حين لا تسمعه فتحية يلكزها في كتفها قائلا: أصبحت عمياء وطرشاء منذ جاء هذا الطفل المعلون إلى بيتنا. ليس لك من شاغل في الحياة إلا هو، مع أنه ليس إلا ابن حرام، مددت له يدي الرحيمة، ويا ليتني تركته يموت في العراء. منذ دخل بيتنا هذا الملعون، ثمرة الزنا والخطيئة، والمصائب تنهال علي، والناس تلومني لأنني فتحت بيتي لابن حرام، والألسنة تلوكني، وهيبتي ضاعت في كفر الطين، وانفض عني الأصدقاء، والعمدة لم يعد يطلبني للسهر معه، وقد نصحني مرارا أن أرسل هذا الولد إلى بيت اللقطاء، وقد وعدته بذلك، لكنك ترفضين. لا أدري لماذا تتعلقين بهذا الطفل كل هذا التعلق؟!
ينقطع صوته بعد هذا السؤال، الذي يجهل جوابه، ويجهل سبب تعلق فتحية الشديد بالطفل. لكن رجفة السبحة بين أصابعه تزداد، وكأنما يعرف السبب، ليست تلك المعرفة اليقينية، وإنما هو نوع من الشك الغامض الذي يسري في جسده كقشعريرة باردة، كريح تنفذ إليه من شق النافذة مع ضوء الفجر، يسقط الضوء على وجه فتحية وعنقها وثديها الذي يقبض عليه الطفل. ويزحف السؤال في رأسه بطيئا بارد الملمس كبطن ثعبان: «كيف يدر ثديها اللبن وهي لم تحمل ولم تلد؟» لم يكن هو الذي يسأل السؤال، لكنه سمعه من أحد، لا يذكر من هو الذي سأله، لكنه سمعه من أحد، بل لا يذكر أنه كان سؤالا، بل مجرد خبر بسيط، يلقى بصوت خافت، وهذا الخفوت هو الذي جعله أشبه بسكين يغمد في صدره: فتحية ترضعه؟ حاول أن ينكر، فهو لم يرها ترضعه، لم ير ثديها في فمه. كانت تشتري له لبن الجاموسة كل صباح، لكن الصوت الخافت كان مصرا على ما يقول، متأكدا منه تأكدا لا يقبل الشك.
ويسمع الشيخ حمزاوي الصوت الخافت حين يمشي، ويرى رءوس الرجال تتقارب حين يمر بهم ويبدأ الهمس. يقرئهم السلام قائلا: «السلام عليكم»، فيتلكئون في الرد عليه، ويقولون بصوت خافت بارد: «وعليكم السلام»، وبعضهم لا يرد. وحين يمر بدكان الحاج إسماعيل يرى العمدة جالسا ومن حوله شيخ الخفر وحلاق الصحة والرجال، فيرفع صوته بالتحية والسلام قائلا: «السلام عليكم.» ويدب الصمت لحظة، ثم يأتيه الرد خافتا باردا: «وعليكم السلام!» لا يلتقط فيه صوت العمدة، ولا صوت شيخ الخفر، ولا صوت الحاج إسماعيل، وإنما هو صوت رجل آخر، ولا يدعوه أحد للجلوس معهم. ويسير الشيخ حمزاوي منكس الرأس عائدا إلى بيته، ويرى فتحية تحتضن الطفل، فيكاد ينتزعه من بين ذراعيها ويلقيه من النافذة، لكنه يكتفي بأن يرمقه بنظرة حادة كما ينظر إلى غريم أقوى منه لا يعرف كيف ينتصر عليه.
في ليلة من الليالي ظل ساهرا حتى نامت فتحية، فتسلل على أطراف أصابعه وحاول أن يحمل الطفل، لكن ذراعها كانت ملفوفة حوله متقلصة العضلات، تمسكه بقوة، رغم أنها تغط في النوم، وأصابع يديه الصغيرة وفمه وأسنانه تمسك ثديها لا تتركه. حاول أن يشده منها بالقوة فصرخت: عيب عليك يا شيخ حمزاوي، أنت رجل تعرف ربنا، إنه طفل صغير لا يعرف شيئا.
Неизвестная страница