Смерть уважаемого министра
موت معالي الوزير سابقا
Жанры
22 مارس 2017
موت معالي الوزير سابقا
ضعي يدك على رأسي يا أمي، وربتي برقتك على شعري وعنقي وصدري كما كنت تفعلين معي وأنا طفل، فأنت الوحيدة الباقية لي، ووجهك هو الوحيد من وجوه العالم الذي أراه أو أريد أن أراه في هذه اللحظات الأخيرة، وكم كنت أود أن تعاتبيني يا أمي؛ لأني لم أرك منذ خمس سنوات، ولكني لم أنشغل عنك أنت فحسب، فقد انشغلت عن العالم كله حتى نفسي، حتى بيتي وزوجتي وأصدقائي، حتى لعبة الجولف - التي كنت أهواها - لم أمارسها طوال هذه السنوات الخمس مرة واحدة، حتى ابنتي الوحيدة الصغيرة التي كنت أحبها لم أكن أراها، حتى وجهي يا أمي، وجهي لم أكن أراه، وكنت وأنا مسرع إلى الخارج ألقي نظرة سريعة في المرآة؛ لا لأرى وجهي وإنما لأحكم ربطة العنق حول عنقي، أو لأتأكد من أن لون الثوب لا يتعارض مع لون الربطة، بل إنني حتى وإن نظرت إلى وجهي في المرآة فأنا لا أراه، وإذا نظرت إلى وجوه الناس في المكتب أو في الشارع من خلال زجاج سيارتي فأنا لا أراهم، وإذا حدثوني فأنا لا أسمعهم وإن تكلموا بصوت عال، بل إن أعلى بوق في أي سيارة ما كنت لأسمعه وإن كان خلفي مباشرة، وكم مرة كانت تدهمني سيارة حتى كففت عن السير على قدمي.
كنت - يا أمي - كالذي لا يرى ولا يسمع ولا يعيش في هذا العالم. في أي عالم كنت أعيش، وهل هناك عالم آخر غير عالم الناس يمكن للإنسان أن يعيش فيه دون أن يكون قد توفاه الله؟ وكنت أدرك - يا أمي - أن الله لم يتوفني بعد بدليل أنني لم أقرأ نعيي في صفحة الوفيات، ولا يمكن لرجل في مثل منصبي أن يموت هكذا دون أن ينشر نعيه كبيرا بارزا في الصحف، وأن تنظم له جنازة كبيرة يمشي فيها كبار رجال الدولة يتوسطهم رئيس الدولة. مشهد كان يهزني - يا أمي - إلى حد أنني كنت أتمنى، وأنا أمشي في مثل هذه الجنازات المهيبة، أن أكون أنا الذي داخل الصندوق، وحيث إنني لا أتذكر أنني كنت دائما سائرا على قدمي خلفه؛ فأنا إذن كنت أعيش، لكني لم أكن أعيش في هذا العالم الذي تعيشون فيه، ولم يكن يشغلني ما يشغلكم، وإنما كنت مشغولا بما هو أهم، وكان انشغالي بغير حدود، بأكثر مما يستطيع جسدي وعقلي تحمله، وفي بعض الأحيان كان جسدي يرهق حتى يكف عن الحركة، لكن عقلي يظل يشتغل، وفي أحيان أخرى كان عقلي يرهق حتى يكف عن التفكير لكن جسدي يظل يتحرك ويروح ويجيء؛ فيذهب إلى المكتب ويحضر الاجتماعات، ويرأس المؤتمرات، ويستقبل الضيوف الرسميين في المطارات، ويحضر الاحتفالات، وقد يسافر إلى الخارج أيضا في مهمة رسمية. وكنت - يا أمي - حين أرى جسدي وهو يتحرك وحده هكذا بغير عقلي أدهش، بل أخاف، خاصة إذا كنت أجلس في اجتماع هام يقتضي مني التركيز والانتباه. وكان الاجتماع الهام الوحيد هو الاجتماع الذي أصبح فيه مرءوسا، وكنت أكره - منذ أصبحت موظفا في الحكومة - أن أكون مرءوسا، وتعودت أن أكتم كراهيتي أمام رؤسائي ولا أنفس عنها إلا في مكتبي مع المرءوسين، أو في بيتي مع زوجتي كما كنت أرى أبي يفعل مع أمي. دائما كنت أعجز عن التنفيس عن كراهيتي أمام رئيسي حتى وإن كان موظفا عاديا كرئيس قسم أو مدير إدارة، فما بال الأمر حين يكون رئيسي ليس موظفا مثل أي موظف في الدولة ، وإنما هو رئيس الدولة كلها. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كنت أجلس أمامه في مقعدي بجسدي وعقلي، مشدودا منتبه الحواس شديد اليقظة، أخشى أن يسألني فجأة سؤالا لا أعرف إجابته، وإذا عرفت الإجابة فأخشى ألا تكون هي الإجابة الصحيحة، وإذا كانت هي الإجابة الصحيحة فأخشى ألا تكون هي الإجابة المطلوبة.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ نعم يا أمي، هذه هي ألف باء السياسة نتعلمها في أول درس؛ فالإجابة الصحيحة ليست هي دائما الإجابة المطلوبة، لكن الإجابة المطلوبة هي دائما الإجابة الصحيحة، وعلى الرجل منا أن يكون دائم الانتباه جسدا وعقلا لالتقاط الحقيقة الصحيحة من الحقيقة غير الصحيحة، وهي مهمة شاقة يا أمي، أشق من أي مهمة في الحياة. وكان علي أن أجلس في الاجتماع منتبها بعقلي وجسدي، بالاثنين معا، أجلس في مقعدي، ويدي اليسرى ساكنة في حجري، ويدي اليمنى ممسكة بالقلم فوق الورق، جاهزا مستعدا لالتقاط الإشارة، أي إشارة، وقد لا تكون إلا إيماءة رأس أو حركة يد أو إصبع، أو الشفة السفلى يمطها في حركة خفيفة إلى الأمام، أو انقباضة عضلة صغيرة حول الفم أو الأنف، أو العين اليمنى أو العين اليسرى. وكان علي أن أفرق بين حركة العين اليمنى من العين اليسرى، وأن أرى أي حركة لحظة حدوثها بل قبل حدوثها، وأن أفسرها في عقلي بسرعة، بل إن عقلي يجب أن يكون أسرع مني فيفسرها قبلي، وعيناي يجب أن تكونا أسرع من عقلي فتريا الحركة قبل أن تقع، وأذناي يجب أن تكونا أسرع فتسمعا الصوت قبل أن يحدث.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كنت أعتمد دائما في هذا الاجتماع الهام على حواسي الخمس، بل إن جسدي وعقلي كليهما كانا يتحولان - وأنا جالس في مقعدي - إلى كتلة عصبية شديدة الحساسية؛ كأسلاك رادارية عارية ملتفة بعضها حول البعض، تصنع رأسي وذراعي وصدري وبطني. وكنت - يا أمي - من شدة الحساسية أحس عضلات بطني ترتعش كأنما بها مس كهربائي متصل، وبالذات حين أقف إلى جواره أو بالقرب منه؛ فأحس بأصابع يدي اليمنى ترتعش، مع أنني أمسكها بأصابع يدي اليسرى، وكلتاهما - اليمنى واليسرى - مضمومتان فوق صدري أو بطني، وساقاي أيضا مضمومتان وأنا واقف أو جالس. كانت هذه هي الصورة - يا أمي - التي أصبح عليها وأنا معه، وجسدي كان يعجز دائما عن اتخاذ وضع آخر سوى هذا الوضع، وحين يسلط الضوء على وجهي، وتمر العدسات فوق جسدي لتصورني للناس، أحاول أن أفك يدي اليمنى من اليسرى وأرفعهما عن صدري أو بطني، لكني لا أستطيع، وأجدهما ثقيلتين كأنهما مشلولتان. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كانت هذه هي صورتي التي أراها في الصحف فأخجل من نفسي، وأكاد أخفي الجريدة عن عيون أسرتي، وعلى الأخص عيني ابنتي الصغيرة التي كانت تشير بإصبعها الدقيق إلى وجهي من بين الوجوه المرسومة في الجريدة، وتقول لأمها: «ليس هذا هو بابا يا ماما»، لكن أمها كانت ترد عليها بكبرياء زوجات الرجال العظماء قائلة: «إنه بابا يا حبيبتي، انظري كم هو عظيم وواقف مع رئيس الدولة!» ويرن صوت زوجتي في أذني؛ فأدرك أنه ليس صوتها الحقيقي، وأن تحت الصوت صوتا آخر تخفيه وتكتمه منذ الأزل وإلى الأبد، منذ تزوجنا وإلى أن نموت، وتخفي حقيقتها وحقيقتي معها في سرداب عميق سحيق في بطنها، أحسه أحيانا تحت يدي كالدمل المزمن المتجمد الذي لم ولن ينفقئ.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم أكن أخجل إلا من عيني ابنتي الصغيرة، فهما عينان على طفولتهما، بل بسبب طفولتهما كانتا دائما قادرتين على تعريتي وكشف حقيقتي التي لم يكن يقدر على كشفها أحد في العالم حتى أنا. أتذكرين - يا أمي - أنك كنت تقولين لي دائما إن الطفل مكشوف عنه الحجاب؟ لم أكن أصدقك في ذلك الوقت، لكني أدركت من بعد أنني أحيانا، حين كانت ابنتي الصغيرة تنظر إلي بعينيها الواسعتين الثابتتين في عيني، كنت أحس أنني أخشى عينيها، وأظن أحيانا أن هذه النظرة القوية الثابتة ليست نظرة طفل، وليست بالذات نظرة بنت، أو بالأحرى بنت طبيعية، وأن البنت الطبيعية، بل الولد الطبيعي أيضا يجب أن تكون نظرته أقل ثباتا أو أقل وقاحة، وبالذات حين ينظر إلى شخص أكبر منه مقاما وسنا وله سلطة عليه، فكيف الحال إذا كان هذا الشخص هو الأب، رب الأسرة وعمادها، الذي يعمل والذي ينفق، ومن حقه على أفراد أسرته جميعا الاحترام والطاعة، كبارا كانوا أم صغارا، وعلى الأخص الصغار؟
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم، هذا هو كلامك الذي كنت أسمعه منك وأنا طفل صغير. وقد ظل في ذاكرتي على الدوام إلى حد أنني كنت أقوله لزوجتي، وأردده لابنتي، وأقوله أيضا لمن كان يقع من الموظفين تحت رئاستي أو سلطتي، وأشعر بالرضا عن نفسي وأنا أقوله إلى حد الزهو، وأرى الإعجاب في عيون الموظفين حولي؛ فيشتد إيماني بأن ما أقوله هو الحقيقة الثابتة منذ الأزل، وأن من يقول بغيرها فقد أخطأ أو كفر.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، في حياتي كلها منذ كنت موظفا صغيرا إلى أن أصبحت وزيرا، لم يصادفني موظف واحد قال بشيء آخر غير ما كنت أقول، وهذا هو السبب - يا أمي - في أنني لم أحتمل هذه الموظفة، ولم أحتمل أن أظل جالسا في مقعدي هادئا كعادتي، وقورا كأي وزير حين يكون جالسا بين موظفي وزارته، لم أحتمل - يا أمي - إلا أن أنتفض واقفا صارخا بغضب على غير عادتي، خارجا عن وقاري، فاقدا لصوابي. لم تكن تقول شيئا ذا بال، لكنه غير الذي كنت أقوله، ولا أدري - يا أمي - كيف لم أحتمل، وكيف خرجت عن هدوئي ووقاري. ولم يكن غضبي عليها؛ لأنها نطقت بشيء آخر غير رأيي، أو لأنها موظفة صغيرة تختلف في رأيها مع الوزير، أو لأنها امرأة تعتد برأيها أمام رجل، أو لأنها قالت لي وهي تخاطبني «حضرتك»، في حين أن الموظفين جميعا يقولون حين يخاطبونني: «يا معالي الوزير»، ولكن غضبت يا أمي؛ لأنها - وهي تكلمني - كانت ترفع عينيها في عيني بطريقة لم أرها من قبل، وهذه الحملقة أو النظرة الثابتة القوية في حد ذاتها جرأة بل وقاحة إذا ما صدرت من رجل، فكيف إذا كان موظفا؟ وكيف إذا كان امرأة؟ ولم يكن غضبي عليها أنها فعلت ذلك بل لأنني لم أعرف كيف فعلته، كيف تجرأت وفعلته؟!
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، كنت أريد أن أعرف كيف فعلت هذه المرأة ذلك، واستبدت بي هذه الرغبة في المعرفة إلى حد الغضب من نفسي؛ لأني لا أعرف ولأني عاجز عن أن أعرف. واستبد بي الغضب إلى حد أنني أصدرت في اليوم التالي أمرا بإحضارها إلي في مكتبي، وتركتها واقفة أمامي وأنا جالس، وأشعرتها بأنها غير موجودة وتركتها واقفة وأنا جالس أتكلم في التليفون وأضحك مع من يحادثني، والغريب أنها ظلت واقفة، لم تكن تسمع صوتي أو تنظر إلي، وإنما كانت تنظر إلى صورة معلقة في الحائط. وبعد أن انتهيت من الحديث في التليفون كنت أظن أنها ستنظر إلي، لكنها ظلت تنظر إلى تلك الصورة المعلقة وكأنني غير موجود، وحاولت أن أدرس ملامحها قبل أن تحرك رأسها وتراني، لكنها حركت رأسها واستقرت عيناها القويتان الثابتتان في عيني. وانتفضت، كأنما سقطت عني ملابسي كلها دفعة واحدة، وشعرت بالخجل الذي ذكرني في لحظة سريعة خاطفة بعيني ابنتي الصغيرة، وتحول الخجل في لحظة خاطفة إلى رغبة في أن أخجلها كما أخجلتني، ووجدت نفسي أصرخ في وجهها بصوت عال على غير عادتي: «كيف تجرؤين؟! من أنت؟ ألا تعلمين أنك مهما كنت فلست إلا موظفة صغيرة وأنا الوزير، ومهما ارتفعت فأنت في النهاية امرأة، مكانها في الفراش تحت الرجل؟!»
Неизвестная страница