مقدمة الطبعة الثانية‏

مقدمة‏

1 - الفلسفة تحليل‏

2 - «كانت» وفلسفته النقدية‏

3 - الميتافيزيقا المرفوضة‏

4 - نسبية الخير والجمال‏

5 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند «مور»‏

6 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: أمثلة من التحليل عند بيرتراند رسل‏

7 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند رودلف كارناب‏

مقدمة الطبعة الثانية‏

مقدمة‏

1 - الفلسفة تحليل‏

2 - «كانت» وفلسفته النقدية‏

3 - الميتافيزيقا المرفوضة‏

4 - نسبية الخير والجمال‏

5 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند «مور»‏

6 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: أمثلة من التحليل عند بيرتراند رسل‏

7 - الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند رودلف كارناب‏

موقف من الميتافيزيقا

موقف من الميتافيزيقا

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة الطبعة الثانية

1

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1953م، ونفدت تلك الطبعة الأولى في سنوات قليلة بعد صدورها، وكانت طبائع الأمور تقتضي أن يعاد طبع الكتاب فور نفاده، لكنني آثرت عندئذ ألا أخرج الكتاب في طبعته الثانية إلا بعد أن يضاف إليه - في صلب نصوصه - شروح توضح الأفكار التي غمضت حقائقها على القارئ، وذلك إما لاكتفائه بقراءة عجلى تخطف المادة المقروءة خطفا من أطرافها، وإما لسيطرة أفكار مسبقة على ذهنه سيطرة انتهت به إلى سوء الفهم، ثم من يدري؟ فلعل مؤلف الكتاب لم يحسن العبارة ولم يوضح الغامض؛ فكان من جراء ذلك كله أن وجهت إلى الكتاب هجمات نقدية، كنت يومئذ أدرك مواضع بطلانها، ومن هنا اعتزمت ألا تكون للكتاب طبعة ثانية إلا إذا جاءت مشتملة على ردود تبين لهؤلاء الناقدين مواضع البطلان.

لكن الأعوام أخذت تمضي سراعا، عاما بعد عام، وكانت كلما انقضى عام منها، ترك لي وراءه شاغلا فوق شواغل، فتزداد دواعي الإرجاء، حتى أوشكت على اليأس من أن تشهد الطبعة الثانية نور الحياة؛ بيد أن سؤال الدارسين والقارئين لم ينفك عن ملاحقتي، فماذا عسى أن أصنع وقد أضيفت إلى شواغلي الأولى علل وأمراض؟! وكيف لا يحدث وقد مضت بعد الطبعة الأولى ثلاثون عاما؟ فبات قريبا من المحال أن أحقق ما اعتزمت أداءه بادئ الأمر، وهو أن أعيد كتابة الكتاب إعادة تتيح لي أن أعرض الأفكار على صورة تتضمن الردود على معارضات الناقدين، فرأيت أن أكتفي بمقدمة أقدم بها الطبعة الثانية، واضعا فيها تلك الردود والشروح في شيء من الإيجاز، مبقيا على النص القديم كما هو بغير تعديل بكل ما فيه من قوة وضعف، ووضوح وغموض، وحسنات ومآخذ؛ فلقد بعد به العهد، وأصبح من حقه أن يصان ليكون بمثابة وثيقة تشهد على فكر المؤلف وطريقة تعبيره عن ذلك الفكر في مرحلة مبكرة نسبيا من مراحل عمره.

2

كان أوجع نقد وأبشعه، هو أن اختلط الأمر على الناقدين فخلطوا بين فلسفة ودين، حتى خيل إلي يومئذ أن بعض هؤلاء الناقدين - على الأقل - لم يقرءوا من الكتاب شيئا، وهم إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوانه - في طبعته الأولى - «خرافة الميتافيزيقا»، قائلين لأنفسهم شيئا كهذا: الميتافيزيقا هي ما وراء الطبيعة، وما وراء الطبيعة هو الغيب، وأيضا هو الله سبحانه وتعالي، وإذن فهذه الجوانب الهامة من الإيمان الديني خرافة عند مؤلف هذا الكتاب. أقول: إن بعض الناقدين إما أن يكونوا قد اكتفوا بقراءة عنوان الكتاب، ثم أخذت خواطرهم تتسلسل على النحو المذكور، وإما أنهم كانوا أقل من ذلك درجة، وطفقوا يرددون ما يسمعونه عن غير وعي ولا دراية.

نعم، إنهم خلطوا بين فلسفة ودين؛ فالفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي من النوع الذي نرفضه؛ لأن هناك نوعا ثانيا من الميتافيزيقا مقبولا عندنا، وسنذكر ذلك بعد حين؛ أقول: إن الفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقي، إنما يضع في بداية طريقه «مبدأ» معينا ينطلق منه، معتقدا - بالطبع - صواب ذلك المبدأ، وليس لديه من سند يرتكز عليه في ذلك الاعتقاد، إلا ظنه بأنه قد رأى ذلك المبدأ بحدسه (أي ببصيرته) رؤية مباشرة؛ لكن اعتقاده في صواب مبدئه لا يمنع فيلسوفا آخر من أن يضع لنفسه مبدأ آخر يعتقد - بدوره - أنه هو الصواب.

ولنضرب لذلك مثلا أفلاطون، ثم أرسطو من بعده، فقد رأى الأول أن الأفكار المجردة التي هي بمثابة النماذج الأولى، وعلى غرارها جاءت الكائنات الجزئية، هي ذات وجود موضوعي مستقل وقائم بذاته، فالقط الذي تراه أمامك سائرا على أرض غرفتك، قد خلق وفق «المثال» الأزلي للقط، وما ذاك المثال إلا فكرة مجردة عن طبيعة القط الجوهرية كيف تكون. وكيف عرف أفلاطون ذلك؟ عرفه من رؤية مباشرة رأى بها تلك «المثل» حين صعد إليها في مدارج التأمل الفلسفي حتى بلغها، وجاء بعده أرسطو ليرى رؤية أخرى فيما يتخذه لنفسه «مبدأ» يقيم عليه بناءه الفلسفي، وهو فكرة «الصورة» التي من شأنها أن تتجسد المادة فتكون هذا الكائن أو ذلك، فليست صورة القط - أي جوهر طبيعته - فكرة مجردة مستقلة عن القط، بل هي سارية فيه مجسدة به ... إلى آخر ما يذهب إليه الفيلسوفان في ذلك، مما يمكن الرجوع إليه في كتب الفلسفة.

على أن الأمر الذي يهمنا هنا، هو أن الفيلسوف المعين مطالب بإقامة البرهان العقلي الذي يبين به صواب مبدئه، وصواب النتائج التي استدلها من هذا المبدأ، والذي نرفضه نحن ونطلق عليه صيغة «الخرافة» من عنوان هذا الكتاب - كما كان في طبعته الأولى - ليس هو أن يتخذ الفيلسوف الميتافيزيقي لنفسه ما شاء من «مبدأ»، ولا هو - بالطبع - النتائج التي استدلها، ما دام استدلاله لها جاء على منطق العقل؛ بل المرفوض هو أن يبني الفيلسوف بناءه الفكري في ذهنه، ثم يزعم أنه تصوير لحقيقة الكون كما هي قائمة في الوجود الواقعي خارج ذهن الإنسان صاحب البناء، فشأن الفيلسوف الميتافيزيقي وهو يقيم البناء العقلي نتائج مستمدة من مبادئ، هو نفسه شأن الرياضي حين يقيم بناءه الرياضي، مستخرجا فيه النتائج من المسلمات، كما نرى - مثلا - في هندسة إقليدس، لكن الرياضي إذ يقدم بناءه الرياضي المحكم في روابطه المنطقية، لا يدعي أنه تصوير للكون الخارجي. وكيف يدعي ذلك، وهو يعلم أن في مستطاع رياضي آخر أن يضع لنفسه مسلمات أخرى، فيخرج منها نتائج أخرى؟ فالبناء الرياضي يحكم عليه «داخليا» على أساس سلامة الاستدلال، لا «خارجيا» على أساس مطابقته للواقع؛ لأن ما هو صحيح رياضيا قد يأتي مطابقا للواقع وقد لا يأتي، وهكذا يجب أن تكون الحال بالنسبة للبناءات الميتافيزيقية في الفلسفة.

وأما العقيدة الدينية فأمرها مختلف كل الاختلاف؛ لأن صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس: إنني أقدم لكم فكرة رأيتها ببصيرتي، بل يقول لهم: إنني أقدم رسالة أوحي بها إلي من عند ربي لأبلغها، وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهانا عقليا على صدق الفكرة ونتائجها المستدلة منها، بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه وحيا من ربه، أي إن مدار التسليم هو الإيمان.

فكيف يجيء الخلط بين موقفين: أحدهما موقف الميتافيزيقي وهو يقدم للناس بضاعته هو، مستندا إلى منطق العقل في إقامة البرهان، والآخر هو موقف صاحب الرسالة الدينية وهو يقدم وحيا أوحي به إليه، ويطلب من الناس إيمانهم بصدق ما يقوله. إنه إذا اعترض معترض على الفيلسوف فيما يقدمه، فعليه أن يبين أدلته المنطقية التي تبرر اعتراضه، وأما إذا اعترض معترض على صاحب الرسالة الدينية، فذلك ليس لأنه رأى خللا في منطق التفكير، بل لأنه لم يصدق صاحب الرسالة وكفى.

أفبعد بيان هذا الفرق الشاسع بين الموقفين: الفلسفي والديني، يمكن أن يقال للمعترض على الفيلسوف، الذي يزعم أن بناءه الفكري هو أيضا تصوير للكون الخارجي: إنك باعتراضك هذا بمثابة من يعترض على رسالة الدين؟! اللهم سبحانك.

3

يوشك الرأي في طبيعة التفكير الميتافيزيقي أن يكون على إجماع بأنه هو ذلك التفكير الذي لا يقف - في تعليله لما يتصدى لتعليله - عند مصادره القريبة، بل يمعن في الغوص وراء تلك المصادر القريبة حتى يبلغ أقصى ما يمكن بلوغه؛ فالنظر في العلل القريبة متروك للعلوم، فإذا كان علم البيولوجيا - مثلا - يكفينا لتفسير التكاثر، كائنا حيا من كائن حي كيف يتم، فإن الفكر الميتافيزيقي لا يكتفي بهذا المصدر القريب، بل يرتد بمنطقه خطوة وراء خطوة؛ ليعرف ما الحياة نفسها؟

لكنه إذا كان هنالك إجماع على هذه الطبيعة العامة للفكر الميتافيزيقي، فإن هذا الإجماع سرعان ما ينحل دروبا مختلفة عندما نسأل عن الموضوع الذي نرده إلى أصوله الأولى، ما هو؟ هنالك فريق يقول إنه الكون بكائناته الحية والجامدة، بشموسه وأقماره ونجومه وهوائه ومائه ... إلخ، هذا هو الذي نريد أن نرده إلى أصله الأول البعيد. وهنالك فريق آخر يفضل أن يوجه بحثه نحو الأفكار لا نحو الأشياء، فنسأل عن الأفكار العلمية: ما أصولها الأولى؟ فكيف نشأ العلم الرياضي، وكيف نشأت العلوم الطبيعية؟ وكيف نشأت النظم المختلفة؟ وليس السؤال هنا سؤالا عن النشأة التاريخية متى كانت، بل هو سؤال عن النشأة المنطقية، كيف تأتى للعقل الإنساني أن يفرز علما رياضيا وعلما طبيعيا وهكذا؟

وقد تسمى الميتافيزيقا التي هي من النوع الأول بالميتافيزيقا التأملية، والميتافيزيقا من النوع الثاني بالميتافيزيقا النقدية. ويمكن التمثيل للتأملية بالفيلسوف هيجل، وللنقدية بالفيلسوف كانط، وكلاهما ألماني من تاريخ الفلسفة الحديثة.

كلا النوعين من الميتافيزيقا عملية فكرية مشروعة إذا وقفت عند حدود إمكانها، أما الجانب غير المشروع فهو مجاوزة ذلك الإمكان، فتأتي المحاولة كالضرب في هواء. والرأي عندنا هو أن الميتافيزيقا التأملية مقبولة إذا هي وقفت - كما أسلفنا - عند مجرد إقامة البناء الفكري النظري، بأن تفرض لنفسها نقطة ابتداء، ثم تولد منها النتائج، فيكون لها بذلك بناء متسق الأجزاء شبيه بالبناءات الرياضية، ولكنها تجاوز مجرد إقامة البناء لتزعم بأنها تصور الكون كما هو موجود بالفعل، وهنا يكون موضع الخطأ، الذي يشبه الخطأ الذي تقع فيه الخرافة، حين يعلل الناس حدثا بغير علته، فيقولون مثلا: إن مرض المريض علته حين سكن الجسد المريض، أو إن موت المسافر علته نعيق الغراب فوق سطح الدار ليلة السفر، وهذا الزعم من الميتافيزيقا التأملية هو وحده الذي نرفضه ونصفه بالخرافة.

وأما أن نوجه جهودنا التحليلية نحو العلوم ونتائجها؛ لنرى متى تعوج ومتى تستقيم، وهل هي يقينية الصدق أو أنها لا تزيد في صدقها على درجة من درجات الاحتمال، فذلك ضرب من الميتافيزيقا سديد ونافع ومقبول.

إننا إذا أخذنا بوجهة النظر التي تجعل الميتافيزيقا لا محاولة لتحليل الوجود الشيئي ورده إلى مصادره الأولى، بل المحاولة لتحليل قضايا العلوم تحليلا منطقيا، بردها إلى جذورها الأولى ردا يتبين منه مدى مشروعية التركيب اللفظي الذي صيغت فيه قضية علمية معينة: أهو متسق الأجزاء بعضها مع بعض، أم هو منطو على تناقض مستتر؟ أهو تركيب في طبيعته ما يمكن الباحث من المقابلة بينه وبين ما يشير إليه من حقائق العالم الواقع، أم هو مشتمل على مفردات لغوية، وعلاقات رابطة بين المفردات، تجعل التحقق من الصواب أو الخطأ أمرا محالا؟ أقول: إننا لو أخذنا بوجهة النظر التي تجعل الميتافيزيقا تحليلا منطقيا لقضايا العلوم، انتهينا إلى فكرة رائعة بالنسبة إلى الفلسفة وطبيعة عملها، إذ يتضح لنا في جلاء أن الفلسفة ليست مطالبة بأن يكون لها قضايا خاصة بها، ولا هي مستطيعة ذلك حتى إذا أرادته لنفسها؛ لأن العلوم المختلفة - كل في ميدانه - هي وحدها المؤهلة بمناهجها للوصول إلى حقائق الكون والإنسان، وحسب الفلسفة - إذن - أن تسير وراء العلوم تتسقط أقوالها لتصب عليها ضوء التحليل المنطقي، فتكشف ما قد يكون فيها من خلل يستدعي من العلماء إعادة النظر.

وقد تسألني: ولماذا لا نترك الخبز لخبازه، فنترك للعلماء أنفسهم تحليل قضاياهم على النحو الذي تشير إليه؟ وجوابي هو: أن ذلك هو ما يحدث في معظم الحالات، ففيلسوف العلم هو نفسه - عادة - رجل العلم بعد أن استوقفته الأسس التي يبني عليها علمه، دون أن يفكر أحد من الزملاء العلماء في تحليل تلك الأسس ذاتها، لنرى من أي الجذور جاء نبتها؟ كأن يقف أحد علماء الرياضية - مثلا - ليحلل «العدد» الذي هو أساس البناء الرياضي تحليلا يبين كيف نبتت فكرة العدد في العقل؟ هل نبتت في أصولها من التجربة البشرية في فجر ظهور النوع الإنساني؟ أو هي من مقومات العقل في فطرته، ولا تحتاج إلى اكتساب من تجربة مع العالم الخارجي؟ فيكون مثل هذا البحث هو «فلسفة الرياضة».

وشيء كهذا هو ما صنعه «عمانوئيل كانط» في كتابه «نقد العقل الخالص»؛ وذلك أنه - بادئ ذي بدء - أراد أن يلتمس طريقا للبحث الميتافيزيقي يؤدي بنا إلى مثل اليقين الذي نراه في نتائج العلوم الرياضية والطبيعية، فكان منهجه في ذلك هو أن يبدأ بتحليل الوسيلة التي تؤدي بالعقل إلى الوصول إلى الحقائق الرياضية ، ثم الوسيلة التي تؤدي به إلى قوانين العلوم الطبيعية (وقد كان كانط أستاذا للعلوم الطبيعية) فلما أن فرغ من مشروعه التحليلي الضخم في ميدان الرياضة وميدان العلوم الطبيعية، ووصل إلى ما وصل إليه من نتائج؛ أدرك أن ذلك التحليل نفسه لقضايا العلم بشطريه الرياضي والطبيعي هو الميتافيزيقا، بعد أن كان يظن في البداية أنه إنما قام بذلك التحليل ابتغاء الكشف عن المنهج القويم الذي يعالج به موضوع الميتافيزيقا بعد ذلك، وتلك هي ما أسميناها بالميتافيزيقا النقدية، في مقابل الميتافيزيقا التأملية. ونحن نقر الأولى ونرفض الثانية للسبب الذي ذكرناه فيما سبق.

4

ونضيف الآن سببا آخر، يدعونا لرفض الميتافيزيقا التأملية، وهو أن عباراتها - بحكم طبيعة الموضوع - تشتمل دائما على حدود لا يكون لها معنى إلا في مجالها، فإذا قلنا عن أنواع الجملة إنها ثلاثة من ناحية كونها صادقة حتما، أو باطلة حتما، أو أنها مما يحتمل الصدق والكذب، وجدنا الجملة الميتافيزيقية لا تندرج تحت أي قسم من هذه الأقسام.

الجملة الصادقة حتما هي التي تكرر المفهوم الواحد مرتين في صورتين مختلفتين: إحداهما تحلل مضمون الأخرى، كأن تقول 2 + 2 = 4، والكل أكبر من أي جزء فيه؛ والجملة الباطلة حتما هي التي ينقض شطرها الثاني شطرها الأول، كأن تقول إن المثلث لا تحيط به ثلاثة أضلاع؛ والجملة التي تحتمل الصدق والكذب هي الجملة التجريبية، كأن تقول إن جبل الهملايا صخوره بركانية. وعلى ضوء هذا التقسيم للقضايا من حيث صدقها أو كذبها، انظر إلى جملة من النوع الذي تورده الميتافيزيقا التأملية في سياقها، وسنختار جملة قد تبدو للقارئ أنها دالة على معنى من جهة، وأن معناها هذا صحيح من جهة أخرى؛ لكثرة ما ألف القارئ سماعها وسماع أمثالها، وهي «الخير غاية الوجود»، وهكذا قال أفلاطون حين جعل مثال الخير قمة لسائر المثل، فكأنما المثل جميعا تتجه نحو الخير باعتباره غاية الغايات.

انظر إلى هذه الجملة؛ فهل هي من الجمل التحليلية التي نجزم بصوابها بحكم بنائها اللغوي نفسه، كما حكمنا على جملة «الكل أكبر من أي جزء فيه »؟ كلا، إنها ليست كذلك؛ لأن تحليلنا «للخير» لا يتضمن أن جزءا من معناه الضروري هو أن يكون غاية الوجود، فهل الجملة محتومة البطلان بحكم تركيبها اللغوي، كما حكمنا بذلك على جملة «المثلث ليس محوطا بثلاثة أضلاع»؟ كلا؛ لأن «الخير» و«غاية الوجود» ليس بينهما تناقض داخلي يجيز لنا أن نحكم ببطلان الصلة الإيجابية بينهما. أفنقول إذن إن الجملة من النوع التجريبي الذي يكون مرد الحكم بصوابه أو خطئه إلى التجربة؟ كلا مرة ثالثة؛ لأنه إذا جاز لنا الزعم بأننا نعرف حقيقة الخير من خبرتنا بالحياة، فليست «غاية الوجود» جزءا من تلك الخبرة، أي إنه محال علينا أن نجد في دنيا التجربة ما يؤيد أو ما ينفي أن يكون الخير غاية للوجود؛ فما معنى ذلك كله؟ معناه هو أن الجملة الميتافيزيقية إذا انتزعت من سياقها الذي وردت فيه، وجدناها غير صالحة للحكم عليها بصدق أو بكذب، أي إنها ليست قضية منطقية على الإطلاق، إذ إن تعريف القضية المنطقية هو أنها ما يمكن الحكم عليه بالصدق أو بالكذب، وبهذا تكون الجملة الميتافيزيقية خالية من المعنى.

5

وهنا لا بد من وقفة قصيرة نشرح فيها ما نريده عندما نقول إن العبارة الميتافيزيقية من النوع التأملي، هي عبارة بغير معنى؛ إذ إن العبارات ذوات المعنى لا تخرج عن أن تكون واحدة من صنوف ثلاثة أسلفنا ذكرها، على حين أن العبارة الميتافيزيقية - وضربنا مثلا لها عبارة «الخير غاية الوجود» - لا تندرج تحت أي صنف من الأصناف الثلاثة، أقول: لا بد لنا هنا من وقفة قصيرة شارحة؛ لأن القارئ يغلب عليه أن يقف ذاهلا أمام قولنا إن جملة «الخير غاية الوجود.» بغير معنى، إذ هو يشعر بينه وبين نفسه أنه يفهم معناها أوضح الفهم.

ففكرة «المعنى» وما يقصد به، هي من أهم ما شغل الفلاسفة المعاصرين، إلى الحد الذي جعل بعضهم يذهب إلى أن تعريف الفلسفة هو أنها «تحديد المعاني»، وإن الرأي عند هؤلاء الفلاسفة ليتشعب عند تحليلهم لمعنى كلمة «معنى»، فمنهم من جعل معنى اللفظة المعينة هو «الشيء» الحسي نفسه الذي تشير إليه اللفظة؟ ومنهم من وجد مثل هذا التحديد أضيق جدا من أن يشمل جميع الحالات، فقال إن «المعنى» هو «التصور الذهني» (أي المفهوم) الذي تشير إليه اللفظة، ثم لحظ فريق ثالث بأن هذه التحديدات تقتصر على اللفظة وهي «اسم» قائم وحده، على حين أن الأهم هو «الجملة» فقالوا إن الجملة ذات «المعنى» هي تلك التي تتضمن بطريقة مفرداتها وتركيبها إمكان التحقق العملي من صدقها، وإلا فهي جملة بغير معنى.

وهذا هو موقفنا عندما زعمنا أن الجملة الميتافيزيقية التأملية بغير معنى، وإلا فكيف يكون التحقق من صدق قولنا «الخير غاية الوجود»؟ وما الفرق - من هذه الناحية - بين هذا القول والقول الذي ينقضه فيزعم أن الشر هو غاية الوجود؟ كلا القولين سواء في عدم قابليتهما للتحقق من صدق أيهما أو كذبه، فلا يبقى أمام السامع أو القارئ - في هذه الحالة - إلا أن يحتكم إلى «شعوره»، (لا إلى منطق العقل)؛ ليرى مع أي القولين يشعر بالرضى.

وها هنا تبرز نقطة ذات أهمية خاصة، هي الألفاظ الدالة على «قيم» أخلاقية وجمالية، فلئن كان القارئ العادي لا يكاد يعبأ بما نقوله عن «المطلق» و«الوجود» و«الصورة» وما إلى هذه المعاني الفلسفية المجردة، فهو شديد الحساسية لما نقوله عن الألفاظ الدالة على قيم الأخلاق بصفة خاصة؛ ولذلك كان من بين المواضع التي استثارت نفوس الذين وجهوا النقد إلى الطبعة الأولى من هذا الكتاب ما ورد عن «القيم» من أنها معدودة بين المفاهيم الميتافيزيقية التي رفضنا أن يكون لها معنى خارج البناءات الفكرية التي وردت فيها؛ فأخذت هؤلاء الناقدين ظنون بأن في مثل ذلك القول تنكرا للأخلاق نفسها.

وحقيقة الموقف بعيدة عن ظنونهم تلك بعدا شاسعا، فلسنا نعرف ضربا واحدا من ضروب الفكر الفلسفي تنكر للقيم الأخلاقية والجمالية في ذاتها، ولكن الأمر أمر تحليل يكشف عن طبيعتها، وفرق بعيد بين أن تقول عن شيء ما إنه «غير موجود» وبين أن تقول عنه إنه موجود، وحقيقته هي كذا وكذا؛ والذي نزعمه عن أي لفظ يشير إلى قيمة أخلاقية أو جمالية، هو أن دلالة ذلك اللفظ ليست جزءا من الواقع الخارجي، ولكنها كائنة في طوية الإنسان وتظهر عندما ينفعل ذلك الإنسان بما يراه في مجرى الأحداث الخارجية، فإذا هو رأى جنديا من بني وطنه يقتل رجلا من جيش العدو في ساحة القتال، وحكم على الفصل بأنه «شجاعة» تستحق الثناء، فإنما جاء الحكم من الطريقة التي ينظر بها صاحب الحكم إلى الموقف الذي رآه وحكم عليه بأنه شجاعة محمودة، وقد يرى شخص آخر ذلك الموقف نفسه، بعين أخرى تمقت الحروب على إطلاقها، فيحكم على الفعل بأنه نذالة وهمجية، ومعنى هذا كله هو أن القيم الأخلاقية والجمالية هي ضرب من «الرؤية» التي توحي بها ثقافة الشخص الذي يطلق تلك القيم على المواقف؛ فليس الاختلاف على قيمة الشجاعة في ذاتها، بل الاختلاف على ماهية الموقف الذي يستحق أن تطلق عليه هذه القيمة.

6

نقطة أخيرة أقدمها إلى القارئ؛ ابتغاء مزيد من التوضيح؛ وأتمنى لو أنه كان في مستطاعي أن أقدمها مكتوبة بمصابيح «النيون» الساطعة بنورها؛ ليراها الأعشى والمبصر على السواء؛ لأنها كانت مصدرا لخلط عجيب؛ وتلك هي أن كل ما أكتبه في سبيل التجريبية العلمية، إنما يقصد به مجال واحد من مجالات القول - وهي كثيرة - وأعني به مجال «العلم» بمعناه الطبيعي التجريبي، ولم يقل أحد بأن اللغة لم تخلق إلا لهذا المجال العلمي وحده، فهنالك مجالات الشعر والنثر الأدبي، وشتى صنوف التعبير الوجداني على اختلافها، بل ومجال السحر والخرافة وأساطير الأولين. نعم، هنالك هذه المجالات كلها، وبديهي أننا إذ نشترط شروطا خاصة للعبارة العلمية كي تكون مقبولة على أسس منطقية تجعل لها «معنى» قابلا للتحقيق، بحيث يمكن الحكم عليها بالصواب أو بالخطأ، لم نكن نريد أن تطبق تلك الشروط على قصيدة الشعر أو على قصة بناها الخيال. فلكل صنف من صنوف القول الأخرى - التي ليست من صنف التفكير العلمي - معياره الخاص به، فللشعر الجيد معياره، ولأي جنس أدبي غير الشعر معياره، وهي معايير تختلف كل الاختلاف عن معيار المنطق العقلي الذي تضبط به مناهج القول في دنيا العلوم.

إنه إذا تحدث إلينا متحدث بخبر يرويه عن «هاملت» أو عن مصباح «علاء الدين»، وأردنا أن نتحقق من صدق روايته، فلن يكون سبيلنا إلى التحقيق هو الرجوع إلى عالم الطبيعة بأشيائها وكائناتها بحثا عن رجل اسمه «هاملت» بين الرجال، أو عن شاب ذي مصباح سحري بين الشباب، ولو فعلنا لما وجدنا، فهل نقول عندئذ إن الجملة التي رواها المتحدث عن هاملت أو عن علاء الدين مرفوضة؛ لأنها ليست بذات «معنى» ما دام العالم الواقعي لا يشتمل على موضوع الحديث؟ كلا، بل إننا في هذه الحالة نرجع إلى العالم الخاص بكل موضوع على حدة، فترجع بالنسبة لهاملت إلى رواية شيكسبير المعروفة، كما نرجع بالنسبة لمصباح علاء الدين إلى الحكاية الخاصة به بين حكايات ألف ليلة وليلة، وهناك نراجع حديث المتحدث على ما ورد في عالمه الخاص.

لكن الأمر يختلف إذا ما كان الخبر المروي لنا خبرا عن حقيقة من حقائق العالم المادي من حولنا، كأن يقال لنا - مثلا - شيء عن أشعة الضوء وسرعتها وزوايا انكسارها، أو خبر عن مياه البحر الأحمر، أو رياح الخماسين في مصر؛ فها هنا يتجه التحقيق العلمي نحو الواقع الطبيعي بكل ما لدى الإنسان من حواس أو أجهزة تعين تلك الحواس على دقة الإدراك.

ولما كان موضوع اهتمامنا في هذا الكتاب هو التفرقة بين ما يجوز قبوله وما لا يجوز قبوله في مجال القول «العلمي» وحده - دون سائر المجالات - قصرنا معاييرنا على موضوع اهتمامنا، فلم نسلم من هجمات الناقدين الذين لم يكن لهم من دقة النظر ما يفرقون به بين مجال أردناه ومجالات أخرى لم نردها، حدثناهم حديثا عن زيد، فراحوا يلتمسون التطبيق على عمرو؛ فلما لم يجدوا التطبيق مواتيا؛ وجهوا التهمة إلى مؤلف الكتاب لا إلى أنفسهم.

أما بعد، فقد رأيت أن أستبدل بعنوان الكتاب في طبعته الأولى - وكان «خرافة الميتافيزيقا» - عنوانا آخر هو «موقف من الميتافيزيقا»؛ لعل هذا العنوان الجديد أن يكون أخف وقعا على الأسماع، وأقرب إلى الموضوعية والحياد.

وبالله التوفيق.

زكي نجيب محمود

الجيزة في نوفمبر 1982م

مقدمة

تنعكس صورة العصر على أقلام الكتاب والمفكرين بإحدى طريقتين، فهؤلاء الكتاب والمفكرون إما أن يصوروا واقع الحياة من حولهم تصويرا أمينا، بحيث يبدو على صفحات كتبهم وجه الحياة القائمة كما هو بملامحه ومعالمه وقسماته ولمحاته، أو أن يصوروا هذا الواقع بالثورة عليه ومحاولة قلب أوضاعه. وعندئذ يستطيع القارئ أن ينظر إلى صفحات الكتاب، لا ليرى وجه الحياة كما هو، بل ليستدله استدلالا من الصورة الكاملة التي خلقها صاحب الكتاب بفكره، ليصلح بالكمال الذي رسمه بقلمه، نقص الحياة الشائعة التي يريد تقويمها وإصلاحها؛ فالصورة في هذه الحالة الثانية لا تصور الشبيه بشبيهه، بل تدل على الشيء بالإشارة إلى نقيضه، فلو كان الناس يعيشون - مثلا - في عصر تسوده القسوة والشدة والعنف، كان الأرجح أن يكتب بعض المفكرين داعين إلى اصطناع الرحمة والرفق والتسامح، وإن كانوا يحيون في عصر يسوده التراخي وميوعة العواطف، فالأرجح كذلك أن يجيء تفكير المفكرين في جملته أميل إلى دعوة الناس إلى شيء من التماسك والصلابة والشدة؛ ومن قبيل ذلك أنه إذا انزلق قوم مع نعومة الإيمان الساذج وطراوته؛ ظهر المفكر الذي يدعوهم إلى التشكك والتعقل كما فعل ديكارت في عصره، وكذلك إن غلا القوم في تقييد أنفسهم بشكائم العقل ومنطقه؛ ظهر المفكر الذي يثير فيهم الوجدان الشاعر والقلب النابض الحساس، كما فعل روسو رادا على فعل فولتير وتابعيه.

وعقيدتي هي أن عصرنا هذا في مصر بصفة خاصة، يسوده استهتار عجيب في كل شيء، والذي يهمني الآن ناحية خطيرة من نواحي حياتنا، هي ناحية التفكير والتعبير؛ فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أدنى الشعور بأنه مطالب أمام نفسه وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سندا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي.

فلو كان هذا «الارتجال» الحر الطليق من قيود الواقع وشكائمه مقصورا على جوانب هينة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يبذل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد، بحيث أصبح أمرا مألوفا أن نرى الحاكم عندنا يحكم الناس بلا عد أو حساب، والاقتصادي يصدر في مشروعاته عن غير إحصاء وأرقام، والعالم يقول القول بلا سند أو دليل.

وهذه كلها - في حقيقة الأمر - فروع تفرعت عن مشكلة أعم وأضخم، هي مشكلة الأخلاق التي أحاطت بحياتنا الفردية والاجتماعية من جميع جهاتها، فتراها بادية في مظاهر لا تخطئها العين المسرعة العابرة؛ وهل من سبيل أمام الرائي أن تخطئ عينه هذا الاستخفاف الشامل، الذي رفع عن كواهل الناس كل شعور بالتبعة فيما يقولون وما يفعلون؟ لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، وكدت أقول ألا فرق بين عالم وجاهل، فهو استخفاف بكل شيء، قد تغلغل في ثنايا حياتنا، واصطبغت بلونه دنيانا بكل ما فيها من جليل وتافه، حتى أصبح المتعقب للحق - على عسر الطريق ومشقته - هو الحقيقي منا بالسخرية والضحك. •••

وهذا كتاب يتشدد في الشروط المفروضة على المتكلم الجاد إذا ما نطق بعبارة أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين؛ فلئن كانت الفلسفة في هذا الكتاب مدار الحديث، وإن كانت الميتافيزيقا هدف النقد والهدم، فما ذلك إلا لنضع منوالا أمام القارئ ينسج عليه عباراته، ومقياسا يميز به ما يصلح أن يكون قولا علميا مقبولا وما لا يصلح، نعم إنه واجد ها هنا شروطا تضيق مجال القول إلى حد بعيد، لكن ما حيلتنا إن كان القول الصادق لا يجاوز هذا المجال الضيق الضئيل؟!

وإني أصارح القارئ منذ فاتحة الكتاب، بأنه مقبل على صفحات لم تكتب للتسلية واللهو، لكنه إن صادف في دراسته الكتاب شيئا من العسر والمشقة - وبخاصة في الفصول التي تناولت فن التحليل الفلسفي، وهي الفصول الثلاثة الأخيرة - فأملي أن يجد بعد ذلك جزاء ما تكبد من مشقة وعسر، وجزاؤه هو أن يلم بطرف رئيسي هام من التفكير الفلسفي المعاصر، لعله بذلك أن يشارك أصحاب الفكر في عصره تفكيرهم، وتلك هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها أمام الإنسان ليحيا في العصر الذي أراد له الله أن يعيش فيه.

سيجد القارئ في الفصل الأول من هذا الكتاب عرضا وتأييدا للفكرة القائلة بأنه لا يجوز للفيلسوف أن يقول جملة واحدة يحاول بها أن يصف الكون أو أي جزء منه، وكل مهمته أن يحلل العبارات التي يقولها العلماء في أبحاثهم العلمية والناس في حياتهم اليومية، تحليلا يبين مكنون هذه العبارات؛ حتى نطمئن جميعا إلى سلامة ما يقال؛ إذ هي مهزلة المهازل أن يجلس الفيلسوف على كرسيه في عقر داره مسندا رأسه على راحتيه، زاعما لنا ولنفسه أنه يفكر في حقيقة العالم، كأنما العلماء أمام مخابيرهم وموازينهم ومقاييسهم يلهون ويعبثون ولا يبحثون عن حقيقة العالم بحثا هو أجدى على الناس من ألف ألف رسالة فلسفية في هذا السبيل.

وفي الفصل الثاني بحث في الفلسفة النقدية عند «كانت» أردت به أن أسوق للمشتغلين بالدراسات الفلسفية مثلا فنيا للتحليل الفلسفي كيف بلغ حدا بعيدا من الدقة والعمق على يدي رجل من أضخم رجال التحليل في تاريخ الفكر كله، فإن وجد القارئ العادي مشقة في تتبع هذا الفصل، فليتركه حينا حتى تتهيأ له الدراسة التي تعينه على ذلك، ولن يؤثر هذا أثرا ملحوظا في تتبعه الفكرة الرئيسية التي كتب الكتاب من أجلها.

وفي الفصل الثالث تحديد للميتافيزيقا بالمعنى الذي نرفضه، وقد حددناها بأنها مجموعة العبارات التي تحتوي على كلمات لا ترمز إلى شيء مما تقع عليه حواس الإنسان فعلا أو إمكانا. ويجيء بعد ذلك الفصل الرابع على سبيل التطبيق؛ إذ جعلناه خاصا بالبحث في الجمل التي يعبر بها قائلوها عن «القيم» الأخلاقية والجمالية، وقد بينا أن أمثال هذه العبارات فارغة من المعنى، فكل عبارة يقولها قائلها ليحكم على فعل بأنه خير أو على شيء بأنه جميل، إن هي إلا تعبير منه عن ذات نفسه، ولا تدل في العالم الواقع على شيء، وبالتالي لا يجوز أن تكون موضعا للنقاش والجدل؛ لأن العالم الخارجي - عالم الأشياء - لا خير فيه ولا جمال، كما أنه لا شر فيه ولا قبح، فهذه كلها كلمات دالة على شعور المتكلم نحو الأشياء من حب لها أو كراهية، بحكم تربيته ونشأته.

وأما الفصول الثلاثة الأخيرة، فكلها عرض لطرائق التحليل عند الفلاسفة المعاصرين؛ لأننا إذ نرفض ما نرفضه من عبارات، لا نبني ذلك على ميول وأهواء، وإنما نرفضه على أساس تحليل هذه العبارات المرفوضة نفسها تحليلا يدل على أنها فارغة لا تعني شيئا ولا تدل على شيء.

هذا هو الكتاب الذي أقدمه للقراء عامة، والمشتغلين بالدراسات الفلسفية بصفة خاصة، والأمل يحدوني أن يجيء عاملا متواضعا من جملة العوامل الكثيرة التي تؤثر في توجيه الفكر العربي، وسأعد القارئ صديقا إن أيد وجهة النظر التي عرضتها في الكتاب أو عارضها؛ لأنه في كلتا الحالين سيخرج متأثرا بما قرأ.

زكي نجيب محمود

القاهرة في أبريل 1953م

الفصل الأول

الفلسفة تحليل

1

ألف الناس أن ينظروا بالمنطق ذي القيمتين إلى القول يقوله القائل ليخبر به خبرا؛ أي إنهم قد ألفوا أن يحكموا على الخبر يأتيهم به المتكلم بأحد شيئين: فهو عندهم إما صواب أو خطأ، ولا ثالث لهذين الفرضين؛ حتى جاء المناطقة المحدثون، فأضافوا إلى هذين الحكمين التقليديين حكما ثالثا، هو أن يكون القول كلاما فارغا لا يحمل إلى السامع معنى، فلا يجوز وصفه عندئذ بصواب أو خطأ، وبالتالي لا يجوز أن يكون موضع أخذ ورد وبحث ومناقشة؛ فقولنا عن العدد 2 مثلا: إنه زوجي، قول صحيح، وقولنا عنه: إنه فردي، قول خاطئ، وأما قولنا عنه: إنه «عدد أبيض» فكلام فارغ لا يكون صوابا ولا خطأ.

والفرق واضح بين الكلام الخاطئ والكلام الفارغ، فالأول يرسم لنا صورة إلا أنها لا تصور الحق، والثاني لا يصور شيئا؛ فإذا قلت لك: إن المصريين عددهم خمسون مليونا من الأنفس، فقد قلت لك خبرا مكذوبا، بمعنى أني قد صورت لك به صورة لا تطابق حقيقية الواقع، فأنت تستطيع أن تتصور حالة يكون عدد المصريين فيها خمسين مليونا، لكنك إذا أردت أن تراجع الحالة الواقعة فعلا بالصورة التي رسمتها لنفسك ؛ ألفيت بين الصورتين اختلافا، وفي هذا يكون المعنى الخطأ، إذ نقول عن الخبر: إنه خاطئ؛ أما إذا قلت لك: «إن المصريين عددهم أرباع مجسمة.» فقد قلت لك كلاما فارغا خاليا من المعنى، على الرغم من أن كل كلمة على حدة لها معناها الخاص المعلوم إذا ما وضعت في سياقها الصحيح، فمثل هذا الكلام الفارغ لا يقال عنه إنه خطأ؛ لأننا قد اصطلحنا على أن يكون معنى الخطأ اختلافا بين الصورة التي يرسمها الكلام وبين الحالة الواقعة فعلا، فماذا لو كان القول لا يرسم صورة كائنة ما كانت؟ عندئذ لا تكون موازنة بين الحالة الواقعة وبين صورة ما؛ وبالتالي لا يكون حكم بخطأ، دع عنك أن يكون الحكم بصواب.

وقد يجوز للقول الخاطئ - في حقيقة أمره - أن يعتقد في صوابه أحد الناس فيدافع عنه، وفي مثل هذه الحالة يحق - طبعا - لمن شاء أن يرد هذا المخطئ عن خطئه. أقول: إن ذلك جائز الحدوث؛ لأن هنالك حالة واقعة فعلا، لا تعتمد في واقعيتها على عقيدة المتكلم الأول ولا على عقيدة المتكلم الثاني، وسبيل المناقشة بين الخصمين هو أن يحاول كل منهما أن يفتح عين زميله على تلك الحالة الواقعة؛ لكي يبصره بحقيقة تفصيلاتها، فمن وجد منهما أن كلامه عنها لم يكن صورة صادقة مطابقة لتلك التفصيلات؛ عرف أنه أخطأ، ثم ارتد إلى الصواب. فافرض مثلا أن هنالك حالة واقعة فعلا، هي أن الطمي الذي يحمله النيل في فيضانه أثناء الصيف، آت من هضبة الحبشة، ثم افرض إلى جانب ذلك رجلين: أحدهما «يعتقد» في صدق العبارة الآتية: «النيل ينقل الطمي أيام الفيضان من أوغندة»، والثاني يعلم أن ذلك قول خاطئ، ويريد أن يرد صاحبه إلى الصواب؛ ها هنا يكون مدار المناقشة بين الرجلين هو الحالة الواقعة فعلا، والتي لا تعتمد واقعيتها على عقيدة أي منهما، وقد يستطيع الثاني أن يفتح عين الأول على تلك الحالة الواقعة، فيعلم أن الصورة التي كان رسمها بقوله: إن النيل ينقل الطمي من أوغندة، لا تطابق الواقع فيرتد عنها إذا أراد لنفسه صوابا.

من ذلك ترى أن المناقشة جائزة حين يكون القول خاطئا، لكنها ليست بذات موضوع إذا كان كلام المتكلم فارغا؛ لأنه لن يكون هنالك «صورة» مرسومة بالكلام، حتى نستطيع أن نوازن بين الأصل وصورته، لنرى إن كان بينهما تطابق أو لم يكن؛ هبني زعمت لك «أن المصريين أرباع مجسدة» فماذا أنت قائل إزاء هذا الزعم تأييدا أو تفنيدا؟ لا شيء؛ لأن الكلام لم يرسم صورة يمكن مقارنتها بأصل هناك، فلا تأييد ولا تفنيد. أعني أن المناقشة تنتفي من أساسها.

والغاية التي يهدف إليها هذا الكتاب، هي أن يبين أن «الميتافيزيقا»

1

كلامها كله فارغ من هذا القبيل، لا يرسم صورة، ولا يحمل معنى؛ وبالتالي لا يجوز فيها البحث واختلاف الرأي، فلو أردنا أن نقصر كلامنا على ما يكون له معنى؛ وجب اطراح الفلسفة التأملية - وهو اسم آخر نطلقه على الأبحاث الميتافيزيقية - وما يدور مدارها من صنوف التفكير، بحيث لا يبقى بين أيدينا في دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية والرياضة.

2

إنني لأرجو أن يتبين القارئ في وضوح خلال قراءته لهذا الكتاب، أن «المشكلات الفلسفية» المزعومة إنما نشأت من طريقة استعمال «الفلاسفة» للألفاظ والعبارات؛ إذ تراهم يستخدمون الألفاظ والعبارات على نحو يختلف عن الطريقة التي اتفق الناس فيما بينهم - اتفاقا مفهوما بالعرف - على أن يستخدموا بها تلك الرموز اللغوية، وبذلك تنشأ عبارات ليست بذات معنى مفهوم، وقد لا يظهر فيها هذا الجانب إلا بعد تحليل، فتؤخذ عند فلاسفة الميتافيزيقا على أنها «مشكلات» تستدعي التفكير والتأمل، وتنتظر الحل والجواب؛ والحق أنها أخلاط من رموز لا تدل على شيء ألبتة، فإذا استوجبت منا شيئا فهو حذفها حذفا من قائمة الكلام المقبول؛ يقول «وتجنشتين»: «معظم ما كتب من قضايا وما سئل من أسئلة عن الموضوعات الفلسفية، ليس باطلا فحسب، بل خاليا من المعنى؛ فلسنا نستطيع لذلك أن نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقا، وكل ما نستطيعه حيالها هو أن نقرر خلوها من المعنى. إن معظم أسئلة الفلاسفة وقضاياهم ناتجة عن عدم فهمنا لمنطق لغتنا ... فلا عجب إذن أن تكون أعمق مشكلاتهم ليست بمشكلات.»

2

إن الكلمات والعبارات التي تتألف منها اللغة: رموز اصطلح الناس على استخدامها بطريقة معينة ليتم التفاهم، فإذا وجدنا عبارة لا تؤدي هذا الذي خلقت من أجله، أعني لو وجدنا عبارة قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تبين أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقل إلى السامع شيئا، كان حتما علينا أن نرفض قبولها جزءا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.

على أن الكلام لا يكون مفهوما عند السامع، إلا إذا كان في مستطاع هذا السامع أن يتصور طريقة لتحقيقه وتصديقه إذا أراد؛ فإذا قلت لصاحبي: «إن في هذا الصندوق أربع برتقالات.» ثم إذا كان صاحبي هذا متفقا معي على مدلولات «صندوق» و«أربعة» و«برتقالة» - فضلا عن مدلولات الكلمات البنائية «إن» و«في» و«هذا» - كان في إمكانه أن يحقق هذا الذي أزعمه له، فإن وجد القول مطابقا للواقع صدقه، وإلا فهو قول كاذب، وفي كلتا الحالين - حالتي صدقه أو كذبه - يكون القول كلاما مفهوما؛ لأنه رسم لسامعه الصورة التي يتوقع أن يجدها في عالم الواقع.

لكن قارن هذا بكل من العبارتين الآتيتين: (1)

إن في هذا الصندوق أربع مشقرات. (2)

الإنسان حرارة لها زاويتان قائمتان.

تجد أن العبارة الأولى غير ذات معنى؛ لاحتوائها على كلمة «مشقرات» التي لا مدلول لها فيما اتفق عليه الناس من رموز دالة، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجد في الصندوق إذا أراد أن يتثبت من صدق ما قاله القائل، والعبارة الثانية غير ذات معنى كذلك، على الرغم من أن كل لفظة منها ذات مدلول متفق عليه؛ لأن الألفاظ قد وضعت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنى؛ فماذا أنت صانع مثل هاتين العبارتين لو صادفتهما فيما تقرأ أو تسمع؟ إنك لن تتردد في حذفهما وإهمال شأنهما؛ لأنه من العبث أن تقف عندهما متفكرا متدبرا.

ونحن زاعمون لك الآن أن كل عبارة ميتافيزيقية هي من أحد هذين النوعين؛ فهي إما مشتملة على كلمة أو كلمات لم يتفق الناس على أن يكون لها مدلول بين الأشياء المحسوسة، أو مشتملة على كلمة أو كلمات اتفق الناس على مدلولاتها، لكنها وضعت في غير السياق الذي يجعلها تفيد معناها؛ وإذن فالعبارات الميتافيزيقية فارغة من المعنى، وليس لنا بد من حذفها.

3

وانظر إلى هذه الأمثلة الآتية مما يقوله الميتافيزيقيون، نسوقها لك متعجلين؛ ليتضح المعنى المراد، على أننا سنعود في بقية الكتاب إلى تفصيل القول في طرائق التحليل التي تكشف لنا عن خبيء العبارات الميتافيزيقية؛ لأنه كثيرا جدا ما نتوهم للوهلة الأولى أن عبارة معينة ذات معنى مفهوم، حتى إذا ما حللتها وأمعنت في تحليلها؛ وجدتها منطوية على خلاء، بل على ما هو شر من الخلاء؛ لأنها تخدع خديعة إيجابية حين توهمنا أنها ذات معنى ودلالة، وقد يستتبع معناها الوهمي كثيرا من أوجه النشاط والعمل، والأمر كله ضلال في ضلال. •••

فليس على الفيلسوف الميتافيزيقي من بأس في أن يقول مثلا: إن «الروح عنصر بسيط.»

4

كما قد يقول زميله العالم إن «الذهب عنصر بسيط»، لكن زميله العالم حين يقول ذلك عن الذهب، فإنما يقوله وأنابيب المعامل تحت يديه، وهناك قطعة الذهب، فيظل يحاورها بتجاربه أمام المشاهدين، حتى لا يجد أحد بدا من التسليم بأن قطعة الذهب ستظل ذهبا، ولا تتحلل إلى عناصر أخرى، وبهذا يكون الذهب عنصرا بسيطا، وبهذا نفسه أيضا يتحدد معنى كلمتي «عنصر بسيط»، وهو ألا يكون الشيء قابلا للتحلل إلى أجزاء مختلفة الخصائص، فأي جزء منه كأي جزء آخر. أما صاحبنا الفيلسوف حين يقول القول نفسه عن «الروح»، فهو يستحل لنفسه ألا يتقيد بهذه الضوابط والمراجعات، فلا أنابيب هناك ولا معامل ولا «روح» بين أصابعه، إنه نطق بصوت زاعما أنه رمز يرمز إلى شيء بين الأشياء، ثم زعم أن ذلك الشيء المرموز له من صفاته أنه لا يتحلل إلى أجزاء مختلفة، بل مهما حللته وجدت أجزاءه متشابهة بعضها مع بعض. هذا جميل، ونريد الآن أن نعرف مدى صدق هذا الزعم، فأول ما نلتمسه في هذا السبيل، هو أن نمسك بذلك الشيء لنخبره، فلا نجده بين الأشياء؛ ماذا حلل فيلسوفنا - إذن - فوجده متشابه الأجزاء؟ أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «روح» ثم راح يزعم له الصفات؟ إن موضع الجدل الآن ليس هو أن يقال عن الروح بسيطة كالذهب أو مركبة كالبرونز، بل هو أن الشيء الذي يوصف بالبساطة أو يوصف بالتركيب، ليس كائنا بين الأشياء؛ فما الفرق بين أن تقول «إن الروح عنصر بسيط.» وأن تقول «إن السوح عنصر بسيط.» حين يكون لفظ «السوح» رمزا لغير مرموز له؟ أنا في كلتا الحالين صفر اليدين من الشيء المراد تحليله لمعرفة بساطته أو تركيبه. ولما كان الكلام المفهوم - كما قدمنا - هو وحده الكلام الذي يمكن التحقق من صدقه أو كذبه، كانت العبارة السابقة بغير معنى، وكان الزعم بأنها «مشكلة» فلسفية ناشئا من استخدام رمز بغير مدلول.

احذف كلمة «روح» وضع الرمز «س»، وقل «س عنصر بسيط»، ثم اشترط أن يكون معنى بساطة العنصر ألا يتحلل إلى أجزاء من غير نوع واحد، ثم حاول أن تحكم بالصدق أو بالكذب على عبارة «س عنصر بسيط»، تجد حكمك هذا مستحيلا ما لم تعرف أولا أي شيء بين الأشياء ترمز إليه «س»، فإن وضعنا مكان «س» كلمة «هواء» وقلنا: «الهواء عنصر بسيط»، كان الكلام كاذبا؛ لأن الهواء مركب من أكثر من عنصر واحد، وإن وضعنا مكان «س» كلمة «أوكسجين» وقلنا «الأوكسجين عنصر بسيط»؛ كان الكلام صادقا؛ لأن الأوكسجين لا يمكن تحليله إلى أجزاء تختلف بعضها عن بعض؛ وفي كلتا الحالتين السابقتين يكون الكلام مفهوما؛ لأننا وجدنا الشيء الموصوف بالبساطة كذبا في الحالة الأولى، وصدقا في الحالة الثانية. لكن ضع مكان «س» كلمة «سوح» وقل «السوح عنصر بسيط»، فهل تستطيع الحكم بصدق أو بكذب قبل أن تعرف ماذا عسى أن يكون هذا «السوح»؛ لتأخذ في تحليله ومعرفة بساطته أو تركيبه؟ وإن كان ذلك كذلك، فالأمر نفسه يقال عن عبارة «الروح عنصر بسيط»، هذا كلام فارغ من المعنى؛ لأن فيه رمزا لا يشير إلى مرموز له بين عالم الأشياء، فلا إشكال هناك فيما عدا مجاوزة المتكلم حدود الكلام المفهوم. يقول «ريودلف كارناب»

5

في ذلك ما يلي: «لو تقدم لك عالم بقضية لا يمكنك أن تستنبط منها ما عساك أن تدركه بالحس، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ افرض مثلا أنه زعم لك أن الأجسام ليست فقط تتأثر في مجال الجاذبية تبعا لقوانين الجاذبية المعروفة، بل أضاف إلى ذلك زعما آخر، وهو أن للأجسام مجالا آخر تتأثر فيه أيضا، وهو مجال «اللاذبية»؛ فإذا سألته: ماذا عساي أن أشاهد في ظواهر الأجسام مما ينتج عن هذا المجال «اللاذبي» تبعا للنظرية المزعومة؟ وأجاب بأنه ليس هناك أثر مما تمكن مشاهدته بالحواس، أو بعبارة أخرى إذا سألته هذا السؤال فاعترف بعجزه عن تقديم طريقة معلومة يمكننا بمقتضاها أن نعلم ما يمكن مشاهدته بالحس مما يطرأ على الأجسام في مجالها «اللاذبى»، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ لا شك أنك ستقف من كلامه موقفك من الكلام الذي يتخذ صورة الكلام وليس منه، إن كلامه فارغ لا يتحدث به عن شيء قط.» •••

وليس على الفيلسوف من بأس - مثلا ثانيا - في أن يسأل: «هل المعاني الكلية التي في الذهن يقابلها أو لا يقابلها مسميات في العالم الخارجي؟»

6

كما يسأل زميله الاقتصادي: هل أوراق النقد التي في السوق يقابلها أو لا يقابلها رصيد من الذهب في خزائن المصارف؟ لكن العالم الاقتصادي حين يسأل سؤاله، يعرف كيف تكون الوسيلة إلى جوابه؛ فهذه هي أوراق النقد نراها ونلمسها ونعلم أن عددها كذا وقيمتها المكتوبة عليها كيت، وهذا هو رصيد الذهب ووزنه كذا وقيمته كيت، وإذن فأوراق النقد تساوي رصيد الذهب في القيمة أو لا تساويه. وأما الفيلسوف فيسأل سؤاله وليس هنالك أمامه «معان كلية» يستطيع لها وزنا أو قياسا. إنه يحاول أن يوازن بين طرفين، مع أن أحد الطرفين لا وجود له ولا يمكن أن يكون له وجود في عالم الأشياء؛ لأن عالم الأشياء مؤلف كله من جزئيات، لكل جزئي منها مكانه وزمانه، وأما «المعنى الكلي» فليس هناك ، ليس هو على المقاعد ولا في الخزائن؛ فكيف أبحث عما يقابله وهو نفسه غير موجود؟ هب سائلا سألك: هل «للمعنى الكلي» صورة في المرآة التي في غرفتك؟ فعلام تبحث في صفحة مرآتك لكي تجيب بالإثبات أو بالنفي؟

إن فيلسوفنا حين يحاول الموازنة بين «المعاني الكلية» في ناحية و«الأشياء» في ناحية أخرى، ليعلم إن كانت للأولى مقابلات في الثانية، إنما يوهم نفسه بأنه «يوازن»، مع أن «الموازنة» مستحيلة؛ لأن كل كفة من كفتي الميزان لا بد لها من «شيء» يوضع عليها لتتم الموازنة، لكن فيلسوفنا رغم هذه الاستحالة، ما يزال يسأل سؤاله باحثا عن جواب، ثم لا يجد الجواب، فيقول إنها «مشكلة فلسفية» تتطلب التفكير والحل، والحقيقة هي ألا جواب لأنه لا سؤال، فلا يكفي أن ترص الكلمات رصا وتضع علامة الاستفهام في آخرها ليكون ثمة سؤال ينتظر الجواب، بل لا بد أن يكون هناك «الشيء» الذي هو موضع التساؤل، حتى يمكن الجواب. يقول «وتجنشتين»:

7 «الجواب الذي لا يمكن التعبير عنه، سؤاله كذلك لا يمكن التعبير عنه، فاللغز [الذي يستحيل الجواب عنه] ليس له وجود.» •••

وليس على الفيلسوف بأس في أن يقول - مثلا ثالثا - إن الشيء المادي لا يوجد إلا وهو مدرك،

8

على نحو ما يقول زميله العالم مثلا: إن الزئبق الصلب لا يوجد إلا والحرارة أقل من 38,86 درجة تحت الصفر بمقياس فهرنهيت، لكن العالم الطبيعي حين يقول ذلك، في مستطاعه أن يمسك ببضعة من زئبق سائل في أنبوبة، وأن يأخذ في خفض درجة حرارته درجة درجة؛ ليرى هو ومن أراد أن يرى معه، في أية درجة سيتحول الزئبق السائل إلى زئبق صلب، وإذن فقد شاهد الزئبق في الحالتين: في الحالة التي كانت درجة الحرارة فيها أكثر من 38,86 تحت الصفر بمقياس فهرنهيت، وفي الحالة التي كانت درجة الحرارة فيها دون ذلك، فرأى أن الزئبق لا يكون متجمدا إلا في الحالة الثانية دون الأولى. أما زميلنا الفيلسوف حين يصوغ قضيته على هذا الغرار، قائلا إن الشيء لا يوجد إلا وهو مدرك ، فليس في وسعه أن يخبر إلا حالة واحدة، وهي عندما يكون الشيء مدركا. إنني الآن أنظر إلى خزانة كتبي، فأرى فيها صفوفا من الكتب خلف لوح الزجاج، لكنني لا أرى الكتب التي رصصتها في أجزاء الخزانة التي تحجبها أبواب خشبية، فبناء على هذا المبدأ الفلسفي المذكور، لا أحكم بالوجود إلا على الكتب التي أراها، وأما الكتب التي لا أراها الآن لاحتجابها وراء الحواجز الخشبية فهي غير موجودة، فتسأل فيلسوفنا: كيف لا تكون موجودة وقد رأيتها منذ لحظة حين فتحت الأبواب الخشبية، كما أستطيع أن أراها بعد لحظة إذا كشفت عنها الغطاء من جديد؟ فيجيبك: إنها كانت موجودة منذ لحظة؛ لأنك كنت تدركها، وقد توجد بعد لحظة لأنك ستدركها، وأما الآن فهي ليست موجودة لأنها غير مدركة. أعود فأقول إن فيلسوف هذا المبدأ قد أشار في مبدئه هذا إلى حالتين: حالة إدراكه للشيء، وحالة عدم إدراكه له، ثم قال إن الشيء يكون موجودا في الحالة الأولى دون الثانية، مع أن الحالة الثانية - بحكم التسمية نفسها - لا تقع في حدود خبرته، وبالتالي لا يجوز له الكلام فيها.

إن أمثال هذه «المشكلات الفلسفية» المزعومة إن هي إلا لعب بالألفاظ؛ فنحن إذ نقول: «إن الشيء لا يوجد إلا وهو مدرك» إنما نستعمل كلمة «يوجد» بمعنى «يدرك» فكأننا نقول «إن الشيء لا يدرك إلا وهو مدرك»، وهو تحصيل حاصل لا يفيد شيئا. •••

ومن هذا القبيل نفسه «مشكلة فلسفية» أخرى - وهو مثل رابع نسوقه لما تزعمه الفلسفة من مشكلات - وأعني مشكلة الإدراك الحسي لشيء ما، فهل يجوز لي أن أحكم بوجود الشيء نفسه في الخارج مع أن كل ما لدي منه حاضرات حسية؟ مثال ذلك: إنني أرى الساعة الآن قائمة على مكتبي، وأسمع دقاتها، فكل ما لدي منها انطباع لوني على عيني واهتزاز صوتي في أذني، فهل تمثل هذه الحاضرات الحسية شيئا خارجها موضوعا هنالك على سطح المكتب بعيدا عني؟ أم أن حقيقة الساعة في هذا الانطباع اللوني والاهتزاز الصوتي لا أكثر؟

والحق أنك لو أمعنت في الأمر قليلا ، لما رأيت فيه إشكالا؛ لأن المشكلة المزعومة هنا - كما هي الحال في المثل السابق - قد نشأت من طريقة استعمالنا الكلمات، وليست هي بالمشكلة التي تدور حول الوقائع ذاتها، ولكي تتصور ما نريده، افرض لنفسك شخصين اختلفا مذهبا؛ أما أحدهما فيقول بأن الحاضرات الحسية معطيات جاءتنا من شيء خارجي، وأما الآخر فيقول بالمذهب الثاني وهو أن الحاضرات الحسية هي كل ما هنالك من حقيقة، ولا شيء خارجي هناك، فكيف السبيل لأحد الرجلين أن يقنع الآخر كي ينحسم ما بينهما من خلاف؟ ليس هنالك من سبيل؛ لأنهما لا يختلفان على واقعة بذاتها، حتى يمكنهما الرجوع إليها في تصديق أحدهما وتكذيب الآخر، وإنما الاختلاف على «الاسم» الذي يطلقه كل منهما على تفصيلات الموقف الذي هما بصدده، والذي لا خلاف بينهما على تفصيلاته، فأحدهما يفضل أن يسمي الموقف بلفظتي «حاضرات حسية»، وأما الآخر فيؤثر أن يطلق على الموقف نفسه اسما آخر، هو «شيء خارجى». ولزيادة الإيضاح نقول: افرض أن رجلين قد شاهدا - وهما سائران معا في الطريق - حيوانا معينا، لا يختلفان على وصف ما يشاهدان منه، أي إنه لو طلب لكل منهما أن يذكر كل التفصيلات التي تتجمع لديه عن الحيوان المشاهد؛ لجاء الوصف في كلتا الحالين متطابقا أتم التطابق، ثم افرض بعد ذلك أن أحد الرجلين قد أصر على أن يسمي هذا الذي يراه «ذئبا»، بينما أصر الآخر على أن يسميه «ثعلبا»، أفلا يكون الاختلاف بينهما على التسمية دون الخبرة التي يخبرانها؟ إنه إذا أراد أحدهما أن يصحح الآخر، فلا يرجع به إلى شيء من تفصيلات المشاهدة؛ لأنه لا اختلاف عليها، وإن جاز أن تقوم بينهما مناقشة في أمر اختلافهما، فينبغي أن تكون المناقشة في أي التسميتين «أفضل». مثل هذا هو الاختلاف الذي يقوم بين الفلاسفة حين يقول فريق منهم: إننا ندرك الحاضرات الحسية وحدها، ويقول فريق آخر: بل إننا ندرك الأشياء الخارجية التي بعثت إلينا بتلك المعطيات الحسية. لا اختلاف بين الفريقين على تفصيلات الخبرة، فما يقع في خبرة الفريق الأول هو نفسه ما يقع في خبرة الفريق الثاني، إنما آثر الفريق الأول أن يسمي هذا النوع المعين من الخبرة «حاضرات حسية»، بينما اختار الفريق الآخر أن يسميه «أشياء خارجية»، فإذا جاز للفريقين أن يقوم بينهما مناقشة وبحث، فينبغي أن ينحصر الأمر في اختيار أفضل الاسمين للدلالة على الموقف لا أكثر ولا أقل. •••

ومثل خامس وأخير نسوقه لك توضيحا لما أردناه حين زعمنا أن العبارات الميتافيزيقية أقوال فارغة من المدلول والمعنى، وأن «المشكلات الفلسفية» وليدة لعب بالألفاظ لا أكثر ولا أقل، يقول «برادلي» وهو من أعظم الفلاسفة الإنجليز المحدثين، يقول هذه العبارة الآتية في سياق كتابه المشهور «المظهر والحقيقة»:

9 «يدخل المطلق في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.» ومعنى ذلك عنده - فيما أظن - أن العالم في سيره التطوري الذي جعل يتقدم به من الحالة السديمية إلى الحالة التي هو عليها الآن - بما فيها من نبات وحيوان وإنسان - قد تأثر بعدة عوامل من بينها عامل اسمه «المطلق»، لكن هذا «المطلق» - على الرغم من أنه قد عمل على تطور العالم وتقدمه من حالة إلى حالة - فإنه هو نفسه ثابت على حالة واحدة، لا تطور فيها ولا تقدم.

لو قال لنا عالم بيولوجى إن اختلاف البيئة يؤدي إلى تطور الحيوان من حالة إلى حالة، رأيته يقول القول وفي كراساته الأدلة التي جمعها من مشاهداته؛ لأنه حين يقول مثل هذا القول لزملائه علماء البيولوجيا، لا يفترض أن هؤلاء الزملاء سيتلقون منه القول كأنه وحي أوحي به إليه من السماء، وفي مستطاع كل زميل أن يدحض له قوله بمشاهدات أخرى إن كانت عنده مشاهدات أخرى من شأنها أن تدحض ما زعم، وهكذا يجري الأمر بين العلماء إثباتا ونفيا، فمن يثبت منهم أمرا فإنما يثبته بما قد شاهد، ومن ينفي أمرا فإنما ينفيه بما قد شاهد كذلك.

ولو قال لنا متحدث في الشئون اليومية إن إخراج الحكومة للتسعيرة قد أدى إلى تطور الأسعار من حالة إلى حالة، رأيته أيضا يقول القول وعلى لسانه الأمثلة مما قد رأى في السوق، فقد كان البرتقال ثمنه كذا وأصبح كيت، ولك - إن أردت - أن تذهب إلى السوق لتثبت أو تنفي.

فما بال الفيلسوف يجيز لنفسه ويجيز له الناس - فيما يظهر - أن يرسل ألفاظه إرسالا بغير حساب أو عقاب؟

ذلك لأني إذا طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى شيء من الأشياء التي أعرفها، أو في مستطاعي أن أعرفها إذا شئت، إذا طالبته بأن يشير لي إلى شيء يكون هو «المطلق» المزعوم، لأرى إن كان عاملا من عوامل تطور العالم - كما زعم - أم لم يكن، أنكر علي سؤالي؛ لأنه فيلسوف ميتافيزيقي كتب له الله في لوحه المحفوظ أن يعرج إلى السماء من حين إلى حين، ليعلم هناك أن «المطلق» يفعل هذا ولا يفعل ذلك.

لو طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى «المطلق» الذي يحدثني عنه، كان أقل ما يعترض به علي هو أن ما يشار إليه إنما يكون في مكان معلوم وزمان معلوم، أما «المطلق» فلا مكان له ولا زمان، وإلا لما صح وصفه بأنه مطلق من القيود. كيف إذن عرفته يا صاحبي؟ إنك لا تعرف إلا الأشياء ذوات المكان المعين والزمان المعين، أم وهبك الله بابا من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي؟ أليست حواسي وحواسك سواء؟

لا، لا يا صديقي - هكذا أتصور المجيب قائلا - ليس الأمر هنا موكولا إلى الحواس من عيون وآذان وأصابع، بل الأمر طريقه «الحدس» أو العيان العقلي المباشر.

هذا جميل، ولست أريد أن أضيق عليك ما قد وسعه الله لك، فأدرك بحدسك هذا آفاق السماء ما استطعت، لكنك الآن تحدثني أنا بما قد أدركت، وإذن فمن حقي عليك أن تترجم لي إدراكك هذا باللغة التي أفهمها، أنا الذي لم يهبني الله ما وهبك من «عيان عقلي مباشر»؛ فإن استطعت كان عيانك العقلي هذا اسما آخر على ما أسميه أنا الإدراك بالحواس، وإن لم تستطع، كان عليك أن تصمت، أو كان لي أن أسد أذني فلا تسمع، إذ ما غناء موجة صوتية ترسلها شفتاك لا تدلني على شيء مما أفهم؟

إن كلمة «المطلق» لها معناها الذي اتفقنا عليه، فإن سألت الخادم: أربطت الكلب إلى سلسلته أم تركته مطلقا؟ وأجابني الخادم: بل تركته مطلقا؛ ارتسمت عندي صورة لما وقع، وفي مستطاعي أن أراجع الخادم فيما يقول، فأبحث عن الكلب لأرى أهو على الصورة التي رسمها لي الخادم أم هو على غيرها، وإن سألت التاجر: أأسعار الفاكهة مقيدة بتسعير رسمي أم هي مطلقة؟ ثم أجابني بأنها مطلقة، فقد رسم لي صورة أستطيع أن أراجع الأمور الواقعة لأتبين هل صدق في رسمه لصورة الواقع أم كذب.

هذا - أو شيء كهذا - هو معنى «مطلق» كما اتفقنا؛ فيجيء فيلسوف ميتافيزيقي ليزعم «أن المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم»، فلا يكون لعبارته معنى؛ لأنه استخدم لفظا متفقا على معناه في غير السياق الذي يحفظ له ذلك المعنى، وإلا فحدثني ماذا عساي أن أجد في ظواهر الطبيعة كلها مما يثبت هذا القول أو ينفيه؟ هبني قلت لذلك الفيلسوف لا، بل المطلق لا يدخل في تطور العالم وتقدمه، أو قلت له لا، بل المطلق نفسه يتعرض للتطور والتقدم، فما الذي تغير في صورة الكون بين حالتي الإثبات والإنكار؟ إن الكلام إذا كان له معنى مفهوم فلا بد أن يكون هناك في عالم الأشياء الواقعة فرق بين إثباته ونفيه؛ فالفرق واضح في عالم الأشياء بين قولي: «إن الكلب مطلق» وقولي: «إن الكلب ليس مطلقا»، فما دمت أدرك كيف تتغير صورة الأشياء بين حالتي نفي القول وإثباته، فالقول ذو معنى مفهوم، وإلا فهو فارغ لا يدل على شيء.

وهكذا تستطيع أن تمضي في ذكر أمثلة مما يقوله الفلاسفة في «مشكلاتهم» المزعومة، لتعلم كيف وإلى أي حد استباحوا لأنفسهم أن يستخدموا ألفاظ اللغة التي تعاقد الناس على أن تكون لها معان محددة لكي يتم التفاهم، استباحوا لأنفسهم أن يستخدموا تلك الألفاظ على نحو يخدم أغراضهم في خلق مشكلات موهومة، ولا يستقيم مع طريقة استخدامها في العلوم وفي الحياة اليومية الجارية على السواء، ولا غرابة بعد ذلك أن يتصدى لأمثال هذا كله «جورج مور» فيدحض العبارات الفلسفية على أساس مجافاتها للغة الحديثة الجارية، ويتخذ من ذلك محورا لطريقته في التحليل،

10

كما سنفصل القول في حينه. «فكم من فيلسوف يستمد قيمته من غموض عبارته أكثر مما يستمدها من رجحان فكرته؛ وعندي أن فكرته هذه تفقد ما فيها من قوة الإقناع لو صيغت في عبارة أكثر دقة واتساقا.»

11

والحق ألا إسراف ولا تجن من رجال العلوم حين يهاجمون الفلسفة قائلين: إنها حين تبحث في مشكلات مثل وجود الله وخلود الروح وحرية الإرادة، فإنما تنسج نظرياتها من رءوس الفلاسفة نسجا لا تستند فيه إلى تجربة؛ ولذلك كانت الفلسفة راكدة لا تكاد تخطو كما تخطو العلوم، فلا تزال تناقش اليوم نفس المشكلات التي ناقشها اليونان الأقدمون، أما العلم فغير ذلك، إذ هو يبني على ما قاله السابقون ثم يمضى.

12

وجدير هنا بالذكر أن نشير إلى دفاع في هذا الصدد ساقته «الدكتورة روث سو»

13

في كتاب حديث أخرجته لتدافع به عن الميتافيزيقا في وجه المتنكرين لها من رجال الوضعية المنطقية، إذ قالت: إنه ليس صحيحا ما يعترض به على الفلسفة من أن مشكلاتها باقية على حالها، على خلاف العلم الذي يتقدم؛ لأن النظرية الحديثة فيه تحل محل النظرية القديمة، ذلك عندها اعتراض ليس ثمة ما يبرره؛ لأنه يستحيل على فيلسوف اليوم أن يتجاهل النتائج التي وصل إليها «كانت» والفلاسفة التجريبيون الإنجليز، لكننا نحب أن نردف هذه الملاحظة بأن «كانت» والفلاسفة التجريبيين الذين تعتمد عليهم في دفاعها، هم في الحقيقة من فلاسفة التحليل، وسنرى في غضون هذا الكتاب أن ما نهاجمه هو «الميتافيزيقا» بمعناها التقليدي، أي بمعنى البحث في أشياء لا تقع تحت الحس ك«المطلق» و«الجوهر» و«الشيء في ذاته» وما إلى ذلك؛ وأما التحليل - تحليل القضايا العلمية وكلام الناس في حياتهم اليومية - فأمر مشروع بغير شك؛ لأنه يلقي الضوء على ما تعنيه تلك القضايا والعبارات، دون أن يدعي إثبات حقيقة عن شيء من أشياء العالم، وسيرى القارئ بعد قليل، أننا نؤيد وجهة النظر القائلة بأن «الفلسفة» إذا أرادت أن تظل قائمة بين أوجه النشاط الإنساني، بحيث تؤدي عملا يساعد على تقدم الفكر في شتى ميادينه، فلا مندوحة لها عن قصر نفسها على التحليل وحده - تحليل ما يقوله غير الفلاسفة من الناس - فالقول لسواهم وعليهم التوضيح، يقول «وتجنشتين»: «الطريقة الصحيحة للفلسفة هي ألا نقول إلا ما يمكن أن يقال، أعني ألا نقول إلا قضايا العلم الطبيعي، أي أن نقول شيئا لا شأن له بالفلسفة [معناها التأملي]، فلو أراد قائل أن يقول شيئا في الميتافيزيقا، فعلينا أن نبين له أنه لم يوضح ماذا تعني رموز بعينها في قضاياه، [أي نبين له بأن قوله ليس بذي معنى مفهوم].»

14

3 «موضوع الفلسفة هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا.»

15

هكذا يقول «وتجنشتين»، وتقول معه الكثرة الغالبة من فلاسفة اليوم، وهكذا أيضا نريد أن نقول وندافع عن هذا القول، فأول ما نريد أن ننزعه من الأذهان، هو الاعتقاد الباطل بأن الفلسفة لها «موضوعها الخاص الذي تبحث فيه، شأنها في ذلك شأن سائر العلوم، لا، بل الفلسفة تحليل للعبارات مهما يكن مصدرها، الفلسفة طريقة بغير موضوع، إنها تأخذ العبارة التي تحللها من هذا العلم أو من ذاك، بل قد تأخذها من أفواه الناس في حياتهم اليومية؛ فلقد سمع طالب صيني بفيلسوف الإنجليز المعاصر «جورج مور»

G. E. Moore

فارتحل إليه ليأخذ عنه، ما دام الرأي قد أوشك على إجماع بأنه في الفلسفة المعاصرة إمام، وإذا برجاء الطالب يخيب خيبة كبرى؛ لأنه لم يجد عند هذا الفيلسوف المشهور حديثا في الكون وأسراره، وفي الحياة والموت والخلود، كما كان يتمنى ويشتهي، بل وجد الرجل يتناول عبارات إنجليزية بالتحليل، لا ينتقي في ذلك ولا يختار، فلا بأس - مثلا - في أن تكون العبارة التي يحللها هي «الدجاجة تبيض» أو «هذه محبرة كبيرة»، يا ضيعة الأمل إذن، فما جاء هذه الرحلة الطويلة ليسمع كيف يتحدد معنى كلمة أو عبارة في اللغة الإنجليزية.

16

إن هنالك طائفة من الأفكار جعل الناس يتبادلونها في وصف تجاربهم وخبراتهم، تسليما منهم بأنها معلومة مفهومة، فتراهم يتحدثون عن هذا الشيء أو ذاك، عن المقاعد والنوافذ وما إليها، يتحدثون عنها فيقولون: إنها في «مكان» معين، وإنها في اللحظة الفلانية من «الزمان» قد حدث لها كيت وكيت، وإنها «تتغير» لهذا السبب أو ذلك؛ ثم يأتي العلم فيأخذ هذه الأفكار من الاستعمال اليومي ليستخدمها بدوره بغير تعديل كبير، فيستخدم فكرات «المكان» و«الزمان» و«التغير» و«السببية» وغيرها، كأنما هي واضحة المعنى لا تحتاج إلى تحليل وتفسير.

لكنها في حقيقة الأمر فكرات غامضة بعيدة جدا عن التحديد والوضوح، وإذا لم يكن غموضها هذا باديا في معظم حالات استعمالها؛ فذلك لأننا في معظم هذه الحالات إنما نستعملها في دائرة لا يكاد يكون هنالك اختلاف بيننا في حدودها، غير أننا قد نجاوز هذه الدائرة أحيانا، وعندئذ يتبين ما كان يكتنف تلك الفكرات من غموض، لما يقوم بيننا عندئذ من اختلاف في معانيها، فمثلا قد نسأل عن مكان دبوس فنتفق جميعا على مكانه، ثم نرى صورته في المرآة فنسأل عن مكان تلك الصورة، وهل نقصد بالمكان هنا نفس ما نقصده حين نسأل عن مكان الدبوس؟ عندئذ نعجز عن الجواب حتى نحدد أولا معنى «مكان».

17

فالمهمة الأساسية للفلسفة هي أن تتناول أمثال هذه الفكرات التي نستعملها كل يوم في الحياة الجارية وفي العلوم، تتناولها بالتحليل الذي يحدد معانيها تحديدا دقيقا، وإنها لمهمة خطيرة؛ لأن المعرفة الواضحة الدقيقة بأي شيء كائنا ما كان هي - ولا شك - خطوة إلى أمام في سير الإنسان نحو العلم بما يريد العلم به، وليس هنالك من العلوم الأخرى ما يضطلع بهذه المهمة، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا تستخدم فكرة «الحركة» وهكذا، لكن لا هذه ولا هذه ولا تلك - باعتبارها علوما طبيعية - من شأنها تحديد معاني هذه الفكرات، فهي تتخذها نقطة ابتداء، فالمكان في الهندسة - مثلا - مفروض وجوده، وبقي أن نقسمه إلى مثلثات ومربعات ودوائر، لنعرف خصائص كل شكل من هذه الأشكال.

الفلسفة تحليل للألفاظ والقضايا التي يستخدمها العلماء والتي يقولها الناس في حياتهم اليومية، فليس من شأن الفيلسوف أن يقول للناس خبرا جديدا عن العالم، ليس من مهمته أن يحكم على الأشياء؛ لأن هذا الحكم يقوم به فريق آخر هم العلماء، كل في علمه الذي اختص به؛ فعالم الطبيعة أولى منه بالتحدث عن قوانين الطبيعة، وعالم النفس أولى منه بالتحدث عن قوانين السلوك ... وهكذا، بل مهمة الفيلسوف هي أن يحلل ويوضح المعاني، حتى لقد عرفت «سوزان لانجر» الفلسفة بأنها «علم المعنى».

18

وهنا قد يسأل سائل: ولماذا لا نترك توضيح معاني الألفاظ والعبارات في كل علم إلى أصحاب ذلك العلم؟ أليس العلماء أدرى بما يستخدمونه في علومهم من ألفاظ وعبارات؟

والجواب عن هذا السؤال ذو شطرين:

فأولا:

ليس ثمة ما يمنع العلماء من القيام لأنفسهم بهذه المهمة، بل كثيرا ما قاموا بها؛ غير أنهم إن فعلوا ذلك كانوا فلاسفة إلى جانب كونهم علماء؛ فقد كان «نيوتن» فيلسوفا في محاولته تحديد كلمة «كتلة»، وكان «أينشتاين» فيلسوفا في تحديده لمعنى «الآنية»، وكان «رسل» فيلسوفا في تحديده لمعنى «العدد»؛ ذلك لأن القضية العلمية هي التي تقول شيئا عن ظاهرة من ظواهر الطبيعة، أما إن دار بحثك لا عن ظواهر الطبيعة مباشرة، بل عن «كلمة» أو عن «عبارة»، فإنك بذلك تدخل في نطاق آخر غير نطاق العلوم بمعناها الدقيق، وهذا النطاق الآخر هو ما اخترنا له كلمة «فلسفة».

وثانيا:

إن العلماء في أغلب الأحيان لا يقومون بهذا التحديد لألفاظهم، فكثيرا جدا ما يستخدمون كلمات مثل «مكان» و«زمان» و«مادة» بغير الوقوف عندها ليحللوا معانيها؛ لأنهم قد لا يشعرون بحاجة إلى هذا التحليل فيما هم بصدده من استخراج للقوانين العلمية؛ وإذن فمن حسن الحظ أن رضيت جماعة من الناس لأنفسها أن تسير أمام عربة العلوم - أو إن شئت فقل إنها تسير وراءها - تتسقط الكلمات والعبارات التي يكون لها أهمية خاصة، فتجعلها موضوع بحثها، حتى إذا ما وضحت كلمة منها بالتحليل ردوها إلى العلم وأخرجوها من دائرتهم بصفة نهائية.

وذلك هو معنى قولهم إن الفلسفة كانت في بدء تاريخها تضم المعرفة الإنسانية كلها، ثم أخذت العلوم تنسلخ من حظيرتها علما بعد علم؛ لأن الألفاظ العلمية بدأت غامضة، فإذا كنا نسمي من يحاول توضيح لفظ فيلسوفا، إذن فكل محاولة في بداية تاريخ الفكر كانت فلسفة؛ ثم أخذت المصطلحات العلمية تتضح شيئا شيئا، وكلما وضح منها جانب أصبح علما قائما بذاته، ولا يزال الفلاسفة حتى اليوم مشتغلين بتوضيح ألفاظ غامضة في مجالات فكرية معينة، مثل الأخلاق والجمال والسياسة والنفس والاجتماع؛ ولذلك فهذه كلها ما تزال تعد «علوما فلسفية»، فهي من مجال الفلسفة بدرجة تقل أو تزيد بمقدار درجة التحديد والوضوح اللذين قد بلغتهما ألفاظها.

ليس هناك - كما أسلفنا - غير الفلسفة ما يجعل تحديد المعاني شغله الشاغل، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا فكرة «الحركة»، وهي جميعا تفرض أن معاني هذه الألفاظ مفهومة، وإذا تعرض العلماء لها بشيء من التحديد، فإنما يفعلون ذلك بما يكفي لعلومهم فقط، أما إذا راح عالم يتعقب التحليل - لفكرة يستخدمها - حتى النهاية دون أن يكتفي بما يكفي بحثه العلمي، فإنه بذلك يكون قد ترك دائرة علمه ودخل في «فلسفة ذلك العلم».

19

4

إذا اتفقنا على أن الفلسفة تحليل للألفاظ والعبارات - ونحتفظ الآن بالمعنى المراد من كلمة «تحليل»؛ لأننا سنفيض فيه القول في فصول الكتاب التالية - وجب أن نفرق بين الفلسفة وبين الميتافيزيقا،

20

فبينما «الفلسفة» - بمعنى التحليل - ضرورية لتوضيح القضايا العلمية والعبارات الجارية في الحياة اليومية، نرى «الميتافيزيقا» - بمعنى الحكم على أشياء غير محسوسة - واجبة الحذف من دائرة المعارف الإنسانية؛ لأنها لا هي مزودة بأدوات المشاهدة التي تمكنها من الحكم على الأشياء، ولا هي ارتضت لنفسها أن تسمع ما يقوله المؤهلون لذلك مكتفية بتوضيحه وفهمه، «فإذا أراد الفيلسوف أن يثبت صدق ما يزعمه من أنه شريك في زيادة المعرفة الإنسانية، فلا يجوز له أن يحاول وصف الحقائق عن طريق التأمل الخالص، أو أن يبحث عن المبادئ الأولى، أو أن يصدر أحكاما قبلية عن صحة ما نعتقد في صدقه على أساس التجربة، بل ينبغي له أن يحصر مجهوده في التوضيح والتحليل.»

21

نعم، إن الفلسفة لم تجعل مهمتها دائما تحليل ألفاظ الناس وعباراتهم

22

كما نريد لها أن تكون، فقد جرى التقليد على أن تطلق كلمة «فلسفة» على موضوعات مختلفة فيما بينها جد الاختلاف، إذ تطلق على موضوعات شيئية كما تطلق على موضوعات منطقية على السواء.

غير أنها حين كانت تصب بحثها على موضوعات شيئية، لم تكن «أشياؤها» التي جعلتها موضوع بحثها هي بذاتها الأشياء التي تبحثها العلوم الطبيعية، أو ربما كانت هي نفسها أشياء العلوم الطبيعية، منظورا إليها من زاوية أخرى، ومبحوثا فيها بمنهج آخر غير التجربة. فإن كانت العلوم الطبيعية تبحث في الصخور والمعادن والنبات والماء والهواء، فقد جعلت الفلسفة «أشياءها» التي تبحث فيها غير تلك، إذ جعلتها أحد نوعين: فإما هي «أشياء» لا تقع لنا في الخبرة الحسية، مثل «الشيء في ذاته» و«المطلق» و«العدم» و«القيم»، وعندئذ كانت تسمي بحثها بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نصادفه في مباحث العلوم الأخرى، كالإنسان والمجتمع واللغة والتاريخ والاقتصاد والمكان والزمان والسببية، لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم، وعندئذ كانت تسمي بحثها فلسفة طبيعية أو فلسفة التاريخ أو فلسفة اللغة ... وهكذا.

وأما الموضوعات المنطقية التي كانت هي الأخرى تندرج تحت كلمة «فلسفة» - إلى جانب الموضوعات الشيئية التي ذكرناها - فلا يتعذر حصرها، فهي واقعة فيما نسميه حتى اليوم «بالمنطق»، وأهم أبحاثه طرائق تعريف الألفاظ وتحديدها، وصور القضايا المختلفة، وأنواع الاستدلال وهكذا، أضف إلى ذلك بعض أجزاء ما يسمى بنظرية المعرفة.

23

من ذلك ترى أننا حين نختار للفلسفة أن تحصر نفسها حصرا في التحليل المنطقي وحده، وأن تطرح كل محاولة نحو وصف شيء من العالم وصفا إيجابيا تعتمد فيه على التأمل، فإننا في الحقيقة نختار لها إحدى المجموعتين اللتين جرى العرف على جمعهما معا تحت اسم «الفلسفة»، وليس اختيارنا المجموعة المنطقية، وتركنا المجموعة «الشيئية» تعسفا وجزافا، بل هو قائم على أننا ننكر الميتافيزيقا إنكارا تاما من جهة -كما سيتبين خلال الكتاب - ونريد، من جهة أخرى، أن نترك «الأشياء» كالإنسان والمجتمع والتاريخ واللغة والطبيعة، إلى العلوم؛ لأن العلماء وحدهم، بما لديهم من أدوات ومناهج للبحث، هم القادرون على الوصول بهذه المباحث إلى نتائج يمكن الاعتماد على صدقها.

إننا نريد الإبقاء على الفلسفة، على شرط ألا تجاوز دائرة التحليل لما يقوله الناس في شتى نواحي التفكير، أي إننا لا نريد للفيلسوف أن يتقدم إلينا بقائمة من القضايا، قائلا هذه القضايا هي ما تقوله الفلسفة، فلكم أن تضيفوها إلى القضايا التي يقولها العلماء، ليتم بذلك علمكم عن العالم. كلا، فليست الفلسفة مع العلوم الأخرى في مستوى واحد، وليست الفلسفة علما من العلوم الطبيعية، بل موضوعها هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا، ليست الفلسفة نظرية تضاف إلى غيرها من النظريات، بل هي فاعلية [تنصب على تحليل القضايا العلمية]، وقوام العمل الفلسفي طائفة من توضيحات، ليست نتيجة العمل الفلسفي مجموعة من القضايا الفلسفية، بل نتيجته توضيح للقضايا [التي يقولها غير الفلاسفة من الناس]، واجب الفلسفة أن توضح وأن تحدد تحديدا قاطعا تلك الأفكار التي لولا الفلسفة لظلت معتمة مهوشة.»

24

فإذا وضعنا نصب أعيننا هذه الحقيقة، وهي أننا نقبل الفلسفة على أساس انحصار عملها في التحليل، تقشع على الفور كثير جدا من نقد الناقدين الذين يحرصون على الفلسفة ولا يريدون لها الزوال تحت ضربات الوضعية المنطقية.

خذ مثلا هذا النقد الذي يعتمد فيه الناقدون على عبارة قالها أرسطو، إذ قال: «سواء تفلسفنا أو لم نتفلسف، فلا بد لنا من التفلسف.»

25

على اعتبار أننا نتفلسف حتى ونحن نجاهد في إنكارنا للفلسفة؛ فالعبرة هنا بالمعنى الذي نحدد به عملية التفلسف، فقد كان يجوز هذا الاعتراض لو كنا منكرين لكل ضروب الفلسفة على حد سواء، لكننا نبقي من تلك الضروب على التحليل المنطقي، وإذن فلا غبار على رجل يتناول عبارة قالها قائل ليحلل ما تنطوي عليه من عناصر وأجزاء، ولا يمنع ذلك طبعا أن يكون هنالك الفلاسفة المتأملون، الذين يقولون عن الكون عبارات ميتافيزيقية، فيتناول أصحاب التحليل عباراتهم تلك، ليبينوا أنها كلام فارغ ليس بذي دلالة، وهل يستطيع إنسان أن يمنع إنسانا سواه من النطق بأخلاط صوتية كما يشتهي؟ فلينطق من شاء بما شاء، ولنا نحن كل الحق في غربلة هذه المنطوقات، لنميز فيها بين ما نقبله لما يحتوي عليه من معنى، وما نرفضه لخلائه من المعنى، «فالمهمة الأولى للفيلسوف هي تمييز العبارة الخالية من المعنى من العبارة الدالة على معنى.»

26

إن القائلين بالاعتراض الأرسطي السالف، الذي مؤداه أنك لا بد متفلسف حتى وأنت تهدم الفلسفة، قد أخذوا كلمة «الفلسفة» بمعنى «التفكير»، وعندئذ يصح قولهم؛ لأنك لا تنقض تفكيرا إلا بتفكير، وربما كان هذا المعنى جائزا بالنسبة لأرسطو، الذي كانت الفلسفة عنده هي جماع الفكر كله، لكننا بمعنى الفلسفة الذي أوردناه، لا نرى تناقضا في هدمنا للميتافيزيقا بالتحليل المنطقي لعباراتها.

ومن أنواع النقد الذي يوجهونه أيضا، قولهم إن محاولة هدم الميتافيزيقا بالتحليلات اللغوية، إن هي إلا اسكولائية جديدة، فالمنكرون للفلسفة - بمعنى الميتافيزيقا - إنما ينكرونها دفاعا عن نوع آخر من المعرفة، ولئن أراد رجال العصور الوسطى للفلسفة أن تكون خادمة تابعة للدين، فهؤلاء المحدثون يريدون لها أن تكون خادمة تابعة للعلم.

27

ونحن نعجب من نقد كهذا يوجهه أستاذ للفلسفة محترف؛ لأنه بدل أن يقول للمنكرين أين أخطأوا، فهو يعيرهم بأنهم يجعلون أنفسهم أشباها لاسكولائية العصور الوسطى، فهل هذا التعيير دليل كاف على أن الميتافيزيقا يمكن أن تقوم بذاتها فرعا من فروع المعرفة الإنسانية؟

وانظر كذلك في عناية إلى النقد الآتي؛ لأنه - في رأينا - أخطر أساسا من النقدين السابقين:

إن الرأي الذي يأخذ به أنصار المدرسة التحليلية الحديثة، ينتهي بهم - كما سيأتي في موضع آخر من الكتاب بالتفصيل - إلى أن المعرفة العلمية نوعان لا ثالث لهما: وهما الرياضة والعلوم الطبيعية؛ وهم في ذلك أتباع لأب أصيل من آباء المذهب الوضعي، وأعني به «هيوم»، وله العبارة المشهورة التي نصها بالترجمة هو ما يأتي: «إذا تناولت أيدينا كتابا - كائنا ما كان - في اللاهوت أو في الميتافيزيقا الاسكولائية مثلا، فلنسأل: هل يحتوي هذا الكتاب على أي تدليل مجرد يدور حول الكمية والعدد؟ لا، هل يحتوي على أي تدليل تجريبي يدور حول الحقائق الواقعة القائمة في الوجود؟ لا، إذن فاقذف به في النار؛ لأنه يستحيل أن يكون مشتملا على شيء غير سفسطة ووهم.»

28

فيقول الناقدون تعليقا على هذا الموقف؛ لكن هذه العبارة نفسها التي قالها هيوم لا هي تدليل رياضي يدور حول الكمية والعدد، ولا هي تدليل تجريبي يدور حول وقائع الوجود، فماذا هي إذن؟

وجوابنا هو أنها منطق؛ أي تحليل؛ أي فلسفة بالمعنى الذي نريد أن نحدد الفلسفة به.

فأمامنا عبارات يقولها المتكلمون والكاتبون، يقولونها لمن؟ يقولونها لمن يسمعونهم أو يقرءونهم، يقولونها لنا، أفلا يكون من حقنا أن نستوثق أولا من أن ما يقولونه وما يكتبونه يمكن مراجعته لتصديقه على أساس سليم؟ فإذا سألت العالم الرياضي عن حقيقة ما يقوله، أجاب في اختصار: إنني أقدم لك معادلات، كل معادلة منها تقول الشيء الواحد بصيغتين، وإنما أعتبر الصيغتين متساويتين على أساس كذا وكذا من الفروض، فعلي أنا بعد ذلك - إذا أردت التحقق من صدق زعمه - أن أراجع تلك الفروض لأتأكد أن كل معادلة من معادلاته متساوية الشطرين حقا على أساس الفروض المزعومة المشار إليها.

وإذا سألت العالم الطبيعي عن حقيقة ما يقوله؛ أجاب في اختصار: إنني أقدم لك قوانين تلخص بعبارة موجزة جملة مشاهداتي وتجاربي، فعلي أنا بعد ذلك - إذا أردت التحقق من صدق زعمه - أن أراجع العالم الواقع لأتأكد أنه قد شاهده مشاهدة دقيقة وسجل مشاهداته تسجيلا صحيحا.

وليس أمامي إلا هذان الطريقان في التحقق من صدق ما يقال: طريق مراجعة الاستدلال الاستنباطي في حالة العلوم الرياضية، وطريق مراجعة المشاهدات للعالم الواقع في حالة العلوم الطبيعية، ومن أجل ذلك قبلت ما يقوله الرياضيون وعلماء الطبيعة، ولم أكن في قبولي هذا عالما من علماء الرياضة ولا عالما من علماء الطبيعة، إنما كنت رجلا من رجال التحليل، تناول ما يقوله هؤلاء وأولئك للتأكد من أنها أقوال ذوات معنى مفهوم؛ فأين التناقض في مثل هذا الموقف؟

أإذا وقفت أمام كومة من أشياء مختلفة، بينها برتقال وكمثرى وأصناف أخرى، ثم جعلت غايتي جمع البرتقال والكمثرى وحدهما والقذف ببقية الأشياء، يقال لي: لكنك لست برتقالا ولا كمثرى، فماذا أنت؟ هذا هو بعينه موقفي حين أقف أمام كومة من أقوال العلماء، ثم أجعل غايتي هي جمع الأقوال ذوات المعنى المفهوم وحدها، والقذف ببقية الأقوال، فإذا حصلت في النهاية على مجموعة من أقوال مفهومة، ثم حللتها فوجدتها صنفين: أقوال رياضية وأقوال في العلوم الطبيعية، فانتهيت إلى الحكم الآتي: الأقوال المقبولة هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها، فهل يجوز أن يعترض على ذلك بقولهم: لكن هذا القول نفسه لا هو رياضة ولا هو من العلوم الطبيعية. فماذا هو؟ لو قيل ذلك لأجبت بالجواب الذي أسلفته وهو: أنه منطق، وقد اعترفنا بالفلسفة إذا جعلت بحثها تحليلا منطقيا، ولم ننكر هذا المعنى من معانيها، وما كان لنا أن ننكره؛ لأن المنطقي لا يقول شيئا من عنده، إنما يحلل ما يقوله الآخرون وكفى.

ولزيادة التوضيح نسوق التشبيه الآتي: هبني قلت: «إن أعضاء النواب وأعضاء الشيوخ وحدهم هم المسموح لهم بدخول القاعة، وأما الزائرون فينبغي إخراجهم.» أفلا يكون لهذه العبارة معنى ما دامت هي نفسها ليست عضوا في النواب ولا عضوا في الشيوخ ولا واحدا من الزائرين؟ كذلك الحال فيما نحن بصدده: أمامنا أكداس من عبارات لغوية يقولها الناس في مناسبات شتى، فنقول: «إن العبارات المقبولة من هذه الحكومة كلها في القضايا الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية؛ لأن هاتين الطائفتين هما وحدهما العبارات ذوات المعنى، أما العبارات التي لا هي من هذه ولا من تلك فينبغي حذفها؛ لأنها بغير معنى» ... لماذا يعترض على هذا بقولهم: لكن هذه العبارة نفسها لا هي من قضايا الرياضة ولا من قضايا العلوم الطبيعية فينبغي حذفها؟ وحتى لو فرضنا جدلا أننا حذفناها، فإن الموقف لا يتغير، إذ ستظل العبارات ذوات المعنى هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها.

ولعل هذا هو نفسه الذي حدا بوتجنشتين أن يقول في آخر كتابه ،

29

إن ما أورده في الكتاب ليهدى به القارئ إلى ما يترك وما يأخذ من الأقوال، هو نفسه مما يترك، فكأنه للقارئ الدارس بمثابة السلم الخشبي، يستعين به على الصعود إلى السطح، ثم يقذفه بقدمه بعيدا؛ لأنه لم يعد بحاجة إليه، وهذا هو نص عبارته مترجم: «إن ما قد أوردته [في الكتاب] من قضايا يدل على أن من يفهمني سيرى في النهاية أن تلك القضايا ليست بذات معنى، وذلك بعد أن يكون قد صعد على سلمها، وخطا على درجاتها، وأصبح فوقها، فيجب أن يقذف بالسلم - إن صح هذا التعبير - بعد أن يفرغ من استخدامه لصعوده.»

30

فاحذف إن شئت ما يقوله لك المذهب الوضعي المنطقي، احذفه باعتباره كلاما هو في ذاته لا يدل على شيء من رياضة أو علوم طبيعية، لكنك إذ تحذفه ستكون قد بلغت ما أردنا لك بلوغه، وهو ألا تبقي بين يديك من العبارات إلا قضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية، وقذفت بالبقية الباقية كلها في المهملات؛ لأنها كلام فارغ بغير معنى.

5

الفكرة التي نعرضها في هذا الفصل وندافع عنها، هي أن «الفلسفة» لا ينبغي أن تجعل غايتها شيئا غير التحليل المنطقي لما يقوله سواها؛ إنها لا تتكلم بذاتها، بل تدع غيرها يتكلم بما قد كشف عنه من حقائق العالم، ثم تتقدم هي لتحليل هذا الذي نطق به غيرها في تصويره للعالم؛ كي تستوثق بأن الكلام الذي قيل قد كان كلاما له معنى، وليس من شأنها بعد ذلك أن تقول إن كان الكلام الذي قيل، والذي وجدته كلاما ذا معنى، ليس من شأنها أن تقول إن كان ذلك الكلام صادق التصوير لحقائق العالم أو غير صادق؛ لأن مراجعة الصورة الكلامية على الأصل الطبيعي من صميم عمل العلماء بما لديهم من أدوات المشاهدة والتجربة.

وأعيد هنا ما قلته في موضع آخر:

31

الفلسفة طريقة في البحث بغير موضوع، فليست غايتها أن تبحث «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج»؛ لأنه ليس هناك «مسائل فلسفية»، ولا ينبغي أن يطلب من الفلسفة أن تصل إلى «نتائج » عن حقائق الكون؛ كل مسألة في الدنيا يراد فيها الوصول إلى نتائج يجب أن تترك للعلم والعلماء، إذ هي والله أضحوكة الأضاحيك أن يجلس المتفلسف على كرسيه في برجه معزولا عن العالم، حتى إذا ما سئل: ماذا تصنع ها هنا في عزلتك هذه؟ أجاب: أريد الوصول إلى حقيقة العالم! وسأسوق لك مثلا كلام فيلسوف مسلم - هو الكندي

32 - في موضوع الفلسفة؛ لأوضح لك به ما أريد، قال: «علوم الفلسفة ثلاث: فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع، والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع، وإنما كانت العلوم ثلاثة؛ لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس، وهو ذوات الهيولى، وإما علم ما ليس بذي هيولى: إما أن يكون لا يتصل بالهيولى ألبتة، وإما أن يكون قد يتصل بها، فأما ذات الهيولى فهي المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي، وإما أن يتصل بالهيولى وأن له انفرادا بذاته كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)، وإما لا يتصل بالهيولى ألبتة، وهو علم الربوبية».

وقد يكون كلام الكندي مما لا تألفه أذنك من الكلام، فخلاصة رأيه هذا هي أن الفلسفة تبحث إما في شيء لا يمكن أن يتصل بمادة وهو الله، أو في شيء قد يتصل بالمادة وقد ينفصل عنها بحيث يكون وجوده ذهنيا فقط مثل العدد، وعلمه الرياضة، أو في شيء يتصل دائما بالمادة ولا ينفصل عنها كالأشجار والنجوم والهواء، وعلمه الطبيعة؛ وبعبارة أقصر، يقول الكندي: إن موضوع الفلسفة ثلاثة: الإلهيات والرياضة والطبيعة.

والذي أريد أن أعترض به على أمثال هذا القول، هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف، وحين تبحث في الرياضة فأنت رياضي لا فيلسوف، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة لا فيلسوف.

كلا، ليس للفلسفة موضوع، ولا ينبغي أن يطلب إليها أن تصل إلى نتائج هي من شأن رجال الرياضة والعلوم الطبيعية، ولو طلبنا إليها ذلك كنا عابثين ، ولو أخذ الفيلسوف على نفسه أن يصنع ذلك كان عابثا واستحق سخرية الساخرين، إنما واجب الفلسفة الصحيح المفيد هو نقد وتحليل؛ نقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء؛ ليزداد الإنسان فهما لما يقوله الرياضيون والعلماء، بل ليزداد الرياضيون والعلماء أنفسهم فهما لما يقولون ... ليس للفلسفة موضوع معين، وليس لها أن تنبئنا عن حقائق الكون؛ إنما هي طريقة بغير موضوع، كقولك عن الرجل: إنه وزير بلا وزارة، فيعمل في شئون العدل مرة وفي شئون الدفاع مرة؛ هي البحث عن معاني الألفاظ، لا كما تشرحها القواميس، بل هو تحليل يسير على أوضاع وشروط - سنفصل القول فيها تفصيلا فيما بعد، حين نعرض طرائق التحليل عند «مور» و«رسل» و«كارنب».

ليست الفلسفة مجموعة من «القضايا» يتقدم بها الفيلسوف، ليخبر في كل قضية منها بخبر عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب العالم، وفي هذا يقع الاختلاف بينها وبين مختلف العلوم، فالعلم من العلوم - كعلم النبات مثلا أو علم الضوء - مؤلف من مجموعة قضايا، أو إن شئت فقل إنه مؤلف من مجموعة قوانين، أما الفلسفة فلا «قضية» عندها تقدمها، ولا «قانون» من قوانين العالم هو من نتائج بحثها، وإنما ينحصر عملها في تحليل ما تقوله شتى العلوم من قضايا، «ليست الفلسفة علما بين العلوم الطبيعية، بل موضوعها هو توضيح الأفكار [أي القضايا العلمية] توضيحا منطقيا، فليست هي بنظرية من النظريات، بل فاعلية ...»

33

الفلسفة «فاعلية» من نوع معين، وليست هي مجموعة أقوال يقولها القائلون ليصفوا بها شيئا، هي «فعل» لا «قول»؛ لأنك حين تتناول عبارة كلامية بتحليلها إلى عناصرها، فأنت تبذل في ذلك ضربا من ضروب النشاط، لكنك لا تقول من عندك شيئا، وهذا النشاط المبذول في عملية التحليل هو الفلسفة بالمعنى المراد، «إن الفلسفة فاعلية في عقولنا، تتميز بعلامات معينة من شتى ضروب الفاعلية الأخرى؛ إذ يميزها أنها نشاط وفعل في طريقة ومنهج، ولو عرفنا ما منهجها، استطعنا بذلك أن نعرف ما هي.»

34

وليست الفلسفة التحليلية وليدة اليوم ولا الأمس القريب ، بل تستطيع أن تلمس أصولها عند فيلسوف قديم هو في الحق نموذج الفلسفة الصحيح الكامل،

35

وأعني به سقراط، الذي انصرف بمجهوده الفلسفي كله إلى غاية واحدة، هي تحليل بعض الألفاظ المتداولة - وبخاصة في مجال الأخلاق - وتحديد معانيها، فيحاول - مثلا - أن يحدد معنى ألفاظ كالتقوى والشجاعة ونحو ذلك.

لقد كان المذهب السقراطي في الأخلاق قائما على أساس أن الفضيلة يمكن أن تلقن بالتعليم، أي إنها معرفة كأي معرفة أخرى، يعلمها المعلم لتلاميذه، لكنه لم يتناولها بالشرح المفصل؛ ماذا تكون قضايا هذا العلم، لم يجهد نفسه في الوصول إلى «الحقائق» التي من مجموعها يتألف «علم الاخلاق»، كما يتألف علم الضوء مثلا من مجموعة قوانين، لم يجهد نفسه في ذلك، على الرغم من يقينه بأن الأخلاق يمكن أن تستوي علما بمجموعة قضاياه؛ لأنه أنفق جهده في محاولة الإجابة عن سؤال آخر يأتي منطقيا قبل تقرير الحقائق الأخلاقية، وهو: كيف يمكن الوصول إلى علم ثابت يقيني في هذا الميدان المعين، ميدان الأخلاق؟ أعني أنه حاول أولا أن يفكر في «المنهج» العقلي الذي من شأنه أن يوصل الإنسان إلى ما يريد أن يصل إليه من حقائق في ميدان بحثه هذا، حاول أولا أن يتناول كلام الناس في هذا الميدان كما هو، فيأخذ منه عبارة كما اتفق، فيتناولها بالتحليل وتحديد المعاني ليرى إن كان ما تعود الناس قوله في هذا المجال كلاما متسقا مفهوما خاليا من التناقض، فإن وجده كذلك صح أن يضاف إلى قائمة الحقائق التي تكون علم الأخلاق، وإلا فلا مندوحة عن مراجعته وتصحيحه وتقويمه.

والذي يستوقف النظر في هذا الصدد، مما له علاقة مباشرة قوية بموضوعنا، هو أنه لم يكن يعبأ بالوصول من تحليلاته إلى نتائج يقررها، ولم يكن يشعر بشيء من خيبة الرجاء إذا ما وجد تحليله لم ينته به إلى نتيجة؛ ذلك لأن غايته المقصودة باعتباره فيلسوفا هي عملية التحليل في ذاتها، إذ الفلسفة فعل لا قول كما أسلفنا، هي فاعلية تحليلية وليست بتقرير لنتائج معينة وتوكيد لأحكام بذاتها في هذا الموضوع أو ذاك .

يقول سقراط في محاورة الدفاع،

36

ردا على اتهام مليتس له بأنه كان يبحث في الطبيعة وظواهرها: «... لشد ما يسوءني أن يتهمني مليتس بمثل هذا الاتهام الخطير، أيها الأثينيون، الحق الصراح أني لا أتصل بتلك الدراسة الطبيعية بسبب من الأسباب، ويشهد بصدق قولي كثير من الحضور، فإليهم أحتكم، انطقوا إذن يا من سمعتم حديثي، وأنبئوا عني جيرانكم، هل تحدثت في مثل هذه الأبحاث كثيرا أو قليلا؟»

لا، لم يكن سقراط فيلسوفا إذا كانت مهمة الفيلسوف أن يقول ويقرر هذه الحقيقة أو تلك عن ظواهر العالم كائنة ما كانت، لكنه كان نموذج الفلسفة الكامل، إذا حددنا معنى الفلسفة بأنها فاعلية التحليل المنطقي لما يقوله الناس في ميادين الفكر المختلفة، وقد اختار هو لنفسه ميدانا واحدا من هذه الميادين، هو ميدان الأخلاق، فالمادة الخامة التي صب عليها فاعليته الفلسفية، هي العبارات التي ينطق بها الناس في أحاديثهم المتصلة بالمعاني الأخلاقية كالتقوى والشجاعة وما إلى ذلك.

إن المكانة الرئيسية التي يحتلها سقراط في الفكر اليوناني هي - بغير شك - مكانة مستمدة من منهجه الذي اشترعه التفلسف، لا فيما عسى أن يكون قد قرره للناس من حقائق أو أثبته لهم من قضايا، وكلمة «الديالكتيك» التي سمي بها كثير من المحاولات المنهجية منذ عهده إلى اليوم، إنما ترجع إلى فنه في النقاش الفلسفي.

37

وكذلك كان أفلاطون فيلسوفا تحليليا في كثير مما تعرض له، ومحاورة بارمنيدس مثل جيد لطريقته في التحليل، فبعد مقدمة طويلة، تتألف هذه المحاورة من أجزاء، كل جزء منها يحلل فرضا ميتافيزيقيا ليستخرج منه مضمونه، ولما كانت هذه الفروض الميتافيزيقية مستمدة من فلسفة بارمنيدس، فقد أسماها باسمه.

38

وماذا يكون «منطق» أرسطو إذا لم يكن محاولة جبارة أصيلة في التحليل؟ إنه بمؤلفه ذاك لم يرد بالطبع - لطبيعة المنطق الصورية البحت - أن يقرر حكما بذاته على أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية، إنه لم يرد أن يصف شيئا - فيما عدا العبارات الكلامية - وإنما جعل موضوعه تحليل هذه الأقوال التي يقولها الناس في شتى نواحي القول ، ليعلم القوالب الصورية التي تنحصر فيها أقوال الناس على كثرتها وتنوع موضوعاتها، فإذا قال أرسطو: إن القضية -كائنة ما كانت - تتألف من موضوع ومحمول، فهو إنما يحلل بذلك فكر الناس في عصره (وفي عصور طويلة تلت) بأن الإنسان ليس في مستطاعه أن يتحدث إلا إذا تحدث عن «شيء» ما، فيصفه بهذه الصفة أو تلك، وهو اعتقاد ينبني على اعتقاد أسبق منه، هو أن في العالم عناصر ثابتة، لكل عنصر منها هوية يمكن تحديدها وتعريفها، ثم يمكن وصفها بنعوت مختلفة، كما أقول عن البرتقالة مثلا: إنها مستديرة، أو إنها صفراء ... إلخ، ولما تغير هذا الرأي في عصرنا الحاضر، ولم يعد فكرنا العلمي قائما على أساس الهوية الثابتة للأشياء، بل على أساس أن الشيء المعين إن هو إلا تاريخه المؤلف من سلسلة حوادث، كل حادثة منها تقع في مكان معين وزمان معين، لم يعد شرطا - في المنطق الحديث - أن يكون الكلام دائما مؤلفا من موضوع ومحمول كما ظن أرسطو، لكن أرسطو لم يخطئ حين قال هذا الذي قاله في تحليل القضية؛ لأنه إنما يحلل الكلام الذي يقع له في أحاديث الناس تحليلا يستخرج به ما يتضمنه من عناصر، وما ينطوي عليه من صورة.

والفلاسفة التجريبيون من الإنجليز: «لوك» و«باركلي» و«هيوم» وأتباعهم، هم - على وجه الإجمال - من أولئك الذين نظروا إلى الفلسفة على أنها طريقة في التحليل، فلو استبعدت ما كتبوه في علم النفس؛ وجدت بقية آرائهم تحليلات لطائفة من المعاني،

39

وأصح من ذلك أن نقول عنهم ما قاله «آير»،

40

وهو أن معظم ما كتبه هؤلاء الفلاسفة يندرج تحت ما يسمى في فروع الفلسفة بنظرية المعرفة، والمفروض فيها أن تحلل ضروب الإدراك المختلفة بما في ذلك - إلى جانب المعرفة بمعناها الدقيق - الخيال والاعتقاد والتمييز بين ألوان القضايا المختلفة، وتحليل هذه القضايا وما يرد فيها من مدركات.

كان «لوك» فيلسوفا تحليليا؛ لأنه في الأعم الأغلب لا يثبت قضايا تجريبية بعينها أو ينفيها، بل تراه يتناول القضايا التي يقولها الناس كما هي ليحلل معانيها، وكذلك «باركلي » لا يتعرض - في الأغلب - إلى إثبات شيء أو إنكار شيء، بل يكاد هو أيضا يقتصر على تحليل ما يقال، وليس صحيحا ما هو شائع عنه من أنه أنكر وجود الأشياء المادية كالمقاعد والمناضد، فالذي ينكره هو التحليل الذي تقدم به «لوك» لأمثال هذه الأشياء، أعني أنه أبدل تحليلا بتحليل، فقد جعل «لوك» الإحساسات التي نتلقاها بحواسنا من شيء ما - كهذا القلم الذي في يدي مثلا - مرتبطة بعنصر، أي إن للشيء جوهرا مركزيا تلتف حوله صفاته، بحيث نستطيع أن نقول عن القلم مثلا: إنه أزرق وصلب ... إلخ، لكن «باركلي» لم يوافق على هذا التحليل، وجعل صفات الشيء لا تلتف حول عنصر أو جوهر، بل يرتبط بعضها ببعض فحسب، بحيث لا يكون الشيء عنده إلا مجموعة إحساساتنا به، متصلا بعضها ببعض على صورة ما، وكان الخطأ الذي وقع فيه «باركلي» حين تصدى لنقد «لوك» هو أنه استثنى النفس، إذ جعلها عنصرا قائما بذاته؛ ولهذا نهض «هيوم» ليدفع نقد «باركلي» إلى نتائجه المنطقية حتى النهاية، وإذن فالنفس أيضا إن هي إلا حالات مجزأة متتابعة، متصل بعضها ببعض على صورة ما، دون أن يكون هناك عنصر جوهري مركزي تتعلق به تلك الحالات، وهكذا ترى شغلهم الشاغل هو تحليل معاني كلام الناس في حياتهم الجارية أو في حياتهم العلمية، فماذا نعني حين نقول مثلا: هذا قلم؟ نعني - عند «لوك» - هذه مجموعة صفات تلتف حول عنصر خفي، ونعني - عند باركلي وهيوم - هذه مجموعة من الإحساسات ارتبط بعضها ببعض على نحو ما. حتى فكرة السببية التي كثيرا ما يقال عن «هيوم»: إنه أنكرها، لم تكن قط عنده موضع إنكار؛ لأنه فيلسوف يحلل العبارات والمدركات ولا يثبت شيئا أو ينكر شيئا، إنه اقتصر في فكرة السببية على تحديدها وتعريفها

41

فألقى ضوءا على ما يتضمنه قولنا مثلا: إن الكرة «أ» هي التي دفعت الكرة «ب» فحركتها.

ولسنا في هذا الموضوع نريد أن نؤيد أو نفند ما يقوله هؤلاء الفلاسفة في تحليلهم للعبارات وما تنطوي عليه من عناصر ومعان، فربما أصابوا هنا وأخطئوا هناك، أو ربما أخطئوا هناك وأصابوا هنا فذلك بحث آخر، لكن الذي يعنينا الآن هو أن نقرر هذه الحقيقة الآتية: وهي أن الفلسفة على أيديهم كانت عملية تحليلية، ولم تكن - في الأعم الأغلب - تقريرا عن ظواهر الكون المختلفة بإثبات صفات معينة لها أو نفيها عنها، ولو فعلوا لكان الأجدر أن يسلكوا في جماعة العلماء الذين من شأنهم ملاحظة الطبيعة ووصفها.

فإذا أريد للفلسفة بقاء، وجب أن تحصر نفسها في مهمتها الحقيقية الممكنة النافعة، ألا وهي التحليل المنطقي للألفاظ والعبارات: يقول «بيرتراند رسل»: «إن كل مشكلة فلسفية، إذا ما أخضعتها للتحليل وللتنقية الضروريتين؛ ألفيتها إما ألا تكون مشكلة فلسفية بالمعنى الصحيح، وإما أن تكون مشكلة منطقية، بالمعنى الذي نقصد إليه بكلمة منطق.»

42

إن الذي نتصدى لإنكاره في هذا الكتاب إنكارا قاطعا، هو إمكان التحدث عن «أشياء» غير محسة، وهو موضوع الميتافيزيقا بالمعنى الذي نرفضه، فإن قال لنا قائل: إن هذه هي مهمة الفلسفة الأساسية، أجبناه بأن الفلسفة عندئذ تفقد أساس وجودها ولا يعود لها كيان تقوم عليه؛ أما الفلسفة بمعنى التحليل، فهي شيء نرتضيه، ونستمد دعامة لنا تؤيد وجهة نظرنا من أعلام الفلاسفة: من سقراط، ومن أفلاطون في بعض محاوراته، ومن أرسطو في منطقه، ومن الفلاسفة التجريبيين الإنجليز، ولم نقل شيئا عن «كانت» الذي جاء الشطر الأعظم من فلسفته «نقدا» - أي تحليلا - للأسس التي تقوم عليها العلوم.

لكن «كانت» أخطر مكانة في ميدان الفلسفة التحليلية من أن نذكره في إشارة عابرة، فلنجعل للحديث في فلسفته النقدية فصلا بأسره، هو الفصل التالي.

الفصل الثاني

«كانت» وفلسفته النقدية

1

أريد بهذا الفصل أن أبين أن الفلسفة عند «كانت» هي - أولا وقبل كل شيء - تحليل للقضايا، وليست هي بالفلسفة التي يريد بها صاحبها أن يقول من عنده شيئا إيجابيا عن العالم أو أي جزء منه، الفلسفة عنده طريقة أكثر منها مادة، وليس هذا القول استنتاجا منا، بل هو نقل مباشر عن نص صريح ذكره، «كانت» نفسه في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه «نقد العقل الخالص» يصف به كتابه ذاك، إذ يقول إنه إنما يحاول أن يلتمس للميتافيزيقا طريقة للبحث تجعلها علما على غرار علمي الرياضة والطبيعة، فالكتاب «رسالة في المنهج وليس هو بشرح لمذهب في مادة العلم نفسه.»

1

وقد كان حسبنا أن نلاحظ الأسماء التي أطلقها «كانت» على مؤلفاته، كيف اشتملت على كلمة «نقد» (نقد العقل الخالص، نقد العقل العملي، نقد الحكم)؛ لنعلم منذ اللحظة الأولى أنه قد أراد بكتبه تحليلا في هذا المجال أو ذاك، لكننا قبل أن نحدد المراد بالطريقة «النقدية» عند «كانت»، يحسن بنا أن نشرح فكرة «الفروض السابقة»

2

بقسميها النسبي والمطلق؛ لأنها ستلقي ضوءا شديدا يعين القارئ على إدراك الطريقة النقدية إدراكا واضحا جليا.

كل عبارة ينطق بها الإنسان ليصف بها شيئا مما يصادفه في خبرته، أو يعبر بها عن فكرة، إنما تتضمن سؤالا سابقا ألقاه المرء على نفسه، أو ألقاه عليه شخص آخر، فجاءت عبارته بمثابة الجواب على هذا السؤال، فإذا نظرت إلى الساعة التي أمامي الآن فقلت: إنها الواحدة إلا عشر دقائق، فذلك القول هو في حقيقة أمره جواب لسؤال - ضمني أو صريح - ألقيته على نفسي، وهو: «كم الساعة الآن؟» وإذا قلت عن فلان إنه هو المسئول عن كسر الفنجان، كان ذلك أيضا جوابا لسؤال: «على من تقع التبعة في كسر الفنجان؟» ... وهكذا.

على أن السؤال بدوره يتضمن افتراضا سابقا عليه، افتراض حقيقة معينة أو عقيدة بذاتها، يستند إليها السائل في سؤاله، فلولا أنني أعلم أن الساعة التي أمامي تقيس الزمن وتخبر به، لما أمكنني أن أسأل ناظرا إليها: «كم الساعة الآن؟» ولولا أنني أعتقد في أن الإنسان مسئول عن بعض أعماله، لما أتيح لي أن أسأل عمن تقع عليه تبعة كسر الفنجان.

ويلاحظ أن العبارة التي تقولها تصف بها شيئا أو تعبر بها عن فكرة، إنما يتوقف قول السامع لها على اعتقاده في صدقها، سواء أكان في ذلك مخطئا أم مصيبا. أما الفروض التي تنطوي عليها العبارة، أعني تلك الفروض المتضمنة التي لولاها لما أمكن قول العبارة، فليست هي مما يعتمد في قبوله على كونه صادقا؛ لأنه لو خضع «الفرض» إلى مقاييس الصدق والكذب، لما كان «فرضا»، بل عبارة تصف هي الأخرى شيئا أو تعبر عن فكرة.

إن قولي: «(1) لو كان عندي عشرة آلاف جنيه، (2) كنت أغنى فرد في أسرتي.» مؤلف من جزأين: (1) فرض. (2) حقيقة تترتب على الفرض. فها هنا يجوز لك أن تصف الجزء الثاني من العبارة بأنه صادق أو بأنه كاذب، بناء على الحالة الواقعة فيما يختص بالثروة التي يملكها كل من أفراد أسرتي. أما الجزء الأول من العبارة، وهو الفرض: «لو كان عندي ...» فليس هو بمتوقف في قبوله على شيء من حالات الواقع، وبالتالي لا يكون متوقفا في قبوله على صدقه.

غير أن الفرض المتضمن في العبارة التقريرية التي أصف بها شيئا، هو بدوره قد يكون متضمنا لفرض سابق عليه - وعندئذ يكون فرضا نسبيا؛ أي إنه يكون فرضا بالنسبة للعبارة المترتبة عليه، لكنه يكون قضية تقريرية بالنسبة للفرض السابق عليه - أو قد يكون فرضا نهائيا لا يتضمن وراءه أي افتراض أسبق منه، وعندئذ يكون فرضا مطلقا؛ أي إن هناك أقوالا كثيرة واعتقادات كثيرة متوقفة عليه، أما هو فمفروض بذاته من غير استناد إلى فرض أعم منه.

بعبارة أخرى، إذا أمكن أن تسأل سؤالا عن الفرض المتضمن، كان ذلك دليلا على أنه فرض نسبي، معتمد على فروض أسبق منه، إذ لولا أسبقية تلك الفروض الأخرى لما أمكن إلقاء السؤال، وأما إذا رأيت استحالة أن يسأل عن الفرض المتضمن، فاعلم أنه إذن لا بد أن يكون فرضا مطلقا لا يسبقه فرض آخر.

لو قال قائل، مثلا: حمى هذا المريض سببها الذباب، فإن قوله يتضمن اعتقادا سابقا هو أن لهذه الظاهرة المعينة سببا، فلو سألته: وما الذي أدراك أن لهذه الظاهرة سببا بحيث رحت تبحث عنه؟ فقد يجيبك بقوله: لأن لكل شيء سببا، عندئذ يكون المتكلم قد وصل إلى الفرض المطلق في تفكيره في هذه الناحية التي نتحدث عنها، بدليل أنك لو عدت فسألته: وكيف عرفت أن لكل شيء سببا؟ أخذه الغضب أو أخذته الحيرة؛ لأنه يرى الأمر عندئذ لا يحتمل سؤالا؛ أي إنه فرض مطلق لا يتوقف على فرض سابق عليه.

والنقطة الهامة التي نريد إبرازها هنا، هي أن الفروض المطلقة لا يسأل عنها، لا لأننا نحاول السؤال فلا نجد الجواب، بل لأنه تناقض منطقي أن نقول عن القول: إنه افتراض مطلق، ثم نظن في الوقت نفسه أنه قابل للتعليل بما هو أعم منه وأشمل، ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن الناس يثير منهم الغيظ الشديد أن تسألهم أي سؤال عن فروضهم المطلقة، فمثلا هنالك فرض مطلق تنبني عليه أحكام كثيرة، وهو افتراض أسبقية الله على مخلوقاته، فها هنا لو سألت: وكيف عرفت أن الله غير مسبوق بشيء آخر؟ غضب منك المسئول؛ لأنه يحس أن سؤالك غير ذي موضوع، إذ هو منصب على ما لا يحتمل السؤال، وهو لا يحتمل السؤال لأنه فرض مطلق بالنسبة إليه.

فإذا صدقنا فيما نرمي إلى تقريره في هذا الكتاب، وهو أن الفلسفة مهمتها التحليل، كان الكشف عن الفروض السابقة المطلقة التي ينطوي عليها تفكير الناس في عصر من العصور، هو الواجب الأول للفيلسوف، فلن نمل من تكرار ما قلناه، وهو أن الفيلسوف ليس من شأنه أن يقرر الحقائق عن العالم أو أي جزء منه؛ لأن ذلك من شأن العلماء وحدهم، كل عالم في المجال الذي اختص في بحثه، وإنما ينحصر عمل الفيلسوف في تحليل ما يقوله العلماء من قضايا، تحليلا يبرز تكوينها وعناصرها، ثم يظهر ما استبطن في جوفها من فروض سابقة متضمنة، ولعل سقراط أن يكون أول من استحق اسم الفيلسوف في تاريخ الفكر، إذ هو أول من اضطلع بمثل هذا التحليل على نحو صريح، فجعل مهمته أن يأخذ من الناس أقوالهم وأحكامهم - وبخاصة في مسائل الأخلاق - ليمضي في تحليلها، صاعدا من القول إلى الفرض المتضمن فيه، ومن هذا الفرض إلى ما قبله، وهكذا حتى يصل بمن يحاورهم إلى مرحلة فروضهم المطلقة ، فإذا ما سألهم عن الفروض المطلقة؛ أخذهم الغضب، فقد أسلفنا لك في الفقرة السابقة أن الإنسان كثيرا ما يغضبه أن تضع له فروضه المطلقة موضع السؤال والبحث، ولعل معاصريه حين اتهموه بأنه «مفسد للشباب»، كان ذلك أخص ما يقصدون إليه من المعاني، وهو أنه يبيح لنفسه أن يضع الفروض الأولية المقبولة عند الناس في غير حاجة إلى جدل أو نقاش، يضعها موضع البحث، فيشكك الشبان فيما لا يجوز لهم أن يتشككوا فيه.

إن الإنسان في تفكيره العابر - أعني حين لا يأخذ نفسه بصرامة المنهج العلمي - لا يكاد يدرك أن ما يقوله من عبارات تبدو عليها البساطة منطوية على فروض سابقة، فعند التفكير العابر لا تكون عبارة مثل قولنا: «الساعة تدل على الزمن» منطوية على شيء غير معناها هذا البسيط الظاهر، مع أنها - كما أسلفنا لك منذ حين - تنطوي على سؤال هو: «لماذا صنعت الساعة؟» وهذا السؤال بدوره ينطوي على فرض أسبق منه هو «أن لبعض الأشياء غايات مقصودة»، وهذا بدوره يتضمن اعتقادا أسبق، هو أن العالم ليس قوامه المصادفات ... وهكذا.

أقول: إن التفكير العابر، يأخذ أمثال هذه العبارات على أنها مكتفية بذاتها قائمة بنفسها، وليس وراءها من شيء آخر، وأما إذا أراد المفكر أن يمعن في تحليل أفكاره - والتحليل شرط جوهري للتفكير العلمي - فإنه لا بد أن يتعقب الفكرة إلى أصولها السابقة، حتى ينفض كل فحواها وينثر كل مكنونها، فيأمن بعد ذلك أن يقع في خطأ.

إنه يستحيل على الإنسان أن يكون صاحب تفكير علمي، إلا إذا أخذ نفسه أخذا شديدا في ترتيب الأسئلة التي يلقيها في موضوع بحثه، فلأن تعرف أي سؤال تلقيه في مجال بحثك، وكيف يكون ترتيب أسئلتك، هو في الحقيقة معرفتك لخطوات السير المنتج المستقيم.

ومن وسائل التدريب على مثل هذا المنهج العلمي، أن تعتاد حل الجملة إلى ما تنطوي عليه من أسئلة وفروض؛ فذلك بمثابة فك الخيوط المعقدة في حزمة متشابكة، ثم ترتيب تلك الخيوط خيطا خيطا، فعندئذ يتاح لك أن تعرف عناصر المشكلة التي أنت بصددها معرفة علمية مستنيرة. وفي كتب المنطق مغالطة مشهورة، هي مغالطة إدماج جملة أسئلة في سؤال واحد، تضليلا للشخص المسئول، والمثل الذي تسوقه معظم الكتب المنطقية لهذه المغالطة، هو أن يسأل سائل: «هل أقلعت عن ضرب زوجتك؟» هذا سؤال واحد من وجهة نظر النحو واللغة، لكنه جملة أسئلة عند المنطق، فيمكن تحليله إلى الأسئلة الآتية: (1) هل لك زوجة؟ (2) وهل تعودت ضربها؟ (3) وهل فكرت في الإقلاع عن ضربها؟ (4) وهل بدأت في تنفيذ ما اعتزمت عليه بفكرك؟

والتحليل وحده لا يكفي، بل لا بد من ترتيب العناصر؛ لأن سؤالا من الأسئلة قد يتوقف على السؤال السابق، ففي هذا المثل لا يجوز السؤال عن الإقلاع عن ضرب الزوجة، إلا إذا سبقه سؤال عما إذا كان هناك عادة ضربها، وهذا بدوره لا يجوز إلقاؤه إلا إذا سبقه سؤال عن وجود زوجة لدى الشخص المسئول.

هذا المثل الساذج، هو في الحقيقة صورة مصغرة بسيطة للتفكير العلمي المنهجي، فالتفكير العلمي هو تفكير مرتب، والترتيب معناه أن تضع عناصر المشكلة في وضعها المنطقي سابقا فلاحقا، ولا يتيسر ذلك بغير إخراج جميع العناصر الكامنة في المشكلة التي نكون بصدد بحثها لكي نضع الخطوة المفترضة قبل الخطوة التي تنبني على افتراضها.

ولو استطعنا أن نحلل أفكار شخص كما هي مبسوطة في عباراته، أو أفكار عصر كما هي قائمة في إنتاجه من مؤلفات وما إليها، بحيث نبرز الفروض الأولى التي يقوم عليها البناء كله، كنا بذلك فلاسفة بالمعنى الذي نريد تقريره لكلمة «فيلسوف»، وإذا قبلنا هذا المعنى للفلسفة، ثم إذا جعلنا «الميتافيزيقا» هي مثل هذا التحليل الذي يخرج الفروض السابقة المنبثة في التفكير العلمي، كانت «الميتافيزيقا» عملا مقبولا من وجهة نظرنا، إذ «الميتافيزيقا» بالمعنى المرفوض هي تلك المحاولات التي يحاول بها أصحابها أن ينبئوا بأحكام إيجابية عن أشياء غير محسوسة.

ولما كان «عمانويل كانت» قد جعل مهمته الأولى أن يحلل قضايا العلم مثل هذا التحليل الذي أشرنا إليه، كنا نعده في طليعة فلاسفة التحليل، وجدير بنا أن نلقي بعض الأضواء على ما أخذ «كانت» على نفسه أن يؤديه؛ ليزداد هذا القول وضوحا في ذهن القارئ.

2

كان الشائع منذ «ديكارت» أن العلوم ثلاثة، هي: الرياضة وعلم الطبيعة والميتافيزيقا، واستعرض «كانت» موقف هذه العلوم الثلاثة واختبر صلابة الأسس التي تقوم عليها، فانتهى إلى نتيجة أيقن بصدقها، وهي أن الرياضة وعلم الطبيعة كليهما يقومان على أسس صحيحة؛ ولذلك تقدما، وأما الميتافيزيقا فهي وحدها التي يقوم بناؤها على أساس واه متهافت ضعيف؛ ولذلك رآها متعثرة الخطى، فجعل مهمته أن يحلل الأسس التي قامت عليها الرياضة وعلم الطبيعة، لعله يهتدي على ضوئها إلى الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه الميتافيزيقا فتتقدم بمثل ما تقدما.

وجد «كانت» أن الرياضة قامت على أساس متين منذ أيام اليونان، وأن علم الطبيعة كذلك قد قام على أساس سليم منذ جاليليو في عهد النهضة الأوروبية، فماذا صنع اليونان للرياضة؟ وماذا صنع جاليليو لعلم الطبيعة؟ لعلنا نستطيع أن نصطنع للميتافيزيقا مثل ما صنع هنا أو هناك، فتستقيم لها الطريق كما استقامت طريق الرياضة والعلوم الطبيعية.

أما الرياضة فقد كشف اليونان لها عن طريق التقدم العلمي، حين عالجوا مشكلاتها لا على أساس أنها مسائل جزئية عملية تصادف الإنسان في حياته اليومية، بل عالجوها على أساس فروض افترضوها، ثم حاولوا أن يستنبطوا منها كل ما يمكن استنباطه من نظريات ونتائج، فليس علم الهندسة - مثلا - هو أن أرسم مثلثا وأقيس أبعاد أضلاعه وانفراج زواياه، بل هو افتراض مسلمات أولية، ثم استنتاج بناء نظري يتولد بالضرورة عن تلك المسلمات، فانظر إلى كتاب إقليدس، تجده قد بدأ الكتاب ببديهيات ومصادرات مسلم بها وتعريفات يشترطها لبعض ألفاظ هامة في علم الهندسة، كالنقطة والخط والسطح، ثم أخذ بعد ذلك يستنتج النظريات التي تلزم عن تلك المقدمات المفروضة، إن الهندسة لا تكون علما حين نقول لأنفسنا: هذه قطعة أرض مثلثة الشكل، فهلم نقس أبعادها، بل تكون الهندسة علما حين نبدأ بفرض قائلين: افرض أن أ ب ج مثلث، وافرض أن أ ب = أ ج، فماذا يترتب على هذا الفرض وذاك من نتائج؟ وبكلمة مختصرة نقول: إن اليونان قد جعلوا الرياضة علما قائما على أساس صحيح، حين جعلوها بناء قائما على فروض، فيفرضون الفروض أولا، ثم يسألون أسئلة محاولين الإجابة عنها على أساس تلك الفروض.

وذلك بعينه ما وجده «جاليليو» في علم الطبيعة حين أراد أن يرسي قواعده على أرض صلبة، إذ وجد أن طريق التقدم العلمي في هذا الميدان أيضا، هو في فرض الفروض ثم في التفكير في التجارب التي تثبتها، وليس تقدم العلوم الطبيعية مرهونا بمشاهدات جزئية ثم البحث عما تدل عليه تلك المشاهدات.

والسمة المشتركة بين موقف اليونان إزاء الرياضة وموقف جاليليو إزاء علم الطبيعة، هي أن كليهما لم يحاول بناء العلم بادئا تدليله من مشاهدة الأشياء الجزئية التي تمر عابرة في الحياة اليومية، بل راح يسأل الأسئلة بناء على فروض يفرضها، ثم يحاول الإجابة عنها، فكأنما العلم هو في صميمه أسئلة يجاب عنها، وفي ذلك قال «بيكن» بحق عن علم الطبيعة: إنه استجواب للطبيعة، فالعالم يفرض لنفسه فرضا، ثم يلقي على الطبيعة سؤالا تلو سؤال؛ ليرغمها على الإجابة له إن كان فرضه ذاك صوابا أو لم يكن، وليست مهمة العالم عنده هي أن يقف إزاء الطبيعة موقفا سلبيا، يشاهد ما يفرضه عليه، ويسجله وهو قانع به، وقد اعترف «كانت» بما هو مدين به ل «بيكن» في هذا الاتجاه، بل اتخذ عبارة مقتبسة من بيكن شعارا لكتابه في «النقد».

3

فالذي أراد «كانت» أن يدعو إليه، هو أن طريق التقدم للميتافيزيقا مرهون كذلك - كما هي الحال في الرياضة والعلوم الطبيعية - بأن يعرف الميتافيزيقي كيف يفترض لنفسه الفروض، ثم كيف يلقي الأسئلة على أساس تلك الفروض بطريقة منظمة منسقة، بدل أن يمضي في حجاج أعمى انتظارا لما قد يؤدي هذا الحجاج إليه من نتائج.

ونعيد هذا الذي قلناه، بعبارة «كانت» نفسه كما وردت في مقدمته للطبعة الثانية من كتابه «نقد العقل الخالص»،

4

يقول «كانت»: «في الرياضة وعلم الطبيعة - وهما العلمان اللذان يقدم العقل فيهما معرفة نظرية - يتعين الهدف قبل المضي في طريق البحث، فالرياضة تفعل ذلك معتمدة على العقل الخالص، وأما علم الطبيعة فلا بد له - إلى حد ما على الأقل - أن يعول على مصادر أخرى للمعرفة غير العقل.»

5 «بدأت الرياضة سيرها على الطريق القويمة للعلم، منذ أقدم العصور التي يمكن الرجوع إليها بتاريخ العقل البشري، وأعني به العصر الذي عاش فيه ذلك الشعب العجيب، شعب اليونان، ولا ينبغي لظان أن يظن بأن الأمر [كان هينا ميسورا] ... إذ لم يكن من اليسير على الرياضة أن تهتدي إلى طريق العلم، أو قل: إنه لم يكن من اليسير عليها أن تشق لنفسها طريقها السلطاني المستقيم، بل الأمر على نقيض ذلك، فعقيدتي هي أن الرياضة قد لبثت أمدا طويلا - وبخاصة عند المصريين - في مرحلة التحسس، ولا بد أن يكون التحول في طريقها [من طريق التحسس إلى الطريق العلمي] قد جاء نتيجة لانقلاب أحدثته فكرة مواتية طرأت لواحد من الناس، فاصطنع لها تجربة بعينها، فكان هذا [أي ورود الفكرة أولا واصطناع التجربة لها ثانيا] هو العلامة التي ميزت الطريق الذي لا بد للعلم أن يبدأ السير فيه ... إن التاريخ لم يحفظ لنا الوقت الذي حدثت فيه هذه الثورة العقلية - وهي أهم بكثير جدا من كشف الطريق حول رأس الرجاء الصالح - كذلك لم يحفظ لنا التاريخ من هو صاحب هذه الثورة الموفق ... فلقد لمع شعاع جديد من الضوء على عقل الرائد الأول (وليكن هذا الرائد طاليس أو غيره) الذي أقام البرهان على خصائص المثلث المتساوي الساقين.»

6

فالطريقة الصحيحة التي التمسها ذلك الرائد الأول في البرهان الرياضي، لم تكن في أن يرسم مثلثا أمامه، ثم يبحث في خصائصه التي يراها بعينيه، بل هي أن ترد على عقله فكرة بالنسبة إلى هذا المثلث، ثم يسأل نفسه الأسئلة عما يترتب على هذه الفكرة من نتائج، على فرض أنها فكرة صحيحة، وبعدئذ إذا ما رسم مثلثا أمامه ليثبت عليه ما قد رآه بعقله بادئ ذي بدء، فلا يكون هذا المثلث المرسوم إلا بمثابة جزئية تمثل الفكرة التي سبقت إلى ذهنه . «ولبث العلم الطبيعي أمدا أطول بكثير جدا [مما لبثته الرياضة] حتى بدأ سيره في الطريق السوية للعلم، فالحق أن العلم الطبيعي لم يقض في هذه الطريق العلمية إلا قرنا ونصف قرن، وكان ذلك منذ بيكن، إذ اهتدى إلى هذا الكشف بفضل آرائه الفذة ... ففي حالة العلم الطبيعي أيضا، يمكن تفسير الكشف الجديد بأنه النتيجة المباغتة لثورة عقلية ...

إن جاليليو حين أقام التجربة لكرات كان قد سبق له تصميم أوزانها، بحيث تتدحرج هابطة على سطح منحدر، وإن «تورشلي» حين جعل الهواء يحمل ثقلا، كان قد حسب مقداره بفكرة سابقة، وهو أن يكون الثقل مساويا لوزن عمود معين من الماء ... عندئذ أشرق شعاع من الضوء على دارسي الطبيعة، إذ علموا أن العقل لا يدرك في الأشياء إلا ما أنتجه هو وفق خطة من وضعه ... فلا بد للعقل أن يشق هو الطريق أولا بمبادئ يقيمها ... ثم يضطر الطبيعة بعد ذلك اضطرارا أن تجيب له عن أسئلة صاغها العقل نفسه، فالملاحظات العابرة التي لا تتم وفق خطة سابقة مدبرة، يستحيل أن تنتهي إلى قانون ضروري، فالقانون الضروري [أي الذي تكون صحته مؤكدة يقينية] لا يكشف عنه إلا العقل وحده.» «أما الميتافيزيقا؛ فلم يواتها الحظ السعيد بعد لتبدأ سيرها في طريق العلم المأمون ... فترى الباحثين في الميتافيزيقا أبعد ما يكونون عما يشبه إجماع الرأي، مما يجعل الميتافيزيقا توشك أن تكون ميدانا للقتال، ولم ينجح أحد من المتقاتلين في كسب شبر واحد من الأرض، وهذا يدل - بغير شك - على أن الطريقة التي اتبعتها الميتافيزيقا إلى الآن، قد كانت مجرد خبط عشوائي، فما الذي اعترض سبيل الباحثين دون الكشف عن الطريق العلمي القويم في هذا الميدان [ميدان الميتافيزيقا]؟ أيكون هذا الطريق مستحيلا كشفه على الإنسان؟ أم أنا أخفقنا حتى الآن، ولكن هنالك من الدلائل ما يبرر لنا الأمل في أننا إذا بذلنا جهدا جديدا، فربما كنا أحسن حظا من أسلافنا في ذلك؟»

7

3

بهذا الأمل كتب «كانت» كتابه في «نقد العقل»، إذ أراد به أن يمهد السبيل إلى ميتافيزيقا تقوم في المستقبل خالية من أوزار الماضي وأخطائه، إنه لم يرد بكتابه في «نقد العقل» أن يقدم تفكيرا ميتافيزيقيا إيجابيا، بل أراد أن يتخذ منه أداة تعينه على كشف الطريق السوي للبحث الميتافيزيقي المنتج، وهذا البحث الميتافيزيقي - كما قال في المقدمة - إنما يدور حول موضوعات ثلاثة؛ هي: الله والحرية والخلود.

لقد بدأ «كانت» عمله هذا بوعد قطعه على نفسه، وهو أن يترك الموضوعات الميتافيزيقية جانبا - وهي عنده البحث في الله والحرية والخلود - حتى يفرغ من تحليله لبناء العلم الرياضي وبناء العلم الطبيعي، وبعدئذ يعود إلى البحث الميتافيزيقي؛ ليقيمه على نفس الأسس التي رآها في ذينك العلمين، لكنه فرغ من «نقده» للرياضة وعلم الطبيعة، ثم لم يتم ما كان قد وعد به من تشييد بناء الميتافيزيقا على غرارهما، ولما سئل في ذلك، قال: إنه وجد أن «النقد» هو نفسه الميتافيزيقا التي أرادها،

8

وهذا هو عندي بيت القصيد.

قام «كانت» بتحليل لقضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية ظنا منه - في بداية الأمر - أنها ستهديه إلى طريقة التفكير السديد في القضايا الميتافيزيقية، فتراه يقول في مقدمة كتابه «نقد العقل»: إن «محاولة تغيير طريقة البحث في الميتافيزيقا حتى تكون على غرار الهندسة والطبيعة، هي الغرض الرئيسي من هذا الكتاب.»

9

لكنه لا ينتهي من بحثه ذاك إلا وقد أدرك أن التحليل للقضايا العلمية في الرياضة والطبيعة هي كل ما يرجوه الفيلسوف لنفسه، ولا شيء غير ذاك، فإن كان للميتافيزيقا معنى، فهي تحليل القضايا العلمية.

ومن حسن الطالع أن «كانت» كان رجلا شديد الاهتمام بالتفصيلات فيما يتعرض له من أمور، فلما قرر لنفسه أنه لا قيام لعلم إلا إذا ألقيت أسئلة معينة، وأن الطريقة العلمية الدقيقة هي نفسها المهارة في إلقاء الأسئلة، ولما قرر لنفسه أن إلقاء الأسئلة يتضمن دائما فروضا، ولما رأى أن الرياضة وعلم الطبيعة قد أصابا تقدما حين عرفا كيف ينظمان إلقاء الأسئلة على أساس الفروض التي يفرضها أصحاب هذا العلم أو ذاك، أقول: إنه من حسن الطالع أن «كانت » حين رأى هذا كله في علم الرياضة وعلم الطبيعة، لم يكتف بمثل هذا التعميم في القول، بل راح يفصل القول تفصيلا شديدا في الرياضة وعلم الطبيعة، حتى استغرق كتابه كله، وحتى ظن الناس أنه قد نسي موضوعه الأصلي، وهو التماس الطريقة القويمة للبحث الميتافيزيقي المنتج، راح فيلسوفنا يبحث بحثا تفصيليا في الفروض الكائنة وراء البناء الرياضي والفروض الكائنة وراء بناء العلم الطبيعي، راح يحلل القضية الرياضية والقضية الطبيعية تحليلا تفصيليا دقيقا ليتعقبها حتى الأساس الذي تقوم عليه هذه القضية أو تلك، ولما سئل آخر الأمر: وأين الميتافيزيقا في هذا العمل كله؟ أجاب: إنها في هذا التحليل نفسه.

ومما هو جدير بالملاحظة أن «كانت» قد اختصر القول في تحليله لقضايا الرياضة؛ لأنه لم يكن من علماء الرياضة، أما علم الطبيعة فقد كان مادة اختصاصه إذ كان عالما في الطبيعة من الطراز الأول في عصره، واشتغل بتدريسها مدة طويلة؛ ولذلك تراه قد أفاض القول في تحليله للقضية الطبيعية إفاضة لا تدع زيادة لمستزيد؛ لأنه ها هنا كان يجول في ميدانه الذي يألف كل شيء فيه، ما ظهر منه وما خفي على العين العابرة.

أطلق «كانت» اسم «التحليل النقدي»

10

على بحثه الخاص بتحليل قضايا العلم الطبيعي، وردها إلى الفروض الكائنة وراءها، وأعيد القول مرة أخرى لأهميته، فأذكر أن «كانت» حين أجرى هذا البحث التحليلي في قضايا العلم الطبيعي، لم يقصد به إلى أن يكون بحثا ميتافيزيقيا، بل أراد به أن يكون مفتاحا للميتافيزيقا، أو منوالا ينسج عليه من أراد البحث في الميتافيزيقا، لكنه عاد آخر الأمر فغير وجهة نظره، إذ جعل هذا البحث النقدي نفسه هو بعينه البحث الميتافيزيقي الذي كان ينشده.

11

ولكن ماذا نقول في الموضوعات الثلاثة التي كان قد جعلها عند بداية حديثه، موضوع البحث الميتافيزيقي بصفة خاصة، وأعني بها: الله والحرية والخلود؟ هل يجوز القول فيها أو لا يجوز؟

يجيب «كانت» على ذلك بأنها موضوعات يستحيل أن يستغني الإنسان عن الحديث فيها، لكنها خارجة عن حدود العقل النظري ومستطاعه، فإذا نحن جعلناها موضع بحث نظري عقلي علمي، وقعنا في متناقضات ... يقول كانت في مستهل كتابه «نقد العقل الخالص» (في الطبعة الثانية) ما يأتي:

كتب على العقل الإنساني أن يتسم بهذه السمة المميزة، وهي أنه - في جانب من جوانب علمه - مثقل بأسئلة، ومحتوم عليه بحكم طبيعته نفسها ألا يهملها، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع الإجابة عنها؛ لأنها تجاوز حدود قدراته كلها،

12

وإذا اضطر العقل إلى الرجوع إلى مبادئ تجاوز حدوده، فهو بذلك «يطوح بنفسه في الظلام والمتناقضات.»

13

فكأنما يريد «كانت» أن يقول: إن الحديث في الموضوعات الميتافيزيقية بهذا المعنى الخاص؛ وهي: الله والحرية والخلود، ممكن، لكن إمكانه لا يكون عن طريق العقل النظري؛ لأن هذا العقل النظري له حدود لا يستطيع مجاوزتها بغير أن «يطوح بنفسه في الظلام والمتناقضات»، وها هنا تختلف الوضعية المنطقية عن «كانت»؛ لأنه في رأي هذا المذهب الوضعي المنطقي أن الحديث في هذه الأمور وأمثالها غير مشروع بتاتا، ما دمنا نريد بالحديث أن يكون منطقيا، أي قابلا لأن يوصف بأنه صادق أو كاذب، فإذا كان «كانت» قد سبق إلى القول باستحالة الميتافيزيقا على العقل النظري، فقد بنى تلك الاستحالة على أساس غير الأساس الذي ترفضها عليه الوضعية المنطقية، فبينما الوضعية المنطقية ترفضها على أساس أن عبارتها ليست من الكلام المفهوم عند المنطق ومعاييره، نرى «كانت» يرفضها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات، وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية عنده حقيقة نفسية، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي. هي عند «كانت» حقيقة نفسية بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه للأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة، هي مستحيلة الآن لأن العقل الإنساني لم يخلق لإدراكها، كما لم تخلق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن أقوالها فارغة من المعنى بحكم ما اتفقنا عليه في طرائق استعمال اللغة، إنها أقوال لا تصف شيئا هنا أو هناك، بحيث يجوز لنا أن نسأل: أيمكن حقا أن يدرك الإنسان هذا الشيء أم أن إدراكه مستحيل عليه.

ونحب بعد هذا الاستطراد أن نجمع شتات القول، فنلخص ما أسلفناه في هذه الفقرة من حديثنا فيما يأتي: يمكنك أن تجعل للميتافيزيقا عند «كانت» معنيين، وهي عنده مستحيلة بأحد هذين المعنيين، لكنها ممكنة بالمعنى الآخر، هي مستحيلة على العقل النظري العلمي إذا أريد بها البحث فيما هو فوق متناول التجربة البشرية، وهي ممكنة إذا أريد بها تحليل القضايا العلمية تحليلا ينتهي بنا إلى إبراز الفروض التي تستند إليها تلك القضايا.

وقد بدأ «كانت» بالاعتراف بمعنى واحد لها، وهو المعنى الأول، إذ كانت لفظة «الميتافيزيقا» عنده بادئ ذي بدء تعني «مجموعة الأحكام الفلسفية كلها فيما عدا الأحكام المنطقية، وذلك بعبارة أخرى معناه: كل الأحكام التي لا تنبني على الحدس التجريبي أو الحدس الرياضي»،

14

لكنه بعد خوضه في تحليل الأحكام العلمية - رياضية وطبيعية - انتهى إلى المعنى الثاني، فأصبحت الميتافيزيقا بمعناها المجدي من الناحية العلمية، هي مجرد تحليل القضايا العلمية.

فموقفنا إزاء «كانت» هو رفض للمعنى الأول، لا على أساس أن الميتافيزيقا عندئذ تكون فوق مستطاع العقل الإنساني، بل على أساس أن أقوالها تكون فارغة من المعنى وتأباها قواعد تكوين اللغة ذاتها، وقبول للمعنى الثاني، فإن كانت كلمة «ميتافيزيقا» معناها «تحليل القضايا العلمية» كان موضوعها هو الذي قبلنا أن يكون عمل الفيلسوف، وسنبين فيما يلي طريقة «كانت» النقدية، أي طريقته في التحليل.

4

تبدأ الطريقة النقدية بالاعتراف بأن لدى الإنسان متفرقات من المعرفة، فأنا أعلم مثلا أن هذا الجدار أبيض، وأن 5 + 7 = 12، وأن جسمي له امتداد محدود في المكان ... وهكذا، إنها لا تريد أن تتشكك في صدق ما نعلمه عن الدنيا الخارجية، فليس البحث في صدق العلم أو كذبه من شأنها، بل هي تبدأ - كما قلنا - بقبول هذه الحقيقة الواقعة، وهي أن الناس يعلمون كذا وكيت من القضايا عن دنياهم الخارجية، فما هي الشروط الأولية التي أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه؟ بعبارة أخرى: تستطيع أن تقول إن القضية تنقسم إلى نوعين: قضية ابتدائية وقضية ثانوية، الأولى هي القضية التي تصور واقعة من وقائع العالم الخارجي، كقولنا: «الغربان سوداء.» والثانية هي القضية التي تقرر علم الناس بقضية ابتدائية، كقولنا: «الناس يعلمون أن الغربان سوداء.»

15

القضية الابتدائية تقابل الحقيقة الخارجية مقابلة مباشرة، وهي تصورها تصويرا قد يكون صوابا وقد يكون خطأ، وأما القضية الثانوية فتشير إلى موقف الإنسان العرفاني إزاء حقيقة معينة، والذي نقوله الآن: هو أن الطريقة النقدية عند «كانت» لا تعنى بالنوع الأول من القضايا، بل تعنى بالنوع الثاني، وهي تريد بالتحليل أن تكشف عن الظروف العرفانية الأولية التي أتاحت للإنسان أن يعلم ما يعلمه.

ومعلومات الإنسان - على كثرتها - يمكن حصر مصادرها في مصدرين، فهي إما جاءت إلى الإنسان خلال التجربة الحسية، وإما أن تكون عنده غير معتمدة على تلك التجربة، أو بعبارة أخرى؛ معلومات الإنسان إما بعدية أو قبلية،

16

وكل من هذين يعود فينقسم قسمين، فهو إما تحليلي أو تركيبي.

17

وإذن فمعلومات الإنسان على كثرتها تقع في أقسام أربعة، تمثلها أربعة أنواع من القضايا، فالقضية التي نعبر بها عن شيء نعلمه، لا تخرج عن أن تكون واحدة مما يلي: (1)

قضية قبلية تحليلية، مثل قولنا: «الأجسام ممتدة.» فهذه معرفة قبلية لا تحتاج إلى خبرة حسية لكسبها؛ لأن كلمة «الأجسام» نفسها لا يمكن فهمها بغير أن نعلم أن «الامتداد» جزء من معناها، فكأنني إذا عرفت كلمة «الأجسام» وحدها وأدركت معناها، فقد عرفت بالتالي أنها «ممتدة»، وإذن فهي معرفة قبلية؛ لأنها لا تعتمد على الخبرة الحسية، وهي تحليلية لأن محمولها لا يضيف شيئا إلى موضوعها، أعني أننا لا نقول بها شيئا سوى أن نحلل الموضوع تحليلا يبرز بعض عناصر معناه. (2)

قضية قبلية تركيبية، مثل قولنا: «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» فهي أولا تركيبية بمعنى أن المحمول فيها وهو «يتمدد بالحرارة» ليس جزءا من المعنى الضروري لكلمة «معادن»، فليس يشترط العقل أن تكون المعادن مما يتمدد بالحرارة، وإنما علم الإنسان عنها هذه الصفة بالخبرة والمشاهدة، لكن الإنسان في خبرته تلك ومشاهدته لم يستعرض كل أجزاء المعادن جزءا جزءا، بل اكتفي بقليل منها رآه يتمدد بالحرارة، فعمم الحكم قائلا: «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» فهو بهذا الحكم العام يحكم على أجزاء من المعادن لم تقع له في خبرته ولم تخضع لمشاهدته، وإذن فعلمه عنها قبلي غير معتمد على تجربة حسية.

ومن هذا القبيل تكون قضايا العلوم التجريبية كلها، فهي كلها تعميمات يعلم الإنسان شمولها على أفراد النوع كله، وضرورة صدقها على كل هذه الأفراد، على الرغم من أن الباحث لم يستعرض بخبرته إلا جانبا ضئيلا من هذه الأفراد، وسترى فيما بعد أن هذا النوع من القضايا - أعني القضايا القبلية التركيبية - هو الذي كان عند «كانت» مشكلة المشاكل، حتى تستطيع أن تعد فلسفة «كانت» كلها محاولة لتحليل هذا النوع، كي يقوم بناء العلم على أساس مكين، إذ العلم - كما قلنا - قضاياه كلها من هذا القبيل. (3)

قضية بعدية تحليلية، كقولي مشيرا إلى الحائط الذي أمامي «هذا الجدار أبيض.» فأنا في هذه الحالة أتحدث عن جدار جزئي معين أراه رؤية مباشرة وأشير إليه، ويستحيل أن أراه ولا أرى في الوقت نفسه أنه «أبيض»، وإذن فكلمة «أبيض» لا تضيف علما جديدا إلى معرفتي «لهذا الجدار»، إنني ما دمت قد عرفت «هذا الجدار» بأن وجهت انتباهي إليه، فقد عرفت بالتالي صفة البياض فيه، وعلى ذلك فهي قضية تحليلية، أما إنها بعدية فواضح من أنني لا أستطيع أن أعرف «هذا الجدار» إلا بعد خبرة حسية، فلا بد أن أوجه إليه بصري لأعرف وجوده ولونه. (4)

قضية بعدية تركيبية، كقولي: إن عدد أوراق هذه الزهرة مساو لعدد أوراق تلك الزهرة، المعرفة هنا جاءت من الخبرة الحسية، وإذن فهي بعدية، ثم هي تركيبية؛ لأن معرفتي لعدد أوراق الزهرة الأولى لا تتضمن شيئا بالنسبة لعدد أوراق الزهرة الثانية، فقد تكون الزهرة الثانية أكثر أو أقل أو مساوية في عدد أوراقها للزهرة الأولى.

هذه أنواع أربعة من القضايا تمثل كل ضروب المعرفة عند الناس ، وليس فيها ما يثير الإشكال إلا القضية القبلية التركيبية، فلا إشكال في قضية قبلية تحليلية؛ لأني ما دمت قد اعترفت أن علمي فيها مستقل عن الخبرة الحسية وغير معتمد عليها، فقد اعترفت بالتالي أنني لم أزد بها على عملية تحليل لبعض معارفي، كذلك لا إشكال في قضية بعدية تركيبية؛ لأني ما دمت قد اكتسبتها من الخبرة الحسية وحدها، فلا بد أن يكون فيها إضافة إلى ما كنت أعلمه، ولا إشكال أيضا في قضية بعدية تحليلية حين يكون الموضوع فيها فردا جزئيا ندركه بحواسنا إدراكا مباشرا، وحين يكون المحمول فيها صفة لا بد أن تظهر في الموضوع بمجرد إدراكه، كلون الجدار في المثل الذي أسلفناه.

لكن الإشكال كل الإشكال في القضية القبلية التركيبية؛ لأنها بحكم كونها تركيبية، تكون معتمدة على الخبرة الحسية، إذ هذه الخبرة وحدها هي التي تضيف إلى علمي علما جديدا، وتكون أيضا بحكم كونها تركيبية لا هي بالشاملة ولا هي بالضرورية؛ لأني إذا خبرت بعض أفراد المعادن - مثلا - ووجدتها تتمدد بالحرارة، فهذا «البعض» المختبر هو وحده حدود علمي، ولا يجوز لي أن أجاوزه إلى سائر أجزاء المعادن التي لم أخبرها، إذن فالقضية بحكم كونها تركيبية لا تكون شاملة، كذلك لا تكون ضرورية؛ لأنه كان يجوز للخبرة الحسية أن تأتيني من العلم بغير ما أتت به، كأن يجوز مثلا أن أخبر المعادن فلا أجدها تتمدد بالحرارة، فكوني وجدتها تتمدد بالحرارة أمر لا ضرورة فيه من العقل ولا تحتيم، فهكذا وجدتها، وكان يمكن أن أجدها على غير هذه الصورة. أعود فأقول: إن القضية بحكم كونها تركيبية لا هي بالشاملة ولا بالضرورية، لكنها من جهة أخرى بحكم كونها قبلية لا بد أن تدل على الشمول والضرورة، فالقضية العلمية: «كل المعادن تتمدد بالحرارة» لا يقتصر صدقها على جزئيات المعادن التي خبرناها، بل صدقها شامل للمعادن كلها بكل أجزائها، وصدقها ضروري بمعنى أنه يستحيل أن نجد جزءا من المعدن لا يتمدد بالحرارة،

18

فمن أين جاء هذا الشمول وجاءت هذه الضرورة للقضايا التركيبية القبلية ، وهي بعينها قضايا العلوم؟ وبعبارة أخرى: من أين جاء هذا اليقين لدينا بصدق أحكام العلم؟ هذا هو السؤال الذي حاول «كانت» أن يجيب عنه، فانتهج في محاولته هذه طريقته النقدية التي نحن بصدد شرحها.

إننا إذ نقول عن فلسفة «كانت»: إنها «نقدية» فإنما نعني بذلك أنها تحليلية، فماذا تحلل؟ هي تتناول أحكام الناس الكلية التي يقولونها في العلوم - أو في حياتهم اليومية - محاولة حلها إلى عنصريها: ما هو مستمد من التجربة الحسية فيها، وما هو قبلي لم يعتمد على تجربة حسية بل يستند إلى مبادئ عقلية.

وحين نصف فلسفته بأنها «ترانسندنتالية» فإنما نعني أنها تتناول القضية الكلية من هذه القضايا التي يقولها الناس في علومهم وفي حياتهم اليومية، فتوغل في باطنها لتستخرج ما يكون فيها من مبادئ عقلية، أو قل: إنها تحفر تحت البناء التجريبي المتمثل في القضية لعلها تصل إلى الأساس الخفي من مبادئ العقل، الذي يقوم عليه هذا البناء، فإذا اصطدمت كرة بأخرى فحركتها، ثم قلنا: إن الكرة الأولى سبب في حركة الكرة الثانية، كان قولنا هذا معتمدا على الحس من جهة، لكنه معتمد على مبدأ عقلي من جهة أخرى هو مبدأ السببية، وطريقة «النقد» هي أن أحاول استخراج هذا المبدأ من وراء الخبرة الحسية.

لاحظ أنني حين أقول قضية علمية مثل «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» فكأنني أقول: إن أي جزء من المعدن لا بد أن يتمدد بالحرارة، وواضح أنني إن كنت قد شاهدت بحواسي معدنا، وشاهدت نارا، وشاهدت المعدن يتمدد على أثر اقترابه من النار، فإني لم أشاهد «لا بد» لم أشاهد «الضرورة»، شاهدت كذا يحدث مرة ومرة، فمن أين جئت بهذه «الضرورة» حين أقول عن الشيء: إنه «لا بد» أن يحدث على هذه الصورة المعينة في الظروف الفلانية، فإذا بحثت عن المصدر الذي أتاح لي أن أقول «لا بد» أن يحدث كذا وكذا، فأنا أبحث عن «المبدأ العقلي» الذي يجعل من التجربة الحسية المحدودة قانونا علميا واجب النفاذ.

وواضح أنني حين أقول عن شيء: إنه «لا بد» أن يحدث على هذه الصورة أو تلك، فأنا لم أقتصر بهذا على مجرد ذكر ضرورة الحدوث، بل أقول ضمنا: إنه حكم عام شامل لجميع أفراد النوع الذي أحكم عليه، فقولي عن حادثة معينة إنه ولا بد لها من سبب، مساو لقولي: إن لكل حادثة سببا، وإذن فالحكم بضرورة الصدق في حالة معينة هو في الوقت نفسه حكم بشموله. وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرق بين نوعين من التعميم: أحدهما التعميم الذي يجيء بعد حصر المفردات كلها التي أريد أن أحكم عليها، كقولي مثلا: إن طلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب هذا العام كلهم مصريون، وثانيهما التعميم الذي ينطبق على مفردات غائبة ومجاوزة لحدود المفردات التي وقعت تحت الخبرة، كقولي: «كل المعادن تتمدد بالحرارة.» والتعميم الذي يكون في قضايا العلوم، والذي هو متضمن في كون الحكم ضروريا، هو التعميم الذي يكون من النوع الثاني.

19 «النقد» عند «كانت» هو استخراج المبادئ العقلية المشتركة في تكوين أحكامنا العلمية التي فيها شمول وضرورة، في الأخلاق - مثلا - مهمة الفيلسوف النقدي، ليست هي أن يتناول أحكام الناس الأخلاقية بالتأييد أو بالتفنيد، فإن قال الناس مثلا: إن طاعة الآباء واجبة على الأبناء، فليست مهمة الفيلسوف الأخلاقي النقدي هي أن يقول: نعم، أصاب الناس في حكمهم هذا، أو كلا فقد أخطأ الناس فيه، بل مهمته منحصرة في تعقب هذا «الوجوب» إلى مصادره الأولية، من أين استمد الناس فكرة «الوجوب» هذه؟ إنهم لم يجدوها فيما خبروه بحواسهم من تجارب؛ لأنهم في هذه الخبرة رأوا فلانا وفلانا وفلانا يطيعون آباءهم، ولم يروا «وجوبا»، فمن أين جاءهم حين قالوا حكمهم الأخلاقي: «يجب على الأبناء طاعة الآباء؟» ولو كان التعميم هنا من قبيل الإحصاء لما كان إشكال، لكنه التعميم بمعناه الضروري الذي يشمل أفرادا لم يقعوا في حدود تجاربنا.

20

من هنا ترى «الأخلاق» عند «كانت» مهمتها البحث عن المبادئ الأولية القبلية التي تبرر أحكامنا الأخلاقية، أو بعبارة أخرى هي البحث عن المبدأ العقلي الذي يصدر عنه إلزامنا بأداء الواجب لذاته. كلما قلنا: «يجب فعل كذا وكذا.» فما الذي أوجب الواجب؟ لماذا نلتزم بفعل ما نقول عنه: إنه «واجب»؟ وهذا السؤال هو بعينه السؤال: «ما هي المبادئ القبلية الكامنة في أحكامنا الأخلاقية؟» واستخراج الجانب القبلي من أحكامنا هو مهمة «النقد» في فلسفة «كانت»، ولا يكون هذا طبعا بغير تحليل الموقف كله، الذي يكون عليه الإنسان حين يصدر حكما، فنستخرج الأساس الذي يرتكن إليه في إصدار حكمه.

5 «نقد العقل» عبارة معناها: «إقامة البرهان على صحة الأحكام العامة الضرورية التي يصدرها الإنسان، وإقامة البرهان هنا تكون بالكشف عن الأسس أو المبادئ الأولية التي جعلت تلك الأحكام ممكنة الصدور.»

21

الطريقة النقدية هي أن نختار من أقوال الناس - في ميدان العلم أو في مجال الحياة اليومية - طائفة من الأحكام التي ليس عليها خلاف، ثم نتعقبها راجعين خطوة خطوة، فنقول - مثلا: إن هذا الحكم الفلاني يتضمن اعترافا بكذا، وهذا الاعتراف بدوره يتضمن كيت، وهذا بدوره يتضمن كذا، حتى نصل إلى المبادئ التي تكمن وراء هذه الأحكام كلها التي اخترناها، فقولي مثلا: «إنني وجدت الكرة التي ضاعت بالأمس.» يتضمن اعتقادا عندي بأن الكرة بعينها ظلت محتفظة بذاتيتها، وهذا معناه قبول مني لمبدأ ثبات «العنصر» ودوامه، وقولي: «إن سقوط الحجر على رأس الحوذي سبب موته.» يتضمن اعترافا مني بأن الحوادث ترتبط ارتباطا سببيا، وهذا معناه قبول مني لمبدأ السببية وقيامه وإن لم يكن ملحوظا في خبرة الحواس ... وهكذا، فنحن نحلل العبارة التي نقولها في موقف معين تحليلا يضع أعيننا على مبدأ كامن فيها، ثم نجرد هذا المبدأ من تطبيقاته الجزئية لنجعله ضروريا شاملا، مهما اختلفت المواقف الجزئية التي يلبسها ملتفا بتفصيلاتها وحوادثها.

إننا بهذه العملية التحليلية لا «نبرهن» على المبادئ، بل نكشف عنها، وإنما يكون «البرهان» هنا منصبا على العبارة التي نحللها، فنقول: إنها قد تأيدت بالبرهان حين نعثر على المبدأ الذي ترتكن إليه. وما الذي يحملنا على التسليم بهذا المبدأ؟ لا شيء، إلا أننا افترضنا فيه ضرورة التسليم، ومجرد كونه «فرضا» نفرضه ونزعمه يجعله واجب القبول؛ لأن الفرض لا يقال فيه: إنه صادق أو كاذب، فإذا قلت مثلا: «على فرض احتفاظ الأشياء بذاتيتها، فإن هذا المكتب الذي أمامي يكون هو المكتب الذي كان أمامي بالأمس.» فليس من حقك هنا أن تقول عن الفرض شيئا، ولا أن تطالبني بالبرهنة عليه، لكن من حقك أن ترى هل النتيجة التي رتبتها على الفرض تترتب فعلا عليه أم أني أخطأت استدلال النتيجة من الفرض المزعوم؟

المبادئ الأساسية المنبثة في أحكام الناس ينكشف الغطاء عن وجودها بعملية التحليل، ولا يكون الكشف عنها برهانا عليها؛ لأن البرهان على شيء يكون بإرجاعه إلى سند، والمبدأ الأساسي لا يستند إلى شيء وراءه، بل هو الذي يقف وراء أحكامنا ليسندها ويؤيدها، فإذا فرضت في علم الهندسة بعض المسلمات ثم استنتجت منها نظريات، فالبرهان لا يكون هنا إلا على النظريات بإرجاعها إلى المسلمات التي تستند إليها وتتفرع عنها وتشتق منها، أما المسلمات نفسها فينبغي قبولها؛ لأنها فروض مفروضة لتكون أساسا لما سيأتي بعدها من استدلالات، ولقد صدق من قالوا: إنك لا تستطيع المناقشة مع من يخالفك في المبدأ، فهذا صحيح؛ لأن المبدأ الأساسي الذي يكون بمثابة الأم الأولى يتولد عنها كل الأفكار بعدئذ، أمر يفرض فرضا، فلو دخلت معي في هذا الفرض كان لك حق مناقشة ما يتولد عنه، لترى هل كان التوليد سليما أو فاسدا، أما إذا رفضت الدخول في الفرض منذ البداية، فقد انقطع بذلك كل وجه للمناقشة والجدل.

إن من حقك أن تشك في قضية معينة، ثم يزول شكك هذا بإرجاع القضية إلى السند الذي يؤيدها، فإن وجدته زال الشك بالحكم بالصدق على القضية، وإن لم تجده زال الشك أيضا بالحكم بالكذب عليها، وهذا السند نفسه إما نسبي أو مطلق، فهو نسبي إذا كان بدوره مستندا إلى سند وراءه، وهو مطلق إذا لم يكن وراءه سند، فهو مفروض الصدق بغير برهان، ومثل هذا السند المطلق هو المبدأ العقلي القبلي الذي تحاول الطريقة النقدية أن تلتمسه في الحكم الذي تختاره من كلام الناس لتحلله.

أعود فأقول مرة أخرى: إن المبدأ الأساسي أو الفرض الأولي لا يقوم عليه برهان، بل يكشف عنه الغطاء وكفى، وبكشف الغطاء عنه نضعه في مركز الرؤية فيتضح بعد أن كان ملتفا غامضا، وتوضيح المبادئ الأولية على هذا النحو، هو مهمة الفلسفة الذهنية، وهو تحليل كما ترى.

وها هنا يتضح الفرق بين الفلسفة النقدية من جهة، والفلسفة الاعتقادية أو «الدوجماطيقية» من جهة أخرى، فالفيلسوف الاعتقادي أو الدوجماطيقي، يقرر مبادئه أحيانا على أنها أساسية لا يجوز عليها التحليل أو إقامة البرهان، مع أنها قد تكون مبادئ نسبية، أعني قد يكون وراءها سند تستند إليه، ويحتاج الأمر في توضيحه وإبرازه إلى تحليل، فالذي لا يقبل تحليلا ولا برهانا هو المبادئ المطلقة التي لا تستند إلى شيء وراءها، ولا نطمئن إلى أن ما أمامنا هو من هذا القبيل إلا إذا حاولنا التحليل فوجدنا أنه مستحيل لعدم وجود فرض سابق على المبدأ الذي نحلله، يمكننا أن نستند إليه في البرهنة على هذا المبدأ.

والفيلسوف الاعتقادي أو الدوجماطيقي أحيانا أخرى تراه يحاول إقامة البرهان على ما يعتقد أنه مبدأ أولي، مثلا يفرض وجود الله كمبدأ أساسي لتفكيره، ثم يحاول البرهان على ذلك، مع أنه لكي يبرهن لا بد أن يرتد بما يريد البرهنة عليه إلى مبدأ أسبق أولية وآصل منطقيا، وفي هذا تناقض واضح؛ لأن اعترافك عن مبدأ معين بأنه أولي أصيل، هو وحده دال على أنه ليس ثمة ما هو أسبق منه مما يمكن أن نتخذه برهانا عليه؛ ولذلك فالطريقة النقدية في الفلسفة - دون الدوجماطيقية - هي وحدها التي تحررت من الوقوع في هذا الدور؛ لأنها لا تسعى إلى البرهنة على المبادئ الأولى، بل تكتفي بالبحث عنها واستكشافها وإبرازها لإدراكها في تجردها. الطريقة النقدية لا تقيم برهانا على شيء، بل تجعل مهمتها البحث عن المبادئ التي يسبق الناس إلى افتراضها ليستخدموها في براهينهم.

ولا غرابة بعد هذا أن نرى الفلسفة النقدية والفلسفة الاعتقادية الدوجماطيقية مختلفتين حتى في وجهة السير؛ فالفيلسوف الدوجماطيقي يبدأ بافتراض مبادئ معينة ، ثم يهبط منها إلى أحكامه التي يقولها عن هذا الكون وما فيه، كأنما مبادئه هذه هي المبادئ التي يستحيل أن يبدأ مفكر آخر بغيرها، تراه يبدأ مثلا - مثل ديكارت - بافتراض العقل ومشروعية أحكامه، ثم يرتب على ذلك ما يلزم عنه من نتائج. وأما الفيلسوف النقدي التحليلي فلا يفرض من عنده شيئا، إنما يقبل ما يصدره الناس من أحكام على الأشياء، ثم يتناولها بالتحليل، راجعا بها إلى مبادئها التي تستند إليها، ليس هو الذي يفرض على الناس مبادئهم هذه؛ أي إنه لا يدعي لنفسه دور المشرع الذي يقرر هذا وينفي ذاك، لكنه رجل يحلل للناس أقوالهم ليتبصروا ما يكمن وراءها من مبادئ لعلهم لا يكونون على وعي بها ما لم يبرزها لهم التحليل عارية مما حولها من تفصيلات الحياة التجريبية الجارية في حوادث الأيام. الفلسفة الدوجماطيقية تبدأ بفروض تفرضها تعسفا واعتباطا، وقد تقع في الخطأ الذي أسلفنا الإشارة إليه، وهو أن تحاول إقامة البرهان على تلك الفروض، ناسية أن مجرد التفكير في إقامة البرهان على مبدأ مفروض يسلبه أوليته ومشروعيته، وأما الفلسفة النقدية التحليلية فتبدأ من وقائع، والوقائع التي أقصدها هي أحكام الناس الواقعة فعلا والتي يصدرونها فعلا في أمور حياتهم.

الفلسفة النقدية - أي التحليلية - تقبل أحكام الناس كما هي في الواقع، لتفحصها وتحللها كي تقرر ماذا تتضمنه تلك الأحكام من مبادئ؟ فهي كمن يحفر بئرا ليرى أين يكون الماء، فهو لا «يبرهن» على الماء ولكنه يكشف عن وجوده؛ ولهذا ترى الفلسفة النقدية التحليلية لا تختص نفسها بقول دون قول من عبارات الناس، إنها «تحفر» أينما ضربت فأسها، لترى ماذا تستبطنه هذه العبارة أو تلك من مبادئ، فأية عبارة تصلح موضوعا لبحثها، العبارة التي يقولها عالم الطبيعة أو عالم الرياضة أو التي يقولها الناس في حياتهم اليومية، ولا تجعل الفلسفة النقدية مهمتها معرفة الأشياء الخارجية، فهي لا تتصدى أبدا لوصف شيء ولا للحكم على شيء، بل تترك ذلك لمن هم أولى بالكلام فيه، تترك وصف الأشياء الطبيعية - مثلا - لعلماء الطبيعة بطرقهم الاستقرائية التجريبية،

22

وهي لا تعترك مع هؤلاء العلماء فيما يقولون؛ لأنها لا تعطي لنفسها الحق في أن تقول شيئا، كلا ولا هي تدعي أنها قادرة على إثبات شيء عما هو فوق الطبيعة، فبحثها منصب على مبادئ المعرفة أيا كان نوعها، تلك المبادئ التي تنبث في أقوال الناس وأحكامهم، وتحتاج إلى التحليل الذي يخرجها؛ لهذا كله ترى الفلسفة النقدية لا تتحيز إلى حكم دون حكم، ولا تحصر نفسها في مجال من القول دون مجال، فهي - كما قلنا - في استهلال هذه الفقرة من فقرات بحثنا؛ تقبل المعرفة كما هي قائمة على أنها أمر واقع، لا لتقيم برهانا على صدقها، بل لتتعقبها بالتحليل راجعة إلى المبادئ الأولية التي تسند كل ما يترتب عليها، وليس وراءها هي من مبادئ تسندها، فهي مفروضة فرضا مطلقا، حتى إذا ما انكشفت لنا مجموعة المبادئ التي نراها سندا لمعارف الناس كما تتبدى في أقوالهم، نسقنا هذه المبادئ، وكان لنا أن نقول عن مجموعة نسقها: هذه هي نتيجة عملنا الفلسفي.

6

إذا كانت مهمة الفيلسوف الحقيقية هي تحليل معارف عصره تحليلا ينتهي به إلى المبادئ الأولية التي إليها تستند تلك المعارف، فإنه بهذه المهمة إنما يقوم بعمل المؤرخ الذي يسجل لعصره مبادئه، إنه لا يشرع لعصره تلك المبادئ، ولا هو يتصدى للحكم على تلك المبادئ بصدق أو كذب، بل هو يحلل ليكشف الغطاء عنها لا أكثر ولا أقل، وإذا رأينا فيلسوفا يتناول هذه المبادئ نفسها بتأييد أو بتفنيد أو بتغيير وتحوير، علمنا أنه قد جاوز بذلك مهمة الفيلسوف كما ينبغي لها أن تكون.

بهذا المعنى التاريخي وحده نقبل «الميتافيزيقا»، وهذا المعنى التاريخي للميتافيزيقا هو الذي نزعم أن «كانت» قد أداه بعمله، وإن لم يكن هو الذي قصد إليه عند اعتزامه القيام بذلك العمل.

فالفيلسوف إذا ما انتهى من تحليله للفكر في عصره، واستخراجه للفروض المطلقة التي ينطوي عليها ذلك الفكر، هو بمثابة من يقول: إن هذا العصر المعين يعتقد في هذا المبدأ وهذا وذاك، إن أهل هذا العصر المعين لا يقبلون مناقشة في هذا الفرض وهذا وذاك، هم يبرهنون صدق أقوالهم بالمبدأ الفلاني، أما المبدأ نفسه فهو عندهم فرض مطلق لا يقبل البرهنة عليه، وبالطبع يجوز للفيلسوف أن يحلل الفكر في أي عصر غير عصره، ويستخرج المبادئ الكامنة في ذلك الفكر، وهو هنا أيضا يعمل عمل المؤرخ الذي يسجل عن عصر ما حقيقة معينة بناء على وثائق، وما الوثائق هنا إلا ما خلفه ذلك العصر من مدونات اشتملت على تفكيرهم.

ولنضرب مثلا بمبدأ السببية

23

نوضح به ما نقول: (أ)

في علم الطبيعة عند «نيوتن» افتراض تنبني عليه أقواله في هذا العلم، وهو أن لبعض الحوادث أسبابا، وأما بعضها الآخر فبغير أسباب، وهذا النوع الأخير يخضع في حدوثه إلى قوانين، أي إن «نيوتن» يبني كلامه في علم الطبيعة على افتراض سابق، هو أن السببية شيء والقوانين الطبيعية شيء آخر، فإذا تحرك جسم حركة خالية من المؤثرات الخارجية، منتقلا في خط مستقيم ومارا بالنقط ن

1 ، ن

2 ، ن

3 ، ن

4 ... فمروره بأية نقطة واقعة على خط مساره في لحظة معينة، يمكن حسابه مقدما من سرعته بناء على «قانون» الحركة، وليس هنا - بناء على «نيوتن» - سببية على أية صورة من الصور، وإذن فمرور الجسم المتحرك على نقطة ن

3 - مثلا - حادثة بغير سبب، وإن تكن قد حدثت وفق قانون معلوم، أما إذا غير الجسم المتحرك طريق سيره بفعل جسم آخر اصطدم به، فعندئذ يكون التحول في مجراه نتيجة لسبب، وعلى هذا النحو يجعل «نيوتن» مبدأ السببية غير شامل لحوادث الطبيعة كلها، وهو يجعل ذلك «مبدأ مفروضا» ليس مما يقوم عليه برهان. (ب)

فلما جاء القرن الثامن عشر، غير الناس افتراضهم، واستبدلوا به افتراضا آخر، أو قل: اتخذوا لأنفسهم «مبدأ» آخر في فهم الطبيعة، إذ جعلوا السببية شاملة لحوادث الطبيعة كلها، وأصبح المبدأ عندهم هو أن لكل حادثة سببا، وها هنا كتب «كانت» ما كتبه من فلسفة يحلل بها قضايا العلم الطبيعي، فكان أن انتهى من تحليله إلى أن السببية مقولة من المقولات العقلية التي يفهم بها الإنسان كل مدركاته التجريبية، لا لأن السببية مبدأ عم الطبيعة في كل عصوره، بل لأنه المبدأ المأخوذ به في عصره هو، وكان هذا هو ما رد به على الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، إذ لاحظ «هيوم» أن السببية لا تقع فيما يقع للإنسان من خبرة، وإذن فليس يمكن إقامة برهان عليها. إن الإنسان - في رأى هيوم - حين يشهد كرة تصدم كرة أخرى فتحركها، لا يرى «سببية» بين الكرتين، وكل ما يراه بعينيه من هذه الحادثة هو أن كرة أولى تحركت وكرة ثانية تحركت عند لحظة زمنية معينة، هي اللحظة التي تماست فيها الكرتان، وعلى هذا فلا تكون حوادث الطبيعة مرتبطة بهذا الرباط السببي الذي زعمناه، فجاء «كانت» بتحليله السالف الذكر، يقول: نعم، إن «السببية» ليست ما نراه بالأعين، بل هي «مبدأ عقلي» نفهم على ضوئه تتابع الحوادث، فما معنى ذلك؟ معناه أن علماء الطبيعة في عصره يفهمون حوادث الطبيعة على افتراض افترضوه، وهو أن لكل حادثة سببا، وكان يمكن أن يفترضوا افتراضا غيره، وأن يفهموا حوادث الطبيعة فهما يختلف عن فهمهم لها، كما حدث ذلك في القرن السابق لعصر «كانت» - وهو عصر «نيوتن» كما قدمنا لك - وكما حدث أيضا في العصر الحديث.

إن من أهم ما يميز علم الطبيعة في القرن الثامن عشر - وهو عصر «كانت» - هو أنه يستخدم «السببية» و«القانون الطبيعي» بمعنى واحد، فما هو خاضع لقانون طبيعي خاضع في الوقت نفسه للرابطة السببية، والعكس صحيح على خلاف ما رأيناه في القرن السابع عشر، إذ جعلوا حوادث الطبيعة نوعين: فمنها ما يخضع لقوانين ومنها ما يخضع للسببية، جاعلين لكل من هاتين الكلمتين معنى غير معنى الكلمة الأخرى. (ج)

وجاء علم الطبيعة في عصرنا الراهن، فاختفت فكرة السببية من أذهان العلماء اختفاء تاما، ولم يعد شيء في رأيهم يحدث بفعل هذا «السبب» أو ذاك، بل تحدث الظواهر وفق «قوانين»، وما القوانين إلا ضروب من تتابع الحوادث لوحظت وسجلت، فإذا اصطدم جسم متحرك بجسم آخر بحيث تغير مجراه، لا نقول ما كان يقوله «نيوتن»: إن قانون الحركة قد تعطل فعله في هذه الحالة «بسبب» خارجي هو الصدمة التي جاءت من جسم آخر فغيرت مسار الجسم المتحرك، وإنما نجعل الحركة كلها بما يحدث فيها من انكسارات خاضعة لقانون أو أكثر.

فما معنى هذا كله، ماذا نقول في فيلسوف يقرر - مثلا - أن لكل حادثة سببا، وأن مبدأ السببية شامل لحوادث الطبيعة كلها، كما قال «كانت»؟ إننا نقول له: هذا مبدأ قام في عصر واحد، وانبنى عليه علم ذلك العصر، فإذا قررته فأنت إنما تؤرخ للفكر في ذلك العصر، لا أكثر ولا أقل، ولو أرخت لعصر «نيوتن» لاضطررت إلى قول آخر، وهو أن لبعض الحوادث أسبابا دون بعضها الآخر، ولو أرخت للعصر الحاضر، لاضطررت أن تقول قولا ثالثا، وهو أن ليس لأية حادثة من حوادث الطبيعة سبب على الإطلاق.

إن من حق الفيلسوف - بل من واجبه في رأينا - أن يحلل الفكر في أي عصر شاء ليستخرج مبادئه الأولى المفروض صدقها عند أهل ذلك العصر، لكن ليس من حقه، ولا مما يؤدي إلى معنى، أن يتناول هذه المبادئ بالتأييد أو بالتفنيد، كأنها من القضايا العادية التي تزعم عن الكون هذا الشيء أو ذاك، الفيلسوف الذي يتناول المبادئ الثلاثة السابقة عن «السببية» ليقول: إن رأيه هو صواب هذا وخطأ ذلك، يجاوز حدود مهمته المعقولة المشروعة، ليدخل في مجال الكلام الذي لا يحمل معنى، فليس مما له معنى أن تقول عن فرض ما: إنه صادق أو كاذب؛ لأن الفرض في كل الحالات مسلم به؛ لأنه مجرد فرض، وليس هو بالعبارة التي تدعي الوصف والتصوير. والذي يقال عنه إنه صحيح أو خطأ، هو ما ينبني على الفرض من نتائج، فعندئذ يجوز لنا أن نقول عن نتيجة ما إنها صواب؛ لأنها تتسق مع الفرض الأول، أو إنها خطأ؛ لأنها لا تتسق مع الفرض الأول.

لو قال قائل: «ليس في العالم سببية تربط حوادثه.» لكان قوله هذا صوابا بالنسبة لعصرنا هذا؛ لأنه متفق مع الفرض الأول الذي ينبني عليه علم الطبيعة الآن، لكنه يكون خطأ بالنسبة لعصر «كانت»؛ لأنه لا يتسق مع الفرض الأول الذي افترضه أهل ذلك العصر.

وهنا يظهر الفرق بين عمل العالم وعمل الفيلسوف: العالم يقيم أبحاثه ونظرياته على أساس فروض مزعومة ليس من شأنه أن يتعرض لها، بل ليس حتما عليه أن يكون على وعي بها، والفيلسوف يحلل أقوال العالم ليستخرج من لفائفها الفروض التي على أساسها بنيت تلك الأقوال، أو بعبارة أخرى: يقرر العلماء في العصر المعين مبدأ على أنه حقيقة، ويأتي الفيلسوف فيؤرخ لهم ما يقررون، فلو تكلم عالم من القرن الثامن عشر لقال على صورة تقريرية: «لكل حادثة سبب.» ولو تكلم فيلسوف عن ذلك العصر لقال: «يفرض العلماء أن لكل حادثة سببا.» وواضح أنك إذا أردت مناقشة الفيلسوف في قوله هذا، فينبغي أن تقوم المناقشة على أساس تاريخي، فهو في قوله مستند إلى «وثائق» هي القضايا التي قالها علماء ذلك العصر، وأما أنت فتدعي له أن تلك «الوثائق» لا تدل على النتيجة التي انتهى إليها، إنكما لا تختلفان في صحة المبدأ نفسه، بل يكون موضع الاختلاف بينكما هو: هل يدل تحليل ما قاله العلماء في ذلك العصر على أنهم كانوا يفرضون هذا المبدأ المعين أساسا لتفكيرهم؟

ولو كانت «الميتافيزيقا» عند «كانت» هي هذا التحليل، كان هذا الفيلسوف العظيم في طليعة الفلاسفة بالمعنى الذي نقبله لهذه الكلمة، وهو أن «الفلسفة» إما أن تكون تحليلا لكلام الناس، وإما ألا تكون شيئا.

الفصل الثالث

الميتافيزيقا المرفوضة

1

نريد إذن أن نجعل الفلسفة تحليلا منطقيا لقضايا العلوم وعبارات التفاهم في حديثنا اليومي، وقد أسلفنا لك القول (في الفصل الأول) بأن «الفلسفة» لم تكن دائما بهذا التحديد، إنما جرى العرف في كثير من الأحيان أن تدخل فيها مباحث «شيئية» أو «عينية» إلى جانب هذا التحليل المنطقي الذي نريده، وقد كانت هذه المباحث الشيئية تنقسم قسمين رئيسيين؛ فقسم يبحث في «أشياء» لا تدخل في حدود التجربة الحسية كالمطلق والعدم وما إليهما، وهو ما يطلق عليه عادة اسم الميتافيزيقا، وقسم آخر يبحث في «أشياء» العلوم نفسها، كأن تبحث مثلا في الإنسان والطبيعة وما إليهما، وهو ما يطلقون عليه عادة اسم الفلسفة الطبيعية، وقد ذكرنا لك فيما مضى أننا نقترح ترك هذا القسم الثاني من المباحث الفلسفية إلى العلوم ورجالها، فهم أولى به؛ لأنهم بموضوعاته أدرى وعلى بحثه أقدر، كما ذكرنا لك أيضا أننا نريد حذف القسم الأول - أعني الميتافيزيقا بمعناها السالف الذكر - لأن التحليل ينتهي بأقوالها إلى غير معنى، وبذلك لا يبقى للفلسفة إلا ما أردناه لها، وهو تحليل العبارات اللغوية.

إن فلسفتنا التحليلية تقضي على الميتافيزيقا بالحذف لاستحالة أن يكون لكلامها معنى، لكنك قد تقول: إن لكلمة «الميتافيزيقا» معان كثيرة، اختلفت باختلاف الباحثين فيها، فبأي معنى تريد حذفها؟ ما هي «الميتافيزيقا» على وجه التحديد، تلك التي تريد حذفها من دائرة الكلام المفهوم؟

وأظننا - إذ نحاول الإجابة عن هذا السؤال - نرتكز على أرض ثابتة، إذا نحن اتخذنا أرسطو أساسا لنا في تحديد المعنى المراد؛ لأنه هو الذي أنشأ أول كتاب أجمع دارسو الفلسفة جميعا على أنه «ميتافيزيقا»

1

مهما اختلفوا بعد ذلك في تحديد معنى هذه الكلمة، فإنه لمما يستوقف النظر حقا أن «فلاسفة كثيرين قد أنتجوا في الميتافيزيقا إنتاجا غزيرا، لكن هذا الإنتاج كله لم يشمل قط مراجعة أساسية للجواب عن سؤالنا: ما هي الميتافيزيقا؟ وكذلك ازور عن الميتافيزيقا كثيرون، حتى لقد أعلنت طائفة كبيرة من هؤلاء أن الأمر كله من فاتحته إلى ختامه كلام بغير معنى على الإطلاق، لكن حتى هؤلاء لم يتناولوا في كلامهم مراجعة أساسية يبحثون بها ماذا عسى هذه الميتافيزيقا أن تكون.»

2

يطلق أرسطو على مادة البحث التي وردت في الفصول التي أطلق عليها فيما بعد كلمة «ميتافيزيقا» أسماء ثلاثة:

فهو يطلق عليها أحيانا اسم «العلم الأول»،

3

وكلمة «الأول» هنا تدل على أسبقية منطقية بالنسبة لسائر العلوم، فالعلم الأول هو ذلك الذي يكون موضوعه سابقا من الوجهة المنطقية على أي علم آخر، أي هو العلم الذي تفترض قيامه سائر العلوم كلها، ولو أنه يأتي بعدها جميعا في ترتيب الدراسة. ثم هو يطلق عليها أحيانا أخرى اسم «الحكمة» قاصدا بذلك إلى أنها الغاية التي تسعى إليها العلوم في بحثها، وهذا معناه أن العلوم المختلفة - بالإضافة إلى قيام كل منها ببحث موضوعه الخاص - تقوم بواجب آخر، تخرج به عن حدود بحثها الخاص، وهو أن تكشف عما تنطوي عليه منطقيا من فروض سابقة، ولما كان وراءها جميعا فرض سابق عليها، لا بد من افتراضه أولا حتى يمكن الكلام فيها، فكشفها عن هذا الفرض السابق هو نهاية سعيها وغاية سيرها، وذلك هو ما يريده أرسطو بكلمة الحكمة، ثم هو يطلق على المباحث الميتافيزيقية أحيانا ثالثة اسما ثالثا، هو «اللاهوت» أو العلم الذي يشرح طبيعة الله.

وهو بإطلاقه هذه الأسماء الثلاثة المختلفة على علم بعينه، قد أبان عما يتصوره موضوعا لهذه الفصول التي كتبها، ولشرح ذلك نقول:

إن العلم - كائنا ما كان - يتصف موضوعه بالتجريد والتعميم، والتجريد والتعميم درجات، فحيثما قسمت جنسا - ولنرمز له بالرمز «أ» - إلى نوعين يقعان تحته - ولنرمز لهما بالرمزين: «ب» و«ج» - كما تقسم مثلا العدد إلى نوعين: العدد الزوجي والعدد الفردي؛ وجدت «أ» أكثر تجريدا وأكثر تعميما من «ب» أو «ج»، وفي مثل هذه الحالة تكون «أ» هي الأساس المنطقي لكل من «ب» و«ج»، بمعنى أنك لا تفهم الزوجية أو الفردية إلا إن كان لديك فهم سابق لطبيعة العدد بصفة عامة، وكذلك إذا فهمت طبيعة العدد فهما كاملا، استتبع هذا الفهم أنه لا بد أن يكون العدد منقسما إلى نوعين: ما هو زوجي منه وما هو فردي، هذا هو المقصود حين نقول إن فكرة «العدد» هي الأساس المنطقي لفكرتي «الفردية» و«الزوجية».

فإذا فرضنا أن النوعين: «ب» و«ج» اللذين يندرجان تحت الجنس الأعم «أ»، علمان، كان بين هذين العلمين مبادئ مشتركة - وإلا لما جاز جمعهما معا تحت جنس واحد - ومن هذه المبادئ المشتركة يتألف العلم الذي يحتويهما معا، وهو «أ».

فافرض أن «أ» رمز للكمية، وللكمية نوعان: كمية متصلة كمساحة السطح مثلا، وكمية منفصلة وهي ما يمكن عده كأربع برتقالات مثلا، والعلم الخاص الذي يبحث في الكميات المتصلة هو الهندسة، والعلم الخاص الذي يبحث في الكميات المنفصلة هو الحساب، وسنرمز لعلم الهندسة بالرمز «ب» ولعلم الحساب بالرمز «ج»، فها هنا «أ» تنقسم إلى فرعين هما «ب» و«ج» ولكل منهما موضوع خاص به، لكنهما يشتملان على مبادئ مشتركة تظهر فيهما معا، فتكون هذه المبادئ المشتركة هي مادة العلم «أ»، وبعبارة أخرى: ما بين الهندسة والحساب من مبادئ مشتركة، هو موضوع علم أعم منهما، هو الرياضة بصفة عامة وبغير تخصيص، ويبحث في الكمية، بغض النظر عن نوعها: هل هي متصلة أو منفصلة.

هذا العلم العام الذي يبحث في الكمية على إطلاقها، يسبق العلمين الفرعيين الهندسة والحساب أسبقية منطقية؛ لأنه يستحيل تصور الكمية المتصلة أو الكمية المنفصلة إلا إذا تصورت الكمية أولا، لكن دارس الرياضة الناشئ، يجعله مرحلة ثانية تتلو هاتين، أي إنه لا بد أن يبدأ بدراسة الهندسة والحساب؛ لكي ينتقل منهما إلى دراسة ما هو أعم منهما، وهكذا الحال دائما في ترتيبك للعلوم إلى ما هو عام وخاص، العام منها يسبق الخاص أسبقية منطقية، لكنه يلحق الخاص في ترتيب الدراسة.

وإذا أنت حاولت ترتيب العلوم كلها في نسق واحد، وجدت الواحد منها إما أن يكون: (1)

مساويا في درجة التخصيص لسواه، كالحساب والهندسة، إذ يقعان معا في منزلة واحدة. (2)

أو أعلى من سواه في درجة التعميم، كالرياضة بصفة عامة بالنسبة للهندسة أو بالنسبة للحساب. (3)

أو أدنى من سواه في درجة التعميم، كالهندسة أو كالحساب بالنسبة للرياضة بصفة عامة.

على أننا نخرج من هذا الكلام مجموعتين من العلوم التي نسقناها على هذا النحو تعميما وتخصيصا: نخرج أولا ما يقع منها في طرفها الأعلى، ونخرج ثانيا ما يقع في طرفها الأدنى، أما الأولى فلأنها غير مسبوقة بما هو أعم منها، وأما الثانية فلأنها غير متبوعة بما هو أخص منها.

ويرى أرسطو أنك إذا رتبت العلوم كلها على هذا النحو الهرمي، فستنتهي عند القمة بعلم واحد، هو أعمها جميعا، وهو علم الوجود، الوجود المجرد، أو الوجود بما هو وجود، أو الوجود الخالص، أو الوجود بغض النظر عما يتمثل فيه من موجودات.

هذا «الوجود المجرد» هو «العلم الأول» بمعنى أنه هو المفروض منطقيا في أي علم آخر، فيستحيل أن تبحث في شيء كائنا ما كان إلا إذا كانت له صفة الوجود أولا، وإذن فهذه الصفة سابقة منطقيا على كل ما عساك واضعه موضع البحث، لكنه كذلك هو «العلم الأخير» بالنسبة للدارس؛ لأن دارس العلوم لا يبدأ به، بل ينتهى إليه، وبذلك سيكون هو الغاية الأخيرة التي يتجه نحوها الدارس في رحلته، وتستطيع إن شئت أن تقول إن الدارس للعلوم الأخرى هو بمثابة من يعد نفسه لدراسة هذا العلم الأخير، وإذن فلا عجب إذا نحن أسميناه ب«الحكمة» على اعتبار أن كل علم آخر وسيلة جزئية للوصول إليه.

وهذا «العلم الأول» و«العلم الأخير» هو نفسه «اللاهوت»؛ لأنك إذ تبحث في «الوجود الخالص» فإنما تكون باحثا في طبيعة «الله»، وذلك هو موضوع الميتافيزيقا كما تصوره أرسطو.

وإذن فلو تخيرنا عبارات مما تقوله الميتافيزيقا بمعناها هذا، ثم لو أظهر لنا تحليل هذه العبارات أنها كلام فارغ خال مما يجعل للعبارة معنى، فلن يكون من حق الناقد أن يقول إننا قد اخترنا جانبا يؤيد مذهبنا، وكان يمكن أن نختار جانبا آخر لا يؤيده، على أننا نفضل فيما يأتي أن نجعل كلامنا عن «المطلق» لا عن «الله»؛ «إذ الموضوع الذي يناقشه كبار الفلاسفة، حين يناقشون فكرة وجود الله، لا يمت إلا بصلة واهية - ذلك إن كانت هنالك صلة على الإطلاق - «بالله» كما تفهمه الأديان، وإنما هو فكرة من تركيب العقل؛ ولذلك يحسن استخدام المصطلح الفلسفي، وهو كلمة «المطلق» بدل اللفظة الدينية «الله» في سياقنا هذا.»

4

2

وإذا أردنا أن نسوق أمثلة من الأقوال الميتافيزيقية لنحللها ولنبين خلاءها من المعنى، فلا يتحتم أن نختار جملة فيها كلمة «مطلق» حتى تجيء هذه الجملة مما يصح وصفه بأنه قول ميتافيزيقي، فحسبنا أن يكون في الجملة كلمة دالة بحكم تعريفها على مسمى من غير المحسوسات؛ ليكون لنا الحق في اعتبارها قولا ميتافيزيقا بالمعنى الأرسطي: فمن أهم المشكلات التي تبحثها ميتافيزيقا أرسطو، هذه المشكلة: «هل هنالك عناصر لا حسية، وإن كان الأمر كذلك، فهل هي من نوع واحد أو أكثر؟»

5

وسأختار الآن للتحليل هذه العبارة الآتية: «كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود.» وهي عبارة وردت في كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (ص24) للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، قالها وهو يعرض لخصائص الفلسفة الإسلامية.

خذ كلمات هذه العبارة السابقة واحدة واحدة، لنحلل مدلولها ونقف على وظيفتها في تصوير المعنى المراد، لكننا قبل ذلك ينبغي أن نلاحظ أن ألفاظ اللغة نوعان رئيسيان من حيث المهمة التي تؤديها اللفظة في بناء العبارة، فاللفظة إما أن تكون واردة في العبارة لتسمي شيئا ما،

6

وإما أن تكون واردة لتقوم بعملية البناء اللفظي بين أجزاء العبارة الأخرى

7

دون أن تكون هي ذاتها اسما لشيء من أشياء العالم، فلو قلت عبارة كهذه: «القلم بين المحبرة والكتاب» كان هنالك ثلاثة ألفاظ، كل منها يسمي شيئا من أشياء العالم الخارجي، وهي «القلم» و«المحبرة» و«الكتاب»، لكن هنالك لفظتين تقومان بعملية البناء دون أن تسمي الواحدة منهما شيئا، وها لفظتا «بين» و«و»، فليس في العالم شيء اسمه «بين»، كما أنه ليس في العالم الخارجي شيء اسمه «و»، فهاتان اللفظتان البنائيتان وأمثالهما تكون الإطار للصورة المراد رسمها بالألفاظ الأخرى.

ونعود الآن إلى العبارة التي نريد تحليلها: «كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود ... إلخ.» فنلاحظ أنها تحتوي على أربعة ألفاظ شيئية فقط، وهي كلمات «شيء» و«عالم» و«ذات» و«وجود»، وأما سائر ألفاظها (وهي: «كل» «في» «هذا» «يحتوي على») فليست أسماء الأشياء، إنما هي تقوم بيناء الصورة المراد تصويرها من الأربعة المسميات السالفة الذكر.

والسؤال الذي يجدر بنا أن نبدأ به التحليل هو: هل هذه الأسماء الشيئية تسمي أشياء حقا، أم أنها لا ترمز إلى شيء، ولا يكون لنا منها إلا الخديعة والضلال ؟ نبدأ بكلمة «شيء» فنلاحظ أنها كلمة ليست بذات معنى، أي إنها لا ترمز إلى فرد بذاته، فما دمت تستطيع أن تقول عن كل كائن بغير استثناء: إنه «شيء»، إذن فهذه الكلمة ليست اسما دالا مميزا لفرد بعينه من الأفراد، وإذن فهي لا تزيد عن الرمز «س» المجهول الدلالة، فخير لنا أن نضع «س» مكانها، حتى نجنب أنفسنا كل خطأ يحتمل الوقوع فيه بسبب استعمال كلمة لا تدل على شيء، إذ قد نظن أنها دالة، فكلمة «شيء» هي من الكلمات العامة التي اعتبرها «كارناب»

8 «مدركات زائفة» أو «أشباه مدركات»، إذ إنها قد توهم بأنها رمز يرمز إلى مدرك مع أنها ليست كذلك، أقول: إنه خير لنا أن نضع مكانها «س»، فتصبح العبارة التي أمامنا «كل س في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود.» والذي نستفيده من هذا الوضع الجديد للعبارة، هو أننا سنرى على الفور أنها لا تدل على معنى إلا إذا وضعنا مكان «س» اسما لفرد من الأفراد، كاسم «العقاد» مثلا.

فكأن العبارة بهذا التحوير قد أصبحت: «العقاد يحتوي على ذات ووجود.» فلنجعل هذه الصورة هي مدار التحليل، ونترك كلمة «ذات» مؤقتا، لننظر في معنى كلمة «وجود»، فنلاحظ للوهلة الأولى أنها هي الأخرى ليست اسما قيل ليسمي شيئا بذاته، فلو أننا - نظريا - أعطينا لكل كائن جزئي في العالم اسما خاصا به، لاستغنينا عن كلمة «وجود» ومشتقاتها، إنه من تحصيل الحاصل أن تصف الفرد الجزئي بالوجود، كأن تقول مثلا: «العقاد موجود»؛ إذ اسم العلم وحده كاف للدلالة على وجود مسماه، فاسم العلم هو بمثابة اسم الإشارة «هذا»، ويستحيل منطقيا أن تستعمل اسم الإشارة دون أن يكون هنالك الفرد الجزئي المشار إليه، فلا معنى لقولك مشيرا إلى فرد ما: «هذا موجود.» إذ يكفي قولك عنه «هذا» ليبرز وجوده ويتحدد، وكذلك قل في عبارة «العقاد موجود.» «فالعقاد» وحدها تشير إلى الفرد الذي نريد أن نجعله موضوع الحديث، فقولنا: «العقاد يحتوي على وجود.» قول فارغ من المعنى، اكتسب ما حسبناه معنى له من شبهه بأقوال أخرى، مثل: «هذا الصندوق يحتوي على برتقالة.» فليس في العالم الخارجي كائنان: أحدها يسمى العقاد، والآخر يسمى وجود، حتى يجوز لنا أن نقول عن الكائن الأول إنه يحتوي على الكائن الثاني، إنني أدعو القارئ في هذا الموضوع إلى ملاحظة هامة جدا، وهي أنني لا أقول عن عبارة «العقاد يحتوي على وجود» إنها كاذبة أو إنها تصور الواقع تصويرا خاطئا، بل أقول عنها: إنها كلام فارغ من المعنى، إنها لا تصور شيئا أبدا، وبالتالي فلا مسوغ للحكم بأنها صورة صحيحة أو صورة فاسدة، هي لا تصور شيئا لأنني إذا أردت أن أبحث في أجزاء «العقاد» لأرى هل يكون من بينها «وجود» أو لا يكون، لا أدري منذ البداية عن أي شيء أبحث؟ لو قيل: «العقاد يحتوي على أربعة آذان» لكان للكلام معنى، وإن يكن صورة خاطئة للواقع، فأنا في هذه الحالة أعلم عم أبحث في الواقع الخارجي لأعلم صدق ما تزعمه العبارة أو كذبه، أما أن «العقاد يحتوي على وجود» فليست بذات معنى.

فيبقى لنا من عبارتنا الأصلية هذه البقية الآتية «العقاد يحتوي على ذات.» فهل لهذا القول معنى؟ لكي نجيب على هذا السؤال، نعود فنسأل: أين المسمى الذي أطلقت عليه كلمة «ذات» حتى يتسنى لي أن أفحص العقاد؛ لأرى إن كان محتويا على «ذات» أو لم يكن؟ إنني هنا لا أطلب من المتكلم سوى أن يصور لي الفرد الذي أطلق عليه اسما معينا، هو كلمة «ذات» فإن استطاع كان للعبارة معنى، وإلا فهي قول فارغ، أي المرئيات تقع على عين الرائي، وأي المسموعات تطرق أذن السامع، من الشيء الذي أسميناه «ذاتا»؟ إذا قال القائل «ذات العقاد» هي ملابسه أو هي كتبه، أو هي صوته في الحديث، أو هي ما شاء لها أن تكون من بين ما يمكنني أن أراه وأن أسمعه، كان لقوله معنى - سواء كان القول بعدئذ يقدم صورة صحيحة عن العقاد أو صورة فاسدة - فللقائل إذن أن يختار شيئا يرمز إليه بهذا الرمز الذي يستخدمه، وأعني به كلمة «ذات»، أما إذا زعم لنا أنه يشير بهذا الرمز إلى كائن لا تراه عين ولا تسمعه أذن، فما الفرق عندئذ بين أن يقول كلمة «ذات» وبين أن يضع مكانها أي ترقيم آخر يخط على الورق؟ إذا لم يكن هنالك شيء بعينه يريد أن يرمز له بهذا الرمز، ففيم استخدامه؟ من ذلك كله ترى أن عبارة «العقاد يحتوي على ذات ووجود» فارغة لا تصور شيئا مما يمكن للسامع أن يفهمه ... ولنا إلى هذا الحديث عودة أخرى.

3

العبارة الميتافيزيقية التي تخبرنا عن شيء غير محس عبارة فارغة من المعنى، لسبب بسيط، وهو أنها ليست مما يجيز المنطق أن يكون كلاما على الإطلاق، فمتى يقبل الكلام عند المنطق؟

المنطق يقبل الكلام إذا كان لدى السامع وسيلة لتحقيقه، فإما أن يصدقه بعد التحقيق أو يكذبه، أما الكلام الذي يستحيل بطبيعة تركيبه أن نتصور وسيلة لمراجعة صدقه أو كذبه، فهو كلام خاو من المعنى، ولا أقول إن الكلام يكون كذبا أو باطلا أو خاطئا؛ لأن هذه صفات لا يصح استعمالها إلا إذا كانت هنالك وسيلة لمراجعة الصورة الكلامية على الحقيقة التي تصورها ثم وجد أنها لا تطابقها.

على أن الصدق (أو الكذب) يختلف معناه باختلاف نوع العبارة التي نقولها، ولا تخرج العبارة التي يمكن وصفها بالصدق أو الكذب عن أحد نوعين: فهي إما تحليلية أو تركيبية، وليست العبارة الميتافيزيقية بواحدة منهما، كما سترى فيما بعد.

والعبارة التحليلية هي التي لا تقول شيئا جديدا عن الموضوع التي تتحدث عنه، فهي لا تفعل سوى أن تحلل ذلك الموضوع إلى عناصره، بعضها أو كلها، فإن قلت مثلا: «الزاوية القائمة تسعون درجة، فأنت لا تقول شيئا جديدا عنها يضاف إلى تعريفها، أي إنني إذا سألتك: قل لي أولا ما معنى «الزاوية القائمة» قبل أن تقول لي عنها ما تنوي أن تقوله؛ لأنني لم أسمع بهذا الاسم من قبل، فلن تستطيع أن تعرفني بها بغير أن تلجأ إلى قولك: إنها تسعون درجة، بعد أن تشرح لي - إذا طلبت منك ذلك - ما معنى زاوية ، وما معنى درجة، وبعد ذلك الشرح لمعنى «زاوية قائمة»، سأجد، وستجد معي، أنك حين قلت لي: «إن الزاوية القائمة تسعون درجة.» لم تكن في الحقيقة تخبرني بجديد، إذا فرضنا أنني أعرف من قبل معنى كلمتي «الزاوية القائمة» وحدها، أعني أن عبارتك هذه جاءت تحصيل حاصل، أو هي عبارة تحليلية.

في مثل هذه الحالة يكون تصديق العبارة قائما على مراجعة التحليل، لنرى هل جاء وفق ما اتفقنا عليه من معاني الألفاظ، أم خرج عليه، ولا يكون التصديق بمطابقة القول على شيء في الطبيعة، إذ ماذا عساك واجد في الطبيعة مما يعينك على تصديق عبارة كهذه أو تكذيبها؟ لو وجدت زاوية وقستها ووجدتها أقل من تسعين درجة أو أكثر، سأقول لك إنها ليست قائمة، وإذن فيستحيل أن تعثر على مشاهدة لشيء في الخارج، يمكنها أن تفند ما أقوله لك، ومن هنا كان يقين القضايا الرياضية كلها، فالقضية الرياضية يقينية؛ لأنها تحصل حاصلا، ولا تقول شيئا جديدا، أعني أنها تحلل صيغة أو رمزا إلى صيغة أخرى أو رمز آخر تحليلا يجعل الصورتين متساويتين متعادلتين.

وأما العبارة التركيبية فهي التي تقول لك خبرا جديدا، إذا أردت تصديقه أو تكذيبه، كان لا بد لك من الخروج إلى حيث الطبيعة تشاهدها، لتقارن ما تأتيك به الخبرة الحسية منها، بما تزعمه لك عبارة القائل، فإن قلت لك - مثلا - إن في السلة عشر برتقالات، فلست بذلك أقول معنى كلمة السلة، وإنما أضيف إلى معناها المعروف خبرا، هو أنها تحتوي على برتقالات عشر. افرض - كما فرضنا في حالة الزاوية القائمة - أنك لا تعرف معنى كلمة «سلة» وسألتني: قل لي أولا ما معنى «سلة» قبل أن تقول لي عنها ما تنوي أن تقوله؛ لأنني لم أسمع بهذا الاسم من قبل، عندئذ أستطيع أن أشرح لك معنى الكلمة دون أن يكون احتواؤها على عشر برتقالات جزءا من معناها، وإذن فقولي عنها إنها تحتوي على تلك البرتقالات العشر هو خبر جديد، يكون تصديقه بالمطابقة بينه وبين حالة واقعية خارجية، وتكون وسيلة هذه المطابقة هي الخبرة الحسية.

9

ونعود الآن إلى الميتافيزيقي فنسأله: ماذا أنت معتزم أن تقول إذا ما قلت عبارة ميتافيزيقية موضوعها كلمة «المطلق» كالعبارة التي قالها «برادلي» وتناولناها بالتحليل (في الفصل الأول) وهي «المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه ولكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.»

هل تريد أن تقول عن «المطلق» - مثلا - كلاما هو نفسه تعريف «المطلق» عندك، وبذلك لا تفعل سوى أن تعرف لنا كلمة على هواك، أم تريد أن تقول لنا عن هذا «المطلق» خبرا جديدا بحيث يتحتم عليك أن تبين لنا نوع الخبرة الحسية التي يجوز لنا أن نرجع إليها إذا أردنا لكلامك التحقيق والتصديق.

أما أن الميتافيزيقي يقول كلاما مستمدا من الخبرة الحسية، ويمكن الرجوع إلى الخبرة الحسية في تحقيقه، فذلك ما لا أظن أحدا يزعمه؛ لأن «المطلق» - الذي قلنا إنه موضوع ميتافيزيقي غير منازع - ليس مما يرى بالعين أو يسمع بالأذن، أو يحس بأية حاسة أخرى، إنه إذا كان بين المحسات، أصبح محددا بمكان معين وزمان معين وصفات معينة، ولم يعد «مطلقا»، فلست إذن بمطالب، ولا هو من حقك، أن تقول للميتافيزيقي الذي يقول: «إن المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.» أين وكيف عساي إن أرى هذا المطلق أو أسمعه أو ألمسه؛ لأرى إن كانت ظواهر العالم تتطور بقوله أو لا تتطور؟ لست بمطالب بهذا، ولا هو من حقك أن تطلبه؛ لأن الميتافيزيقي لا يدعيه.

فهل يقول لنا الميتافيزيقي - إذن - عبارات تحليلية كهذه التي يقولها الرياضي؟ لو كان أمره كذلك، لقيل في كلامه ما يقال في القضايا الرياضية، وهو أنها تحصيل حاصل، تحلل صيغة بصيغة تساويها؛ ولذلك فهي يقينية حتما، لكن أمر الميتافيزيقي ليس كذلك، إنه لا يقول، حين يدعي ما يدعيه، إني أحلل لفظة إلى ما يساويها، بل هو «يصف» كائنات يزعم وجودها بصفات معينة، فإذا طلبت إليه أن يدلك على الخبرة الحسية التي من شأنها أن تطلعك على تلك الكائنات، حتى ترى لنفسك إن كانت حقا موصوفة بالصفات التي زعمها أو لم تكن، أجابك بأنها ليست مما يحس ... وإذن فهو في موقف عجيب، يقول كلاما عن «أشياء»، ثم يرفض أن يدلك كيف يمكن أن تلتمس تلك «الأشياء» في خبرتك لتصدقه أو تكذبه، فلا هو على استعداد أن يحقق لنا ما يقوله بالخبرة الحسية كما يفعل الذين يحدثونا عن الأشياء الخارجية في العلوم أو في الحياة الجارية، ولا هو بقانع أن يجيء كلامه تحصيل حاصل حتى نصفه بالصدق من غير التجاء إلى خبرة حسية، وإذن فلا هو يقول عبارات تركيبية كالتي يقولها العلماء الطبيعيون، ولا عبارات تحليلية كالتي يقولها علماء الرياضة، فأي نوع من الكلام يقول؟

4

كلام الميتافيزيقي فارغ لا يحمل معنى، «فتعريف الجملة الميتافيزيقية هو أنها عبارة يراد بها أن تعبر عن قضية حقيقية، لكنها في حقيقة أمرها لا هي بمعبرة عن تحصيل حاصل، ولا عن فرض تحققه التجربة. ولما كانت تحصيلات الحاصل والفروض التجريبية تستنفد كافة القضايا ذات المعنى، كان لنا ما يبرر التأكيد بأن ما تقوله الميتافيزيقا خال من المعنى.»

10

يزعم لنا الميتافيزيقي أنه قد جاءنا بعلم عن الحقيقة التي لا تدخل في نطاق الطبيعة المحسوسة المشهودة، إذ هو يحدثنا عن «أشياء» تجاوز عالم الشهادة والحس، فنسأله من أي المقدمات استخلصت نتائجك التي انتهيت إليها؟ أليس يتحتم عليك - كما يتحتم على سائر الناس - أن تبدأ بشهادة حواسك؟ وإن كان ذلك كذلك، فكيف يجوز أن تستنبط من مقدمات حسية نتائج عن حقيقة أخرى خارجة عن نطاق الحواس؟ إنك إذا بدأت بمقدمات تجريبية، وحصرت نفسك فيما تنبئك به، فيستحيل أن تستدل وجود «شيء» أو «صفة» مما يخرج عن نطاق التجربة.

وقد يجيب الميتافيزيقي على ذلك قائلا: لا، إنني لم أبدأ رحلتي بشواهد مما تأتي به الحواس، إنما اعتمدت على أداة أخرى لكسب ما كسبته من المعرفة بما يقع خارج حدود العالم التجريبي، وتلك الأداة هي «الحدس» أو العيان العقلي المباشر، فبهذه الوسيلة الإدراكية أستطيع أن أعلم ما يستحيل على الحواس أن تجيئني به ... وحتى لو كنت أستخلص نتائجي الميتافيزيقية اللاتجريبية من مقدمات تجريبية، ثم تبين لكم أنني مخطئ في استنتاج ما هو لا تجريبي مما هو تجريبي، فإنكم بذلك تشيرون إلى خطأ عقيدتي في سلامة استدلالي، لكنكم لا تقيمون الدليل بذلك على أن النتائج التجريبية في ذاتها مخطئة، فقد تظل هذه النتائج صوابا على الرغم من خطئي أنا في الظن بأنها مستمدة من المقدمات التي زعمتها لها ... بعبارة أخرى، ليس لكم الحق في رفض الميتافيزيقا وحذفها على أساس أن المنهج الذي اتبع في تحصيلها منهج خاطئ؛ لأن الخطأ قد يكون محصورا في الطريقة، ولا ينصب على النتيجة.

ونحن إزاء ذلك نقول: إن اعتراضنا على العبارات الميتافيزيقية لا يقوم على أساس خطئها في ذاتها أو خطأ منهجها أو صوابه، بل يقوم على أساس أنها ليست بذات معنى من الوجهة المنطقية، فهي إذن ليس مما يوصف بصدق ولا بكذب، لقد سبق «كانت» إلى القول باستحالة الميتافيزيقا، لكنه بنى تلك الاستحالة على أساس آخر، إذ بناها على أساس أن العقل البشري بحكم طبيعته لا يستطيع الحكم إلا على ظواهر الأشياء، وأنه إذا ما غامر في مجال «الأشياء في ذاتها» وقع في المتناقضات، وعلى ذلك فاستحالة المعرفة الميتافيزيقية في رأي «كانت» حقيقة واقعة، وليست هي بالاستحالة المنطقية كما يرى المذهب الوضعي المنطقي، هي عند «كانت» حقيقة واقعة بمعنى أنه لو كان الإنسان على غير ما هو عليه في إدراكه الأشياء، لأمكن ألا تكون المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة، هي مستحيلة الآن؛ لأن العقل الإنساني لم يخلق لإدراكها، كما لم تخلق العين لسماع الأصوات، أما أصحاب المذهب الوضعي المنطقي - أو التجريبيون العلميون كما يسمون أنفسهم أحيانا - فيبنون استحالة الميتافيزيقا على أساس أن كلامها فارغ من المعنى، إنه لا يدل على شيء حيث يجوز لنا أن نقول هل يمكن للإنسان حقا أن يدرك هذا الشيء أو لا يدركه؟

خذ مرة أخرى عبارة برادلي بأن «المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم.» هذا الكلام مستحيل قوله في رأي «كانت» كما هو مستحيل قوله في رأي الوضعيين المنطقيين، أما «كانت» فيرى أن استحالته راجعة إلى أن العقل لم يخلق بحيث يستطيع أن يدرك «المطلق» إدراكا يمكنه من الحكم عليه بهذه الصفة أو بتلك، وأما الوضعيون المنطقيون فيقولون إن هذا الكلام مستحيل قوله؛ لأنه فارغ بغير معنى، هل إذا قلت لك: «إن الإسكبرانوس يدخل في تطور العالم وتقدمه» حين يكون الإسكبرانوس رمزا ملفقا لا معنى له، جاز لك أن تقول: إن عقلي لم يخلق بحيث يستطيع إدراك «الإسكبرانوس» فيحكم عليه؟ كلا، فالاستحالة هنا مرجعها أنني حدثتك بأصوات فارغة خالية من الدلالة، ومن ثم وجب حذفها من نطاق الكلام المقبول.

إنك إذا زعمت للعقل الإنساني حدا لا يستطيع أن يتجاوزه، ثم زعمت في الوقت نفسه بأن وراء ذلك الحد «أشياء» هي فوق إدراكه، كنت تناقض نفسك بنفسك؛ لأن اعترافك بوجود تلك «الأشياء» وراء الحد المزعوم، هو في ذاته دليل على عبورك إلى المنطقة المحرمة، فمثل هذا النقد - إذن - نوجهه إلى «كانت» الذي جعل استحالة المعرفة الميتافيزيقية مسألة سيكولوجية لا مسألة منطقية، إنه يجعل الاستحالة متوقفة على قدرة العقل وعدم قدرته، أما الوضعيون المنطقيون فرأيهم في هذه الاستحالة أنها قائمة على أن ما تقوله الميتافيزيقا يفقد شروط اللغة التي يمكن فهمها، «إن الاتهام الذي نوجهه للميتافيزيقي، ليس هو أنه يحاول استخدام العقل في مجال يستحيل عليه أن يغامر فيه مغامرة مجدية، بل هو أنه يقدم لنا عبارات لا تحقق الشروط التي لا بد من توافرها لكي تكون العبارة ذات معنى.»

11

وللدكتور «بارنز»

12

في هذه النقطة دفاع يجدر بنا إثباته لنرد عليه، يقول: «يزعمون أحيانا أن الميتافيزيقا هي خطأ في استخدام اللغة، وذلك شبيه بقولك عن فن التصوير: إنه وضع للطلاء في غير ما خلق له، نعم إنك إذا نظرت إلى العبارة اللغوية على أنها تصور العالم، كانت الميتافيزيقا تخطئ في استخدام اللغة؛ [لأنها لا تصور شيئا منه] لكنها باعترافها تحاول شيئا آخر غير تصوير العالم، وهو أن نقرر وجهة نظر أخرى غير مجرد التصوير الحرفي، وإذن فما يسمونه استعمالا خاطئا للغة، هو في الحقيقة استعمال جديد لها.»

ونحن نوافق الدكتور «بارنز» على قوله هذا، لكننا نخلص منه إلى غير النتيجة التي خلص إليها، فهو يريد الإبقاء على الميتافيزيقا؛ لأنها «تثبت وجهة نظر أخرى» غير التصوير، ونحن نريد إلغاءها؛ لأنها إذا لم تصور شيئا في الطبيعة، فليس هناك إذن ما ينظر إليه من هذه «الوجهة للنظر» التي اختارتها لترى منها ما تراه، أريد أن أقول إنها إذا لم تصور شيئا من العالم، فهي كلام فارغ من المعنى، اللهم إلا إذا أراد بها قائلها أن يصف وجدانا خاصا به كما يفعل الشاعر مثلا، وعندئذ تخضع عباراتها لمقاييس الفن لا لمقاييس المنطق، فمقاييس الفن تحكم على الكلام بالجمال أو القبح لا بالصدق أو الكذب، أعني أن الميتافيزيقي إذا أراد أن يكون كلامه من قبيل الآثار الفنية التي تعجب أو لا تعجب فهو ليس بحاجة إلى إقامة برهان على صدق ما يقوله، بمعنى الصدق في لغة المنطق، لكننا نرى الميتافيزيقيين حريصين على أمثال هذه البراهين العقلية على ما يقولون، وإذن فهم لا يريدون إلى الفن حين يتحدثون، بل يحسبون أنهم يتكلمون كما يتكلم العلماء الذين يتصدون لوصف العالم وما فيه، ومن هنا وجب عليهم أن يخضعوا لما يخضع له العلماء من حيث صدق التصوير.

5

إن كانت دعوى المتكلم بجملة هي أنه يفيدك علما جديدا عن العالم في جملته أو في تفصيلة من تفصيلاته أو فيما شاء من أجزائه، فالمقياس الذي لا مقياس سواه لقبول كلامه، هو أن يكون ممكن التحقيق في حدود الخبرة الحسية، ونقول «ممكن التحقيق»، ولا نقول عن هذا التحقيق إنه لا بد أن يقع فعلا؛ ذلك لأن الكلام قد نقبله من الناحية المنطقية قبل أن نهم في تحقيقه فعلا، ما دمنا ندرك فيه إمكان التحقيق.

وإذا قلنا إن المقياس الذي لا مقياس سواه لقبول الجملة الخبرية هو أن تكون الجملة ممكنة التحقيق في حدود الخبرة الحسية، فلسنا نشترط بهذا شرطا جزافا تمليه أهواؤنا، وكان يمكن لهذه الأهواء أن تتغير فيتغير المقياس المشترط تبعا لذلك، بل هو شرط مستمد من طبيعة اللغة نفسها، التي يتم بها التفاهم، ويستحيل على من ينقل إلينا علما جديدا عن العالم، أن يفعل ذلك بغير لغة أو ما يقوم مقامها من رموز، فإذا حللنا هذه اللغة التي هي بحكم الضرورة أداة نقل الخبر، ثم وجدنا أن طريقة فهمها هي نفسها طريقة تحقيق الخبر المنقول بها، نتج عن ذلك بالضرورة أن يكون شرط الكلام المقبول هو أن يكون ممكن التحقيق، ما دام قائله يدعي أنه يقول به علما جديدا عن العالم، ولا يكتفي بمجرد تحليل لفظة أو عبارة بمعناها الذي يريد أن يصطلحه لها، كما أنه لا يريد بكلامه هذا أن يعبر عن شعور ذاتي في نفسه ليثير في نفس السامع شعورا ذاتيا شبيها به.

لا تكون الجملة الخبرية ذات معنى إلا إذا كان في وسع سامعها أن يعرف كيف يمكن له أن يحققها إذا أراد، أعني إلا إذا عرف أي الخبرات الحسية - من مشاهدات ومسموعات ... إلخ - عساه واجد في عملية تحقيقها، بحيث ينتهي به هذا التحقيق إلى تصديق أو تكذيب، «لو تقدم لك عالم بقضية لا يمكن أن تستنبط منها ما عساك أن تدركه بالحس، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ افرض مثلا أنه زعم لك أن الأجسام لا تتأثر فقط في مجال الجاذبية تبعا لقوانين الجاذبية المعروفة، بل أضاف إلى ذلك زعم آخر، وهو أن للأجسام مجالا آخر تتأثر فيه أيضا، وهو مجال «اللاذبية»، فإذا سألته: ماذا عساي أن أشاهد في ظواهر الأجسام مما ينتج عن هذا المجال «اللاذبي» تبعا للنظرية المزعومة؟ وأجاب بأنه ليس هناك أثر مما تمكن مشاهدته بالحواس، أو بعبارة أخرى: إذا سألته هذا السؤال فاعترف بعجزه عن تقديم طريقة معلومة يمكننا بمقتضاها أن نعلم ما يمكن مشاهدته بالحس مما يطرأ على الأجسام في مجالها «اللاذبي»، فماذا يكون موقفك إزاءه؟ لا شك أنك ستقف من كلامه موقفك من الكلام الذي يتخذ صورة الكلام وليس منه، إن كلامه فارغ لا يتحدث به عن شيء قط.»

13

فلو استثنينا تحصيلات الحاصل التي تقولها الرياضة والمنطق؛ وجدنا أن كل عبارة مقبولة إنما يكون معناها هو نفسه طريقة تحقيقها، أي إن طريقة التحقيق ليست مجرد وسيلة توصلك إلى معنى العبارة، بل هي نفسها المعنى، وعلى ذلك فإن لم يكن لعبارة ما طريقة نحققها بها، فهي بالتالي عبارة لا معنى لها.

ويترتب على ذلك أن العبارة المقبولة هي التي تتنبأ لك بمجموعة من أحاسيس - بصرية وسمعية ولمسية - أنت ملاقيها إذا كانت العبارة صادقة، وليس معناها إلا هذه المعطيات الحسية التي تتنبأ بها، وعلى ذلك فلو أردت أن تحلل عبارة لترى إن كانت مما نقبله أو لا نقبله، فما عليك سوى أن تلتمس فيها العناصر الحسية الأولية التي تتنبأ بها، فمثلا: «هذه منضدة» يمكن تحليلها إلى «أرى بقعة لون» «ألمس صلابة» ... إلخ، وعبارة «في الغرفة المجاورة منضدة» يمكن تحليلها إلى «إذا ذهبت إلى الغرفة المجاورة فسأرى بقعة لون، وسألمس صلابة ... إلخ».

هكذا تكون العبارات التي نقولها عن العالم من حولنا - إذا لم يكن الجزء الذي نتحدث عنه أمام الحواس مباشرة - بمثابة «وعود» بأحاسيس إذا اتخذت هذه الوقفة أو تلك، وأقرب شبه لذلك أن نقول إن معنى العبارة «لي مائة جنيه في البنك» هو أني إذا كتبت شيكا صورته كذا وكذا، صرفت لي الجنيهات المائة، وعلى هذا يكون العالم الغائب بالنسبة لنا عالما تحت الحساب، كما هي الحال في ودائعنا في البنك، فنحس كذا وكذا لو فعلنا كيت وكيت. أما العبارة التي ليس فيها أبدا ما يدل على فعل نفعله لكي نحس هذا الإحساس أو ذاك فهي عبارة فارغة ليس لها معنى، كقولنا مثلا: إن المطلق يتدخل في تطور الأشياء».

وإذا قلت لي كلاما لا أجد في الخبرة الحسية شيئا يتأثر بالفرق بين صدقه وكذبه، فهو كذلك كلام فارغ لا تحدثني به عن شيء، أريد أن أقول إنك لو زعمت لي زعما في جملة معينة، ثم خرجت إلى عالم الأشياء لأصدقك في زعمك أو أكذبك حسب ما أجد في ذلك العالم، فلا أجد زعمك هذا يناقض شيئا من مشاهداتي سواء فرضت فيه الصدق أو فرضت فيه الكذب، فالجملة فارغة من المعنى؛ لأن الكلام المفهوم الذي يحمل معنى، هو الذي أتصور به فرقا في أشياء العالم الخارجي بين حالتي صدق ذلك الكلام أو كذبه.

لو قلت لي إن على المنضدة كتابا وقلما، فقولك هذا مفهوم مقبول؛ لأن صورة المشاهدات الحسية التي ألاقيها في خبرتي في حالة صدقه تختلف عن صورتها في حالة كذبه.

لكن إذا قال قائل: إن للكتاب مثالا عقليا أفلاطونيا قائما في عالم المثل، فأين يكون الاختلاف في مشاهداتي للكتاب بين حالتي صدق هذا القول أو كذبه؟ لا اختلاف، وإذن فلا معنى، ولنذكر القارئ بأننا ها هنا نحصر كلامنا في الجمل الخبرية، مستبعدين الجمل التحليلية التي هي تحصيل حاصل لا يضيف علما جديدا، والجمل الشعورية التي يراد بها إثارة شعور السامع؛ لأن هذه وتلك لا تدعيان أنهما تصوران حقيقة في العالم الخارجي.

وقل مثل ذلك في السؤال الذي يجوز إلقاؤه، فالسؤال الذي يستحيل أن نجد له خبرة حسية ممكنة تمكننا من الإجابة عليه، ليس بالسؤال الذي يقبله المنطق؛ لأنه عندئذ يكون قد اتخذ الصورة النحوية للسؤال دون الصورة التي تجعله ممكن الجواب، لو سألتك: ما عمق المحيط الأطلسي عند نقطة كذا؟ كان سؤالي مقبولا؛ لأن الإنسان في وسعه أن يتصور نوع الخبرات الحسية التي يمكن أن تقع في محاولة إيجاد الجواب، أما إذا سألتك ما مقدار زوايا الإنسان؟ كان السؤال مرفوضا، لا لأنه أصعب من أن يتناوله العقل البشري، بل لأنه ليس في وسعنا أن نقول ما نوع الخبرات التي عسانا أن نمارسها في الإجابة عليه.

السؤال الذي تستحيل الإجابة عليه استحالة منطقية، ليس بالسؤال إطلاقا، نقول ذلك ونردده ونكرره لنحارب به هذه الطائفة من الأسئلة التي تراهم يلقونها ثم يجدون فيها هذه الاستحالة، فيتهمون العقل البشري بالعجز عن الجواب، كأن الأمر ممكن، لكنه فوق متناولنا الآن، وربما يكون في متناولنا غدا أو بعد غد، وها هنا يحسن بنا أن نلقي ضوءا على المعنى المقصود «بالاستحالة المنطقية» فنقول: إن الاستحالة ثلاثة أنواع:

14 (1)

استحالة فنية، بمعنى أنني لا أستطيع بحكم الأدوات التي عندي الآن أن أؤدي ما يراد أداؤه، وقد أستطيع هذا الأداء لو توافرت تلك الأدوات، فمثلا ليس لدي المقياس الذي أقيس به طول هذه الورقة بالسنتيمتر، بحيث أصل في دقة القياس إلى سبعة أرقام عشرية، وأقول: إن طولها هو 5,6793547؛ لأن آلات القياس الموجودة تستطيع ذلك إلى أربعة أرقام عشرية فقط، فاستحالة معرفتي إن كان هذا الرقم ذو السبعة الأرقام العشرية صحيحا أو غير صحيح، هي استحالة فنية.

ومن قبيل ذلك أمثلة كثيرة، كأن نستطيع الطيران إلى القمر، أو نستطيع أن نطير فوق الأرض بسرعة ألف ميل في الساعة ... وهكذا. (2)

استحالة تجريبية، وهي التي تناقض قانونا من قوانين الطبيعة، فعدم ذوبان الثلج حين يوضع في ماء يغلي مستحيل استحالة تجريبية، وطيران الطائرة في خلاء لا هواء في استحالة تجريبية ... وهكذا.

ويلاحظ أنه قد تكون هناك استحالة فنية دون أن يكون معها استحالة تجريبية، فاستحالة أن تطير الطائرة بسرعة ألف ميل في الساعة استحالة فنية وليست بالاستحالة التجريبية، على فرض أن ليس فيها ما يناقض قانونا من قوانين الطبيعة، وكل ما هنالك من أمر هو أن ليست لدينا المهارة الفنية الكافية لأداء ذلك. (3)

وأما الاستحالة المنطقية فهي اجتماع النقيضين، فمثلا شعوري بوجع ضرسك مستحيل استحالة منطقية؛ لأنني إذا شعرت بشيء من ذلك أصبح الوجع في ضرسي أنا.

والاستحالة المنطقية تتضمن الاستحالتين السابقتين، فما هو مستحيل منطقيا لا بد كذلك أن يكون مستحيلا تجريبيا، ومستحيلا فنيا كذلك، فما دام شعوري بوجع ضرسك مستحيلا منطقيا، فيستحيل كذلك أن يكون هنالك قانون من قوانين الطبيعة يشمله، كما يستحيل أن تكون هنالك الأدوات الفنية التي أستعين بها على تحقيق هذا الشعور.

لكن العكس غير صحيح، فما هو مستحيل فنيا وما هو مستحيل تجريبيا قد لا يكونان مستحيلين من الوجهة المنطقية ، فلا تناقض هناك في أن نستطيع يوما أن نبني طائرة تطير بسرعة ألف ميل في الساعة، ولا تناقض هناك في أن يكون أي قانون من قوانين الطبيعة على غير ما هو عليه، إننا عرفنا أن «ق» قانون من قوانين الطبيعة؛ لأننا هكذا وجدنا الأشياء، وكان من غير المستحيل عقلا أن تجدها على غير ذلك، وجدنا - مثلا - أن المعادن تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، فكان ذلك قانونا من قوانين الطبيعة، لكن كان يمكن منطقيا أن تجدها على عكس ذلك، فنرى المعادن تنكمش بالحرارة وتتمدد بالبرودة، وكنا عندئذ سنسجل قانون الطبيعة بما يصور الواقع الذي وجدناه، لاحظ جيدا أننا قد عرفنا قوانين الطبيعة بالمشاهدة والتجربة، فما وقع لنا في المشاهدة والتجربة سجلناه، ولم تكن هناك استحالة في أن نشاهد ظواهر الطبيعة فنجدها على غير ما وجدناه.

ونعود الآن إلى وصل الحديث فيما يجوز قبوله من الجمل الخبرية والأسئلة وما لا يجوز، فما يجوز قبوله هو ما يمكن منطقيا أن نجد له وسيلة لتحقيقه، فإذا وجدنا العقبة التي تحول دون التحقيق الفعلي عقبة فنية أو عقبة تجريبية، لم يكن ذلك مانعا من قبول الجملة أو السؤال من الوجهة المنطقية.

فالجملة القائلة: «إن على الوجه الآخر من القمر جبالا» جملة مقبولة، على الرغم من أن تحقيقها الفعلي مستحيل (القمر يواجهنا بنصف واحد بذاته لا يتغير، فلا يرى سكان الأرض نصفه الثاني)، هو مستحيل من الوجهة الفنية، إذ ليس لدينا الآن وسيلة نطير بها إلى القمر فنرى وجهه الآخر، وقد يكون مستحيلا تجريبيا كذلك، بمعنى أنه ربما يقال: إن قوانين الطبيعة نفسها تحول دون أن تطير الطائرات في الفراغ الخالي من الهواء بين الأرض والقمر، ومع ذلك فالجملة مقبولة؛ لأنها ممكنة التحقيق من الوجهة المنطقية، ففي وسعي أن أعرف نوع الخبرات الحسية التي يمكن للمشاهد أن يمارسها إذا وقف الوقفة التي تمكنه من المشاهدة، وليس هنالك تناقض منطقي في أن يقف هذه الوقفة من القمر، حتى على فرض وجود الاستحالة الفنية بل والاستحالة التجريبية التي تحول دون ذلك من الوجهة العملية.

لكن قارن ذلك بجملة ميتافيزيقية كالتي أسلفنا ذكرها: «المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه ...» فما نوع الخبرات الحسية التي عساي أن ألاقيها إذا أردت التحقق من صدق هذا الزعم؟ إذا كان مستحيلا تحديد مثل هذه الخبرات المتوقعة، فمستحيل منطقيا أن آخذ في تحقيق الكلام صدقا أو كذبا، إذ شروعي في عملية التحقيق، متضمن تصوري لما عساي أن ألاقيه من خبرة، فإن استحال هذا التصور استحال بالتالي إمكان الشروع في التحقيق، وإذن فمثل هذه الجملة بغير معنى؛ لأنها مستحيلة التحقيق، وليس الأمر قاصرا على قدرة حاضرة أو قدرة مستقبلة؛ لأن الاستحالة ليست فنية، بل ليست تجريبية، وإنما هي - كما قلنا - استحالة منطقية تتضمن الاستحالتين المذكورتين معا، وهي مستحيلة منطقيا لأن فيها اجتماع نقيضين؛ أحدهما أنني قبلت هذه الجملة الخبرية على أساس أنها يمكن أن توصف بالصدق أو بالكذب؛ (لأن ذلك هو تعريف القضية)، والنقيض الآخر هو أن هذه الجملة لا يمكن أن نجد وسيلة لتصديقها أو تكذيبها. نعم، إن المتكلم في مستطاعه أن يحدد ألفاظه بأي معنى يريد، فمثلا يستطيع القائل بأن «المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه» أن يقول: إني أقصد بكلمة «المطلق» هنا «المطر» أو «حرارة الجو» أو ما شاء من معان، لكنه - وهو يحدد لنا معناه - محتوم عليه أن يشرح الكلمة شرحا داخلا في حدود خبراتنا، وإلا فلو استبدل بكلمة كلمة أخرى، وكلاهما لا ندري له مقابلا من خبرة حسية، فستظل المشكلة قائمة كما هي، وسيظل كلامه خاليا من المعنى لاستحالة تحقيقه حتى من الوجهة النظرية.

ويفرق الأستاذ آير

15

بين نوعين من التحقيق، وهو يتحدث عن إمكان التحقيق من الوجهة المنطقية: التحقيق «القوي» والتحقيق «الضعيف».

فالتحقيق القوي يكون حين تأتي الخبرة الحسية مدعمة لصدق القضية تدعيما تاما كاملا، وأما الضعيف فيكون حين تأتي الخبرة مدعمة لصدق القضية على وجه الاحتمال، ولما كانت القوانين العلمية (في العلوم الطبيعية) يستحيل فيها التحقيق الذي يجعلها يقينية، فتحقيقها إذن من النوع «الضعيف»، وكذلك قل في القضايا التي تحدثنا عن حوادث الماضي كقضايا التاريخ؛ لأنه مهما اجتمع لديك من الشواهد على حادث مضى، فهي كلها لا تقطع بيقين، فلو استثنينا تحصيل الحاصل - كالرياضة - وجدنا أن التحقيق دائما هو على سبيل الاحتمال والترجيح، فسؤالنا في التحقيق لا يكون: هل هناك من المشاهدات وسائر الخبرات الحسية ما يجعل العبارة المزعومة ذات يقين قاطع؟ بل يكون: هل هناك من المشاهدات وسائر الخبرات الحسية ما له صلة بتقرير صدق هذه العبارة المزعومة أو كذبها؟ فإن كان الجواب الثاني هو بالنفي، كانت العبارة كلاما فارغا غير ذات معنى على الإطلاق.

إننا إذن لا نتعسف فنشترط إمكان تحويل العبارة المقولة إلى خبرات حسية تحويلا كاملا شاملا؛ لأننا لو طالبنا بذلك فقد لا ننتهي أبدا من تحقيق عبارة واحدة، وحسبك في ذلك أن تنظر في جملة مثل «الكتاب على المنضدة»، وتسأل نفسك ما نوع الخبرات الضوئية التي أتوقعها لأثبت بها صدق هذه العبارة، وستجد أن هذه الخبرات الضوئية لا نهاية لعددها ولا حصر لدرجاتها؛ لأنها خبرات تختلف باختلاف وقفاتك ومساقط الضوء وما إلى ذلك، إنما نكتفي لقبول الجملة بأن نجد في حدود إمكاننا استدلال بعض الخبرات الحسية التي لها صلة بصدقها، دون المطالبة بهذه الخبرات على سبيل الحصر والشمول.

طبق هذا المقياس على هذه العبارة: «العالم الخارجي وهم.» فستبدأ بسؤال نفسك: هل يمكن أن ألتمس أية خبرة حسية يكون لها صلة بتصديق هذا الزعم؟ ذلك مستحيل بحكم ما تقتضيه العبارة نفسها؛ لأنها تسد عليك الطريق فلا تأذن لك بالالتجاء إلى الخبرة الحسية؛ لأن هذه كلها وهم في زعمها، لو قلت هذه ألوان أراها وتلك أصوات أسمعها، وإذن فالعالم الخارجي حقيقة لا وهم، فيقال لك بل الألوان والأصوات التي توهمتها ليست بحقائق، إذن فماذا عساي أن أقع عليه من خبرتي لأصدق هذه الدعوى؟ قد يجاب أحيانا على هذا السؤال بأن تصديق الدعوى هنا معتمد على خداع الحواس، فقد ترى العين عصا مكسورة في الماء حتى إذا ما لمستها بيديك وجدتها مستقيمة ... وهكذا، وفي هذا دليل على أن مدركات الحواس أوهام ، لكنها لا تكون كذلك ما دمت أصحح أخطاء الحواس بالحواس نفسها، وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نجد من خبراتنا خبرة نلجأ إليها لتحقيق إن كان العالم الخارجي وهما حقا، وبالتالي تكون هذه الجملة فارغة من المعنى.

لكن هنالك إشكالا في إمكان التحقيق - كما شرحناه - يثيره الناقدون، وهو أنه بناء على هذا المقياس الذي أسلفناه، لا يمكن تحقيق القضايا العلمية الكلية ولا قضايا التاريخ التي تحدثنا عن شيء مضى، فأما القضايا العلمية الكلية فمتعذرة على هذا المقياس؛ لأننا - مثلا - حين نقول إن الخشب يطفو على الماء، لا نسمي قطعة بذاتها من الخشب ولا منطقة بعينها من الماء، وبالتالي لا يكون في مستطاعنا أن نستنبط من مثل هذه العبارة الكلية نوع الخبرة الحسية التي ستصادفنا إبان التحقيق، وكذلك قل في قضايا التاريخ، فقولنا - مثلا - إن نابليون جاء في حملة على مصر سنة 1798م، لا يمكن أن تكون له وسيلة مباشرة لتحقيقه، فليس بين الناس اليوم رجل اسمه نابليون جاء في حملة على مصر، وليست السفن والجنود التي تكون حملة نابليون على مصر بموجودة في جزء من أجزاء الأرض حتى نستطيع الرجوع إليها، فكيف - إذن - يراد بنا أن نتوقع نوع الخبرة الحسية التي سنصادفها، وكيف يتاح لنا أن نحقق مثل هذه العبارة؟

من أجل هذا تحوط الأستاذ «آير» في وصفه لطريقة التحقيق الممكنة التي نتخذها مقياسا لما يجوز قبوله من الجمل وما لا يجوز، فقال: إن القضية التي نقبلها على أنها ذات مضمون واقعي، ليست هي التي يمكننا أن نترجمها بذاتها إلى عبارات تصف الخبرة التي سنلاقيها مباشرة، بل هي القضية التي نستطيع أن نستدل بعض الخبرات منها ومن قضايا أخرى تضاف إليها، على شرط ألا يكون في مستطاعنا أن نستدل تلك الخبرات من هذه القضايا الأخرى وحدها.

16

فإذا أضفت إلى قضية «نابليون جاء في حملة على مصر.» التي يراد تحقيقها قضايا أخرى كل منها يمكن أن يحقق بالحس المباشر، كأن تصف في عدة عبارات بعض آثاره التي لا تزال قائمة، أو بعض الوثائق التي يمكن الاطلاع عليها مباشرة، أمكنك من هذه المجموعة أن تستدل ماذا عساك أن تخبر إذا أردت أن تحقق صدق القضية التاريخية المراد تحقيقها، وهي «نابليون جاء في حملة على مصر.»

وقد يزيد الأمر وضوحا لو ضربنا مثلا آخر من الحياة اليومية، فالقاضي حين يحكم بأن «زيدا قتل عمرا بسكين» لا يستطيع أن يحقق هذه العبارة تحقيقا مباشرا بالحس؛ لأن الحادث وقع في الماضي ولا يمكن إعادته أمام أبصارنا من جديد، لكنه يستعين على ذلك بعدد من عبارات أخرى، كل عبارة منها تصف شيئا مما يمكن إدراكه بالحواس مباشرة، بحيث إذا ضممنا هذه العبارات الأخرى إلى الحكم الأصلي، القائل بأن «زيدا قتل عمرا بسكين» وجدنا أمامنا مجموعة يمكن أن نستنبط منها ما شئنا استنباطه من شواهد على أن الحكم صحيح، على شرط ألا يكون في مستطاعنا أن نستنبط هذه الشواهد من العبارات الأخرى وحدها التي استعان بها القاضي، مستغنين بذلك عن القضية الأصلية، وهي أن «زيدا قتل عمرا بسكين»؛ لأنه لو أمكن تفسير كل شيء مع الاستغناء عن افتراض قتل زيد لعمرو، لما كان لدينا الأساس الصحيح الذي نحكم به على صدق ذلك الحكم.

هكذا يكون لدينا طريقان لتحقيق العبارة التي نزعم أنها ذات مضمون واقعي؛ طريق مباشر كأن أقول «هذه بقعة مستديرة من اللون الأصفر.» مشيرا إلى برتقالة، وطريق غير مباشر، بأن أستعين بعدد من الشواهد التي تضاف إلى الجملة المراد تحقيقها، فتهيئ لي مجموعتها وسيلة استنباط الخبرة الحسية التي يمكن أن أصادفها إذا كانت الجملة الأصلية صادقة.

ولعل هذا الشرح يعيننا على فهم ما أورده الأستاذ «آير» في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه،

17

خاصا بطريقة تحقيق العبارات، إذ قال: «إنني أزعم أن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق مباشر، إذا كانت هي نفسها عبارة شهادية (أي عبارة تدل على ما يمكن مشاهدته مباشرة)، أو إذا كانت عبارة، لو أضيفت إليها عبارة شهادية واحدة أو أكثر، استتبعت على الأقل عبارة شهادية واحدة لا يمكن استنتاجها من تلك العبارات المضافة وحدها، وأزعم كذلك أن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق غير مباشر لو أوفت بالشرطين الآتيين؛ أولا: لو كانت بالإضافة إلى مقدمات أخرى تستتبع عبارة أو أكثر مما يمكن تحقيقه مباشرة، وثانيا: لو كانت هذه المقدمات الأخرى لا تتضمن عبارة غير تحليلية أو غير ممكنة التحقيق بطريق مباشر، أو غير ممكن تحقيقها في ذاتها بطريق غير مباشر.»

خذ مثلا يوضح مرة أخرى: أمامك عبارة «الماء يغلي في درجة مائة.» فكيف يمكن تحقيقها؟

أولا ليست هذه العبارة مما يحقق بالشهادة المباشرة؛ لأنه ليس في دنيا الواقع شيء اسمه «ماء» بصفة عامة، إنما الذي في دنيا الواقع هو هذه الحفنة الجزئية من الماء وتلك الحفنة الجزئية منه، وعلى ذلك فلا بد أن نلجأ إلى التحقيق بطريقة غير مباشر، بأن نضيف إليها عدة عبارات أخرى، مثل: (1) «الماء في هذا الوعاء يغلي.» (2) «الزئبق في الترمومتر يشير إلى رقم مائة.» (3) «الدرجة الحرارية اصطلاحا هي امتداد الزئبق بين خطين من خطوط الترمومتر.» ... إلخ، ونلاحظ أن العبارتين الأوليين يمكن أن تحققا بالشهادة المباشرة، وأن العبارة الثالثة جملة تحليلية تحدد معنى اصطلاح علمي معين، وإذن فلا تحقيق لها من عالم الحس، وهذا يفسر لنا قول «آير» السابق، من أن العبارة التي يمكن تحقيقها بطريق غير مباشر، نضيف إليها عدة عبارات أخرى، تكون إما ممكنة التحقيق مباشرة، أو تكون عبارة تحليلية.

ثم يضيف الأستاذ «آير» إلى قوله السابق ما يأتي: يلاحظ أنني عندما ذكرت شرطي إمكان التحقيق غير المباشر، ذكرت صراحة شرطا يجيز أن تتضمن «المقدمات الأخرى» عبارات تحليلية، ومرادي بذلك هو أن أفسح المجال للنظريات العلمية التي تعبر عنها بمصطلحات ليست في ذاتها تدل على شيء مما يمكن شهادته بالحواس؛ لأنه في مثل هذه الحالة يمكن إنشاء «قاموس» يمكننا من تحويل هذه المصطلحات إلى عبارات يستطاع إخضاعها للتحقيق، والعبارات التي يتألف منها القاموس قد تعتبر عبارات تحليلية، وإلا لما وجدنا فرقا بين النظريات العلمية وبين العبارات الميتافيزيقية التي نريد حذفها «غير أنني أرى أنه مما يميز الميتافيزيقي أن عباراته ليست تصف شيئا مما يمكن - ولو من الوجهة النظرية - أن يخضع للملاحظة، ثم لا يقتصر أمره عند هذا الحد، بل إنه ليس هنالك قاموس يمكننا بواسطته تحويل العبارات التي يقولها الميتافيزيقي إلى عبارات يمكن تحقيقها بطريق مباشر أو غير مباشر.»

18

6 «العبارة الميتافيزيقية هي قضية لا تجريبية ذات مضمون وجودي، ويرى الوضعيون أن أمثال هذه العبارة هي أشباه قضايا، وإنما تقوم نظريتهم في ذلك على أساس أولي، وهو أن الوقائع التي تصفها أمثال هذه العبارات، يستحيل أن يدل عليها برهان منطقي أو منهج تجريبي، وليس ثمة من سبيل غير هذين: الاستدلال اليقيني (أي البرهان المنطقي)، ومناهج التجريب، فليس لدينا منهج ثالث نقرر به معنى الصدق لعبارة ما.»

19

ولا يجادل الميتافيزيقيون في أن قضاياهم لا تجريبية، إذ هم لا يستخدمون خبرة الحواس حين يقولون مثلا: «إن العنصر المعين يستحيل أن يتولد عن عنصر آخر» (سبينوزا)، و«وجود الشيء هو نفسه إدراكه» (باركلي)، و«كل شيء قائم بالفعل فيه اتحاد مباشر بين الذات والوجود، أي بين الباطن والظاهر» (هيجل).

لكن الميتافيزيقيين إذ هم لا يجادلون في أن قضاياهم لا تجريبية، تراهم يزعمون أن ثمة مناهج أخرى للوصول إلى الحقائق، من ذلك أن تبدأ الإدراك بالحدس المباشر ثم تولد من الحدوس نتائج عن طريق الاستنباط القياسي، وعلى أساس هذا المنهج قامت الفلسفات العقلية في التاريخ الحديث كفلسفة ديكارت وفلسفة سبينوزا وفلسفة ليبنتز، «وأيا ما كان المنهج الذي يستخدمه الميتافيزيقيون، فلا شك أن الميتافيزيقا مؤلفة من عبارات لا ترتكز على التحقيق التجريبي.»

20

ويسير الوضعيون المنطقيون في مهاجمتهم للميتافيزيقا على خطوتين: (1)

فهم أولا يبينون أن كل القضايا يمكن ردها إلى قضايا أولية، مما نحققه بالخبرة الحسية تحقيقا مباشرا. (2)

ثم يبينون ثانيا أن الميتافيزيقا إن هي إلا نتيجة أخطاء في منطق التركيب اللغوي لعباراتها.

ونقصد بالقضية الأولية عبارة تحدثنا عن شيء فرد أو حالة جزئية مما يقع أو يمكن أن يقع لنا في مجرى الخبرة، فقولي «البرتقال أصفر.» ليس قضية أولية بهذا المعنى، أما قولي «هذه البرتقالة صفراء.» فقضية أولية؛ لأن الأولى تحدثني عن «البرتقال» بصفة عامة، وخبرتي ليس فيها «أشياء عامة»، إنما هي تتألف من جزئيات دائما، فالعين لا تقع على «برتقال» بصفة عامة، بل تقع على هذه البرتقالة أو تلك.

ونقول: إن كل قضية - مهما تكن - يمكن ردها إلى قضية - أو مجموعة قضايا - أولية، فإذا استحال علينا ذلك، كانت القضية المزعومة قد أشبهت القضية وليست بالقضية حقا، أعني أنها كلام فارغ من المعنى، خدعنا بكونه يشبه الكلام المفهوم، فقولنا «البرتقال أصفر» يمكن ردها إلى جملة قضايا أولية، كل منها يتحدث عن برتقالة بذاتها معينة: «البرتقالة 1 صفراء» و«البرتقالة 2 صفراء» و«البرتقالة 3 صفراء» ... وهكذا، حين تكون البرتقالات 1، 2، 3 ... مما يمكن أن يشار إليه في مكان معين لتقع صورتها على عين الرائي.

ويجمل بنا في هذا الموضع أن نعيد ما ذكرناه في موضع سابق عن اللغة التي نتكلمها أو نكتبها، من حيث انقسام الألفاظ قسمين: ألفاظ هي أسماء لأشياء، وألفاظ بنائية تعمل على تكوين العبارة اللغوية دون أن تكون أسماء لأي شيء.

أي كلام تكتبه أو تقوله هو مجموعة رموز، فإن كان الكلام مكتوبا كانت الرموز تخطيطا على ورق أو خشب أو ما شئت - تخطيطا تقع صورته على عين الرائي - وإن كان منطوقا كانت الرموز موجات صوتية تبلغ أذن السامع، فكيف يكون لهذه الرموز معنى؟

انظر إلى هذه الجملة: «الكتاب بين الدواة والقلم.» فلاحظ أولا أنها تتألف من خمس كلمات: «الكتاب» «بين» «الدواة» «و» «القلم»، من هذه الكلمات الخمس اثنتان لا ترمزان إلى أشياء في العالم الخارجي، وهما كلمتا «بين» و«و»، فليس هنالك «شيء» اسمه «بين» ولا شيء اسمه «و»، في هذه الحالة التي أصفها بعبارتي السالفة، عدد الأشياء ثلاثة، هي: (1) كتاب. (2) دواة. (3) قلم.

ولذلك تراهم يفرقون في ألفاظ اللغة - منطقيا - بين ما يسمى بالكلمات الشيئية، وما يسمى بالكلمات البنائية، الأولى أسماء الأشياء، وأما الثانية فلا تسمي شيئا، إنما هي تربط وتبني الأسماء في كتلة يكون لها معنى وتتكون منها صورة.

ونعود فنسأل: كيف تكتسب الأسماء معناها ؟ الأسماء رموز مرقومة على ورق أو خشب أو غيرها، أو موجات صوتية يهتز بها الهواء، فكيف يكون لهذه الرموز معناها؟ لاحظ جيدا أن الكلمات ليست هي الأشياء، إن كلمة «كتاب» ليست هي الكتاب الذي هو شيء يحمل ويوزن ويقذف به ويقرأ ويمزق، وكلمة «قلم» ليست هي القلم الذي تحفظه في مكتبك وتملؤه بالمداد وتكتب به وتحاول إصلاحه إذا فسد، وهكذا.

ليست الكلمة هي الشيء، إنما هي ترمز للشيء أو تمثله أو تشير إليه أو تدل عليه، فكيف أتيح لها أن تفعل ذلك؟ الجواب على ذلك غاية في اليسر، على الرغم مما تعقد به الموضوع من أبحاث كثيرة يكتنفها الخلط والغموض، تكتسب الكلمة قدرتها على الدلالة بعملية الربط الذي هو من طبيعة الإنسان - بل والحيوان - كما يسجلها عالم النفس في ملاحظاته وتجاربه، أرى شيئا بعيني ويقال لي «كتاب»، فيرتبط المرئي بالمسموع ربطا يجعل الواحد قادرا على اجتلاب الآخر في الذهن، فإذا سمعت صوت كلمة «كتاب» منطوقة، ارتسمت لدي صورة الكتاب كما رأيته، فإن كنت قد رأيت كثيرا من الكتب، فإن صورة واحدة منها، أو عدة صور متداخلة مهوشة، سترتسم نتيجة لسمعي كلمة «كتاب»، وكذلك قل في الكلمة وهي مكتوبة، هنا يرتبط مرئي بمرئي، فإذا رأيت المرئي «كتاب» مرقومة على الورق، جاءتني صورة الكتاب كما وقع لي في خبرتي.

21

والصوت المنطوق أو الرسم المرقوم يكون غير ذي معنى، إذا لم يكن قد ارتبط عندي بشيء، من أجل هذا لا أفهم الصيني وهو يتكلم، ويفهمه صيني مثله؛ لأن أصواته لم ترتبط عندي بأشياء، وارتبطت عند زميله، وقد أرى الكلمة فلا أفهم لها معنى، ثم يشار لي إلى مدلولها، فتبدأ الكلمة في اكتساب معناها، وإذا صادفتها بعدئذ عرفت مدلولها.

وليست مهمة القواميس في شرح الكلمات إلا هذه؛ تصادفك الكلمة فلا تفهم إلى ماذا ترمز، فتبحث عنها في القاموس، فتجد إلى جانبها ترقيما على الورق، تفهمه إذا كان قد سبق لك أن ربطته بشيء، وعندئذ تأخذ في ربط الكلمة الأولى التي كانت مجهولة المعنى بهذا الشيء نفسه، أما إذا وجدت الترقيم الآخر هو نفسه غريبا عليك، أي لم تجده مما كنت في خبرتك السابقة قد ربطته بمسماه، فستظل الكلمة التي تبحث عن معناها مجهولة المعنى.

قل لي أية جملة شئت هذا من حقك، لكنه من حقي كذلك أن أسألك عن معنى كل كلمة مما قد استخدمته في جملتك، فإذا شرحت لي الكلمة المجهولة بأخرى، ولم أفهم هذه الأخرى، فسيظل من حقي أن أطالبك بثالثة، حتى ننتهي آخر الأمر إلى الإشارة إلى المسمى في عالم الأشياء، فإن كان ذلك مستحيلا عليك، كان كلامك فارغا من المعنى الذي زعمته له.

ونعود إلى ما بدأنا به الحديث، فنقول إن كل عبارة ذات معنى، لا بد أن يكون في إمكاننا ردها إلى قضية أولية، يكون الحديث فيها عن فرد يشار إليه، أو عن حالة جزئية معينة من الحالات التي تقع أو يمكن أن تقع في مجرى خبراتنا.

وسنرى فيما بعد أن العبارات الميتافيزيقية يستحيل فيها ذلك، وبالتالي فهي عبارات ليست بذات معنى، فإذا قلت لي «العنصر لا يتولد عن عنصر آخر»، فسأطالبك بأن تردها إلى جملة عبارات هي «العنصر

1

لا يتولد ...» «العنصر

2

لا يتولد ...» إلخ، حين يكون العنصر 1، 2 ... إلخ جزئيات مما تقع لي في خبرتي، أو يمكن منطقيا أن تقع، فإذا احتججت بأن «العنصر» ليس مما يقع في خبرة حسية، وبالتالي ليس له أفراد جزئية كما للبرتقال والكتب والأقلام، كان ذلك دليلا على أنك تستخدم كلمة غير ذات مدلول؛ لأنها غير مرتبطة بشيء، وقد رأينا أن الكلمة التي لا أجد عندي ما ترتبط به، لا تكون عندي اسما لشيء.

موضع الخطأ عند الناس في كثير جدا من الحالات، هو أنهم كلما صدروا عبارة يقولونها بكلمة ما، حسبوا أن تلك الكلمة دالة على شيء بعينه، وحسبوا بالتالي أنهم بعبارتهم تلك يصفون جانبا من جوانب العالم، وإن تفكيرنا ليستقيم إلى حد بعيد إذا نحن وضعنا نصب أعيننا هذه التفرقة الهامة بين أنواع ثلاثة من العبارات، هي : (1)

عبارات تتحدث عن أشياء جزئية فردية، متمثلة في أسمائها، كقولنا - مثلا - «العقاد يقيم في القاهرة.» أو «الهرم الأكبر يقع على الضفة الغربية من النيل.» أو «هذه البرتقالة بغير بذور.» ... إلخ. نحن في هذه الأمثلة كلها نتحدث عن أفراد، وفي كل حالة من الحالات نستطيع أن نشير إلى الفرد الذي نتحدث عنه، فهو شخص «العقاد» في المثل الأول، وهو «الهرم الأكبر» في المثل الثاني، وهو «البرتقالة الواحدة المعينة باسم الإشارة (هذه)» في المثل الثالث، وفي أمثال هذه الحالات كلها، تكون القضية التي نقولها قضية أولية، ويكون تحقيقها مباشرا؛ لأن كل قضية هنا صورة مباشرة لجزئي معين محدد يمكن الرجوع إليه بخبرتنا الحسية للتحقق من صدق الصورة الكلامية التي استخدمناها لتصويره ووصفه. (2)

عبارات تتحدث عن كلمات لا عن أشياء، كقولنا «العقاد كلمة مؤلفة من ستة أحرف»، وها هنا أيضا يكون التحقيق بالرجوع إلى الكلمة الموصوفة في العبارة رجوعا مباشرا. (3)

وعبارات ثالثة هي التي تسبب للناس كثيرا جدا من أخطائهم الفكرية؛ لأنها تتحدث عن «كلمات»، ويحسبها الناس متحدثة عن «أشياء»، ويدخل في هذه المجموعة الثالثة كل عبارة موضوعها كلمة كلية، مثل قولنا «القطن يزرع في مصر.» و«السكر يذوب في الماء.» و«الإنجليزي قليل الانفعال.» ... إلخ، فموضوع الحديث في العبارة الأولى، وهو «القطن» كلمة لم تخلق لتطلق على فرد واحد من أفراد الكائنات، كما هي الحال في كلمة «العقاد» أو «الهرم الأكبر» مثلا، لكنها كلمة وضعت مشاعا لأفراد لا حصر لعددها، هي شجرات القطن، وإذن فعم أتحدث حين أقول: «القطن يزرع في مصر»؟ عن أي كائن فرد من كائنات العالم الخارجي أصرف الحديث؟

إنني في الحقيقة لو أردت لكلامي أن يصور الواقع لوجب أن أحلل عبارة «القطن يزرع في مصر» إلى عبارات كثيرة جدا، يكون موضوع كل منها اسما لشيء جزئي واحد، فأقول: «هذه الشجرة

1

هي من أشجار القطن» و«هذه الشجرة

2

هي من أشجار القطن» و«هذه الشجرة

3

هي من أشجار القطن» ... إلخ، والشجرة

1

والشجرة

2

والشجرة

3 ... كلها مزروعة في مصر، عندئذ فقط يمكنني أن أحقق كل عبارة جزئية من هذه العبارات التحليلية تحقيقا مباشرا بالرجوع مباشرة إلى الكائن الواحد الفرد الذي يكون موضوع الحديث في كل عبارة على حدة، بعبارة أخرى: يستحيل تحقيق العبارة المحتوية على كلمة كلية بغير الرجوع إلى المفردات التي تطلق الكلمة على مجموعها.

فافرض أنني أردت الرجوع إلى المفردات التي تمثلها الكلمة الكلية الواردة في الجملة، فلم أجد أفرادا جزئية لها، ثم لم أتصور إمكانا تجريبيا حسيا لوجود مثل هذه الأفراد، فماذا أقول عن الجملة؟ أقول إنها فارغة لا تتحدث عن شيء قط لا فعلا ولا إمكانا.

خذ لذلك مثلا هذه العبارة الميتافيزيقية الآتية: «النفس الإنسانية كانت موجودة في عالم روحي قبل حلولها في الجسد.» كيف أفهم هذه العبارة فهما منطقيا سليما؟

لا بد أولا من تحليل كلمة الموضوع - وهي «النفس» - تحليلا يبين المفردات الجزئية الواقعة في العالم الخارجي، التي تنطوي تحت هذه الكلمة، فلاحظ جيدا أن الكلمة الكلية - كما أسلفنا لك الحديث - لا تسمي شيئا بذاته، إنها ليست اسم يطلق على فرد كما تطلق أسماء الأعلام على أفرادها، هي في الحقيقة وصف تشترك فيه مجموعة أفراد، فينبغي أولا أن نعثر على تلك المجموعة من الأفراد، أو على واحد منها على الأقل، ونخترع له اسما من عندنا وليكن الرمز «س»، ثم نقول: إن «س» هذه التي يمكن أن أراها أو أسمعها أو ألمسها، هي من مجموعة الأفراد التي أطلق عليها كلمة «نفس»، ولكني حين ألتمس هذا الفرد بين أفراد العالم الخارجي فلن أجد، وإذن فالوصف بكلمة «النفس» لا ينصرف إلى شيء، هذا فضلا عن أن عناصر الوصف نفسها الدالة عليها كلمة «نفس» لن تكون من بين عناصر التجربة الحسية، وبهذا تخلو تجربتنا الممكنة من الموصوف وصفته على السواء، ففيم الحديث؟

سيقال هنا بالطبع إنك تطالب بالعثور على فرد جزئي بين الأشياء المادية المحسوسة، وتطالب كذلك بأن يكون وصفه بكلمة (النفس) مشتملا على عناصر مما تدركه الحواس، لكننا نحدثك عن أشياء، لا تحس، فلا هي ولا صفاتها مما يمكن أن تراه بعينك أو تسمعه بأذنك. ولا بد أن يكون القارئ قد عرف الآن في وضوح بماذا نجيب على مثل هذا الاعتراض، سنجيب قائلين: إذا كان الأمر كذلك، فأنت تخدعني بالرموز اللغوية التي تستخدمها؛ لأن الرمز لا كيان له إلا أن يرمز لشيء، وارتباط الرمز بمرموزه هو الذي يجعل للرمز معناه، فإذا لم يكن هنالك الشيء الذي يرمز إليه الرمز الذي تستعمله في حديثك، فعلام تتحدث؟ ماذا تصف لي وماذا تصور؟ ماذا أرجع إليه إذا أردت أن أصدقك فيما تزعمه؟ أم تظنه لزاما علي أن أنصت لما تقوله إنصات الذي يجب أن يصدق بغير مراجعة ولا تحقيق؟

وددت لو استطعت أن أكرر القول ألف مرة حتى يثبت في الأذهان، أعني القول بأن الكلمة ليست هي مسماها، «الكلمة» شيء من الأشياء، و«مسماها» شيء آخر، والاصطلاح هو الذي يجعل اتفاقا بين الناس على أن «الكلمة» تحل محل «المسمى» تسهيلا للتفاهم، فإذا وجد الطرف الأول دون الطرف الثاني، كان حديثك في غير موضوع، أي إنه كان حديثا لا يشير إلى شيء ولا يعني شيئا.

7

وإذا كانت العبارات الميتافيزيقية رموزا فارغة خالية من الدلالة والمعنى، إذا كانت العبارات الميتافيزيقية كلاما لا ينفع السامع شيئا؛ لأنه لا يدل على شيء، فكيف وقع هذا الوهم العجيب؟ كيف تمت هذه الأسطورة الكبرى، فامتلأت الكتب بها واشتد الجدل بين أصحابها؟

نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية، هي التي أشرنا إليها في ختام الفقرة السابقة، وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللفظة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن مئات من الألفاظ المتداولة والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة، أو هي «أشباه ألفاظ» كما يسميها رجال الوضعية المنطقية، وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات، وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء، لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.

وسأسوق لك فيما يلي أمثلة من المسائل الميتافيزيقية، تبين كيف نشأت كل مشكلة منها من وجود «كلمة»، ثم من الظن بأنه ما دامت «الكلمة» قائمة، فلا بد كذلك أن يكون لها مدلول قائم، فإذا لم يكن مدلولها ذاك مما يقع في مجال الخبرة الحسية، قيل إنه لا بد أن يكون في عالم آخر غير عالم الحس.

وأول مسألة أسوقها للتوضيح، مسألة «العنصر» أو «الجوهر» أو «الشيء في ذاته»، فنحن في حديثنا إذ نتحدث عن البرتقالة مثلا، نقول عبارات كهذه: «البرتقالة صفراء» «البرتقالة مستديرة» «البرتقالة حلوة» ... إلخ.

ولما كانت كل كلمة من الكلمات التي استخدمناها هنا لتدل على صفات البرتقالة، وهي كلمات «صفراء» و«مستديرة» و«حلوة»، أقول: لما كانت كل كلمة من هذه الكلمات دالة على شيء خارجي في البرتقالة، فهنالك البقعة الضوئية التي أسميها «أصفر»، وهنالك الشكل الذي أسميه «استدارة»، وهنالك الطعم الذي أسميه «حلاوة»، فقد بقي أن أعرف أين مدلول كلمة «البرتقالة» إذا أبعدت عنها العناصر التي فرغت من تسميتها بأسماء الصفات السالفة الذكر، بعبارة أخرى: هبني طرحت منها اللون والشكل والطعم وسائر هذه الصفات، وهبني كلما أبعدت عنها صفة حذفت من كلامي اللفظة الدالة على تلك الصفة، أفلا تبقى لي بعد كل هذا الطرح والحذف كلمة «برتقالة»؟ فأين مدلولها بعيدا عن مجموعة هذه الصفات؟ ها هنا بين أيدينا كلمة «برتقالة» فلا بد أن يكون لها مسمى، غير أني حين أخرج إلى عالم الحس، لن أجد إلا الصفات المحسة المتمثلة في الكلمات: «أصفر» و«مستدير» و«حلو» ... إلخ، وإذن فالنتيجة الحتمية لذلك هي أن يكون هنالك «عنصر» يخفى عن الحواس جميعا، هو «جوهر» البرتقالة، أو هو «البرتقالة في ذاتها» التي توصف بالاصفرار والاستدارة والحلاوة.

وهكذا تنشأ مشكلة ميتافيزيقية من النظر الخاطئ إلى تكوين العبارة اللغوية، فما دامت العبارة اللغوية موضوعها كلمة «برتقالة» ومحمولها كلمة «صفراء»، ثم ما دمت قد عثرت على مدلول «صفراء»، فلا بد أيضا أن أبحث عن مدلول الكلمة الموضوع، وإذا لم أجده في هذه الدنيا فلأفرض له عالما آخر وراء السحاب! المبتدأ النحوي في الجملة كفيل وحده عند الفلاسفة الميتافيزيقيين أن يكون دليلا على وجود كائن في العالم الخارجي، ولو اعتمدنا على التحليل المنطقي في فهم العبارة لتبين أن حديثنا عن الشيء وظواهره لا يدل على أن الشيء يمكن قيامه مستقلا عن ظواهره، إنما الذي جعله يستقل في كلمة وحده - غير الكلمات الدالة على الظواهر - هو طريقة اللغة في التعبير لا أكثر ولا أقل، ليس حتما أن أبحث للظواهر عن «عنصر» محوري ترتبط به لتكون «شيئا»، فيكفي أن ترتبط هذه الظواهر بعضها ببعض، ولا حاجة بنا إلى افتراض شيء وراءها يجمعها معا على نحو ما، وإذا لم يستطع الميتافيزيقي أن يرى كيف يمكن للاصفرار والاستدارة والحلاوة وغيرها من صفات البرتقالة أن ترتبط بغير محور يربطها، فما ذاك إلا لأنه لم يستطع أن يحلل اللغة وطرائق بنائها.

وخذ مشكلة ميتافيزيقية أخرى، هي مشكلة «الوجود»، فلأننا نقول عبارات كهذه: «البرتقالة موجودة على المنضدة» و«الكتاب موجود في المكتبة» و«القلم موجود في المحفظة» ... إلخ، إذن فكلمة «الوجود» هذه لا بد أن يكون لها دلالتها مستقلة عن الأشياء المختلفة المتصفة بها، أعني أنه حتى لو لم يكن هنالك برتقالة وكتاب وقلم ... إلخ، فسيظل هنالك «وجود»، ثم يمضي الميتافيزيقي في البحث عن خصائص هذا «الوجود» الذي يتصور قيامه بغير «الموجودات».

والخلط هنا كذلك ناشئ من عجز عن فهم اللغة وطرائق تركيبها، فالميتافيزيقي يحسب عبارتين كهاتين: «البرتقالة صفراء» و«البرتقالة موجودة» من قالب واحد ومن نمط واحد، وما دام يمكن في العبارة الأولى أن أجرد «الاصفرار» عن البرتقالة لأبحث فيه على حدة، فكذلك يمكن في العبارة الثانية أن أجرد «الوجود» عن البرتقالة لأبحث فيه على حدة، ولئن كان البحث في اللون من شأن عالم الطبيعة، فالبحث في «الوجود» هو من شأن عالم الميتافيزيقا.

لكن حلل العبارتين تجدهما متشابهتين في الصورة النحوية، مختلفتين أشد اختلاف في النمط المنطقي، فالاصفرار في العبارة الأولى محمول أو صفة تصف موضوعها، أما «الوجود» في العبارة الثانية فليس صفة،

22

إنك تستطيع أن تشير إلى البرتقالة أو تومئ إليها بغير حاجة منك إلى النطق بكلمة «موجودة»، فهذه الكلمة لا تضيف معنى جديدا، ولا تزيد البرتقالة صفة على صفاتها، إذ يكفي أن تسمي شيئا ما بأنه «برتقالة» ليكون ذلك وحده كافيا للاعتراف بوجود ذلك الشيء، فمن تحصيل الحاصل أن تضيف كلمة «موجود» إلى الشيء الذي تسميه.

وجود «الكلمة» ليس دليلا على وجود المسمى وجودا عينيا في عالم الأشياء، هذا هو المبدأ الرئيسي الذي نستخدمه في رفض كثير جدا من العبارات الميتافيزيقية، ولو تابعت الفلاسفة الميتافيزيقيين في ظنهم بأن «الكلمة» لا بد لها من «مسمى» لرأيت عندهم عجبا، إذ تراهم إزاء عبارات كهذه: «الغول حيوان مخيف» و«العنقاء طائر طويل العمر» ... إلخ يحتمون أن يكون هناك غيلان وعنقاوات، وإلا فلو لم تكن الغيلان والعنقاوات موجودة، فماذا تدل عليه هذه الكلمات وأمثالها؟! لكنهم يعلمون أن عالمنا هذا ليس فيه غيلان وعنقاوات، فتراهم يفرضون عالما آخر غير هذا العالم التجريبي ليكون مسكنا لكل هذه الكائنات التي تعجز الحواس عن إدراكها.

23

وهذا بعينه هو الخطأ الذي وقع فيه أمثال «هيدجر» الذي يبني فلسفته على أن «العدم» شيء يحيط به إلغاز وغموض، ويختار «كارناب» فقرات من «هيدجر» ليوضح بها كيف ينشأ الكلام الفارغ عند الميتافيزيقيين، ومن أهم هذه الفقرات المختارة للتوضيح، الفقرة الآتية: «لا يجوز لنا أن ندرس إلا ما هو موجود، وبعد ذلك لا شيء، الموجود وحده، ثم لا شيء، الموجود في تفرد ذاته، ووراء ذلك لا شيء، لكن ماذا نقول في هذا «اللاشيء»؟ هل هناك «لا شيء» لمجرد انعدام الوجود، أعني لمجرد السلب؟ أم أن الأمر على عكس ذلك تماما، بمعنى أن اللاشيء موجود ثم يتبع وجوده وجود «السلب» و«ليس»؟ إني أقرر أن وجود «اللاشيء» أسبق من وجود «ليس» ومن وجود «السلب»، فأين نبحث عن «اللاشيء »؟ كيف نلتمسه وكيف نجده؟ ...»

24

فانظر إلى هذه العبارة، لتعلم كيف استعمل الفيلسوف كلمة «لا شيء»، فلما نشأت الكلمة، راح من فوره يسأل: أين نبحث عن اللاشيء؟ كيف نلتمسه وكيف نجده؟ وهكذا تنشأ المشكلات الميتافيزيقية من «لا شيء»!

الفصل الرابع

نسبية الخير والجمال

1

الغاية الرئيسية من هذا الكتاب هي بيان أن العبارات الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع تحديد «الميتافيزيقا» بأنها البحث في أشياء لا تقع تحت الحس، لا فعلا ولا إمكانا؛ لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرك بحاسة من الحواس، ومن بين هذه الأشياء غير المحسة - التي يكتب عنها الفلاسفة - الخير والجمال؛ ولذلك فنحن نسلك العبارات التي تتحدث عن الخير وعن الجمال في زمرة الميتافيزيقا بالمعنى الذي حددناه لها، وبالتالي فإننا نرى العبارات التي تتحدث عن هاتين القيمتين في الأشياء - قيمة الخير وقيمة الجمال - خالية من المعنى، ولا تصلح أن تكون علما ولا جزءا من علم.

وقبل الدخول في تفصيلات البحث، يحسن أن أوضح للقارئ ما أريده حين أقول: إن «الخير» و«الجمال» ليسا مما تدركه الحواس؛ لأنه ربما عجب لنفسه كيف يمكن أن يقال فيهما مثل هذا القول، مع أنه «يرى» و«يسمع» أشياء بعينها، توصف بأنها خيرة أو بأنها جميلة، أفلا يكون عندئذ بمثابة من يدرك الخير والجمال بحواسه؟

والحقيقة أن الإجابة عن سؤاله هذا بالنفي، فيه سبق إلى تأييد وجهة نظر بعينها في الخير والجمال، هي وجهة النظر التي نأخذ بها، وإيهام بأنها وجهة النظر الوحيدة في الموضوع، مع أننا ولا شك نعرف ونعترف بوجود وجهة أخرى للنظر، لها أنصار وأصحاب من أقوى من عرفت الفلسفة من رجال، وهي وجهة النظر القائلة بأن صفة «الخير» وصفة «الجمال» تدركهما الحواس - السمع والبصر مثلا - كما تدرك صفات أخرى كثيرة كاللون والطعم، فكما أن للوردة رائحة زكية أشمها بأنفي، فكذلك لها «جمال» أراه بعيني.

لكننا مع اعترافنا بوجود طائفة من الطراز الأول من المفكرين، ترى أن الخير والجمال موجودان كائنان فعلا خارج الإنسان ومشاعره ، وأنه حتى لو انمحى أفراد الإنسان جميعا من وجه الأرض، لبقي هنالك في العالم شيء اسمه خير وشيء اسمه جمال، كما يبقى فيه شيء اسمه شجرة وآخر اسمه جبل ... أقول: إننا مع اعترافنا بوجود طائفة ممتازة من المفكرين تأخذ بهذا الرأي، إلا أننا سندافع في هذا الفصل عن وجهة النظر الأخرى التي تجعل قيمة الشيء - خيرا كانت أو جمالا - مجرد شعور ذاتي عند الإنسان نحو الشيء، وليست هي بكائنة فيه، فأنا حين أنظر إلى الوردة - مثلا - وأقول عنها إنها «جميلة»، فالذي أراه هو بقعة من اللون ذات شكل معين، لها أبعاد معينة يمكن قياسها ويمكن رسمها على الورق، كذلك «أرى» في الوردة تركيبا كيماويا معينا إذا حللتها، لكن لن «أرى» في الوردة عنصرا اسمه «جمال»، وإذن فوصفي لها بهذه الصفة هو شيء أضيفه لها من عندي، وإن شئت دقة فقل هو وصف شعوري إزاءها لا وصف لها هي، وعلى هذا لا يكون «الجمال» من بين ما أدركه من الوردة بحواسي، فالعبارة التي تحتوي على كلمة «جمال» هي عبارة في الحقيقة تتحدث عما ليس يحس، أي إنها عبارة ميتافيزيقية، سنبين فيما يلي كيف تخلو من المعنى.

فالقارئ الذي سيعجب لنفسه منذ بداية الحديث، كيف يقال عن «الخير» وعن الجمال إنهما ليسا مما تدركه الحواس، مع أنه يرى بعينيه ويسمع بأذنيه أشياء خيرة أو جميلة في ذواتها، وما مهمة الحواس إزاءها إلا إدراكها كما تدرك ضوء الشمس وصورة الجبل، مثل هذا القارئ هو في حقيقة أمره في حكم من يأخذ بمذهب معين في الخير والجمال، هو المذهب الذي يجعل «القيم» موضوعية، وإنما كتب هذا الفصل لمحاولة إقناعه بأن «القيم» جزء من ذاته هو، وأن العالم الخارج عن ذاته لا خير فيه ولا جمال، وإنما هو عالم من أشياء، فإذا أراد أن يقف إزاءها وقفة العالم الذي ينطق كلاما ذا معنى، كان لا بد له من قصر الحديث على وصف ما يراه فعلا وما يسمعه وما يحسه بسائر حواسه، دون إضافة شيء من ذات نفسه إلى الوصف، وإلا فقد أراد لنفسه شيئا غير العلم ومجاله.

2

إننا سنقصر حديثنا فيما يأتي على العبارات الأخلاقية، التي ترد فيها كلمات مثل «خير» و«واجب» ... إلخ، حصرا لدائرة البحث وتركيزا لانتباه القارئ، وذلك على اعتبار أن ما يجوز قوله عن العبارة الأخلاقية، يمكن أن يقال كذلك عن العبارة الجمالية، من حيث إن كلتيهما تشمل ألفاظا دالة على «قيمة»، كائنة ما كانت. ومعظم مجهودنا الآن موجه إلى إثبات أن العبارة التي تتحدث عن «قيمة» شيء - «خيرا» كانت أو «جمالا» - هي عبارة فارغة من المعنى.

فأول ما نقوله في هذا الصدد، هو أن للغة عملين ينبغي أن نميز أحدها من الآخر تمييزا واضحا، وهما: التعبير من جهة، والتصوير من جهة أخرى،

1

ونقول عن العبارة اللغوية إنها تعبيرية

2

حين نريد أن نقول إنها منصرفة إلى إخراج ما يشعر به القائل داخل نفسه، مما يستحيل على سواه أن يراجعه فيه؛ لأنه شعور ذاتي خاص به، كشعوره بالألم أو باللذة مثلا، ثم نقول عن العبارة اللغوية إنها تصويرية

3

حين نريد القول بأنها قد أريد بها أن تصف شيئا خارجا عن ذات القائل، ولمن شاء أن يراجع هذا القائل في مطابقة الوصف على الشيء الموصوف، ليرى إن كان وصفا صادقا أو كاذبا، وهذا التقسيم في استعمال اللغة، هو نفسه ما قصد إليه الأستاذ رتشاردز حين جعل اللغة إما تستعمل «استعمالا علميا» أو «استعمالا انفعاليا»،

4

وهو يريد بالاستعمال العلمي أن تجيء العبارة وصفا لشيء خارجي، لا يتدخل فيه الإنسان بمشاعره، كأن يصف الجغرافي - مثلا - جبال الهملايا من حيث ارتفاعها وتكوين صخورها ... وهكذا، ويريد بالاستعمال الانفعالي للغة أن تجيء العبارة معبرة عن الحالة الوجدانية لقائلها.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نقسم مذاهب الأخلاق قسمين: مذاهب تصويرية، وأخرى تعبيرية.

فمن الفلاسفة الأخلاقيين فريق يرى أن أية عبارة تعبر بها عن حقيقة أخلاقية، كقولنا مثلا: «إن الوفاء بالوعد واجب» أو «إن الإحسان إلى الفقير خير.» إنما هي عبارة تصف شيئا كائنا بغض النظر عن نفس القائل ومشاعره ، فهنالك - في رأيهم - في العالم الخارجي أعمال يمكن مشاهدتها تسمى «الوفاء بالوعد»، وهنالك صفة تصف تلك الأعمال، هي صفة «واجب» ليست من خلق الإنسان ولا من خياله، إنما هي صفة موضوعية - كارتفاع جبال الهملايا - لا دخل للإنسان فيها، ولا حيلة له في تغييرها أو تحويرها، وكل ما عليه في هذا الصدد هو أن يسجل ما هنالك واصفا له ومقررا لما يجده تقرير الناقل الذي لا يحذف مما يرى شيئا ولا يضيف شيئا، وكذلك قل في العبارة الثانية «الإحسان إلى الفقير خير.» فصفة «خير» كأية صفة أخرى من الصفات الموجودة فعلا، والتي ستظل موجودة في الأشياء، سواء بقي على ظهر الأرض إنسان يراها ويحللها، أو فني الناس عامة. عند هذا الفريق من فلاسفة الأخلاق أن المعنى الأخلاقي قائم كائن ذو خصائص معينة، فإذا ما جاء الإنسان ووصف معنى من هذه المعاني نتيجة لبحث قام به في الأشياء الخارجية أو في ذات نفسه، فهو إنما يصف حقيقة لم يكن له يد في إيجادها ولن يكون له يد في تغييرها، وإذن - فمن وجهة نظرهم هذه - تكون «القيمة» موضوعية تدرك وتوصف بعبارة وصفية علمية، ولئن رأينا الشعوب المختلفة في العصور المختلفة قد تباينت في أحكامها الخلقية، فليس ذلك راجعا إلى كون المعاني الخلقية نسبية تتغير بتغير الناس، بل هو اختلاف في تشخيص الحقيقة ووصفها على النحو الصحيح، كما قد اختلف الناس يوما في شكل الأرض أمسطح هو أم كري، وسيجيء يوم يستطيعون فيه جميعا أن يهتدوا إلى حقيقة أخلاقية واحدة، يرونها جميعا على السواء ويصفونها جميعا وصفا يشتركون فيه، كما قد جاء يوم اهتدوا فيه - بعد خلاف - على شكل الأرض، وكذلك قل في الحقائق الجمالية.

ومن الفلاسفة الأخلاقيين فريق آخر يرى غير ذلك الرأي، إذ يرى أن العبارة الأخلاقية - وكذلك الجمالية - هي جملة تعبيرية، لا تزيد على كونها تعبيرا عما في نفس القائل من شعور ذاتي خاص به، وعندئذ يستحيل أن يقف السامع منه موقف المصدق أو المكذب لما يقول؛ لأنه لا سبيل إلى مراجعته فيما يقول، وكيف يراجعه وهو لم يقل عن العالم المشترك بينهما شيئا، إنما نطق بشيء أشبه بالصراخ - مثلا - أو بقهقهة الضحك؟

وإلى هذا الفريق الثاني ينتمي صاحب هذا الكتاب، وهو يحاول بهذا الذي يكتبه أن يقنع القارئ بهذه الوجهة من النظر.

3

ما معنى أن يختلف اثنان (أو أن يتفقا) في حكم أخلاقي معين؟ هل يكون اختلافهما (أو اتفاقهما) شبيها بنظيره في العلوم الطبيعية، بحيث لا يكون الفرق بين اختلافهما على حكم أخلاقي وبين اختلافهما على حكم من أحكام العلوم الطبيعية الأخرى، إلا بمقدار ما هنالك من فرق في مادة البحث؟ «إننا إذا استطعنا أن نجيب عن هذا السؤال، فقد ظفرنا بما يحدد لنا المشاكل المعيارية [الخاصة بالأخلاق والجمال مثلا] بوجه عام.»

5

هنالك ضربان من الاختلاف: (1) اختلاف في الرأي. (2) واختلاف في الميل والهوى.

6 (1)

أما اختلاف الرأي فهو هذا الذي يقع بين الباحثين في العلوم الطبيعية، وبين المتحدثين في شئون الحياة اليومية الجارية (ونستثني الآن ما يمس أمور الأخلاق والجمال؛ لأنهما موضوع البحث)، فإذا اختلف عالمان طبيعيان في كيفية انتقال الضوء، فهذا اختلاف في الرأي، وإذا اختلف مؤرخان في شيء يتعلق برحلة كولمبس إلى أمريكا فهو اختلاف في الرأي أيضا، وإذا اختلف شخصان على ثمن اللحم في السوق اليوم فهو كذلك اختلاف في الرأي، وفي كل هذه الحالات جميعا، يصح النقاش بين المختلفين؛ لأن هنالك مرجعا يمكن الرجوع إليه والاهتداء به - ولو بعد حين - إلى الحق الذي تنتهي الخصومة عند إدراكه. (2)

وأما الاختلاف في الميل والهوى فشيء غير ذلك؛ لأنه ليس اختلافا في إدراك شيء موضوعي خارج عن الحالة النفسية للمتخاصمين، إنما هو اختلاف في الرغبات والأغراض، هو اختلاف بينهما فيما يشبع الحاجة عند كل منهما، فالذي يشبع الحاجة عند أحدهما مختلف عما يشبع الحاجة عند الآخر، والأمثلة الآتية توضح ما نريد.

7

رجلان أرادا اختيار مطعم مناسب يتناولان فيه طعام العشاء معا، فيفضل أحدهما مطعما فيه موسيقى، ويؤثر الآخر مطعما آخر لا عزف فيه، فهما إذن يختلفان ولا يسهل اتفاقهما على مطعم بعينه، والاختلاف مصدره تباين الرغبات وما يشبعها عند كل منهما، وبالطبع لا سبيل إلى حسم الخلاف بينهما، إلا أن ينزل أحدهما عن رغبته كارها.

رجل وزوجته يريدان إقامة حفل في دارهما، لكنهما يختلفان اتجاها، فالزوجة مزاجها أن تخالط أبناء الطبقة الممتازة بغض النظر عما يكون بينها وبينهم من صداقة أو عدمها، وأما الزوج فيؤثر أن يلازم أصدقاءه الأقدمين أيا ما كانت طبقتهم الاجتماعية، فعندئذ يختلفان في تعيين أسماء من يدعوانهم، ولا سبيل إلى الاتفاق بينهما؛ لأنه ليس هنالك حقيقة خارجية قائمة، يمكن الرجوع إليها كي ينحسم الخلاف.

أمين على متحف عام يريد أن يزود المتحف بصور أخرى تضاف إلى ما فيه من صور، ويرى أن تكون الزيادة كلها صورا لرجال الفن المعاصرين، لكن مستشاره يأبى عليه ذلك، ويصر على أن تكون صور المتحف لرجال الفن الأقدمين، فها هنا أيضا خلاف في الميل والذوق، لا سبيل فيه إلى اتفاق بالرجوع إلى فيصل خارجي كما هي الحال في العلوم الطبيعية مثلا.

أم ترى الأخطار في لعبة الكرة ولا تحب لابنها أن يشترك فيها، والابن نفسه يرى أن في اللعبة نفس الأخطار التي تراها أمه فيها، لكنه مع ذلك يريد أن يشترك في اللعب، فها هنا اتفاق على الحقيقة الموضوعية؛ لأنهما متفقان على الأخطار المحتملة الوقوع، ثم هما بعد ذلك يختلفان في الرغبة، فالأم ترغب في شيء، والابن يرغب في شيء آخر، وواضح أن الاتفاق بينهما لا يقرره شيء خارج عن نفسيهما معا. «وهكذا يقال عن شخصين: إنهما يختلفان في الميل حين يقفان وقفتين متعارضتين إزاء شيء بعينه، فأحدهما يقبله والآخر لا يقبله.»

8

من ذلك ترى أن الاختلاف بين الناس يكون أحد ضربين؛ فهو إما اختلاف على وصف أمر وتفسيره وصفا وتفسيرا يراد بهما مطابقة الواقع الخارجي، وهذا هو ما أطلقنا عليه اسم «اختلاف الرأي»، وإما أن يكون اختلافا في الميول والأهواء، وعندئذ لا يكون ثمة سبيل إلى الاتفاق، إلا أن يكره أحد المختلفين على قبول أمر لم يكن يرضاه، وليس الإكراه اتفاقا بالمعنى الصحيح.

وقد يحدث أحيانا أن يكون الاختلاف القائم اختلافا في الرأي، ويظن خطأ أنه اختلاف في الهوى، أو أن يكون الاختلاف القائم اختلافا في الأهواء فيظن خطأ أنه اختلاف في الرأي، ويهمنا أن نزيد الأمر هنا وضوحا، لما يلقيه من ضوء على النتائج التي نريد أن ننتهي إليها.

افرض - مثلا - أن رجلين اختلفا فيما بينهما على نتيجة انتخاب قبل حدوثه، فقال أحدهما: إن أكثرية الأصوات ستختار فلانا للرئاسة، وقال الآخر: بل إن الأكثرية ستختار شخصا آخر، فأي ضرب من ضربي الاختلاف السالفين يكون هذا؟ أهو اختلاف في الرأي أم اختلاف في الميول والأهواء؟ الجواب: هو أنه اختلاف في الرأي عن ميول الناس وأهوائهم، أي إنه اختلاف في الرأي، لا في الميل بين الرجلين، إذ قد يكون الرجلان هنا من ميل واحد.

ومن هذا المثل البسيط تستطيع أن ترى خطأ نظرية في القيم الأخلاقية والمالية، عبر عنها الأستاذ «رتشاردز» في كتابه المشهور عن أصول النقد الأدبي،

9

إذ يعرف القيمة - سواء أكانت قيمة أخلاقية أم جمالية - بأنها ما يشبع في الإنسان رغبة دون أن يتضمن هذا الإشباع وأدا لرغبة أخرى تساويها أو تزيد عليها، فيمكن القول بصفة عامة: إن «س لها عندي قيمة» [قيمة أخلاقية أو جمالية] معناها «س تشبع من رغباتي أكثر مما تئد.»

فماذا لو اختلف شخصان في قيمة «س» بالنسبة لسائر الناس؟ أعني أن أحدهما يقول عنها: إنها مما تقبله الأخلاق، أو مما تقبله معايير الجمال عند الناس، على حين يقرر الثاني عكس ذلك، أيكون هذا اختلافا في الرأي أم اختلافا في الهوى؟ الجواب هو أنه اختلاف بينهما في الرأي عن أهواء الناس وميولهم، هو اختلاف أقرب جدا إلى ما يقع بين العلماء من تباين في الآراء؛ ذلك لأن اختلاف الرجلين هنا مرجعه إلى علم النفس، فعلم النفس هو الذي سيقرر لنا الحقيقة عن ميول الناس وأهوائهم، إن كانت تقبل «س» أو ترفضها، وبالتالي هو الذي يقرر أي الرجلين كان على صواب.

أما إذا اختلف الرجلان على قيمة «س» اختلافا يعبر كل منهما فيه عن ذات نفسه هو، بحيث قبلها واحد ورفضها الآخر، فها هنا يكون اختلافا صريحا بين الرجلين في الهوى.

وما موقع هذا الكلام كله فيما نحن بصدده؟ موقعه هو أن الناطق بعبارة أخلاقية أو جمالية، إذا أراد أن يعبر بها عن ذات نفسه هو، وما يقبله وما يرفضه، فهي ليست مما يجوز لغيره أن يناقشه فيه، إذ لا يكون ثمة بين المتناقشين ما يحسم بينهما الخلاف، وبالتالي تكون عبارته مرفوضة عند المنطق؛ لأن المنطق لا يقبل إلا عبارة يجوز وصفها عند سامعها بالصدق أو بالكذب، وبالطبع لا يكون هذا الوصف بالصدق أو بالكذب لعبارة إلا إذا كان هنالك مرجع موضوعي نرتد إليه في الحكم، أما إذا أراد الناطق بعبارة أخلاقية أو جمالية أن يصف ميول الناس وأهواءهم، فعندئذ يكون كلامه مقبولا ولا غبار عليه؛ لأننا نستطيع في هذه الحالة أن نرجع إلى علم من العلوم الطبيعية - هو علم النفس - لنرى هل تدل نتائجه التي وصل إليها في بحثه عن ميول الناس وأهوائهم على أنها متفقة مع ما زعم القائل أو لا تدل على ذلك.

خلاصة القول: إذا قال لنا قائل مشيرا إلى شيء معين: «هذا خير.» أو «هذا جميل.» كان لنا أن نسأله: هل تعبر بذلك عن ميلك أنت؟ أم هل تصف ميول الناس عامة؟ إن كانت الأولى فعبارته فارغة من المعنى؛ لأنه لا سبيل إلى تحقيقها، وإن كانت الثانية فهي عبارة مقبولة، إذ يمكن الرجوع إلى ما نلاحظه في ميول الناس كي نحقق صدق الزاعم فيما زعم.

هذه تفرقة دقيقة، لكن لا بد منها، لنعلم متى يجوز الكلام في القيم ومتى لا يجوز.

لقد رصد «الأستاذ جود» كتابا بأسره لنقد المذهب الوضعي المنطقي

10

قرأته وعجبت لأكثره كيف يصدر عن رجل مشتغل بالفلسفة ومطالب بالدقة فيما يقول، عجبت لأنه اعتمد في كثير جدا من مواضع نقده على الأسلوب الخطابي الذي يستهوي عامة القراء، دون أن يعمد إلى النقاش الفني الذي يرضي الفلاسفة، في معرض الحديث عن العبارات الأخلاقية ورأي أصحاب الوضعية المنطقية فيها، قال: «إن كانت كلمة «صواب» في الأحكام الأخلاقية معناها رأي الأغلبية، كما ذهب هيوم، كانت طريقة المفاضلة بين «س» و«ص» هي عد الأصوات، فإن وافق 51٪ من الناس على «س» و49٪ منهم على «ص» كانت «س» هي الخير، وهذا قول لا يقوله أحد ولا يقره أحد.»

11

ولست أدرى بماذا يجيب «جود» لو أننا قلنا له: لكن أصحاب الوضعية المنطقية قد قالوه وأقروه، وهم «آحاد» لا «أحد» واحد؟! مرة أخرى نقول: إنا إذا لم نرد بقولنا عن شيء ما إنه خير، أو إنه جميل، أنه يصادف ميول الناس وأهواءهم - ولنا بالطبع أن نحدد كم من الناس يميل إلى ذلك الشيء بهواه - أقول: إننا إذا لم نرد هذا المعنى، فلا يبقى سوى أن يكون المراد تعبيرا عن ميل القائل نفسه، وفي هذه الحالة لا يكون أمامنا مرجع نرجع إليه إلا القائل نفسه، وهو ما يتنافى مع الشرط الأولي في أية قضية علمية مقبولة، وأعني به إمكان التحقق من صدق ما يقال، لنقبله إن كان صادقا أو نرفضه إن كان كاذبا.

4

الذي نريد أن نقرره ونؤكده هو أن الجملة الأخلاقية أو الجمالية، أي الجملة التي من قبيل قول القائل عن شيء ما: إنه خير، أو إنه جميل، هي عبارة بغير معنى، إذا أريد بها أن تكون تعبيرا عن حكم قائلها بالنسبة إلى الشيء الذي عليه يحكم بالخير أو بالجمال.

هي عبارة بغير معنى، أي بغير واقعة خارجية تكون من العبارة بمثابة الأصل من صورته، يرجع إليه للنظر إن كانت الصورة صحيحة أو غير صحيحة، فهنالك فرق كبير بين قولنا «س أصفر» وقولنا «س خير»، فالعبارة الأولى صورة لأصل خارجي، ولك أن تطابق بين الصورة والأصل لتحكم بصدق العبارة أو كذبها، ذلك أن كلمة «أصفر» لها في الاستعمال اليومي معنى، ولها في الاستعمال العلمي معنى آخر، وسواء أردت من عبارتك الاستعمال الأول أو الاستعمال الثاني، فأنت في كلتا الحالتين واجد في الطبيعة الخارجية ما ترجع إليه للتحقق من صدق العبارة، ففي الاستعمال اليومي تدل الكلمة على نوع من الخبرة البصرية مألوف ومتفق عليه، وفي الاستعمال العلمي تدل الكلمة على موجة ضوئية ذات طول معين، وسواء أردت بها الخبرة البصرية المألوفة التي يطلق عليها الناس هذه الكلمة، أو أردت بها طول الموجة الضوئية المنبعثة من الشيء المتصف بأنه أصفر، فالتحقق من صدق الوصف ممكن في كلتا الحالتين.

لكن قارن ذلك بالعبارة الثانية «س خير» فماذا ترجع إليه من صفات الشيء وعناصره لتعلم إن كان القول صوابا أو خطأ؟ لا شيء؛ لأنك في حقيقة الأمر حين تصف الشيء بأنه «خير» فأنت إنما تضفي على الشيء ما في نفسك أنت من ميل إليه، لا ما يتصف به الشيء الخارجي نفسه من صفات، وهنا يجب أن نلاحظ أن أصحاب المذهب الوضعي المنطقي حين يجعلون الجمل الأخلاقية والجمالية بغير معنى سوى التعبير عن أهواء قائليها، فهم يقصدون إلى الجمل الحملية لا الشرطية،

12

فهم إذ ينكرون أن يكون هنالك معنى لعبارة «س خير»، يوافقون بالطبع على وجود معنى للألفاظ الدالة على القيم إذا استعملت لتدل على أنها وسائل الغايات، كقولنا: «س هي الوسيلة إلى ص، فإذا كانت الوسيلة المؤدية إلى الغاية هي الخير فإن «س» خير؛ لأنها وسيلة مؤدية.» هذه عبارة لها معنى بالطبع؛ لأنها في هذه الحالة خرجت عن كونها تعبيرا عن ميل شخصي، إلى كونها تقريرا لما يمكن وقوعه، إذ يمكنك في هذه الحالة أن ترجع إلى عالم الأشياء لترى هل «س» حقا مؤدية إلى «ص»؟ وفي هذا الرجوع إلى العالم الخارجي يكون الشاهد على صدق العبارة أو بطلانها، وما دمنا قد وجدنا طريقة للتحقق من صدق العبارة أو بطلانها، فقد أصبحت عند المنطق عبارة ذات معنى.

قد يتفق الناس فيما بينهم على أن شيئا معينا «ص» غاية ينبغي أن تتحقق، وإذن فهي «خير»، ولا يكون معنى كلمة «خير» عندئذ إلا أن الناس قد اتفقوا عليه، وما دامت الغاية المنشودة قد تم الاتفاق عليها، نتج عن ذلك أن كل وسيلة مؤدية إليها تكون خيرا كذلك ، فإذا قلت بعد ذلك عن الوسيلة «س» إنها خير، قاصدا بذلك أنها وسيلة مؤدية إلى «ص» التي اتفقنا على بلوغها، كان لكلامي معنى، لكنه في الوقت نفسه لم يجعل صفة «الخير» شيئا لاصقا ملازما ل «س» في حد ذاتها، بل هي خير باعتبارها وسيلة لغيرها، وكان يمكن أن تكون الوسيلة شيئا سواها، فما كانت لتكون هي خير لنا في مثل هذه الحالة، يقول «ستيوارت مل»: «إن كل ما يمكن البرهنة على أنه خير، فإنما يمكن فيه ذلك ببيان أنه وسيلة لشيء سبق لنا أن سلمنا بأنه خير بغير برهان»، معنى ذلك أنه يستحيل علينا أن نصل في مناقشة علمية إلى نتيجة تكون فيها كلمة «خير» إلا إذا كانت هذه الكلمة بذاتها قد سبقت في المقدمات، بعبارة أخرى: يجب أن نتفق أولا على أن الشيء الفلاني خير لنصل إلى نتيجة أنه خير! وقل ذلك في سائر الألفاظ الأخلاقية ككلمة «واجب» - مثلا - فلا يمكن أن أصل إلى نتيجة مثل «واجب أن يكون للنساء حق الانتخاب» من أي عدد من المقدمات الخالية من كلمة «الوجوب»، لا يمكن - مثلا - أن أستنتج هذه النتيجة من مقدمة مثل: «كل النساء دافعات للضرائب»؛ لأن هذه الحقيقة في ذاتها لا تنتج أن يكون لهن حق الانتخاب، لا بد أن تكون هنالك مقدمة مثل «كل من يدفع الضرائب يجب أن يكون له حق الانتخاب.» بعبارة أخرى أقصر، لا يمكن في مجال الأخلاق أن نتفق على نتيجة معينة، إلا إذا سبق لنا الاتفاق عليها هي نفسها كمقدمة لا تحتاج إلى برهان!

13

الجملة الأخلاقية أو الجمالية ليست بذات معنى؛ لأنها لا تشير إلى عمل يمكن أداؤه للتحقق من صدق معناها المزعوم، ولا تكون الجملة بذات معنى إلا إذا أمكن تحويلها إلى عمل،

14

فكل جملة لا تدلك بذاتها على ما يمكن عمله، بحيث يكون هذا العمل هو معناها الذي لا معنى لها سواه، تكون صوتا فارغا مهما قالت لنا القواميس عن معانيها، الفكرة الواضحة هي ما يمكن ترجمته إلى سلوك، وما لا يمكن ترجمته على هذا النحو لا ينبغي أن نقول عنه: إنه فكرة غامضة وكفى، بل ليس هو بالفكرة على الإطلاق، وفيما يلي أمثلة لما نريد: «الصلابة» في الجسم فكرة واضحة إذا كنت أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه بالصلابة، كأن أحاول خدشه بأجسام أخرى كثيرة، فلا ينخدش، فأقول عندئذ: إنه «صلب»، وأعد نفسي قد فهمت فكرة «الصلابة» فهما «واضحا»؛ لأنني عرفت ما نوع السلوك الذي أسلكه حين أريد ترجمة الفكرة إلى عمل، أما إذا وصفت شيئا بأنه «خير» أو بأنه «جميل»، فلست أعرف ماذا أعمل فيه بحيث يكون عملي هذا هو نفسه ما أسميه في الشيء «بالخير» أو «بالجمال»، وإذن فهاتان الكلمتان لا تدلان على شيء إطلاقا، لمجرد أنهما لا تدلان على سلوك محدد واضح يعمل ليتبين به المعنى المراد، ومن ذلك ترى أن كل مناقشة في هل هذا الشيء خير أو ليس خيرا، جميل أو ليس جميلا، لن تؤدي إلى نتيجة؛ لأنها كلمات ليست دالة على سلوك، وبالتالي ليست دالة على معنى.

و«الثقل» في جسم من الأجسام فكرة واضحة؛ لأني أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه «ثقلا»، وهو أن أزيل الحوائل التي تمنع سقوطه على الأرض، فإن سقط كان «ثقيلا»، وكانت فكرة «الثقل» واضحة؛ لأنها قد انتقلت إلى عمل منظور، لكن قارن ذلك بأن تقول عن شيء ما مثلا: إن حقيقته كامنة وراء ظواهره، وهي ليست بالتي يمكن أن تحسه الحواس، فمثل هذا الكلام فارغ من المعنى؛ لأنه غير دال على سلوك يمكن أداؤه إزاء الشيء ليتبين به المعنى المقصود.

الجملة الأخلاقية أو الجمالية ليست بذات معنى؛ ولذلك فهي لا تصلح أن تكون جزءا من علم؛ لأن الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوافر في أية قضية علمية، هو إمكان التحقق من صدقها، ولا يكون هذا التحقق ممكنا إلا إذا كان المعنى موضوعيا يشترك فيه الناس جميعا إذا أرادوا، ولم يكن بالشعور الذاتي الشخصي الخاص بالمتكلم وحده ، إن ما يقتصر على ذات المتكلم ، لا يصلح أن يكون علما؛ لأنه ليس «معرفة» على الإطلاق، بل هو حالة شعورية وجدانية يحسها صاحبها وحده، ولقد حدد «برتراند رسل» في آخر فصل من كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» المعرفة الإنسانية بأنها ... هي معرفة العالم الخاضع للتجربة الحسية، وهذا العالم التجريبي هو وحده مجال العلوم على اختلافها، فإن جئت تنطق لنا بعبارة لا تشير إلى شيء من أشياء هذا العالم المحس، فأقل ما يقال فيها هو أنها خارجة عن الحدود المشروعة للعلم، إن ما تنطق به عندئذ لا يكون «معرفة» مما يمكن أن يتناقله الناس ويتبادلوه، وقل عنه بعد ذلك ما تشاء، ليست «القيم» - أخلاقية كانت أو جمالية - جزءا من المعرفة الإنسانية؛ ولذلك فالعبارة التي تحتوي على كلمة قيمية (مثل «خير» و«جميل») لا تكون بذات معنى من هذه الناحية، إننا قد نشعر بأن الرأفة خير من القسوة، لكن شعورنا هذا لا سلطان له على من لا يشاركنا فيه، «إن العلم وحده لا يستطيع إقامة الدليل على أنه من الشر إنزال القسوة بالآخرين؛ ذلك لأن كل ما يمكن معرفته إنما يجيئنا عن طريق العلم، وأما الأشياء التي من حقها أن تدخل ضمن الميدان الشعوري، فهي خارجة عن نطاق العلوم.»

15

العبارة الأخلاقية - وكذلك العبارة الجمالية - ليست بذات معنى، وإنما توهمنا أنها جملة مفيدة؛ لأن تركيبها النحوي يشبه تركيب الجمل المفيدة، فلأن قولنا «س خير» يشبه في تركيبه النحوي عبارة «س أصفر»؛ حسبنا أن العبارة الأولى حكمها حكم الثانية، مع أن العبارتين مختلفتان في تحليلهما المنطقي اختلافا شديدا؛ لأن عبارة «س خير» - منطقيا - قضية دالة على علاقة، لا على وصف شيء بصفة ما، إذ تحليلها هو: «هنالك علاقة بيني وبين س، وهذه العلاقة هي علاقة القبول والرضى»، فلو أننا تجاوزنا التركيب النحوي إلى التحليل المنطقي لكفينا أنفسنا كثيرا جدا من الخطأ، بل لكفينا أنفسنا عناء كثير جدا من الفلسفات التي لم تقم إلا على أساس الخطأ في فهمنا لمنطق اللغة، فلو حللت كثيرا من الفلسفات الضخمة؛ لوجدت أصحابها يقولون عن العالم حقائق بعينها، لا لأنهم وجدوها في العالم، بل لأنهم ظنوا وجودها في العبارات اللغوية التي يستخدمونها، فبدل أن ينظروا إلى العالم نظرة علمية، ثم يصفوا ما يجدونه، تراهم يبدءون بالعبارات اللغوية ليثبتوا للعالم ما يجدونه في اللغة، فالجملة النحوية - مثلا - التي تتركب من مبتدأ وخبر، كقولنا: «القمر مستدير» تدلهم على أنه لا بد أن يكون هنالك «عنصر» دائم ثابت اسمه «القمر»؛ لكي يتاح لنا أن نصفه بهذه الصفة أو تلك، فإن حاولت إفهامهم بأن «القمر» إن هو إلا سلسلة من حوادث تكون تاريخه، وأنه ليست له ذاتية ثابتة دائمة، لم يقبلوا منك هذا الزعم؛ لأن الجملة فيها «مبتدأ» نخبر عنه بأخبار عدة، فكيف يكون - في رأيهم - هذا الذي نخبر عنه ما لم يكن قائما هناك حقيقة ثابتة دائمة، إن تعذر على الحواس إدراكها، فالعقل كفيل بذلك؟ وانظر إلى هذه الأسماء اللامعة الآتية من قائمة الفلاسفة، واعجب أن يكونوا جميعا ممن استدلوا على خصائص العالم من خصائص اللغة: بارمنيدز، أفلاطون، سبينوزا، ليبنتز، هيجل، برادلي،

16

ظن هؤلاء جميعا أن في العالم بعض الحقائق الثابتة لمجرد أن لها أسماء في اللغة نتحدث عنها ونصفها بمختلف الصفات، فهنالك - في رأيهم - شيء ثابت كائن في العالم الخارجي قائم بذاته اسمه «خير»، وشيء آخر اسمه «جمال»، ما دامت هاتان الكلمتان موجودتين، نتحدث عنهما كما نتحدث عن المناضد والمقاعد.

5

لكننا إذا كنا نضع كلمة «خير» وكلمة «جمال» في عبارات نقولها ظنا منا أننا نتحدث عن أشياء كائنة في الخارج ندل عليها بهذين الاسمين، فنحن إنما نقول كلاما فارغا من المعنى؛ لأنه ليس في الخارج هذا الذي نزعم له الوجود المستقل، ونتحدث عنه كأنه كائن قائم بذاته مستقل عن ذات المتكلم، هذه أسماء ليست بذات مسميات، إنها كلمات لا تشير إلى شيء بذاته يمكن أن تراه العيون وتحسه الأيدي.

إذن فماذا تدل عليه كلمة «خير» أو كلمة «جميل» أو غيرها من الكلمات الدالة على «قيم» حين ترد في عبارات الحديث بين متكلم وآخر؟

إنها تدل على حالة نفسية عند المتكلم نفسه، إنها تدل على أن في المتكلم انفعالا بالحب أو بالكراهية نحو شيء بعينه، إذا نظر الرائي إلى شيء، فقال عنه: «هذا خير» أو «هذا جميل» كان بقوله هذا مشيرا إلى حالته الداخلية إزاء هذا الشيء، دون أن يدل على شيء خارج نفسه، إن الفعل الذي ينظر إليه المتكلم قائلا: «هذا الفعل خير، يظل هو هو مجموعة من حركات معينة، لا يزيد حركة ولا ينقص حركة إذا ما قال عنه القائل: إنه خير أو إنه شر، فاختلاف وصفه بالخير مرة وبالشر مرة لا يعني أبدا أن شيئا تغير في الفعل نفسه، إنما يعني أن ميلا تغير عند المتكلم فأصبح ميلا آخر، كان حبا فأصبح كراهية، أو كان استحسانا فأصبح استهجانا.

من ذلك ترى أن المناقشة العقلية مستحيلة بين رجلين اختلفا على شيء بعينه، حيث قال عنه أحدهما: إنه خير، وقال الآخر: إنه شر، أو قال عنه أحدهما: إنه جميل، وقال الآخر: إنه قبيح، وقد ضربنا لك أمثلة كثيرة في الفقرة 3 من هذا الفصل، تبين كيف تستحيل المناقشة العقلية حين يكون الاختلاف على ميل أو هوى.

إن المناقشة العقلية مستحيلة في مثل هذه الحالة؛ لأن المتكلم لا يقرر شيئا أو يصف شيئا، بحيث نستطيع أن نراجعه في تقريره أو وصفه بالرجوع إلى الشيء الخارجي نفسه لنرى هل قرر الحق ووصف الواقع أو لم يفعل، بل المتكلم هنا «يعبر» عن ذات نفسه، أو قل: إنه «ينفعل» انفعالا معينا، ويضع انفعاله هذا في كلمة يقولها مثل كلمة «خير» أو كلمة «جميل»، وبالطبع لا سبيل إلى مناقشة المنفعل في انفعاله.

المتكلم بعبارة مثل «س خير» أو «س جميل» هو أقرب إلى من يقول «س» بصوت مرتفع أو بصوت خفيض، أو هو أقرب إلى من يكتب كلمة «س» ثم يضع بعدها علامة تعجب ودهشة، إنه لا يقول شيئا أكثر من أن ينطق باسم شيء ما، وأما ما يضيفه إلى الاسم من صفات «الخير» أو «الجمال» فليس سوي علامة على انفعاله.

يقول الأستاذان: «أوجدن » و«ريتشاردز» في كتابهما العظيم «معنى المعنى»

17

ما يلي:

يزعم زاعمون أن كلمة «خير» أمر دال على مدرك فريد بذاته غير قابل للتحليل، وهو الذي يكون موضوع البحث في علم الأخلاق، لكننا نرى أن استعمال كلمة «خير» على هذا النحو الأخلاقي المتميز إن هو إلا وسيلة للتعبير عن انفعال المتكلم، إذ إننا حين نستعمل الكلمة في مثل هذا السياق الأخلاقي، فإنها لا تدل على شيء كائن ما كان، ولا يكون لها وظيفة رمزية [أعني أنها تكون عندئذ رمزا بغير شيء يشير إليه الرمز]، وعلى ذلك حين نستخدم الكلمة في مثل قولنا: «هذا خير»، فلسنا نزيد على الإشارة إلى شيء بقولنا «هذا»، وأما إضافة «خير» إلى اسم الإشارة فلا يغير من الأمر شيئا بالنسبة إلى ما نشير إليه، أما إذا قلنا من ناحية أخرى: «هذا أحمر»، فإضافة كلمة «أحمر» إلى اسم الإشارة «هذا» يزيد من المجال الذي يتضمنه القول، إذ يضيف إلى مجرد الإشارة إلى الشيء، إشارة أخرى إلى حقيقة اللون الأحمر ...

العبارة الأخلاقية - وكذلك العبارة الجمالية - لا تصف شيئا ولا تقرر شيئا، إنما هي تعبير عن انفعال المتكلم، وهي تقال لعلها تثير في السامع انفعالا شبيها به، كما يصيح حيوان من ذعر، فتثير الصيحة ذعرا شبيها به عند سائر أفراد الفصيلة التي تسمع الصيحة، والأمل في أن يستخدم المنفعل كلمة معينة فيثير بها انفعالا شبيها بانفعاله عند السامع، مرجعه إلى أن أبناء الجماعة الواحدة عادة يربون على طريقة واحدة، فتصطحب كلمة ما بشعور ما في عملية التربية، حتى إذا ما نطقت الكلمة بعد ذلك أحدثت في نفس سامعها نفس الشعور الذي كان قد اصطحب بها مرارا أثناء تنشئته وتربيته، وخذ مثلا لذلك كلمتين تكادان تترادفان معنى، لكنهما مختلفتان في المشاعر التي ربطتها التربية بهما في نفوس الناس، وهما كلمتا «حرية» و«إباحية»، تقول الكلمة الأولى فتحدث في نفس السامع انفعال استحسان للموقف، وتقول الكلمة الثانية فتحدث في نفسه انفعال استهجان، وقد يكون الفعل الموصوف بالحرية أو بالإباحية هو بعينه، فالتغير الشعوري ليس مرجعه إلى تغير في الطبيعة الخارجية، بل مرجعه إلى تغير في الانفعال المصاحب لهذه الكلمة أو تلك، أو خذ مثلا آخر هاتين العبارتين المترادفتين: «رغبة جنسية» و«شهوة جنسية» تر الأولى أخف وقعا في الأسماء من الثانية، حتى لتوصف الثانية دون الأولى أحيانا بأنها «شر»، وها هنا أيضا ليس الاختلاف في حقيقة خارجية، لكنه اختلاف في انفعال المتكلم في كلتا الحالين.

هذا يدل على أن الكلمة أو العبارة قد تكون لها القدرة على إثارة الانفعال دون أن يكون لها في ذاتها معنى خارجي تشير إليه برموزها المنطوقة أو المكتوبة، وإن في لغة التخاطب لكثيرا جدا من أمثال هذه الكلمات والعبارات التي يراد بها تعبير عن انفعال، ولا يراد بها أبدا أن تشير إلى مسميات في الخارج، كقولنا مثلا عند الدهشة عبارة: «يا سلام!» أو «الله! الله!» أو «ما شاء الله!» والذي نزعمه لك الآن هو أن كلمات الأخلاق والجمال، مثل «خير» و«شر» و«واجب» و«جميل» و«قبيح» كلها من هذا القبيل تعبر عن انفعال ولا تقرر شيئا عن حقائق العالم.

يقول الباحث الأخلاقي المعاصر «سير ديفد رس» في كتابه «أسس الأخلاق»

18

نقدا للنظرية الانفعالية في الأخلاق ما يلي: «إنه يستحيل على الإنسان أن يقبل شيئا دون أن يرى بفكره أنه جدير بالقبول، أعني دون أن يرى بفكره أن فيه صلاحية خاصة تجعله جديرا بالقبول ... وإلا فلو كنا نقبل الأشياء دون أن يكون فيها ما يجعلها جديرة بقبولها، كان قبولنا إياها عملا بغير معنى على الإطلاق»، وهو يريد بقوله هذا أن وصفنا للشيء بأنه «خير» ليس مقتصرا على إثارة الانفعال لمجرد ذكر كلمة «خير» صوتا أو كتابة، بل لصفة في الشيء ذاته نشير إليها بكلمة «خير»، وإذن فهي كلمة ذات معنى، ولا ينفي ذلك أن تكون أيضا كلمة مثيرة للانفعال.

وللرد على نقده هذا نقول أولا: إننا لا نعرف على وجه الدقة ماذا يعني «بالاستحالة» في عبارته المذكورة؟ إنه يقول عن الإنسان: إنه «يستحيل» أن يقبل شيئا دون أن يرى بفكره كذا وكذا، فماذا يريد بقوله «يستحيل»؟ أليس هو على أحسن الفروض يقرر لنا بعبارته هذه قانونا نفسيا يحدد نوع السلوك الإنساني في مواقف من طراز معين؟ إذا كان الأمر كذلك، فلا «استحالة» هناك؛ لأن القوانين العلمية كلها - والقوانين النفسية بصفة خاصة - احتمالية نتوقع فيها الشذوذ، ولا «استحالة» هناك.

وثانيا لا نعلم أيضا ماذا يريد بقوله في آخر عبارته: إن الإنسان لو قبل شيئا دون أن يكون في الشيء ما يبرر قبوله من صفات في الشيء ذاته، كان قبوله إياه عملا بغير معنى ... لعله يريد أن العمل عندئذ يكون بغير هدف معقول، ونحن نرد على ذلك بقولنا: إنه لا موضع للغرابة أن تكون أعمال الإنسان بغير أهداف «معقولة» أي بغير أهداف يبررها المنطق العقلي؛ لأن كثيرا جدا من أعماله - بل أكثر أعماله - يدفعه إليها شعوره الذي تربى عليه، كشعوره الديني مثلا أو شعوره الأخلاقي إزاء هذا أو ذاك، أضف إلى ذلك أني إذا ما عملت عملا دون أن أفكر بعقلي فيما يحتوي عليه الشيء من صفات «الخير»، فليس يتحتم أن يكون العمل بغير هدف معقول، إذ ما أكثر ما يحققه الإنسان بأعماله من أهداف معقولة، دون أن يكون دافعه إليها ما رآه في الأشياء من صفات إضافية تسمى «بالخير» أو «بالجمال».

وما دمنا قد عرضنا لرأي «سير ديفد رس» فيجمل بنا أن نقول عنه: إنه يفرق بين الجمال والخير، ولا يجعلهما سواء في الذاتية أو الموضوعية، وإن شئت دقة فقل: إنه تذبذب في رأيه بين دفتي كتاب واحد، هو كتابه عن «الصواب والخير»، ففي هذا الكتاب

19

تراه يقول في موضع: إننا نعني بكلمة «جميل» صفة لا تعتمد أبدا على الذات، بل نعني «شيئا موجودا في الشيء نفسه وجودا كاملا، غير معتمد في وجوده على علاقة الشيء بالعقل المدرك له»، ثم تراه هناك يقول نفس هذا القول عن كلمة «خير».

ولكنه في هذا الكتاب نفسه - في موضع آخر منه - يرى رأيا آخر ، إذ يقول: إننا بينما نعني بكلمة «خير» صفة قائمة بذاتها قياما كاملا مستقلا، ترانا نخطئ ونخدع حين نعني مثل هذه الموضوعية نفسها لمعنى كلمة «جميل»، إذ ليس في الأشياء الجميلة جانب مشترك سوى قدرتها على إحداث النشوة الجمالية في نفوس الناس، وهذه النشوة الجمالية متوقفة طبعا على العقول المدركة.

والنظرية الانفعالية التي نقدمها لك الآن وندافع عنها، تسوي بين الخير والجمال في أن كليهما معتمد على الذات المدركة، لا على صفة في الشيء المدرك،

20

فإذا قلت لشخص عن شيء ما «س خير» فأنت في الحقيقة تريد أن تثير فيه ميلا نحو استحسان هذا الشيء، كذلك لو قلت له عن شيء ما إنه جميل، ولا فرق بين الحالتين إلا في نوع الشعور المثار.

والذي يجعل للقيم الأخلاقية والجمالية شيئا من الثبات والدوام عند الناس، هو أنه إذا نشأ شخص على ربط شيء معين بانفعال معين، فمن الصعب تغيير هذا الانفعال بعد ذلك لمجرد أن تطالبه بمثل هذا التغيير.

فاللفظة من ألفاظ اللغة لها وظيفتان: إحداهما وصفية، والأخرى شعورية، أما الأولى فيمكن التحكم فيها بغير مشقة، إذ تستطيع أن تغير معنى اللفظة الوصفي في أي وقت تشاء، كأن تؤلف كتابا، وتقول للقارئ في مقدمته: إني سأستخدم اللفظ الفلاني في هذا الكتاب بالمعنى الفلاني، فيقبل القارئ هذا المعنى الجديد للفظ بغير غضاضة ولا نفور، قل له مثلا: إني سأستخدم كلمة «ثقافة» بمعنى الإنتاج الفني والعلمي، تره لا يقيم اعتراضا حتى لو كان رأيه السابق هو أن لكلمة «ثقافة» معنى آخر؛ لأنه يعلم أن المعاني الوصفية للكليات مرهونة باتفاق الناس، ولهم أن يغيروها كيف شاءوا ومتى شاءوا، لكنك لا تستطيع أن تغير المعنى الشعوري لكلمة معينة بهذه السهولة في نفس القارئ أو السامع، فلا تستطيع بمثل هذا اليسر أن تقول له: أريدك منذ هذه اللحظة أن تشعر بالرضى أو بالسخط أو بالإشفاق أو بالذعر كلما وردت عليك الكلمة الفلانية، ومن هنا كان من أصعب الصعاب أن تجرد كلمة أخلاقية من بطانتها الشعورية لتدرك عناصرها الموضوعية وحدها إن كان لها عناصر موضوعية، «وقد حدث لي أن طلبت من المستمعين أن يتخلصوا من مشاعرهم إزاء كلمة أنانية؛ لأثبت لهم أن الأنانية أساس الأخلاق، فلم يسعهم إلا استنكار هذا الأساس.»

21

حين نقول: إنه ليس ثمة في الأشياء صفة مستقلة قائمة بذاتها يصح أن يطلق عليها اسم خاص بها، هو كلمة «خير»، فلسنا نريد بذلك إلا أن نصف العالم الطبيعي وصفا علميا يعتمد على المشاهدة، فنحن هنا نحاول أن «نعرف» ماذا هناك وماذا ليس هناك في العالم الخارجي، ولسنا بمثل هذا القول نحاول أن نخلع على العالم «قيمة» معينة، إننا نقول: إن العالم ليس فيه شيء اسمه «خير» على نحو ما فيه شيء اسمه شجرة أو نهر أو جبل، ونحن إذ نقول هذا نستخدم كلمة «خير» بمعناها الوصفي، لكن معناها الشعوري راسخ في النفوس وله عند الناس قوة بحيث يكاد يستحيل على كثرة الناس أن يجردوا الكلمة من هذا المعنى الشعوري لينظروا إليها باعتبارها اسما يشير إلى مسمى كأي اسم آخر من الأسماء الدالة على أشياء، إننا إذا قلنا عن العالم: إنه يخلو من شيء اسمه خير، أسرع إلى ظن السامع أننا نعني بقولنا: إن العالم شر، كأنما نريد بالعبارة تقويم العالم بهذه القيمة أو تلك؛ ولهذا ترى السامع لقولنا: «إن العالم يخلو من شيء اسمه خير» يشفق على قيمه التي يعتز بها، فهو يقدر أشياء مثل الحرية والعدالة والإحسان للفقير، ويريد للناس جميعا أن يقدروا معه هذه الأشياء كلها بمثل تقديره إياها، فهذا هو الذي يميل به نحو التشدد في الرأي بأن لهذه القيم وجودا موضوعيا غير معتمد على ذات الإنسان وتقديره ... لكننا نريد أن يطمئن الناس على قيمهم التي يعتزون بها، فلسنا نلغيها، وإنما نضعها موضعها الصحيح، وهو أنها تقديرات ذاتية لا وجود لها في عالم الطبيعة، ولا تناقض بين أن يكون التقدير ذاتيا وأن نعتز به ونذود عنه.

فالذين ينفرون من النظرية الانفعالية في القيم، هم في الحقيقة يتخذون من نفورهم هذا موقفا دفاعيا عن القيم التي يريدون الاحتفاظ بها، لا موقفا علميا يريد أن يعرف ما هنالك ليصفه وصفا مجردا عن الهوى، فالإنسان إذا ما رضي عن شيء واستحسنه تراه أميل إلى حمل الناس على مشاركته الرضى والاستحسان، وهو بالطبع أقرب إلى اجتذابهم إلى جانبه إذا قال لهم عن الشيء الذي يرضيه: إنه موضوعي لا علاقة له بهواه الشخصي، منه إذا قال لهم: إن هذا الذي يرضيه إن هو إلا ميل شخصي ورغبة ذاتية، فمثلا إذا أراد صاحب معمل أن يشجع عماله على بذل جهد أ كبر، فهو أقرب إلى إقناعهم إذا ما زعم لهم أن بذل الجهد له قيمة موضوعية، مما لو قال لهم: إن الخير في بذل الجهد هو مصلحته الشخصية.

يقول الأستاذ «بيتن»

22

في نقده للنظرية الانفعالية في القيم، دفاعا عن وجود قيم موضوعية ثابتة: «ما المبررات التي تضطرنا إلى قبول هذه النظرية الانفعالية في الأخلاق؟ إن لها جاذبية خاصة عند هؤلاء الذين فقدوا - في فترة الحرب وعصر الانقلاب - مقومات حياتهم وزالت عن أبصارهم غشاوة الخداع التي كانت تزين لهم المثل العليا فيما مضى، فتجعلها في أعينهم ممكنة التحقيق، والنظرية من هذه الناحية شبيهة بأختها التي هي أشد منها حوشية، وأعني بها الفلسفة الوجودية التي أخذ بها «سارتر» وغيره في فرنسا»، ثم يستطرد «بيتن» فيقول إن أنصار النظرية الانفعالية هؤلاء إن كانوا يقصدون إلى أن تكون الأخلاق نسبية، فليعلموا أن هذه النسبية المنشودة لا تتناقض مع قبولنا للمبادئ الأخلاقية العليا، إذ إن هذه المبادئ ليست جامدة على صورة واحدة مهما اختلفت الظروف من حولها، بل في رأي النظر السليم تختلف في طرق تطبيقها باختلاف الظروف القائمة.

هذا ما يقوله الأستاذ «بيتن»، وعندي أنه - رغم مكانته العالية في الأبحاث الأخلاقية - قد أخطأ خطأين على الأقل، فأما أولهما فهو أن يهاجم النظرية الانفعالية بطريقة خطابية تصلح للجماهير، لا بطريقة منطقية يقبلها الفلاسفة، وذلك حين قال عن النظرية: «إنها شبيهة بأخت لها، وهي الفلسفة الوجودية التي هي أشد منها حوشية.» فما هكذا يكون النقد الفلسفي المنطقي لرأي من الآراء، وأما الخطأ الثاني فهو أنه قد دافع في آخر حديثه عن النظرية نفسها التي جعلها موضع هجومه، إذ قال: إن المبادئ الأخلاقية العليا تختلف في تطبيقها باختلاف الظروف القائمة، ونحن نسأله: ما الذي يجعل التطبيق مختلفا؟ خذ مثلا فضيلة الصدق، وقل لي: كيف يجعلني اختلاف الظروف صادقا بصور مختلفة؟ أم يريد أني أصدق مرة وأكذب أخرى حسب الظروف؟ إن النظرية التي يهاجمها لا تقول أكثر من هذا، إذ تقول: إن القيم الأخلاقية هي تعبير عن مشاعر الإنسان ومصالحه، ولما كانت هذه المشاعر والمصالح مختلفة باختلاف الظروف، كانت القيم الأخلاقية مختلفة تبعا لها.

ويوجه الدكتور «يوونج»

23

نقدا للنظرية الانفعالية فيقول: إنه بناء على هذه النظرية، لو حكمت أنا على شيء بأنه خير، وحكمت أنت عليه بأنه شر، لم يكن حكمانا بالمتناقضين أخلاقيا؛ لأن كلا منا يكون عندئذ معبرا عن شعوره الذاتي، فذلك شبيه بقولي: إني كنت مريضا في أول فبراير، وقولك أنت عن نفسك بأنك كنت معافى في ذلك اليوم، فلا تناقض هنا؛ لأن كلا منا يشير بكلامه إلى حالته الخاصة، ثم يقول الدكتور «يوونج»: مع أن حكمي على الشيء بأنه خير وحكمك على نفس الشيء بأنه شر لا بد أن يكونا حكمين متناقضين، ولا يمكن أن يصدقا معا.

وهذا التعليق من الدكتور «يوونج» هو تعليق من لا يريد أن يأخذ بالنظرية الانفعالية لا أكثر ولا أقل، إن الحكمين متناقضان عند النظرية التي تجعل القيم موضوعية ثابتة، والحقيقة فعلا هي ألا تناقض هناك؛ لأن التناقض يكون بين القضايا المنطقية، أما قولي عن شيء: «هذا خير» وقولك عنه: «هذا شر»، فليس من القضايا المنطقية في شيء، القضايا المنطقية لا بد أن تكون تقريرية وصفية إخبارية يمكن وصفها بالصدق أو بالكذب، أما التعبير عن الميول والرغبات فليس هو من هذا القبيل، في هذه الحالة يكون قولي وقولك تعبيرين عن شعورين مختلفين، هما شعوري من ناحية وشعورك من ناحية أخرى؛ كأن يجلس اثنان في مكان مشمس، فيستمتع أحدهما بالدفء ويضيق الآخر بحرارة الشمس، فهاتان حالتان مستقلتان إحداهما عن الأخرى، كل منهما حالة نفسية قائمة بذاتها، وليس اختلافهما من قبيل التناقض؛ لأنهما ليسا بحكمين على شيء واحد معين.

النظرية التي ندافع عنها هي أن الحكم الأخلاقي تعبير عن انفعال المتكلم إزاء شيء ما، محاولا أن يحدث انفعالا شبيها به عند السامع، وإذن فلا صدق فيه ولا كذب؛ لأن الانفعالات النفسية ليست مما يوصف بصدق أو كذب، إذ لو كانت القضية الأخلاقية وصفا لشيء خارجي؛ لأمكن مراجعة صدقها بالمطابقة بينها وبين ذلك الشيء الخارجي، لكن الحكم الأخلاقي - كما قلنا - ليس من هذا القبيل الوصفي، ليس هو حكما على واقع شيئي عيني موضوعي بعيد عن ميول المتكلم ورغباته وأهوائه، فإذا قلت لأحد: إن سرقتك لهذا المال خطأ، فأنا باستعمالي لكلمة «خطأ» هنا لا أضيف إلى مضمون الواقع شيئا، كأني لم أزد على قولي: «أنت سرقت هذا المال!!» (وعلامتا التعجب هنا رمز يشير إلى أني قد أخرجت العبارة بصوت يدل على حالة انفعالية خاصة)، وحتى إذا عممت القول فحكمت بأن «سرقة المال خطأ» فأنا بذلك لا أقول قضية يجوز عليها الصدق أو الكذب، إنما هو مجرد تعبير عن ميل عندي أحب أن يكون عليه سلوك الناس، وقد يقول شخص آخر نقيض ذلك، دون أن يكون في إمكان أحد الجانبين إثبات ما يقوله هو ونفي ما يقوله الجانب الآخر، إذ ليس هنا ما يثبت وما ينفى، فالحكم الأخلاقي لا إثبات له ولا نفي، حكمه في ذلك حكم صرخة الألم أو كلمة الأمر، وما إلى ذلك من الأشياء التي تعبر عن حالة شخصية ولا تصور أمرا خارجيا.

24

إنه يستحيل المجادلة فيما يتعلق بمسائل القيم، فإذا قلت أنت: إن الإسراف فضيلة، وكان من رأيي أنا أن الإسراف رذيلة، فكل ما يمكن المجادلة فيه هو أن أحاول إطلاعك على بعض عناصر الموقف التي ربما تكون قد غابت عنك، وهذا نقاش في أمر واقع، لا في قيمة هذا الواقع، أما إذا وجدت أنك مدرك للموقف بكل عناصره، لا يغيب عنك مما أعرفه أنا شيء ، ومع ذلك تظل تضيف إلى هذه العناصر التي اتفقنا عليها معا، حكمك بأنها خير، وأظل أنا أحكم عليها بأنها شر، فليس يمكن لجدال أن ينتهي بأحد منا إلى إثبات صدق قوله وكذب قول الآخر، إذ لم يعد هنالك في الموقف الخارجي جانب نختلف عليه، ويمكن الرجوع إليه، لتصديق واحد وتكذيب الآخر، بل بات الخلاف كله في الأهواء والميول، مما يستحيل الجدل فيه، كما يستحيل أن يتجادل اثنان في لذة طعام أحدهما يحبه والثاني يمجه ويكرهه.

6

رأينا هو أن العالم لا خير فيه ولا جمال، بمعنى أنه ليس بين أشيائه شيء اسمه خير وشيء آخر اسمه جمال، في العالم أشياء كثيرة: فيه أشجار وأنهار وأحجار، وصنوف شتى من الحيوان، ثم يأتي الإنسان فتعلمه الخبرة وتنشئه التربية على أن يحب شيئا ويكره شيئا، ومن هنا يكون ما أحبه خيرا وما يكرهه شرا، أو يكون ما يحبه جميلا وما يكرهه قبيحا، وما أكثر ما يحدث أن ترى الإنسان يبدأ حياته باستحسان شيء وعده خيرا وجميلا، وإذا بظروف حياته تتغير، وطريقة تكوينه العقلي ووجهة نظره تتبدلان بفعل العوامل المؤثرة من بيئة وقراءة وأسفار واختلاط بالناس وغير ذلك، فإذا هو ينتهي من كل هذا إلى استهجان ما كان يستحسنه أول الأمر، وإذن فالشيء نفسه يكون خيرا أو شرا، جميلا أو قبيحا، حسب ما تراه أنت فيه، والمحيط الاجتماعي والمصلحة الذاتية هما اللذان يحددان لك ما تراه في الشيء من خير أو جمال أو غير ذلك.

يقول سبينوزا: «يظن الناس أنهم يرغبون في الأشياء لأنها خيرة، والأمر على حقيقته هو أن الأشياء تكون خيرة؛ لأن الناس يرغبون فيها.» فقولنا عن شيء: إنه خير، مساو بحكم التعريف لقولنا عن الشيء نفسه: إنه مرغوب فيه، وهنا قد يسأل سائل: مرغوب فيه ممن؟ والجواب هو أن الأمر يختلف باختلاف الحالات الفردية، ففي حالة ترى الشيء مرغوبا فيه من أهل الأرض جميعا وفي كل العصور الماضية والحاضرة، وفي حالة أخرى ترى الشيء مرغوبا فيه من أمة دون أخرى، وإذن فهو خير عند الأولى وشر عند الثانية، وفي حالة ثالثة ترى الأمة الواحدة تنقسم جماعات في حكمها على شيء ما، فما قد يراه أهل الوجه البحري في مصر مثلا شرا قد يراه أهل الوجه القبلي خيرا، كالنظر إلى الأخذ بالثأر، وهكذا وهكذا، والأمل في توحيد القواعد الأخلاقية في الشعوب مرهون باتحادها في الحاجات الرئيسية، فإن استقر الرأي في العالم كله على أن الحاجة الرئيسية للناس هي الطمأنينة الاقتصادية - مثلا - بحيث ينفر الناس جميعا من الحرب إن توافرت لديهم الموارد المادية، أصبحت الحرب شرا مجمعا عليه، لكن قد لا يكون التوحيد في الحاجات الرئيسية ممكنا، وعندئذ يستحيل أن تتحد قواعد الأخلاق في العالم كله.

لكن فريقا من الفلاسفة الأخلاقيين - وعلى رأسهم «مور» في عصرنا هذا - يريد أن يجعل «الخير» صفة موضوعية خارجية يدركها الإنسان كما يدرك اللون الأصفر، وإذا سألناهم بأية حاسة يدرك الإنسان صفة الخير في الشيء الذي يقول عنه إنه خير، أجابوا إنه يدركها «بالحدس» [أي بالإدراك العقلي المباشر أو بالعيان العقلي أو بالبصيرة؛ فهذه كلها ترجمات جارية لكلمة

intuition ]، فالحدسيون يرون أن كلمة «خير» تشير إلى صفة «لا طبيعية» لا يمكن إدراكها بإحدى الحواس الخمس المعروفة، ويمكن أن نسمي هذه الحاسة السادسة المفروضة بالحدس الأخلاقي، ومن ثم ينكر الحدسيون بأن تكون صفة الخير مطابقة لأية صفة طبيعية مما نألفه كاللون والشكل والوزن وما إلى ذلك، وبالتالي فليست هي مرادفة لأي وصف تأتي به مركبا من هذه الصفات الطبيعية، وبعبارة أخرى: فإن صفة «الخير» - عندهم - لا يمكن تحليلها أو تعريفها بغيرها من الصفات التي تدرك بسائر الحواس، فإذا قلت لك: إن «س خير»، فإما أن يكون لديك الحدس الذي تستطيع به أن تدرك في «س» هذه الصفة كما أدركها أنا، وإما ألا يكون لديك الحدس المطلوب، وإذن فلا أمل في أن ترى ما أدلك عليه، الأمر في ذلك كالأمر في اللون عند الأعمى، إذا قلت للمكفوف: «س أصفر»، فلا أمل له في أن يرى ما أدله عليه في «س»؛ لانعدام حاسة البصر عنده، ولاستحالة أن نعرف اللون الأصفر بغيره من الصفات التي يدركها الأعمى بسائر حواسه.

وهذا مثل جيد لما يقوله الميتافيزيقيون للناس عن موضوعات بحثهم، إذ تراهم يحيلون الناس على حاسة سادسة أو ما يشبهها؛ ليقطعوا على معارضيهم خط الرجعة، فإما أن ترى معهم ما يرونه، وإذن فأنت ذو حاسة سادسة مثلهم، وإما أن تعجز عن إدراك ما يدركونه هم، وإذن فالنقص فيك أنت والكمال لهم هم وحدهم!

لكن من حقنا أن نطالبهم بترجمة إدراكاتهم الحدسية إلى لغة الإدراكات التي تتم بالحواس الأخرى، وإلا كان كلامهم عن الحدس والإدراك الحدسي فارغا بغير معنى، ما هذا الحدس الذي يحيلوننا عليه في إدراك القيم؟ انظر ما يقوله الأستاذ «جود»، مع أنه يقوله في مجرى اعتراضه للمذهب الوضعي المنطقي مدافعا عن القيم الموضوعية، يقول: «لست أجرؤ على تعريف كلمة «حدس»، غير أني أعني بها فاعلية عقلية تجمع بين الإدراك الحسي المباشر وبين تلك الصفة المميزة للذكاء، التي هي قدرته على إدراكه ما ليس بمحسوس، وإذن فالحدس هو إدراكنا المباشر لطبيعة ما ليس بمحسوس.»

25

فماذا أنت قائل لرجل يزعم لك أن شيئا ما «س» موجود، فإذا سألته: وكيف أدركه؟ أجابك: تدركه بالحدس، فتنبئه بأنك لا تعرف ماذا يكون هذا الحدس إذا لم يكن حاسة من الحواس المعروفة، فيجيبك: «ولا أنا أجرؤ على تحديد معناه»!

تصور شيئا شبيها بهذا في الحياة اليومية، وانظر كيف يكون موقفك منه، تصور شخصا يزعم لك أن برتقالة موجودة أمامك في الطبق، وتنظر فإذا الطبق خال، وتسأله: أين البرتقالة؟ إني لا أراها، فيجيبك: إنها هناك ولكن طريقة إدراكها ليست هي العين، بل هي شيء لا أستطيع أن أصفه لك ولا أن أقول ما هو! تصور هذا في الحياة اليومية، وقل لي ماذا أنت ظان بصديقك هذا إذا لم تظن بقوله إنه لا يحمل معنى، وإذا كان هذا في الحياة اليومية فلماذا لا يكون شبيهه في الأقوال الميتافيزيقية؟ فقل معنا وأنت مطمئن إلى حكمك: إن العبارات الميتافيزيقية التي تحدثنا عن أشياء لا تدركها الحواس، عبارات فارغة لا تعني شيئا ولا تدل على شيء.

لو قال هؤلاء الحدسيون: إن «الحدس» هو الإدراك الحسي المباشر، كإدراكك لبقعة اللون مثلا؛ لتيسر لنا فهم ما يقولون، ولو قالوا: إن «الحدس» هو إدراك عقلي مباشر لنتيجة تلزم عن مقدمات معترف بها، أو تلزم عن تعريفنا لبعض الألفاظ؛ لتيسر لنا أيضا فهم ما يقولون، لكنه محال علينا أن نتصور كيف يكون الحدس في غير هاتين الحالتين، أعني كيف يكون في حالة لا هي إدراك حسي مباشر، ولا هي استنتاج مباشر من مسلمات؟ والحدس الذي يطالبوننا به في إدراك القيم الموضوعية كالخير أو الجمال، هو من هذا الضرب العسير، فإذا اختلف شخصان في حدسهما الحسي، أي في إدراكهما شيئا بالحس إدراكا مباشرا، أو إذا اختلفا في استنتاج نتيجة معينة من مسلمات معينة؛ لهان فض النزاع بينهما بالرجوع إلى الشيء المحس وإلى الحاسة التي تدركه، أو بالرجوع إلى المسلمات وإلى النتيجة التي انتزعت منها للتأكد من أن المتجادلين متفقان أو مختلفان فيما يدركانه ويصفانه، أما إذا اختلف شخصان في الحدس الأخلاقي - مثلا - بحيث قال أحدهما عن شيء: إني أراه خيرا، وقال الآخر عنه: إني أراه شرا، فمحال أن تجد لهما سبيلا لحسم النزاع، ومن ثم كان النقاش في مثل هذا ضربا من العبث لا ينتهي وإن طال أبد الآبدين، فلا عجب إذن أن يظل الميتافيزيقيون طوال التاريخ الفكري كله، يقولون ثم يعيدون ما قالوه، ثم يبدءونه من جديد وهلم جرا، لا اتفاق بينهم، ولن يكون اتفاق؛ لأنه لا إشكال بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة في مجال العلوم ومجال الحياة اليومية على السواء.

الفصل الخامس

الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند «مور»

1

قد تجد من الفلاسفة أنفسهم من يستصغر شأن فلاسفة التحليل؛ لأن هؤلاء الفلاسفة التحليليين بدل أن ينظروا نظرة شاملة واسعة إلى الإنسان وقيمته ومصيره، وإلى كمال الله أو لانهائية الكون، تراهم يشغلون أنفسهم بمناقشات تفصيلية تحليلية في معنى هذه العبارة أو تلك ، مما يقع لهم عرضا في حديث الناس، إنهم لا يطيرون على أجنحة من الخيال المتأمل، ولا يضربون في مجاهل الغيب، ولا ينتجون النظريات الضخمة الفخمة، إنما زادهم كله تحليلات لغوية؛ لأن دراسة الألفاظ قد شغلتهم عن دراسة العالم.

1

لكننا لا نريد ها هنا أن نقف طويلا عند تقدير بعض الفلاسفة لمهمة التحليل التي أخذها كثيرون من فلاسفة العصر الحاضر على أنفسهم وجعلوها شغلهم الشاغل عن كل شيء عداها مما اعتادت الفلسفة أن تخوض فيه، ويكفينا أن نسجلها حقيقة واقعة، وهي أن الكثرة الغالبة الساحقة من أئمة الفلاسفة المعاصرين، متجهة بالفلسفة إلى أن تكون تحليلات منطقية، وحسبك لكي ترى ذلك أن تلقي نظرة سريعة على مؤلفات «مور» و«رسل» و«جماعة فينا» و«رايشنباخ» و«مناطقة وارسو» و«مناطقة هارفارد»، بل حسبك أن تتابع الدوريات الفلسفية الهامة مثل مجلة

Mind

ومجلة

Science

ومجلة

The Philosophical Review

وغيرها؛ لتعلم أن مجال البحث عند الفلاسفة اليوم قد أوشك أن يكون كله تحليلا، فالحق أن «ليست جميع المشكلات الفلسفية إلا تحليلات لتركيبات لغوية.»

2

فإذا كانت الفلسفة التقليدية في جملتها «تأملا»، فالفلسفة المعاصرة في جملتها «تحليل»، وبين الفلسفة التأملية والفلسفة التحليلية اختلاف واضح:

فأولا:

تدعي الفلسفة التأملية التقليدية أنها تكشف عن الحق فيما يتصل بالكون باعتباره كلا واحدا، وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة فتبرأ من الادعاء بأنها تكشف عن حقائق الكون صغر أو كبر؛ لأنها تعلم أن ذلك من شأن العلماء وحدهم بما لديهم من وسائل تعينهم على المشاهدة وإجراء التجارب، كل عالم فيما يخصه من جوانب الكون وأجزائه، ولا يزعم الفيلسوف التحليلي المعاصر لنفسه شيئا سوى أنه يتناول العبارات التي يقولها العلماء أو عامة الناس، فيوضح غامضها ويبرز عناصرها.

وثانيا:

تحاول الفلسفة التأملية التقليدية أن تواجه عالم الأشياء وجها لوجه، وما ألفاظ اللغة وعباراتها إلا أدواتها الثانوية للتعبير عما قد تصل إليه من حقيقة، بل كثيرا ما تدعي أن ألفاظ اللغة وعباراتها قاصرة لا تنهض بالتعبير عن الحقيقة التي وصلت إليها «التأملات» الفلسفية تعبيرا كاملا شاملا، وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة فتدور كلها حول ألفاظ اللغة وعباراتها ، اعتبارا منها بأن مهمتها الوحيدة التي لا مهمة سواها، هي أن تطمئن إلى وضوح ما ينطق به الناس، علماؤهم وعامتهم على السواء، وأما الحقيقة الشيئية فموكولة إلى رجال العلوم على اختلافهم، وفي هذا الفصل بيان لطريقة التحليل عند إمام من أئمة الفلاسفة المعاصرين، وهو «جورج مور».

2

والفلسفة التحليلية المعاصرة، التي من أعلامها «مور»، كثيرا ما تعرف باسم مدرسة كيمبردج؛ لأن الطبقة الأولى من فلاسفة التحليل اليوم، قد كانت - ولا يزال بعض أفرادها - من أساتذة تلك الجامعة وأبنائها، وأهمهم - إلى جانب «مور» - «رسل» و«برود» و«استبنج».

لكن «مور» يكاد ينفرد دونهم جميعا باتجاه خاص عرف به، وهو جعل «الفهم المشترك»

3

أساسا لفلسفته ومحورا لتفكيره.

وخلاصة موقفه هي أننا ب«الفهم المشترك» نعرف أن بعض القضايا صادق، فكلنا نعرف صدقا أن «الدجاج يبيض»، لكن يأتي الميتافيزيقيون فينقسمون حيالها شيعا: فالميتافيزيقا المثالية تفهم منها فاعلية عقلية عند قائلها، والميتافيزيقا المادية تفهم منها حركات ذرية في أجزاء المادة ... وموقف «مور» إزاء هؤلاء وأولئك هو ألا يتدخل بتأييد أو تفنيد، قائلا إنه مهما اختلف المعنى عند جماعة الميتافيزيقيين فكلهم معنا على اتفاق بأن القضية القائلة بأن الدجاج يبيض قضية صحيحة،

4

فليس في مستطاع الفلسفة «التأملية» أن تنقض لنا هذه القضية - وإن اختلفت في تفسيرها - وحسبنا ذلك؛ لأنه وحده دليل كاف على أننا ندرك الصدق ببداهة «الفهم المشترك».

فبالفهم المشترك نعرف أن العالم المادي موجود، وأن فيه أناسا غيرنا، وأنه قد لبث موجودا عدة سنين ... إلخ، فليس بنا حاجة إلى ميتافيزيقا تبرهن لنا على ذلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلو كان هنالك من المعرفة ما ليس يأتينا به «الفهم المشترك» بفطرته ولا العلم بمشاهداته - كالقول بخلود الروح مثلا - فستعجز الميتافيزيقا كذلك عن إمدادنا بهذه المعرفة، بعبارة أخرى: ما نعرفه عن طريق الفهم المشترك والعلوم لا حاجة بنا فيه إلى الميتافيزيقا لتزيد من معرفتنا به، وما لا نعرفه عن ذلك الطريق ليس في وسع الميتافيزيقا أن تحيطنا علما به.

فخير ما تشغل الفلسفة نفسها به هو أن تحلل عبارة المتكلم التي يصدر فيها عن «فهم مشترك» أو عن بحث علمي، تحليلا يبين على وجه الدقة ما يراد بها من معنى حتى يصح لها أن تكون عبارة صادقة.

ليس صدق العبارات الآتية عن طريق «الفهم المشترك» موضع شك أو بحث في رأي «مور»، وكل ما قد تحتاجه هو التحليل الذي يوضحها ويبرز عناصرها، لا الدليل الذي يبرزها ويؤيدها، وقد نشر سنة 1925م بحثه المشهور «دفاع عن الفهم المشترك»،

5

جاء فيه: «هنالك في هذه اللحظة الراهنة جسم بشري حي، هو جسمي، وقد ولد هذا الجسم في وقت معين في الماضي، ولبث منذ ذلك الحين مستمرا على وجوده، وإن لم يخل من تغيرات سايرت وجوده، فمثلا كان أصغر مما هو الآن حين ولد، ولمدة من الزمن بعد ولادته، وقد ظل منذ ولادته حتى الآن ملامسا لسطح الأرض وغير بعيد عنه، وكان هنالك منذ ولد أشياء كثيرة أخرى لها شكل وحجم في أبعاد ثلاثة ... وكان جسمي على مسافات مختلفة من تلك الأشياء ...»

6

هكذا يأخذ «مور» في ذكر أشياء أدرك وجودها ب«الفهم المشترك» إدراكا لا يجوز أن يكون موضع شك، فمن العبث والباطل أن تلتمس الفلسفة إقامة البرهان على أن معرفتنا بأمثال هذه الأشياء صحيحة وقائمة على أساس سليم، فالفهم المشترك يدركها وفي ذلك الكفاية.

لا، بل إنه إذا جاءت فلسفة تزعم لنا حقائق ينكرها «الفهم المشترك» فهي فلسفة باطلة، إن جاء فيلسوف مثالي زاعما بأن المكان والزمان ليسا من عالم الطبيعة الخارجية، وزاعما بأن هذه المقاعد والمناضد لا وجود لها، تنكرنا لزعمه على أساس أن «فهمنا المشترك» يقرر حقيقة المكان والزمان ووجود المقاعد والمناضد، فالفلسفة «التأملية» (الميتافيزيقا) ليس في مقدورها أن تفند ما يقرره «الفهم المشترك»، أما «الفهم المشترك» ففي مستطاعه أن يفند الميتافيزيقا إذا جاءته بما يتعارض مع إدراكه.

قد يقال عن «مور» أحيانا، إنه فيلسوف واقعي جاء معارضا للفلسفة المثالية، لكن الجديد في «مور» هو منهجه لا فلسفته الواقعية ، فلئن رأيته متفقا مع الواقعيين في قبول وجود الأشياء الخارجية، فهو مختلف معهم في أساس القبول، هم يقبلون وجود الأشياء الخارجية على أساس مبررات عقلية يدلون بها، وأما هو فيقبل وجود الأشياء الخارجية على أساس أن «الفهم المشترك» يقضي بذلك، ولا حاجة بعد ذلك إلى برهان، ففيلسوفنا «مور» لا يرى ما يبرر إقامة الدليل على صدق «الفهم المشترك»، وكل محاولة في هذا السبيل عبث لا طائل وراءه، ولا فرق في ذلك عنده بين مثاليين وواقعيين؛ لأن الطائفتين كلتيهما تحاولان إقامة مثل هذا الدليل، فأما المثاليون فيقيمون الأدلة الباطلة الفاسدة على أن «الفهم المشترك» لا يدرك الصواب، وأما الواقعيون فكذلك يقيمون الأدلة الفاسدة لإثبات ما يدركه «الفهم المشترك» إدراكا صائبا.

المثاليون ينتهون بأدلتهم إلى نتائج ينكرها «الفهم المشترك»، فيكفي ذلك بيانا لبطلان نتائجهم وصرفا لنا عن مراجعة أدلتهم، والواقعيون ينتهون بأدلتهم إلى نتائج يؤيدها «الفهم المشترك»، فنحن نقبل النتائج، ونصرف النظر عن الأدلة، إذ لا حاجة لنا إليها.

فالوضع الحقيقي الذي يحتله «مور» ليس هو أنه واقعي يهاجم المثالية، بل هو أنه عدو للفلسفة التأملية، ومعارض للميتافيزيقا مثاليها وواقعيها على السواء،

7

ولو صورنا موقف «مور» بصورة (رمزية) كانت كما يلي: «س حقيقة واقعة أدركها بالفهم المشترك، لكن النظرية ص التي يقولها الفيلسوف الفلاني تتناقض منطقيا مع س، إذن تكون النظرية ص باطلة.»

وهذا بعينه هو موقفنا في الأبحاث العلمية وفي الحياة اليومية على السواء، فنحن في هذين المجالين لا نتردد لحظة في رفض أية نظرية نراها تتناقض مع الحقائق الواقعية التي نعرفها، ولم يشذ عن ذلك إلا الفلسفة، ففي الفلسفة وحدها لا يخلص الفلاسفة لأنفسهم، فتراهم يعرفون شيئا على أنه حقيقة واقعة، ويرتبون حياتهم العملية في غير تردد ولا ارتياب على أساس ما يعرفونه، لكنهم إذا ما جلسوا على مقاعدهم «يتفلسفون»، فليس ما يمنع لديهم أن ينسجوا نظريات يدافعون عنها، مع أنها تناقض الحقائق الواقعة التي يعرفونها ويقيمون حياتهم العملية على أساسها، ولقد استطاع الفلاسفة أن يؤمنوا بينهم وبين أنفسهم إيمانا يسلكونه في عقائدهم الفلسفية، بقضايا تتناقض مع ما يعلمون هم أنفسهم أنه صواب.»

8

3

إذا دلني «الفهم المشترك» على صدق قولي بأنني الآن أمسك قلما أكتب به، فليست المشكلة عند «مور» هي أن أسأل: هل هذه معرفة صادقة حقا؟ بل المشكلة هي أن أسأل: «ما تحليل هذه العبارة التي أقولها؟» وذلك لأن صدق العبارة لا يرقى إليه شك ما دام «الفهم المشترك» هو وسيلة الإدراك، فكيف يقوم «مور» بعملية التحليل، هذه التي جعلها - وجعلها معه معظم الفلاسفة المعاصرين - محور الفلسفة كلها؟

الحق أن الفلسفة التحليلية ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب - كما قدمنا لك القول في الفصل الأول - بل تستطيع أن تلتمس أصولها عند الأقدمين؛ عند سقراط في محاولته توضيح المعاني، وإن يكن قد قصر نفسه على المدركات الأخلاقية وحدها، وتستطيع كذلك أن تلتمسها عند أفلاطون وهو يحاول في الجمهورية أن يحلل معنى «العدالة» مثلا، وعند أرسطو في منطقه.

والفلاسفة التجريبيون من الإنجليز: «لوك» و«هيوم» و«باركلي» وأتباعهم، هم من أولئك الذين نظروا إلى الفلسفة على أنها طريقة في التحليل، فلو استبعدت ما كتبوه في علم النفس؛ وجدت بقية آثارهم تحليلات لبعض المعاني،

9

وهكذا قل في «بنتام» و«جون ستيوارت مل»، فهؤلاء جميعا يحاولون التحديد والتحليل لهذا المعنى أو ذلك ... ولم نقل شيئا عن «كانت» الذي جاء الشطر الأعظم من فلسفته «نقدا» - أي تحليلا - للأسس التي تقوم عليها العلوم.

غير أن رجال المذهب الوضعي التحليلي المعاصر، يتفردون بما يميزهم حتى من أسلافهم الأقربين في القرن التاسع عشر - مثل «مل» و«ماخ» و«كارل بيرسن» - إذ يتميزون بحذفهم للميتافيزيقا من قائمة الكلام المقبول، فهم يحذفون الميتافيزيقا حذفا تاما على أساس تحليلاتهم المنطقية للعبارات اللغوية، ثم يتميزون كذلك بتفرقتهم بين قضايا المنطق والرياضة من جهة، وقضايا العلوم الطبيعية من جهة أخرى، على حين كان المحللون السابقون يفسرون هذه بما يفسرون تلك، كما فعل هيوم نفسه، أو يفسرون تلك بما يفسرون هذه كما فعل «مل» حين رد القضايا الرياضية إلى أصول حسية، وفي كلتا الحالين يكون إشكال، ففي الحالة الأولى ينتهي الأمر بالتشكك في العلوم الطبيعية ما دامت لا توصل إلى يقين الرياضة، وفي الحالة الثانية ينتهي الأمر بجعل قضايا الرياضة احتمالية لا يقينية.

فلئن كان التحليل شائعا في الفلسفة منذ قديم، إلا أن أصحاب التحليل من المعاصرين قد تميزوا بما يبرزهم - دون سائر الأسلاف - من خصائص (و«مور» على رأس هؤلاء المعاصرين)، وها نحن أولاء محدثوك فيما يلي عن بعض طرائق التحليل التي يصطنعها المعاصرون، التي تنتهي إلى ما انتهوا إليه من نتائج، وأهمها حذف الميتافيزيقا.

ليس المراد بالتحليل تعريفا للألفاظ، فالتعريف يكون للحدود كل على حدة، أما التحليل فيكون لعبارة كاملة، وفضل التحليل على التعريف هو أنه حينما يتعذر تعريف حد ما تعريفا مباشرا؛ نلجأ إلى تحليل العبارة التي يرد فيها ذلك الحد المراد تعريفه، فإذا ما استبدلت بالعبارة كلها عبارة أخرى تساويها معنى، مع استغنائها عن الحد المراد تعريفه، كنت بمثابة من قدم تعريفا لذلك الحد بطريق غير مباشر.

لكن ليس المراد بالتحليل أن نترجم عبارة إلى عبارة أخرى مساوية لها في معناها - سواء كانت الترجمة إلى نفس لغة العبارة الأولى أو إلى لغة أخرى - بل لا بد أن تجيء العبارة الثانية التي هي تحليل للأولى أكثر إبرازا للعناصر التي تنطوي عليها العبارة الأولى، بهذا لا يكون التحليل مجرد ترجمة عبارة إلى عبارة تساويها، بل يشترط - كما قلنا - أن تجيء العبارة الثانية مساوية للأولى في معناها، ومضافا إلى ذلك زيادة في الوضوح وفي عرض عناصر المعنى؛ لأنه لو كانت العبارة «ك» مجرد ترجمة للعبارة «ق» لا أكثر، فإن «ق» تكون أيضا ترجمة للعبارة «ك»، أما إن كانت «ك» تحليلا للعبارة «ق»، فلا تكون «ق» تحليلا للعبارة «ك».

ونسوق لذلك مبدئيا مثلا بسيطا، ساقه «مور» في هذا الصدد: إنني أكون قد حللت عبارة «زيد شقيق عمرو» حين أبرز العناصر المضغوطة في كلمة «شقيق»، فأقول: «إن زيدا وعمرا ذكران، والوالدان اللذان أنسلا زيدا هما الأبوان اللذان أنسلا عمرا»، فها هنا أسمي العبارة الثانية تحليلا للأولى، لكن ليست الأولى تحليلا للثانية، ولو كان الأمر مجرد وضع عبارة مكان أخرى تساويها معنى؛ لكانت الأولى تحليلا للثانية بمقدار ما تكون الثانية تحليلا للأولى، فالعنصر الهام في عملية التحليل هو السير نحو الزيادة في الوضوح بإبراز العناصر الخبيئة في العبارة المراد تحليلها، ويختصر «الدكتور وزدم» عملية التحليل بالوصف الموجز الآتي:

إنك تحلل القضية «ق» لو وجدت عبارة أخرى «ق

1 » تكشف عن مكنون «ق» أكثر من «ق» نفسها.

10

فإن كنا قد جعلنا التحليل مهمة الفلسفة من وجهة نظر المحدثين، فكأنما أردنا أن نقول إن مهمة الفلسفة هي توضيح المعاني. يقول «شليك» نقلا عن «وتجنشتين»: «إن موضوع الفلسفة هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا.»

11

ويقول «رامزي»: «واجب الفلسفة أن توضح وتحدد أفكارا كانت قبل تحليلها غامضة مهوشة.»

12

فالفيلسوف التحليلي كطبيب العيون الذي يضبط الرؤية المضطربة بأن يمكن العين من تركيز المرئي في بؤرة الإبصار تركيزا صحيحا، إنه لا يخلق أمام العين مرئيا جديدا، لكنه يوضح ما هناك وكفى، وهكذا قل في فيلسوف التحليل الذي يمكننا من إدراك العبارة المراد تحليلها إدراكا أوفى وأكمل.

إننا لا نريد بالغموض الذي يزيله التحليل غموضا يكون مصدره جهل السامع بمعنى هذه الكلمة أو تلك؛ لأنه لو كان الأمر كذلك؛ لقام القاموس بالمهمة كلها، إنما نريد الغموض الناشئ من طبيعة اللغة نفسها في طريقة تركيبها للعبارات تركيبا يخفي بعض العناصر المكونة للمعنى.

خذ لذلك مثلا: إنه من الصواب أن أقول إنه ما دام الفيل حيوانا، فالفيل الأسود يكون حيوانا أسود، لكنني أخطئ إذا قست على ذلك قولي إنه ما دام الفيل حيوانا فالفيل الصغير يكون حيوانا صغيرا، ويتبين مصدر الخطأ حين نأخذ في تحليل العبارتين فنجد أنه على الرغم من التشابه بينهما في التركيب النحوي، إلا أنهما تختلفان في التركيب المنطقي، فقولي «الفيل حيوان أسود» مؤلف من عبارتين، يمكن تحقيق كل منهما على حدة، كما يمكن إثبات واحدة ونفي الأخرى أو إثباتهما معا أو نفيهما معا، والعبارتان هما: (1) الفيل حيوان. (2) الفيل أسود. فهاتان العبارتان مستقلتان، لا يتوقف صدق الواحدة أو كذبها على صدق الأخرى أو كذبها، إذ يجوز لي أن أقول مثلا: إن الفيل حيوان لكنه ليس أسود، أو إن الفيل أسود لكنه ليس حيوانا، أو أقول: إن الفيل لا هو حيوان ولا هو أسود، أو هو حيوان وأسود في آن معا.

لكن ما هكذا تتركب العبارة الثانية «الفيل حيوان صغير»، إذ يتألف بناؤها من قضيتين أيضا، لكنهما مختلفتان نوعا، وهما: (1) الفيل حيوان. (2) الفيل أصغر من متوسط الفيلة. وهذه القضية الثانية - كما ترى - قضية علاقات، وليست - مثل الأولى - قضية حملية، أعني أنها لا تصف الفيل بصفة قائمة فيه، بل تنسبه إلى أفراد أخرى من مجموعة معينة نسبة تبين علاقته بها، وإلا فلو حللنا عبارة «الفيل حيوان صغير» إلى عبارتين هما: «الفيل حيوان» و«الفيل صغير»؛ لجاءت العبارة الثانية منهما بغير معنى، إذ الصغر والكبر لا يكونان إلا بنسبة شيء إلى شيء آخر، فإما أن يساويه أو يصغر عنه أو يكبر، ولو تركنا العبارة مهملة بغير تحديد، على أساس أننا ننسب الفيل إلى سائر الحيوان، لما كان صوابا أن الفيل صغير بالنسبة لسائر الحيوان، وإن يكن صغيرا بالنسبة لسائر الفيلة.

وخذ هذا المثل السابق بعد تحليله، وانتقل إلى أصحابنا الميتافيزيقيين؛ لترى كيف تتألف مشكلاتهم الكبرى من قصورهم عن أمثال هذا التحليل المنطقي لعباراتهم، فمثلا مشكلة القيم الأخلاقية والجمالية - هل هي ذاتية أو موضوعية؟ - قد نشأت كلها من الظن بأن هاتين العبارتين متساويتان: (1) هذا أصفر. (2) هذا خير.

فما دامت العبارتان تتشابهان في التركيب النحوي، فقد سبق إلى ظنهم أنهما متساويتان في التركيب المنطقي كذلك، وإن كان الأمر كذلك، ثم إن كان اللون الأصفر شيئا خارجيا يضاف إلى موضوعه فيكسبه صفة ما، وقد يزول عنه فتزول عن الموضوع صفته تلك، إذن «فالخير» كذلك (أو الجمال) شيء خارجي يضاف إلى موضوعه أو يزول عنه، فيكسب موضوعه صفة أو يفقد صفة، وكما أن الإنسان لا دخل له في أن يكون الشيء أصفر، فكذلك لا دخل له في أن يكون الشيء خيرا أو جميلا، فهذا يتلقى صفة الخير وصفة الجمال من الخارج كما يتلقى صفة الاصفرار.

لكن الأمر كله - كما قلنا - مصدره قصور عن التحليل، فلو حللنا العبارة الثانية «هذا خير» إلى عناصرها فقلنا: «هذا الشيء بينه وبيني علاقة هي إحداث اللذة»؛ ظهر على الفور بأن العبارتين: (1) هذا أصفر. (2) هذا خير. وإن يكونا متشابهتين نحويا، إلا أنهما مختلفتان في البناء المنطقي، فالأولى قضية حملية تصف موضوعا بصفة قائمة فيه، والثانية قضية علاقات، تبين العلاقة بين شيئين هما: (أ) الشيء المشار إليه. (ب) أنا.

13

ومثل آخر من المشكلات الميتافيزيقية كيف تنشأ عن خطأ منطقي في فهم العبارات اللغوية، هذه التفرقة التي يجعلها الميتافيزيقيون بين «الوجود الفعلي» و«الوجود الضمني»،

14

إذ يقولون إن هنالك مرحلة بين الوجود والعدم هي مرحلة الوجود الضمني، فليست القسمة ثنائية بين ما هو موجود وما هو غير موجود، أو قل بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، بل هنالك كائنات بين بين، هي الكائنات التي ليس لها وجود فعلي، لكننا نتحدث عنها ونصفها بصفات معينة، فمثلا «العنقاء» طائر غير موجود، لكني أقول عنه: إنه طائر وإنه طويل العمر ... إلخ، فماذا أصف بهذه الصفات؟ لست أصف شيئا موجودا بين الأشياء، إذ ليس للعنقاء وجود فيشار إليه، كما يشار إلى الصقر والنسر، لكني في الوقت نفسه يستحيل أن أصف العدم بصفات إيجابية فأقول: إنه طائر وإنه طويل العمر، إذن فللعنقاء «وجود ضمني»، فلا هو موجود فعلا وحقا، ولا هو معدوم.

لكن المشكلة المزعومة هنا مصدرها خلط في التحليل المنطقي للعبارات، فلأننا نجد شبها ظاهرا في البناء النحوي بين هاتين العبارتين: (1)

العنقاوات ليست موجودة. (2)

الأنهار ليست ملحة.

ترانا نزعم أنهما شبيهتان أيضا في بنائهما المنطقي، فنظن تبعا لذلك أن كلتا العبارتين على السواء تنفيان صفة عن موصوف - أو محمولا عن موضوع لو استعملنا لغة المنطق - أما العبارة الأولى فتنفي صفة الوجود عن العنقاوات، وأما الثانية فتنفي صفة الملحية عن الأنهار، ثم نظن أيضا أن الموضوع في كلتا العبارتين يتألف من طائفة معينة من أفراد، فموضوع العبارة الأولى هو طائفة العنقاوات، وموضوع الثانية هو مجموعة الأنهار، وطائفة العنقاوات تشترك كلها في صفة عدم الوجود، كما أن مجموعة الأنهار تشترك كلها في صفة عدم ملحية مائها.

لكن حلل العبارتين تحليلا منطقيا، تجدهما مختلفتين اختلافا شديدا من شأنه أن يزيل المشكلة الميتافيزيقية التي نشأت حول «الوجود الضمني».

وأبدأ بتحليل العبارة الثانية: «الأنهار ليست ملحة.» هذه العبارة تنحل إلى مجموعة كبيرة من قضايا أولية، تتخذ هذه الصورة الآتية:

س

1

نهر

و

س

1

ليس ملحا

س

2

نهر

و

س

2

ليس ملحا

س

3

نهر

و

س

3

ليس ملحا ⋮ ⋮ ⋮ ⋮ ⋮ ⋮ ⋮ ⋮

س

ع

نهر

و

س

ع

ليس ملحا ∴

ليس من الصدق أن تجتمع في فرد جزئي واحد هاتان الصفتان معا، وهما أن يكون الفرد الجزئي نهرا وأن يكون ملحا في آن معا.

ثم انظر بعد ذلك في العبارة الأولى: «العنقاوات ليست موجودة» فلن تجد عنقاء

1 ، عنقاء

2 ، عنقاء

3 ... عنقاء

ع ؛ لأنك منذ بداية الشوط لن تجد أفرادا جزئية، فلو كمل علمنا عن العالم كله، ولو وضعنا هذا العلم الكامل في قائمة طويلة من قضايا، كل قضية منها تثبت صفة لموصوف، لما كان في هذه القائمة قضية «العنقاوات ليست موجودة»؛ لأن العنقاوات ليست جزءا من العالم.

فأساس الخطأ المنطقي هنا، هو أننا عاملنا الفئة الفارغة من الأفراد معاملتنا للفئة ذات الأفراد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أننا حسبنا أن العبارتين متشابهتان منطقيا من حيث إن الكلمة الأولى في كل منهما («العنقاوات» و«الأنهار») موضوع ننفي عنه محمولا، لكن الحقيقة هي أن «الأنهار» في العبارة الثانية محمول؛ لأنني - كما رأينا - حين أفرد الأنهار فردا فردا وأقول: س

1

نهر، س

2

نهر ... إلخ، فأنا في كل حالة من هذه الحالات الأولية أصف شيئا ما بأنه نهر، ثم في النهاية أصف مجموعة ما بأنها أنهار، وإذن فلفظة «أنهار» محمولة على موضوع، وليست في ذاتها موضوعا، وأما في العبارة الأولى «العنقاوات ليست موجودة.» فلفظ «العنقاوات» يتخذ وضع المحمول، لكنه لا يفعل فعله، إذ ليس هناك فرد واحد يحمل عليه.

فإذا جئت تسأل: علام أتحدث حين أقول «العنقاوات ليست موجودة؟» أليس يتحتم أن يكون للعنقاوات «شبه وجود» حتى يتسنى لي الحديث عنها؟ وما دامت العنقاوات لا وجود لها بين الموجودات الفعلية، فلنقل: إنها موجودات وجودا ضمنيا ... إلخ، أقول: إنك إذا جئت تسأل هذا السؤال بعد التحليل الذي أسلفناه، فسيكون جوابنا هو: إنك لا تتحدث حديثا مشروعا، فالأصوات التي نطقت بها هي مجرد أصوات، اتخذت «صورة» الكلام وليست من الكلام في شيء.

ومثل ثالث من المشكلات الميتافيزيقية التي لا تحتمل البقاء تحت أشعة التحليل المنطقي، هذه المشكلة المشهورة التي يثيرها أفلاطون في اجتماع الأضداد في الأشياء الجزئية، مما يخفضها في سلم الوجود، فما دام الشيء الواحد قد يكون كبيرا وصغيرا في آن واحد، أو حارا وباردا في وقت واحد، إذن فهو - عنده - موجود وغير موجود في وقت واحد، وإذن فهو من الأشياء المتغيرة المتعرضة للصيرورة، وليس هو من الحقائق الثابتة الخالدة.

ولنضرب لذلك مثلا هاتين العبارتين الآتيتين: (1)

هذه بطيخة صغيرة. (2)

هذه البطيخة نفسها فاكهة كبيرة (بالقياس إلى البرتقال مثلا)، إذن فالبطيخة - بلغة أفلاطون - صغيرة وكبيرة معا ... إلخ، وإننا في الحق لنعجب عجبا لا ينقضي من أمثال هذه المشكلات يثيرها الفلاسفة من لا شيء! هل يحتاج الأمر هنا إلى إنجاز في التحليل حين نقول: إن العبارة الأولى تنسب البطيخة إلى مجموعة من أفراد غير المجموعة التي تنسبها إليها العبارة الثانية، فلا يكون هنالك تناقض بين أن تكون البطيخة صغيرة بالنسبة إلى أفراد المجموعة الأولى (وهي مجموعة البطيخ) وكبيرة بالنسبة إلى أفراد المجموعة الثانية (وهي مجموعة الأصناف الأخرى من الفاكهة كالبرتقال)؟

يقول بيرتراند رسل في هذه المشكلة الأفلاطونية ما يأتي: «إنني لا أظن أن الاعتراضات المنطقية التي يثيرها أفلاطون ضد وجود الأشياء وجودا حقيقيا، تثبت أمام النقد، فهو يقول مثلا: إن ما هو جميل هو أيضا قبيح من بعض نواحيه، وما هو ضعف هو كذلك نصف ... وهكذا، ولكننا حين نصف أثرا فنيا بأنه جميل من بعض نواحيه قبيح من بعضها الآخر، فإننا نستطيع دائما بواسطة التحليل (على الأقل نظريا) أن نقول: «إن هذا الجزء أو هذه الناحية من الأثر جميلة، بينما ذلك الجزء أو تلك الناحية منه قبيحة.» وأما عن «الضعف» و«النصف» فهذان حدان متضايفان، وليس هنالك تناقض في الحقيقة الواقعة وهي أن 2 ضعف 1 ونصف 4، إن أفلاطون ما ينفك يثير حول نفسه المشكلات من سوء فهمه للحدود المتضايفة، فهو يظن أنه ما دامت أ أكبر من ب وأقل من ج، إذن تكون أ كبيرة وصغيرة في آن معا، وهو الأمر الذي يبدو له متناقضا، وأمثال هذه المشكلات نسلكها في عداد أمراض الطفولة التي أصيبت بها الفلسفة.»

15

4

قدمنا فيما سبق أمثلة للتحليل المنطقي كيف ينتهي باقتلاع المشكلات الميتافيزيقية اقتلاعا من جذورها، وذلك حين تكون المشكلات قائمة على خطأ منطقي في تحليل العبارات وفهمها.

لكن التحليل المنطقي وحده لا يكفي للتخلص من سائر المشكلات التي ما برحت تشغل الميتافيزيقيين، فيجيء التحليل الفلسفي ليجهز على البقية الباقية، فهنالك فرق بين نوعين من التحليل: المنطقي من ناحية، والفلسفي من ناحية أخرى.

وتمهيدا لإبراز الفرق بين هذين النوعين من التحليل، نقول: إن ألفاظ اللغة نوعان؛ أسماء وعلاقات، فأما الأسماء فهي الألفاظ التي تسمى بها الأشياء، فهذا قلم وهذا كتاب وهذه شجرة، وإذن فالألفاظ الثلاثة: «قلم» و«كتاب» و«شجرة» أسماء لأشياء، وأما العلاقات فألفاظ لا تسمي شيئا في عالم «الأشياء»، وإنما تربط الأجزاء في بناء واحد، دون أن تضيف إلى تلك الأجزاء جزءا جديدا، فحين أقول: «إن الكتاب بين المحبرة والمصباح»، لا يكون في عالم الأشياء إلا ثلاثة: «كتاب» و«محبرة» و«مصباح»، أما كلمة «بين» وكلمة «و» فلا تسميان شيئا، وكل عملهما هو أن تربطا الأجزاء الثلاثة الأخرى في بناء واحد لغوي، حتى تجيء العبارة المرتبطة الأجزاء صورة تعكس الواقعة الخارجية «بأشيائها» و«علاقاتها».

ومهمة المنطق الرئيسية هي البحث في هذه الألفاظ التي لا تسمي «شيئا» مثل «كل»، «بعض»، «إما ... أو»، «إذا ... إذن» ... إلخ؛ لأنه حين بحث في هذه الألفاظ «العلاقية» فإنما يبحث في التركيبة الصورية للعبارة ، بغض النظر عن «المادة» التي تملأ ذلك الإطار الصوري، فإذا تناولت هذا التركيب الصوري بالتحليل لأخرج ما يحتويه من علاقات بين أجزائه، كان التحليل منطقيا.

أما إذا تناولت أسماء «الأشياء» بالتحديد والتحليل، فليس ذلك «منطقا»، إنما هو تحليل «فلسفي»، فإذا حللت - مثلا - فكرة العدد أو فكرة المكان أو الزمان أو المادة أو الدولة وما شابه ذلك، فلا أكون عندئذ في مجال البحث المنطقي؛ لأن المنطق صوري بحت، بل أكون في مجال بحث آخر، هو الذي نسميه بالتحليل الفلسفي، ما دام الأمر لا يزال متعلقا بالألفاظ والعبارات؛ (لأنه لو جاوز ذلك إلى وصف الأشياء الخارجية نفسها وتحليلها إلى عناصرها تحليلا مباشرا، كان ذلك علما طبيعيا، فلا هو تحليل منطقي ولا هو تحليل فلسفي).

نقول: إن التحليل المنطقي وحده لا يكفي للقضاء على الميتافيزيقا؛ لأنه يقوم بجانب واحد، وهو بيان أن العبارات الميتافيزيقية تتكشف عن خطأ في فهم قائلها للبناء اللغوي وما ينطوي عليه من روابط وعلاقات، فيجيء التحليل الفلسفي ليجهز على البقية الباقية، إذ يتناول المدركات الفلسفية نفسها بالتحليل، مثل «القيم» و«حرية الإرادة» و«وجود العالم الخارجي» و«شخصية الدولة» وما إلى ذلك، والمشكلة التي عني بها «مور» بصفة خاصة هي مشكلة «وجود العالم الخارجي».

16

في التحليل الفلسفي نهدف إلى التقليل من الألفاظ الاصطلاحية، ولما كانت اللفظة الاصطلاحية الواحدة كثيرا ما تنحل إلى عبارة طويلة من الألفاظ الأخرى المألوفة في الحياة اليومية، كان التحليل في الكثرة الغالبة من الحالات، ينتقل من جملة أقل إلى جملة أكثر في عدد الكلمات، وبهذا وحده يمكن إخراج العناصر التي كانت منطوية في جوف الجملة الأصلية، فمثلا لتحليل عبارة: «إنسان كاذب» نقول: «يكون الإنسان كاذبا إذا قال خبرا على سبيل الإثبات، ليحمل السامع على الحكم بأنه - المتكلم - يعتقد في صدق الخبر، مع أنه في الحقيقة لا يعتقد في صدقه.»

ونحب هنا أن ننبه إلى نقطة هامة، وهي أن القارئ لعبارة ما، قد لا يعلم للوهلة الأولى كم هو يجهل من عناصر معناها، حتى إذا ما فصلت له تلك العناصر، لم يعرف جديدا، بل اتضح له في جلاء ما كان في إدراكه الأول مشوبا بالغموض، وإذا أردت مثلا لذلك فانظر إلى هذه العبارة البسيطة: «زهرة اللعب مكعبة»، هل برزت أمامك كل العناصر المحتواة في المعنى؟ إذا أجبت بالإيجاب فأعود إلى سؤالك: كم حافة لزهرة اللعب؟ إنني لا أدري بماذا ستجيب لنفسك عن هذا السؤال، لكني أرجح أن الإجابة الصحيحة وهي أن للمكعب اثنتي عشرة حافة لن تسرع إلى المثول أمام ذهنك، وإذا كان أمرك هكذا، إذن فلم تكن فكرة تكعيب زهرة اللعب واضحة كل الوضوح كما قد ظننت.

17

ونسوق لك مثلا آخر للتحليل الفلسفي، نحاول فيه أن يجيء بيانا للطريقة التي يهدم بها التحليل الفلسفي مدركات الميتافيزيقا: «تركيا حاربت اليونان.» انظر إلى هذه العبارة تجدها في ظاهرها شديدة الشبه بعبارة مثل: «زيد قاتل عمرا.» ففي كلتا العبارتين ترى طرفين مرتبطين بعلاقة ما، الطرفان في العبارة الأولى هما «تركيا» و«اليونان»، والعلاقة التي تربطهما هي «الحرب»، والطرفان في العبارة الثانية هما «زيد» و«عمرو»، والعلاقة التي تربطهما هي «القتال».

لكن ابدأ في عملية التحليل، تر الفرق واضحا، وتعلم كيف يقع كثير من الأخطاء التي يطلقون عليها اسم ميتافيزيقا، فواضح في العبارة الأولى أن «تركيا» باعتبارها قطعة من الأرض لم تكن هي التي حاربت «اليونان» باعتبارها قطعة من الأرض، وإنما المقصود من كلمتي: «تركيا» و«اليونان» مجموعتان من الناس، مجموعة هنا ومجموعة هناك، بل المقصود - بعبارة أدق - جيشان يتألف كل منهما من أفراد معروفين، كانت المعلومات الفردية عن كل منهم مثبتة في قوائم معينة، ولو أردنا وصفا واقعيا كاملا للحوادث التي نطلق عليها عبارة «تركيا حاربت اليونان»؛ لجعلنا نذكر الأفراد الذين كان يتألف منهم الجيشان فردا فردا، لنقول ماذا صنع كل فرد من هؤلاء وأولئك قولا تفصيليا يذكر أعمال الفرد الواحد عملا عملا، ويذكر لكل عمل ظروفه الزمانية والمكانية، حيث يصبح لدينا في النهاية قائمة طويلة من قضايا أولية، صورة كل منها هي: الفرد «س» التركي قام بالعمل «ص» بالنسبة لليوناني «م» ... وهكذا.

فإن كان مثل هذا التحليل مستحيلا من الوجهة العملية، فأقل ما يهدينا إليه هو ألا نخطئ فنظن أن «تركيا» و«اليونان» كلمتان تطلقان على حقيقتين، كل حقيقة منهما قائمة بذاتها، كما هي الحال في قولنا: «زيد قاتل عمرا.» فليست «تركيا» اسما على مسمى بمثل ما يكون «زيد» اسما على مسمى، وكذلك ليست «اليونان» اسما على مسمى كما يكون «عمرو» اسما على مسمى، ليس هنالك كائن قائم بذاته يشار إليه في لحظة معينة ومكان معين، ويقال: هذه هي «تركيا» أو هذه هي «اليونان»، وإذا عرفنا ذلك، أدركنا أن ما نسميه بلفظة «تركيا» أو بلفظة «اليونان»، هو في الحقيقة تركيبة ذهنية ليس لها ما يطابقها في عالم الأشياء الخارجية، ففي عالم الأشياء الخارجية هذا وهذا وذلك من الأفراد الذين يسكنون قطعة معينة من الأرض، فأبني أنا من هذه المفردات بناء خياليا ذهنيا وأسميه «تركيا» - مثلا - تسهيلا للتفاهم.

بهذا نتخلص من الوهم الميتافيزيقي الذي قد يقع فيه الفلاسفة السياسيون حين يفرضون أن «الشعب» له كيان ووجود قائم بذاته على نحو ما يكون لزيد أو لعمرو من الأفراد كيان ووجود، ومصدر الخطأ أن هنالك «أسماء»، فحسبوا أن لكل اسم مسماه، والحقيقة أن هذه الأسماء لا تشير إلى مسميات خارجية، ولا تعدو أن تكون رموزا للتفاهم السريع.

وأمثال هؤلاء الفلاسفة الميتافيزيقيين، حين يتلفتون حولهم فلا يجدون «دولة» أو «شعبا» بين الموجودات الفردية التي تقوم وتقعد وتأكل وتنام وتمرض وتلبس الثياب، تراهم يبعدون في الوهم فيفرضون بأن «الدولة» - مثلا - كائن من طبقة أعلى من طبقة الكائنات الفردية، وكثيرا ما يخلصون من هذا التفكير إلى نتيجة أو نتائج لها كل الخطر على حياة الأفراد، كأن يقولوا مثلا: إن الدولة أعلى من الفرد في سلم الوجود، وإذن فليس للفرد حق مناهضتها أو الثورة عليها، فإذا ما تناول فيلسوف التحليل هذه الميتافيزيقا بمبضعه؛ وجدها قائمة على غلطة منطقية في فهم العبارات وتحليلها لا أكثر ولا أقل، والغلطة هي الظن بأن العبارة التي ترد فيها كلمة «دولة» أو «أمة» أو «شعب» أو ما هو شبيه بذلك، هي كالعبارة التي تتحدث عن فرد من الأفراد، فإذا فككنا كل عبارة فيها لفظة «دولة» - مثلا - إلى قائمة طويلة من العبارات الأولية التي تتحدث كل منها عن فرد واحد في حالة واحدة من حالاته الكثيرة، تبخرت هذه الأشباح الوهمية وزالت من الوجود، وزالت بالتالي الميتافيزيقا القائمة على أساسها.

وأهم مشكلة عالجها «مور» بهذه الطريقة التحليلية، هي مشكلة العالم الخارجي، إذ ترى أصحاب التفكير الميتافيزيقي يتساءلون: هل العالم الخارجي موجود حقيقة؟ وإن كان موجودا فهل هو واحد أم كثير؟

أتدري كيف أقام «مور» البرهان على هذه المشكلة المزعومة؟ أقامه هكذا: «أستطيع الآن أن أقيم البرهان - مثلا - على أن يدين بشريتين موجودتان، كيف؟ بأن أرفع كلتا يدي، قائلا - وأنا أشير إشارة خاصة بيدي اليمنى: «هذه يد واحدة.» ثم أضيف إلى ذلك قولي - وأنا أشير إشارة خاصة بيدي اليسرى: «وهذه يد أخرى».»

18

هذا في رأى «مور» برهان كاف على أن العالم الخارجي موجود أو على أنه متكثر، وهو برهان لأن المقدمات فيه غير النتيجة (المقدمتان هما: (1) هذه يد. (2) وهذه أخرى. والنتيجة هنالك يدان موجودتان، وقد اعتبر النتيجة مختلفة عن المقدمتين؛ لأنها قد تكون في ذاتها صوابا مع خطأ المقدمتين، إذ تستطيع - مثلا - أن ترفع قلما وتقول هذه يد، ثم ترفع كتابا وتقول: وهذه يد أخرى، ثم تستنتج النتيجة: إذن هنالك يدان موجودتان، فتكون النتيجة صوابا والمقدمتان خطأ، وعلى ذلك فقولي: هذه يد، وتلك أخرى زعم يختلف عن الزعم المثبت في النتيجة وهو: هنالك يدان موجودتان). أقول: إن هذا في رأى «مور» برهان كاف على وجود العالم الخارجي، وعلى أن هذا العالم كثير؛ لأنه مؤلف من مقدمتين ونتيجة، ولأن المقدمتين ثابت صدقهما على أساس «الفهم المشترك»، وإذن تكون النتيجة هي الأخرى صوابا، لكن النتيجة تثبت وجود أكثر من يد واحدة، إذن هنالك - على الأقل - شيئان، هما هاتان اليدان.

لقد توهم الميتافيزيقيون وجود المشكلة؛ لأنهم - كما يبدو - حين تساءلوا: هل العالم الخارجي موجود؟ حسبوا أن هاتين اليدين البشريتين اللتين أعلم بوجودهما علما - يثور علي «الفهم المشترك» لو أنكرت صحته - حسبوا أن هاتين اليدين البشريتين ليستا من الضخامة والفخامة بحيث تكفيان أن تكونا عالما خارجيا، حسبوا أن العالم الخارجي كلمة مجيدة عظيمة غير هذه الأشياء الجزئية اليسيرة التي أعلم بوجودها، لكن فيلسوف التحليل يفك بمشرطه هذه العقدة إلى خيوطها، فإذا هي أيسر جدا مما توهم الميتافيزيقيون.

هكذا جعل «مور» مهمة الفلسفة تحليل العبارات تحليلا منطقيا وتحليلا فلسفيا، توضيحا لمعناها حتى يزلزل الأرض التي تستند عليها الفلسفة التأملية؛ لأن هذه الفلسفة - كما قد أظهر التحليل - قائمة كلها على أغلاط منطقية في فهم العبارات اللغوية. أقول: إن التحليل هو المهمة الرئيسية التي جعلها «مور» شغل الفلسفة وشاغل القائمين بها، فشق بذلك طريقا أمام مدرسة فكرية جديدة، هي التي تستطيع أن تسميها بالمدرسة الفلسفية المعاصرة.

الفصل السادس

الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: أمثلة من التحليل عند بيرتراند رسل

(1) نظريته في تحليل العبارة الوصفية

1

تحليل الكل إلى أجزائه عملية لم يوافق عليها كثير من الفلاسفة منذ أقدم العصور، إذ اعتقد هؤلاء أن تحليل الكل إفساد لحقيقته وإبطال لمعناه؛ لأن الكل الواحد - في رأيهم - ليس مؤلفا من مجرد أجزائه رص بعضها إلى جانب بعض كما اتفق، بل هو وحدة عضوية تضفي على كل جزء من أجزائها معنى يجعله - وهو عضو فيها - مختلفا عنه وهو معزول عنها قائم بمفرده، وكثيرا ما أدى هذا المنطق بأصحابه إلى اعتبار الكون كله حقيقة واحدة يستحيل عليها التكثر والتجزئة.

والذي يهمنا الآن من موقف هؤلاء، هو إحدى نتائجه العجيبة، وهي أن هنالك ضربا من المعرفة يستحيل على التعبير اللفظي في عبارات وكلمات؛ لأنه ما دامت الحقيقة واحدة موحدة، فكيف تبيح لنفسك أن تصفها وتصورها بقطع مجزأة، هي العبارات اللفظية، والألفاظ التي تتألف منها كل عبارة؟

فحسبنا - إذن - دفاعا عن إمكان التحليل، بل دفاعا عن وجوبه، أن نقول إنه لا مندوحة لنا عن التعبير عما نعرفه بلغة كائنة ما كانت ، ولا مندوحة للغة عن تجزئة ألفاظها وعباراتها ، «فالجمل مؤلفة من كلمات، والكلمات المطبوعة مؤلفة من أحرف، والمؤلف الذي يقدم كتابا للطبع، يجمع له عمال الطباعة قطعا منفصلة هي أحرف الطباعة، يجمعونها في نظام معين، ومع ذلك فلو كان صاحب الكتاب فيلسوفا [من القائلين باستحالة التحليل]، فقد يكون في كتابه هذا ما يقرر به أن الفكر يستحيل تصويره بسلسلة من الأشياء المادية مهما يكن نوعها ... إن الفكر الذي يمكن انتقاله بين الناس، لا يمكن أن يبلغ من كثرة العناصر وتعقدها حدا يصبح معه محالا أن يتركب من أحرف الهجاء وتشكيلاتها المختلفة الممكنة، فقد يكون شيكسبير غاية في عبقرية العقل، لكن هذه العبقرية كلها لا يمكن أن تجيئنا إلا في ترقيمات سوداء على ورق أبيض، والذين يقولون إن الكلمات تبطل حقيقة الواقع ينسون أن الكلمات في ذاتها حقيقة واقعة، وأن الجمل والكلمات - باعتبارها حقائق واقعة - مؤلفة من أجزاء منفصل بعضها عن بعض، لكل جزء منها اسم خاص به [هي أسماء أحرف الهجاء] ... وإذن فلا شك أبدا في أن بعض الحقائق الواقعة يمكن تحليله إلى أجزائه.»

1

فالتحليل ممكن، بل هو عملية ضرورية أحيانا إذا أردنا أن نحسن فهم الكل الذي نحلله، ومما يجب تحليله لحسن فهمه عبارات اللغة التي نستخدمها في العلم وفي شئون حياتنا اليومية، ليتم بها التفاهم، وتحليل الجملة عند «برتراند رسل» يبدأ أولا بتمييز مكوناتها بعضها من بعض؛ لتحليل كل منها على حدة،

2

حتى إذا ما تم لنا ذلك، عدنا إلى العبارة كلها لنحاول فهمها على ضوء ذلك التحليل.

ومن الأجزاء التي عني «رسل» بتحليلها «العبارات الوصفية»،

3

التي جاء تحليله لها من الأهمية في فلسفته، بل في الفلسفة المعاصرة كلها، بحيث استدعى تعليقات لا حصر لها في المؤلفات والدوريات الفلسفية الحديثة، وها نحن أولاء باسطون لك موضوع البحث، شارحون لك أهم عناصره.

2

أشار «رامزي» - وهو ذو مكانة ملحوظة في التحليل الفلسفي المعاصر - إلى نظرية «رسل» في «العبارات الوصفية»، فقال عنها: «إنها نموذج للفلسفة.»

4

فما هي العبارات الوصفية؟ وماذا يرى «رسل » في تحليلها؟

يبين «رسل» ما يعنيه ب «العبارة الوصفية» بيانا صريحا،

5

إذ يقول في كتابه «مقدمة للفلسفة الرياضية»:

6 «العبارة الوصفية قد تكون أحد نوعين: فهي إما خاصة

7

أو عامة،

8

أما العامة فهي ما دلت على نكرة، وأما الخاصة فهي ما دلت على معرفة فرد بذاته.»

9

ونبدأ الحديث بتحليل العبارة الوصفية العامة:

المراد بالعبارة الوصفية العامة عبارة - وقد تكون كلمة واحدة - دالة على أفراد كثيرين من جنس واحد، كقولنا: «رجل»، «رئيس جمهورية»، «جبل من الذهب» ... إلخ، وسؤالنا الآن هو: ماذا أقرر على وجه الدقة حين أقول كلاما فيه عبارة وصفية عامة، كأن أقول مثلا: قابلت رجلا؟

هبني صادقا فيما أقول، حين أقول: «قابلت رجلا»، وافرض أن الرجل الذي قابلته فعلا هو «العقاد»، فمن الواضح أن عبارتي «قابلت رجلا» و«قابلت العقاد» ليستا متساويتين، ويكفي لبيان ذلك أن نلاحظ بأنني قد أكون صادقا في العبارة الأولى، وكاذبا في العبارة الثانية، إذ ربما أكون قد قابلت رجلا، لكن هذا الرجل لم يكن هو العقاد، ولو كانت العبارتان متساويتين؛ لصدقتا معا أو كذبتا معا، ولاستحال أن تصدق إحداهما على حين قد تكذب الأخرى.

إن قولي: «قابلت رجلا» لا يتعين به أني قابلت فردا بذاته من الناس كزيد أو عمرو، بل مثل هذا القول لا يتعين به أن يكون للفظ «رجل» مسميات حقيقية واقعة في عالم الأشياء، بدليل أني قد أقول: «قابلت غولا» أو «قابلت عنقاء»، ويكون لقولي هذا معناه عند السامع - إذا فرضنا أن «الغول» و«العنقاء» محددة الأوصاف معلومة الصورة - على الرغم من أنه ليس هناك في عالم الأشياء الواقعة غول حقيقي أو عنقاء حقيقية؛ لأنها كائنات من تصوير الخيال.

فأنا حين أقول: «قابلت رجلا»، فإنما أعني بكلمة «رجل» مجموعة من صفات تنطبق على هذا وهذا وذاك من أفراد الناس، فهي أوصاف عامة، أتصورها بالذهن، حتى ولو لم يكن هناك الفرد الذي تنطبق عليه، إذ الأمر هنا لا يزيد ولا يقل عن الأمر في العبارات التي تتحدث عن كائنات خيالية كالغول والعنقاء.

وعلى ذلك فالمراد بالعبارة الوصفية العامة هو المدرك العقلي لا الأفراد الحقيقيون الواقعون في عالم الأشياء.

إننا نحب للقارئ أن يعي هذا المعنى؛ لأنه سيكون بعيد الأثر في هدمنا للعبارات الميتافيزيقية، ونكرر نفس المعنى بعبارة أخرى لزيادة الإيضاح فنقول: إن الألفاظ التي اصطلحنا على تسميتها ب«الألفاظ الكلية»، مثل رجل وشجرة ونهر، ليست في الواقع إلا عبارات وصفية، ليست بذاتها دليلا على وجود أفراد لها، وهذا يصدق على كل لفظة كلية في اللغة: لفظة «كتاب» تدل على مجموعة صفات أتصورها وقد لا يكون لها مسمى في الواقع، وكلمة «نهر» تدل على مجموعة صفات أتصورها وقد لا يكون لها مسمى في الواقع ... وهكذا.

ومن هنا يتضح وجه الشبه، كما يتضح وجه الاختلاف، بين عبارة تتحدث عن شيء حقيقي، وأخرى تتحدث عن شيء خيالي وهمي، فكلتا العبارتين تكون مفهومة للسامع على حد سواء، فلا فرق من حيث الفهم بين أن أقول: «قابلت رجلا»، أو أن أقول: «قابلت غولا»، إذا كان للغول صفات معلومة محدودة، لكن تعود العبارتان فتختلفان من حيث إن للأولى أفرادا في عالم الواقع، وأنها قد تصدق على أي فرد منهم، وأما الثانية فعلى الرغم من أني قد أفهم معناها، فليس في عالم الواقع أفراد بحيث تصدق على هذا أو ذاك من هؤلاء الأفراد.

إننا بهذا التحليل نتخلص من إشكال ذي بال عند بعض الفلاسفة، خاص بالكائنات التي ليست بذات وجود فعلي، مثل «غول» و«عنقاء» و«المربع الدائري»، فيقول هؤلاء الفلاسفة: كيف يمكن أن أتحدث عن هذه الأشياء إذا لم يكن لها وجود إطلاقا بأي معنى من معانيه؟ لهذا تراهم يقترحون جعل الوجود درجات، منها ما هو وجود فعلي

10

يتمثل في أفراد حقيقية، ومنها ما هو وجود ضمني

11

يتيح لنا أن نتحدث عن أمثال هذه الكائنات التي لا وجود لها في عالم الأشياء الواقعة.

وللفيلسوف النمساوي «مينونج»

Meinong

في أنواع الكائنات رأي ساقه حين تعرض لتحليل «العبارة الوصفية» في نفس الوقت تقريبا الذي تعرض فيه «رسل» لنفس الموضوع أول مرة في كتابه «أصول الرياضة» (سنة 1903م)، وفيما يلي ملخص لرأي «مينونج» في ذلك، نذكره لما كان له من الأهمية عند «رسل»، إذ تناوله هذا بالعرض والنقد.

يقول «مينونج»: إن العبارات - أو الكلمات - الدالة على أوصاف عامة مما يمكن منطقيا تطبيقها على أفراد كثيرة، ثلاثة أنواع: (1)

فمنها ما ينطبق فعلا على مسميات جزئية موجودة وجودا حقيقيا، مثل «إنسان». (2)

ومنها ما ليست له أفراد حقيقية ينطبق عليها، لكن وجودها ممكن من الناحية المنطقية، إذ ليس هنالك تناقض يجعل وجودها مستحيلا، مثل «غول». (3)

ومنها ما يستحيل منطقيا أن توجد له أفراد ينطبق عليها؛ لما فيها من تناقض، مثل «مربع دائري».

لكن «مينونج» - مع ذلك - يري أن لكل فكرة نتحدث عنها شيئا يقابلها، وإلا لاستحال التحدث عنها، ومن ثم فهو يقسم الكائنات أنواعا ثلاثة: (1) موجودات حقيقية. (2) موجودات ضمنية. (3) موجودات خالصة. الأولى مثل «إنسان»، والثانية مثل «غول»، والثالثة مثل «مربع دائري».

3

مصدر هذه المشكلة - مشكلة الكائنات الوهمية - هو أن معظم المناطقة الذين عالجوا هذه النقطة، قد ضللهم النحو عن المنطق، فاعتبروا التشابه في الصورة النحوية تشابها في الصورة المنطقية أيضا، فعبارتا «قابلت رجلا» و«قابلت العقاد» عندهم من ضرب منطقي واحد، ما دامتا من صورة نحوية واحدة؛ ولذلك كانتا تعدان في المنطق التقليدي قضيتين من قالب واحد، مع أن الصورة المنطقية مختلفة في الأولى عنها في الثانية أشد اختلاف.

عبارة «قابلت العقاد» قضية فردية بسيطة، تصدق أو تكذب حسب مطابقتها أو عدم مطابقتها لما وقع في العالم الخارجي من حوادث، أما عبارة «قابلت رجلا» فليست بالقضية، وإنما هي «دالة قضية»،

12

ودالة القضية هي صورة فارغة لا يمكن تصديقها أو تكذيبها إلا بعد ملء ما فيها من فراغ بأسماء أفراد جزئية، فعبارة «س عمره عشرون عاما» صورة قضية؛ لأنني لا أستطيع القول إن كانت صادقة أو كاذبة إلا بعد أن أضع مكان س اسم فرد جزئي، بحيث تصبح مثلا «فيصل ملك العراق عمره عشرون عاما». «قابلت رجلا» دالة قضية لا قضية، وتحليلها هو [«قابلت س» و«س إنسان» دالة تصدق على فرد واحد على الأقل ]، وبهذه العبارة الأخيرة يتضح الفرق بين عبارة تتحدث عن أشياء ذوات وجود حقيقي، مثل «قابلت رجلا»، وأخرى تتحدث عن أشياء ليس لها وجود حقيقي مثل «قابلت غولا»؛ لأنه في هذه الحالة لن تصدق الدالة على «الفرد الواحد على الأقل».

وإذن فالذين يستنتجون من مجرد تحدثنا عن كلمات دالة على أوصاف عامة، وجود كائنات تكون بمثابة المسميات لتلك الكلمات - كما فعل مينونج وقدمنا شرح رأيه - قد أخطأوا لخلطهم بين القضية ودالة القضية، إنهم تصوروا أن قولنا: «قابلت غولا» قضية، وإذن فهي حديث عن شيء ما، وإذن فلا بد أن يكون لذلك الشيء نوع من الوجود المنطقي، وإلا لخلت القضية من معناها، مع أن العبارة التي من هذا القبيل، أعني العبارة التي تتحدث عن كلمة دالة على أوصاف عامة، هي دالة قضية، لا تتحدث عن شيء، ولا تتحول قضية متحدثة عن شيء إلا إذا أحللنا اسم علم مكان الكلمة ذات المعنى الكلي، وهذا ممكن في مثل قولي: «قابلت رجلا»، بأن أجعلها «قابلت العقاد»، وغير ممكن في مثل قولي: «قابلت غولا»، ومن ثم كانت العبارة الأولى مشيرة إلى فرد ما من أفراد الوجود الواقعي، على حين أن الثانية لا تشير إلى أحد.

ما الفرق بين وجود «هاملت» - وهو شخص خيالي في الأدب - وبين وجود «نابليون» - وهو شخص حقيقي في التاريخ؟ إن كلا منهما قد ورد اسمه في مجموعة عبارات مكتوبة في الكتب، لكن الأمر في حالة هاملت ينتهي عند حد هذه العبارات المكتوبة، أما في حالة نابليون، فقد كان في عالم الأشياء - بالإضافة إلى العبارات المكتوبة - كائن من لحم ودم يمشي ويحارب ويخطب في الناس.

13

وهكذا قل في العبارة التي تتحدث عن «رجل» والأخرى التي تتحدث عن «غول»، فلكل منهما معنى يفهمه السامع، وإلى هنا يتشابهان، لكنهما يعودان فيختلفان في أن الأولى يمكن تحويلها إلى قضية عن فرد معين له اسم معروف، وأما الثانية فتقف عند حد فهم معناها، بعبارة اصطلاحية: الأولى دالة قضية يمكن تحويلها إلى قضية، والثانية دالة قضية لا يمكن تحويلها إلى قضية.

4

الجملة المحتوية على عبارة (أو كلمة) وصفية عامة هي دالة قضية وليست قضية، أعني أنه لا يجوز الحكم عليها بصدق أو كذب إلا إذا رددناها إلى قضية أولا، وأعني مرة ثانية أنها لا تصلح موضوعا لمناقشة أو لاختلاف في الرأي ما دامت باقية على حالها لم ترتد إلى قضية.

ولنضرب مثلا لذلك كلمة «إنسان»، هذه نعدها «عبارة وصفية عامة»، أي إنها ليست اسما يسمي هذا الفرد المعين أو ذاك الفرد المعين، ليست هي ككلمة «العقاد» مثلا؛ لأن هذه الكلمة الأخيرة تعين فردا بذاته ولا تطلق على سواه، ليست كلمة «إنسان» اسما خاصا لفرد معين معلوم، بل هي «وصف عام»، فإذا وردت في جملة مثل «الإنسان فان»، فإن هذه الجملة لا تكون - كما ظن المنطق التقليدي - قضية يجوز وصفها بالصدق أو بالكذب، إذ ليس في عالم الأفراد فرد اسمه «الإنسان»، بحيث يمكننا أن نرجع إليه لنرى إن كان فانيا أو غير فان.

تحليل كلمة «إنسان» وحدها هو «

متصف بالخصائص البشرية»، و« » هنا رمز لفرد معين تستطيع أن تشير إليه بقولك «هذا»، وإذن فتحليل جملة «الإنسان فان» هو «

متصف بالخصائص البشرية»، و«

فان»، عندئذ نستطيع - إذا أردنا - أن نحقق هذا الكلام تحقيقا مباشرا؛ لنعلم أصادق هو أم كاذب؛ لأننا سنجد الفرد « » في عالم الأفراد، وليكن «العقاد» مثلا، وسنرى إن كان موصوفا بكذا وكذا من الصفات أو لم يكن، وإن كان فانيا أو لم يكن.

وإذا كانت العبارة موضوع التحليل مؤلفة من موضوع وصفتين مثل قولنا: «الإنسان عاقل فان.» فإن تحليلها يكون - على نفس القاعدة السابقة - هو: «

متصف بالخصائص البشرية.» و«

عاقل.» و«

فان.» فنحن في هذه الحالة أيضا نستطيع أن نرجع إلى « » هذا في عالم الواقع؛ لنرى إن كان عاقلا وفانيا أو لم يكن، بحيث نتمكن من الحكم على العبارة الأولى بالصدق أو بالكذب.

وإذا استخدمنا الرموز المألوفة في كتب المنطق الرمزي، لندل على هذا الذي أسلفناه كانت الصيغة كما يلي : «الإنسان فان» صيغتها الرمزية هي «س »، فنحن هنا نرمز بالرمز «س» للخصائص البشرية، ونرمز بالرمز « » لفرد معين من الناس كالعقاد أو غيره.

وعبارة: «الإنسان عاقل فان» صيغتها الرمزية هي «س س » مع العلم بأن الرمز «س» يرمز إلى صفة كونه عاقلا، والرمز «س» إلى صفة كونه فانيا، والرمز « » إلى فرد معين من الناس.

وما حاصل هذا كله؟ حاصله أنا تخلصنا من كلمة «إنسان» وأحللنا مكانها فردا معينا، وبهذا نمكن لأنفسنا أن نرى إن كان الكلام صحيحا أو فاسدا، على حين أننا إذا أبقينا كلمة «إنسان» على حالها فسنظن خطأ أن هنالك في عالم الأشياء شيئا اسمه «إنسان» موصوفا بكذا وكذا، فإذا رجعنا إلى عالم الأشياء المحسوسة ولم نجد هذا «الإنسان» العام، شطح بنا الوهم إلى افتراض وجود «الإنسان» العام في عالم غير هذا العالم المحسوس، كما فعل أفلاطون مثلا في نظرية المثل.

وهنا نصل إلى بيت القصيد، فالغاية التي استهدفناها بهذا البحث كله هي مهاجمة الميتافيزيقا واعتبارها كلاما فارغا، نشأ من عجز الميتافيزيقيين عن تحليل عباراتهم تحليلا صحيحا.

خذ هذه العبارة الميتافيزيقية مثلا: «الروح خالدة» وحللها على ضوء ما قلناه، تجد أنها ليست - كما ظن المنطق التقليدي - قضية، وبالتالي فهي ليست مما يوصف بصدق وكذب، وبعبارة أخرى: ليست هي مما يجوز فيه المناقشة والكلام ما دامت على حالها هذه، إذ هي دالة قضية بمعنى أنها تقدم لنا عبارة مثقوبة فيها خانة شاغرة، ولا يجوز اعتبارها كلاما تاما إلا إذا سددنا هذا الفراغ فيها.

ذلك لأن جملة «الروح خالدة» - شأنها في ذلك شأن الجملة التي حللناها وهي «الإنسان فان» - تنحل إلى ما يأتي: « » روح، و« » خالدة حين تكون « » رمزا لفرد معين في عالم الأفراد في دنيا الواقع، فلا بد من الرجوع إلى عالم الأشياء الواقعة أولا، باحثين عن الفرد « » الذي زعمنا وجوده، والذي أردنا وصفه بكذا وكذا، لنرى هل هذا الفرد فيه الصفة المزعومة أم لا ... فإذا استحال بطبيعة الموقف أن نجد في عالم الأفراد مثل هذا الفرد « » الذي جعلناه موضوع حديثنا، كان الكلام فارغا من كل معنى؛ لأنه فقد صفة الكلام الرئيسية، وهي أن يتاح لنا وصفه بالصدق أو بالكذب.

5

إلى هنا كان الحديث منصبا على العبارة الوصفية العامة التي تنطبق على أفراد كثيرين، ورأينا أن النقطة الرئيسية في تحليلها هي أن ننظر إليها باعتبارها دالة قضية تتحدث عن مجهول، ولا مندوحة لنا عن استبدال فرد معلوم بذلك المجهول، قبل أن يتاح لنا أن نجعل من العبارة كلاما يصح فيه الجدل والمناقشة.

وننتقل الآن إلى النوع الثاني من العبارة الوصفية، وهو «العبارة الوصفية الخاصة» التي لا تنطبق إلا على فرد واحد، شأنها في ذلك التخصيص شأن اسم العلم، فالعبارة الوصفية «مؤلف كتاب الأيام» تحدد فردا بذاته، كما يحدده اسمه الخاص وهو «طه حسين».

غير أن العبارة التي تحتوي على اسم العلم لا تتعرض في تحليلها لنفس المشكلات التي تتعرض لها الجملة التي تحتوي على عبارة وصفية خاصة رامزة إلى الفرد الذي يرمز إليه اسم العلم؛ ذلك لأنه على الرغم من تساوي الدلالة الرمزية بين اسم العلم وبين العبارة الوصفية الخاصة في تمييز الفرد المسمى، إلا أنهما ليسا متساويين تساويا مطلقا، ولو كانت عبارة «مؤلف كتاب الأيام» مساوية تماما من كل الوجوه للاسم «طه حسين» لأمكن أن نحل الواحدة مكان الأخرى دون أن يتأثر المعنى نقصا أو زيادة، لكن ليس ذلك هو الواقع؛ لأننا في قولنا «مؤلف كتاب الأيام هو طه حسين» لا نقول فقط ما نقوله بعبارة «طه حسين هو طه حسين.» في الحالة الأولى نذكر حقيقة من حقائق التاريخ الأدبي، وفي الحالة الثانية نقول عبارة جوفاء، وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يكون للعبارة الوصفية الخاصة تحليل غير تحليل اسم العلم، فما هو؟

إن أول ما يسترعي النظر في المقارنة بين اسم العلم وبين العبارة الوصفية الخاصة، هو أن اسم العلم رمز بسيط لا ينحل إلى أجزاء أبسط منه؛ لأن أجزاءه أحرف الهجاء التي ليست رموزا في هذه الحالة، وأما العبارة الوصفية الخاصة فمكونة من أجزاء هي بدورها رموز ذات دلالة معلومة قبل أن تتألف معا لتكون عبارة وصفية دالة على فرد بذاته، ففي قولنا: «مؤلف كتاب الأيام» قد استعملنا كلمة «مؤلف» وكلمة «كتاب»، وكل منهما بدورها رمز له دلالته المستقلة (لاحظ أن كلا منهما عبارة وصفية عامة).

واسم العلم الذي هو رمز بسيط غير قابل للتحليل، إنما يدل على معناه دلالة مباشرة، فالفرد المعين المعلوم الذي هو طه حسين، يشار إليه مباشرة باسمه، فكأن اسمه يشير إلى معناه دون الحاجة إلى إضافة كلمات أخرى إليه تساعده إلى إفراد مسماه من بين سائر الأشياء، وأما العبارة الوصفية الخاصة فمعناها تحدده معاني أجزائها.

ويترتب على ذلك عدم جواز الشك في وجود مسمى اسم العلم وجودا حقيقيا، وجواز هذا الشك في حالة العبارة الوصفية الخاصة، ذلك لأنه إذا لم يكن هنالك فرد معين بذاته موجود وجودا حقيقيا واقعيا، لما أمكن - من الوجهة المنطقية - أن نطلق عليه اسما، إذ إن الكائن الفرد يوجد أولا، ثم نطلق عليه اسمه المميز ثانيا، وإذن فعبارة مثل «طه حسين موجود» عبارة لا تزيد في معناها عن قولنا «طه حسين» فقط؛ لأن مجرد ذكر اسم العلم كاف وحده للدلالة على وجود المسمى وجودا يملأ الآن - أو ملأ فيما مضى - لحظات من زمان ومسافات من مكان.

وليس الأمر كذلك في حالة العبارة الوصفية الخاصة؛ لأن هنالك حالات نصوغ فيها عبارة من هذا النوع، دون أن يكون لها مسمى في الواقع، كقولنا: «ملك فرنسا الحالي»، إذ ليس في فرنسا أحد اليوم يكون ملكا عليها.

ولهذا أمكن أن نعرف قائمة طويلة من العبارات الوصفية الخاصة المشيرة كلها إلى شخص بعينه، دون أن نعرف من هو ذلك الشخص، أي دون أن نعرف اسمه العلم، ففي القصة البوليسية تتجمع قضايا كثيرة فيها أوصاف مختلفة، كلها يدور حول الرجل الذي فعل الفعلة، دون أن نعرف أنه فلان بالذات.

وما دمنا قد فرقنا هذه التفرقة الدقيقة بين اسم العلم وبين العبارة الوصفية الخاصة، فجعلنا اسم العلم دالا حتما على وجود مسماه، لدرجة أن عبارة مثل «أ موجود» تكون عبارة بغير معنى (على فرض أن «أ» اسم علم لفرد معين)، في حين أنا قد جعلنا العبارة الوصفية الخاصة معتمدة في معناها على معاني أجزائها، وبالتالي أجزنا ألا يكون مسماها ذا وجود فعلي حقيقي، أقول: إننا ما دمنا قد فرقنا هذه التفرقة الدقيقة بين اسم العلم وبين العبارة الوصفية الخاصة، فيحسن أن نحصر اسم العلم في أسماء الإشارة وحدها، مثل «هذا» و«ذلك»، إذ لا يعقل أن تشير قائلا «هذا» دون أن يكون هنالك الفرد المشار إليه.

أما ما اصطلحنا على تسميته باسم علم، مثل «العقاد» و«طه حسين» و«شيكسبير» و«هومر» و«القاهرة» و«جبل المقطم» ... إلخ، فهي في الحقيقة أوصاف، فاسم «هومر» - مثلا - إن هو إلا عبارة وصفية لشخص قد يكون موجودا وقد لا يكون، ومن الأوصاف التي تدل عليها أنه شاعر وأنه مؤلف الإلياذة والأوديسية، وأنه ضرير، وأنه يوناني قديم، وما دام الأمر كذلك، فهو - كأي عبارة وصفية أخرى - يجوز ألا يكون له مسمى في عالم الأفراد.

14

6

ومهما يكن من أمر، فإننا نخلص من هذا كله إلى أن العبارة المشتملة على علم، تختلف في التحليل عن العبارة المشتملة على عبارة وصفية خاصة، وسبيلنا الآن أن نتعقب العناصر التي تجعل العبارة الوصفية الخاصة شيئا غير اسم العلم، حتى وإن كانا دالين على مسمى واحد.

اختار «رسل» جملة محتوية على عبارة وصفية خاصة، ليتناولها بالتحليل فتكون نموذجا لمثيلاتها، وتحليله لهذه الجملة هو الذي دعا «رامزي» إلى أن يقول عنه عبارته التي وضعناها في صدر الفقرة الثانية من فقرات هذا الفصل، وهي أن تحليله ذاك نموذج للفلسفة، وهذه الجملة المختارة هي «مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا»؛

15

ولهذا نحب أن نحتفظ بها مثلا، إذ قد أصبح لها ذيوع واسع في المؤلفات الفلسفية الحديثة كلها، التي تتناول تحليل العبارات بالتعليق والنقد.

يقول «رسل»: إن جملة «مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا» تنحل إلى قضايا ثلاث هي: (1)

على الأقل شخص واحد كتب ويفرلي. (2)

على الأكثر شخص واحد كتب ويفرلي. (3)

أيا من كان كاتب ويفرلي فهو اسكتلندي.

فهذه القضايا الثلاثة جميعا يتضمنها قولنا إن مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا، ولا تكفي منها أية واحدة، ولا أية اثنتين لتفي بالمعنى كله الذي تحمله الجملة الأصلية، والعكس صحيح أيضا، وهو أن هذه القضايا الثلاثة معا تعني الجملة الأصلية، بعبارة أخرى: إن الجملة الأصلية تقتضي هذه القضايا الثلاثة معا، وهذه القضايا الثلاثة معا تقتضي الجملة الأصلية، ومن ثم كانت القضايا الثلاثة معا تحديدا لمعنى الجملة الأصلية.

هذه القضايا الثلاث مستقلة كل منها عن الأخرى، أي إن واحدة منها لا تتضمن واحدة،

16

بدليل أن صدق أو كذب الواحدة لا يعني شيئا بالنسبة إلى صدق أو كذب الاثنتين الأخريين.

وتستطيع تطبيق هذا المثل على كل ما يشبهه، فالجملة: «أول رئيس للولايات المتحدة كان اسمه «جفرسن» تنحل إلى القضايا الثلاث الآتية: (1)

على الأقل شخص واحد كان رئيسا للولايات المتحدة قبل سواه. (2)

وعلى الأكثر شخص واحد كان رئيسا للولايات المتحدة قبل سواه. (3)

أيا من كان الرئيس الأول للولايات المتحدة فقد كان اسمه جفرسن.

والجملة: «سيكون الكتاب التالي الذي أقرؤه كتابا فرنسيا» تنحل إلى القضايا الثلاث الآتية: (1) على الأقل كتاب واحد سأقرؤه قبل أن أقرأ سواه. (2) على الأكثر كتاب واحد سأقرؤه قبل أن أقرأ سواه. (3) أيا ما كان الكتاب التالي الذي سأقرؤه فسيكون كتابا فرنسيا.

يقول «مور» تعليقا على هذا التحليل: «إنه بديهي - فيما أرى - بمجرد الإشارة إليه، لكن هل أشار إليه أحد قبل «رسل»؟ لست أدري، لكن يظهر لي أنه - في الفلسفة - كثيرا ما يكون عملا عظيما أن نلاحظ شيئا نراه غاية في الوضوح بمجرد ملاحظته، لكنه لم يكن قد لوحظ من قبل، وإني لأميل إلى الاعتقاد أن «رسل» قد أدى عملا عظيما حين لاحظ هذه الحقيقة الواضحة البينة.»

17

وهي أن الجملة التي من طراز «مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا» تنحل إلى قضايا ثلاث من طراز القضايا الثلاث التي أسلفنا ذكرها.

7

لعلك قد لاحظت أننا إذ أردنا أن نحلل العبارة الوصفية الخاصة «مؤلف ويفرلي» لم نتناولها وحدها، بل وضعنا في جملة كاملة، هي «مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا»، ثم أخذنا في تحليل الجملة على أنها وحدة، فلماذا لم نفرد عبارة «مؤلف ويفرلي» وحدها لنخضعها للتحليل؟

الجواب عن هذا السؤال يبرز لنا أصلا من أهم الأصول التي وضعها «رسل» في التحليل، وهو أن العبارة الوصفية - عامة كانت أو خاصة - يستحيل تعريفها وهي وحدها؛ لأنها رمز ناقص،

18

فأية عبارة وصفية كائنة ما كانت، مثل «ملك فرنسا» و«مدير الجامعة» ... إلخ «لا ينبغي أن يفرض فيها أنها ذات معنى وهي بمفردها، ولا يكون تعريفها ممكنا إلا إذا وضعت في سياق.»

19

فإذا أردنا تعريف عبارة وصفية فلا يجوز لنا أن نحاول تعريفها في ذاتها كوحدة قائمة وحدها، بل لا بد أن نعرف القضية كلها التي وردت فيها العبارة الوصفية؛ لأن العبارات الوصفية «رموز غير كاملة».

20

فافرض مثلا أننا نريد تعريف عبارة «ملك فرنسا»، عندئذ يجب وضعها أولا في جملة، مثل: «ملك فرنسا عاقل.» ثم نأخذ في تحليل هذه الجملة إلى القضايا الثلاث الآتية: (1) هنالك شخص واحد على الأقل هو ملك فرنسا. (2) وهنالك شخص واحد على الأكثر هو ملك فرنسا. (3) وأيا من كان ملك فرنسا فهو عاقل.

ولكي ترى أن تعريف عبارة «ملك فرنسا» وحدها غير ممكن، اطرح لفظة «عاقل» - في المثل السابق - من المعرف ومن التعريف معا، وبديهي أن ما يتبقى لديك من التعريف بعد حذف «عاقل» منه، هو التعريف المطلوب للمعرف بعد حذف «عاقل» منه أيضا، فينتج لديك من عملية الطرح هذه، أن تعريف «ملك فرنسا» هو: «هنالك شخص واحد على الأقل هو ملك فرنسا، وهنالك شخص واحد على الأكثر هو ملك فرنسا، وأيا من كان ملك فرنسا فهو»، وبديهي أنك لا تستطيع أن تستخدم هذا التعريف في كل الحالات التي تستخدم فيها المعرف، فلو كان ملك فرنسا واقفا أمامك وأنت تستطيع أن تشير إليه بإصبعك قائلا: هذا ملك فرنسا، لكنك لا تستطيع أن تشير إليه قائلا: هذا هنالك شخص واحد على الأقل ... إلى آخر التعريف، وهذا وحده كاف للدلالة على أن التعريف ليس مساويا للمعرف، أي إنه بعبارة أخرى ليس تعريفا صحيحا.

الرمز الكامل هو ما دل حتما على شيء مرموز له، وما دامت العبارة الوصفية ليست رمزا كاملا، فلا يتحتم أن يكون لها مسمى بين أشياء العالم الواقع، ومن ثم جاز أحيانا أن نصادف كلاما نفهمه دون أن يكون له مدلولات خارجية، ومن ثم أيضا يزول الإشكال المنطقي القديم الذي حير الفلاسفة وأربكهم وأوقعهم في كثير من الخطأ، وهو: كيف يمكن أن يكون لدينا أسماء ولا يكون لها مسميات؟ لذلك كنت تراهم بمجرد وجود الاسم أمامهم، يفرضون وجود مسماه حتى ولو لم يقع لهم ذلك المسمى في مجال خبرتهم، وهكذا نشأت الكائنات الكثيرة الوهمية التي يجعلها الميتافيزيقيون موضوعات لأبحاثهم، مع أنها منذ البداية وهم خلقته اللغة خلقا على غير أساس مقبول. يقول الأستاذ «آير»: يبدو لي أن إحدى المزايا العظيمة لنظرية «رسل» في العبارات الوصفية، هي أنها تلقي ضوءا على استعمال طائفة معينة من العبارات في حديثنا المألوف، وتلك نقطة لها أهمية فلسفية؛ ذلك لأنه حين بين أن عبارات مثل «الملك الحالي لفرنسا» لا تؤدي وظيفة اسم العلم، قد فضح المغالطة التي أدت بالفلاسفة إلى الاعتقاد بموجودات ضمنية

Subsistent entities .»

21

8

قد أسلفنا لك شرح «العبارات الوصفية» بنوعيها العام والخاص؛ فالعبارة الوصفية العامة، مثل كلمة «إنسان»، تشير إلى أي فرد - لا إلى فرد معين بذاته - ما دام متصفا بالأوصاف التي تمثلها كلمة «إنسان»، والعبارة الوصفية الخاصة - مثل «أطول نهر في العالم» - تشير إلى شيء مفرد معين، كأنها اسم يسميه ويميزه من سائر الأشياء، غير أنها تسميه عن طريق أوصافه، وأهمية ذلك من الناحية المنطقية هي أنه لا يشترط حتما أن يكون ذلك الفرد موجودا وجودا حقيقيا، ولو أننا نستطيع أن نتصور صورة لما يمكن أن يوجد لو كان للشيء المسمى وجود، هذا بخلاف اسم العلم، فإنه يستحيل أن يقوم بغير قيام الفرد المسمى، ومن ثم حصر «رسل» أسماء الأعلام في كلمات مثل «هذا» و«ذلك»؛ لأنها أسماء تشير إلى فرد هنا أو فرد هناك، وما لم يوجد ما نشير إليه لما أمكن منطقيا أن نشير بقولنا «هذا» و«ذلك».

ونحب أن نلاحظ لك على سبيل الزيادة في الإيضاح، أن الفرق الجوهري بين العبارة الوصفية العامة والعبارة الوصفية الخاصة، هو أن الثانية تخصيص الفرد المسمى، بينما الأولى لا تخصص فردا بذاته، ولعلك تذكر تحليل العبارة الوصفية الخاصة «مؤلف ويفرلي» في جملة «مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا»، أقول: لعلك تذكر أن «رسل» حين حلل عبارة «مؤلف ويفرلي» حلها إلى قضايا، أولاها قضية «على الأقل فرد واحد كتب ويفرلي»، وثانيتها «على الأكثر فرد واحد كتب ويفرلي»، فإذا ضممت هاتين القضيتين إحداهما إلى الأخرى، وجدت أن الحاصل هو تفرد المسمى وجعله شخصا واحدا بذاته.

وأهمية نظرية «العبارات الوصفية» عند «رسل» هي أنها تنسق فلسفته في المعرفة الإنسانية، فهو يذهب إلى أن للمعرفة جانبين: (1) معرفة بالاتصال المباشر.

22

و(2) معرفة بالوصف.

23

أما الأولى فهي تلك التي ندركها إدراكا مباشرا بغير حاجة إلى أية عملية من عمليات الاستدلال، كأن أنظر إلى هذه المنضدة أمامي وأعلم أنها بنية اللون، فإدراكي للبقعة اللونية إدراك مباشر، وأما الثانية فهي التي تمكننا من معرفة الشيء بغير حاجة منا إلى الاتصال به اتصالا مباشرا، كأن أقول لك: قابلت رجلا، فتفهم ما أريد دون حاجة منك إلى الإدراك الحسي المباشر للفرد المعين الذي قابلته.

24

إننا نعرف شيئا بالوصف حين نشير إليه بعبارة وصفية في أحد نوعيها: العام والخاص، فعندئذ لا يكون الشيء المعروف ماثلا أمام حواسنا، فقولي مثلا: «حاصل ضرب 17 × 18» هو معرفة بالوصف؛ لأن العدد المقصود ليس قائما أمامي، وأهمية المعرفة بالوصف أننا نجاوز بفضلها حدود خبراتنا الحسية المباشرة لننتفع بخبرات الآخرين.

وها هنا نصل إلى النقطة التي نريد أن نؤكدها لأهميتها البالغة فيما نحن بصدده، وتلك هي أن العبارة الوصفية لا بد - لكي يمكن فهمها - أن تكون ممكنة التحويل إلى جزئيات يمكن معرفتها بالاتصال المباشر، وإلا كانت بغير معنى، حين أقول لك جملة مثل: «الجبل الواقع شرقي القاهرة»، فلا سبيل إلى قبول القول، بل لا سبيل إلى فهمه ، ما لم يكن في إمكانك تحويل كل وصف في هذه الجملة إلى معرفة جزئية مباشرة، فأنت تعرف معنى «الجبل» إذا كان في إمكانك أن تدرك بحواسك شيئا وتشير إليه بإصبعك قائلا: «هذا هو المسمى بكذا (المقطم مثلا)، وهو موصوف بالصفات التي تجعل منه جبلا»، وكذلك تعرف معنى «شرقي» (في قولنا يقع شرقي القاهرة) إذا كان في إمكانك تمييز هذا النوع من العلاقة المكانية بين الأشياء، وأيضا تعرف معنى «القاهرة» إذا كنت تستطيع الإدراك الحسي للمكونات التي يقال إنها تميز القاهرة مما عداها، إذن ففهمك للعبارة الوصفية موقوف حتما على خبراتك الحسية المباشرة.

معرفة الأشياء بالوصف لا سبيل إليها بغير إمكان تحليل الأوصاف إلى معروفات مباشرة تقع لنا في خبراتنا، «فما أقول عنه إنه معرفة بالوصف يمكن تحويله في النهاية إلى معرفة بالاتصال المباشر.»

25 «فالمبدأ الأساسي في نظرية المعرفة، ذلك المبدأ الذي نركن إليه في تحليلنا للقضايا المشتملة على عبارات وصفية، هو هذا: أي قضية يمكننا فهم معناها لا بد أن تتألف بجميع أجزائها من مكونات نعرفها بالاتصال المباشر.»

26 «... وذلك لأن أي جزء في أية قضية، لا يكون مما نتصل به اتصالا مباشرا، مستحيل علينا فهمه».

27

إن كثيرا جدا من العبارات الميتافيزيقية، مثل «النفس خالدة» و«العقل جوهر روحاني» و«المطلق ليست له في الزمان بداية أو نهاية» ... إلخ إلخ، قائم على افتراض أن العبارة الوصفية تعمل عمل اسم العلم، من حيث إنها تشير إلى موجودات حقيقية واقعية، فإن لم يجد الميتافيزيقيون موجوداتهم هذه بين الأشياء المحسوسة، افترضوا وجودها وجودا ضمنيا، فالميتافيزيقا إن هي في حقيقة الأمر إلا «نتيجة الزعم الساذج بأن العبارات الوصفية الخاصة (أو العامة) رموز للإشارة»،

28 (مثل «هذا» و«ذلك» مما يترتب عليه حتما وجود الأشياء المشار إليها). (2) نظريته في الفئات

29

9

رأينا في تحليلنا للعبارات الوصفية، أن من أهم النتائج التي أدى إليها ذلك التحليل، هو أن العبارة الوصفية رمز ناقص، أعني أنها رمز لا يصلح للتعريف وهو قائم وحده، وأنه لا يتحتم أن يكون له مسمى في عالم الأشياء الواقعة، فالعبارة الوصفية الآتية: «مؤلف الإلياذة » رمز ناقص، بمعنى أنك إذا طالبت بتعريف لها، كان لا بد لمن يقدم التعريف أن يضعها في جملة تحتويها، ثم يعرف الجملة بأسرها، كأن يقول: «مؤلف الإلياذة هو هوميروس.» ثم يحلل هذه الجملة إلى القضايا الثلاث كما فعل «رسل» في جملة «مؤلف ويفرلي كان اسكتلنديا.» والقضايا الثلاث في هذه الحالة هي: (1) شخص واحد على الأقل كتب الإلياذة. (2) شخص واحد على الأكثر كتب الإلياذة. (3) أيا من كان كاتب الإلياذة فهو هوميروس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذه العبارة الوصفية رمز ناقص، بمعنى ثان، وهو أنه لا يتحتم أن يكون هنالك شخص حقيقي تاريخي اسمه هومر، أي إنه لا يجوز لنا أن نفترض وجود المسمى على أساس وجود اسمه، ما دام هذا الاسم عبارة وصفية.

وسؤالنا الآن هو: هل نجد في أسماء الفئات ما وجدناه في العبارات الوصفية من نتائج؟ إذا كان أمامنا اسم لفئة، مثل «سكان مدينة القاهرة» و«النمل» و«أبناء الأغنياء» ... إلخ، أفيكون اسم الفئة هذا هو أيضا رمز ناقص، بمعنى أن تعريفه مستحيل وهو قائم وحده، وأنه لا يتحتم أن يكون له مسميات في الواقع، وأننا نستطيع حين نحلل الجملة التي يرد فيها اسم لفئة أن ننتهي إلى تحليل نستغني فيه عن الجزء الذي هو موضع التحليل مع احتفاظنا بمعنى الجملة التي نحللها؟

يجيب «رسل» على هذه الأسئلة بالإيجاب، غير أنه يلاقي في بحثه للموضوع صعابا ومشكلات، يتغلب عليها تدريجيا في كتبه المختلفة التي عالج فيها الموضوع.

فلقد تناول الموضوع بالبحث أول ما تناوله، في كتاب «أصول الرياضة»،

30

وهناك ألفى نفسه مضطرا إلى الاعتراف بأن لاسم الفئة مدلولين: مدلولا يفسره بمسمياته الكثيرة، ومدلولا آخر يفسره بالصفة الواحدة المشتركة بين تلك المسميات الكثيرة.

فمثلا كلمة «أعداد» ما مدلولها الخارجي؟ لها مدلولان، فيمكن اعتبارها رمزا دالا على مجموعة كبيرة من الأعضاء، وهي الأعداد المختلفة: 1، 2، 3، 4 ... إلخ، كما يمكن اعتبارها رمزا دالا على شيء واحد فقط، وهذا الشيء الواحد هو الصفة المشتركة التي تشترك فيها تلك الأعداد كلها اشتراكا أجاز لنا اعتبارها أعضاء لمجموعة واحدة، أو بعبارة المنطق التقليدي، نقول إن اسم الفئة له مدلولان: مدلول يتمثل في ما صدقاته، ومدلول يتمثل في مفهومه، أما متى نفهم من اسم الفئة مدلوله الأول، ومتى نفهم منه مدلوله الثاني، فيتوقف على السياق الذي يرد فيه، فإذا قلت مثلا: «القردة المقيمة في حديقة الحيوان بالقاهرة مستوردة من أواسط أفريقيا.» كان مدلول اسم الفئة هنا (القردة المقيمة ... إلخ) دالا على أفراد المجموعة، أما إذا قلت «القردة المقيمة في حديقة الحيوان بالقاهرة ليست من آكلة اللحوم.» كان اسم الفئة في هذه الحالة دالا على الصفة المشتركة بين أفراد الفئة، لا على الأفراد نفسها باعتبارها كثرة.

لكن «رسل» لم يلبث أن واجهته المشكلات إزاء هذا الرأي في اسم الفئة، فمثلا ماذا نقول في الفئة الفارغة؟ وماذا نقول في الفئة ذات العضو الواحد؟

31

فعبارة «الجبال الذهبية» اسم لفئة لا وجود لأفرادها، إذ ليس هنالك في العالم الواقع جبال من ذهب، وإذن فهو اسم لفئة فارغة، وعندئذ نكون إزاء اسم لفئة إن دل على صفة معينة، فهو لا يدل على أفراد، أعني أنه يفقد إحدى الدلالتين اللتين سبقت الإشارة إليهما في تحليل أسماء الفئات، وكذلك الحال في الاسم الدال على فئة ليس فيها إلا عضو واحد، مثل «الكواكب التابعة للأرض»، فليس هنالك في هذه الفئة إلا القمر، وعندئذ أيضا نجد أنفسنا إزاء اسم لفئة لا تنطبق عليه الأوصاف التي أسلفناها لأسماء الفئات، إذ قلنا إن اسم الفئة يدل من ناحية على أفراد كثيرة هي أعضاء الفئة، ومن ناحية أخرى يدل على صفة واحدة هي المشتركة بين تلك الأفراد الكثيرة، فها نحن أولاء نرى أنفسنا أمام اسم لفئة لا يدل على أفراد كثيرة، بل يدل على فرد واحد، وإلا فهل نحل هذا الإشكال بقولنا إن اسم الفئة دال على معنى واحد فقط، أي إنه رمز يرمز إلى كائن واحد؟ لكننا إن قلنا ذلك وقعنا في تناقض؛ لأن هذا الكائن الواحد الذي يرمز له اسم الفئة، يكون كثيرا وواحدا في آن معا، فهو كثير عندما ننظر إلى اسم الفئة من ناحية تسميته لأفراد الفئة، وهو واحد حين ننظر إليه من ناحية تسميته للصفة المشتركة بين تلك الأفراد.

ونترك كتاب «أصول الرياضة» الذي لم يستطع فيه رسل أن يقطع برأي واضح في موضوع الفئات، وننتقل إلى كتابه الرئيسي التالي، وهو «برنكبيا ماثماتيكا»

32 (أي أصول الرياضة)، فنراه قد خطا فيه الخطوة الحاسمة في تحليله لاسم الفئة، إذ جعله بمثابة دالة قضية،

33

وبهذا يتغلب على كثير من المشكلات الناشئة في شأنه، فمثلا اسم الفئة «سكان مدينة القاهرة» تحليله هو دالة القضية «س ساكن في مدينة القاهرة»، ولك بالطبع أن تضع مكان «س» أي متغير آخر: ص، ط، ع ... إلخ، فدالة القضية إذن تفسح المجال للأفراد الكثيرين الداخلين في الفئة موضوع البحث، وفي الوقت نفسه لا تغفل الصفة المشتركة بين هؤلاء الأفراد،

34

أي إنها تواجه المطلبين معا: الكثرة من جهة، والوحدة من جهة أخرى، إذ إن هذين الجانبين هما الطابع الأساسي الذي يطبع اسم الفئة ويميزه.

10

وماذا يفيدنا هذا التحليل في هدمنا للعبارات الميتافيزيقية؟ النقطة الهامة لنا هي أن اسم الفئة - كالعبارة الوصفية - رمز ناقص، أي إنه رمز بغير مرموز له، فعبارة مثل: «أبناء الأغنياء» أو مثل «طلبة كلية الآداب» ليست تسمي كائنا بعينه، تستطيع أن تمسكه قائلا: هذا هو «أبناء الأغنياء» أو ذلك هو «طلبة كلية الآداب»، إنما أنت في هذه الحالة بمثابة من يقول صيغة فيها فجوة فارغة، إذ أنت بمثابة من يقول: «س فرد من أبناء الأغنياء» أو «س فرد من طلبة كلية الآداب»، ومعنى ذلك أن هذه العبارة ذات الفجوة الفارغة لا تتحول إلى كلام مفهوم ذي معنى نصدقه أو نكذبه إلا إذا وجدنا الفرد الذي نضع اسمه مكان «س»، كأن نقول مثلا: «إبراهيم محمد ثابت طالب من طلبة كلية الآداب»، عندئذ فقط يتاح لنا أن نرجع إلى العالم الواقع لنرى إن كان هذا الكلام صادقا أو كاذبا، وعندئذ فقط يصبح الكلام ذا معنى محدد مفهوم.

أما إن ظلت العبارة على صورتها الأصلية: اسما لفئة، فستظل بغير معنى قائم بذاته؛ لأنها ستظل رمزا ناقصا، وخذ الآن هذا المثل الآتي؛ لأنه يوضح نوع المباحث التي تبحث فيها الميتافيزيقا: «العقول الإنسانية ليست من طبيعة الأشياء المادية.» فها هنا اسم لفئة، هو «العقول الإنسانية» كأن هناك جماعة من أفراد نتصورها مجتمعة في طائفة واحدة، ونطلق عليها طائفة العقول الإنسانية، كقولنا مثلا: «الخيول العربية» و«الكتب الإنجليزية» وهكذا، أليس من البدائه الأولية أننا لا يجوز لنا أن نبحث في القضية القائلة بأن العقول الإنسانية كذا وكذا، قبل أن نعرف على وجه التحديد ما هي أفراد هذه الجماعة التي نريد الحكم عليها؟

طبق على هذه الفئة نتيجة التحليل التي انتهينا إليها، نجد أن «العقول الإنسانية» دالة قضية، هي «س عقل إنساني»، ولا تتحول الدالة إلى قضية كاملة إلا إذا وجدنا فردا جزئيا نحله محل «س»، فإذا وجدنا، أمكننا أن نمضي في تحقيق الزعم الأول بأن هذا الفرد الذي وجدناه، والذي هو واحد من جماعة العقول الإنسانية، ليس من طبيعة المادة؛ لأننا عندئذ سنجد شيئا بين أيدينا وأمام أبصارنا يمكن وضعه موضع البحث، لنرى هل هو كالأشياء المادية الأخرى من خشب ونحاس وما إليهما، أم أنه مختلف عنها.

لكننا من جهة أخرى إذا ما عثرنا على هذا الفرد الذي يملأ مكان الرمز «س»، فقد عثرنا على شيء - كما قلت - نتناوله بأيدينا ونراه بأبصارنا أو نسمعه بآذاننا، وإذن فهو من الأشياء المادية التي تلمس وترى وتسمع، فمجرد عثورنا على أي مثل يحقق لنا دالة القضية هو في ذاته دليل على تناقض العبارة الأصلية، إذ مجرد عثورنا على مدلول «س» بين الأشياء، هو في ذاته دليل على أنه من طبيعة الأشياء المادية.

وماذا لو بحثنا عن مدلول للرمز «س» فلم نجد؟ عندئذ تظل الصيغة دالة قضية، ذات فجوة فارغة، ولا يصح وصفها بصدق أو كذب؛ لأنها تحدثنا عن «مجهول» (هو الرمز «س») أو قل إنها لا تحدثنا عن «شيء» إطلاقا ، إلا إذا كان لهذا المجهول معلوم يحل محله ، فتتحول الدالة بذلك إلى قضية يمكن مناقشتها وتحقيقها.

فلنذكر جيدا أن أسماء الفئات - كالعبارات الوصفية - رموز ناقصة، ولنذكر جيدا أنها لا يتحتم لمجرد وجودها أن يكون لها مسميات، فلو تذكرنا هذه الحقيقة ووضعناها نصب أعيننا ونحن نقرأ أقوال الميتافيزيقيين عن «النفس» و«العقل» و«الجمال» و«الخير» ... إلخ إلخ، لكان أول ما نطالب به - لكي نفهم أقوالهم تلك - هو الأفراد الواقعية التي نضعها مكان المجهولات في دالات القضايا قبل أن ندعهم يمضون في الحديث، ولو طالبناهم بذلك لأسقط في أيديهم؛ لأنهم في معظم الحالات لا يتحدثون عن «أفراد» وقعت لهم في خبراتهم، بل يقولون «كلاما»، ثم يتخيلون أن للكلام مقابلات واقعية، ثم يبنون «كلاما» على «كلام» وهم يتوهمون أنهم يصفون «أشياء».

فمجادلة الميتافيزيقيين الذين يتحدثون عن كائنات غير واقعة في مجال الحس، لا تكون على أساس مناقشة «نظرياتهم» ومحاولة إبدالها «بنظريات» سواها، بل تكون مجادلتهم بتحليل كلامهم نفسه، لنبين لهم أن العبارات التي ينطقون بها، هي في ذاتها - لو حللناها - دليل على أنها لا تدل على شيء. (3) نظرية الأنماط المنطقية

11

هذه نظرية قال عنها «رسل» حين بحثها لأول مرة في كتابه «أصول الرياضة» إنها «محاولة اجتهادية تمهيدية ... تتطلب كثيرا من التعديل قبل أن تستطيع التغلب على جميع المشكلات [التي تصادفها في ميدان بحثها]»،

35

ثم يعود فيقول شيئا كهذا حين يعود إلى بحث النظرية نفسها بعد ما يقرب من عشرين عاما في كتاب آخر له هو «تمهيد للفلسفة الرياضية»، إذ يقول في هذا الكتاب عنها «إنها نظرية لا تزال في كثير من جوانبها مهوشة غامضة.»

36

لكن ذلك لا يدل على أنها قليلة الشأن هينة الخطر، إنما يدل على أنها بحاجة إلى تضافر المجهودات من المناطقة المعاصرين لتجلية غوامضها، لعلها تزيد من الضوء الذي تلقيه على كثير من المشكلات الفلسفية المفتعلة التي تشغل الفلاسفة الميتافيزيقيين، مع أنها في حقيقة أمرها ليست إلا غموضا وارتباكا في طريقة التعبير.

وهاك خلاصة مبسطة لنظرية الأنماط المنطقية:

أنت تعلم أن دالة القضية هي الصيغة المحتوية على رمز لمجهول، حتى إذا ما استبدلنا بهذا المجهول اسما لمعلوم تحولت الدالة إلى قضية، فقولنا: «س إنسان» دالة قضية، أما إذا وضعت اسم العقاد مكان «س» بحيث تحولت العبارة إلى «العقاد إنسان» أصبحت قضية، وجاز لنا مراجعتها على الواقع لمعرفة صدقها أو كذبها في تصوير ذلك الواقع.

لكن الرمز الذي يكون في دالة القضية، لا يجوز لنا أن نستبدل به أي معلوم كما نشاء، بل هنالك طائفة من الأشياء هي وحدها التي يجوز لنا أن ننتقي من بينها شيئا لنضع اسمه مكان الرمز «س» في دالة القضية، بحيث تتحول الدالة إلى قضية مفهومة ذات معنى، ومدى دائرة الأشياء التي يجوز أن ننتقي منها بديلا للرمز «س»، هو تلك الأشياء التي إذا وضع اسم أحدها، أصبحت القضية الناشئة إما صادقة أو كاذبة، أما الأشياء التي لا يجوز أن نضع واحدة منها مكان الرمز «س» فهي تلك التي إذا وضعنا اسم أحدها، أصبحت العبارة كلاما فارغا من المعنى.

وإذن فنحن إذ نريد استبدال معلوم بمجهول، أعني حين نريد أن نضع اسم شيء معين مكان الرمز «س» في دالة القضية؛ لتصبح قضية، فإننا نجد أنفسنا إزاء حالة من ثلاث حالات ممكنة: (1) فإما أن نستبدل بالمجهول معلوما يجعل القضية صادقة. (2) وإما أن نستبدل بالمجهول معلوما يجعل القضية كاذبة. (3) وإما أن نستبدل بالمجهول معلوما يجعل العبارة كلاما فارغا من المعنى.

في دالة القضية «س إنسان»، إذا وضعنا مكان «س» اسم العقاد، بحيث أصبحت العبارة «العقاد إنسان»، فإننا نحصل بذلك على قضية صادقة، وإذا وضعنا مكان «س» اسما لأحد أفراد الغوريلا، ولنفرض مثلا أننا أطلقنا اسم «شيتا» وعلى فرد معين من أفراد الغوريلا، فقلنا: «شيتا إنسان» كانت القضية الناشئة قضية كاذبة، أما إذا وضعنا مكان الرمز «س» اسما لشيء ليس بين طائفة الأفراد التي يصلح وصفها بكلمة إنسان - صدقا أو كذبا

37 - فقلنا مثلا «الفضيلة إنسان»، كانت العبارة كلاما بغير معنى.

ولكي نجتنب الوقوع في النوع الثالث من العبارات ، وهي العبارات الخالية من المعنى، حاول «رسل» أن يضع القواعد التي تضبط استخدام دالات القضايا، ومن هذه القواعد تتألف نظرية الأنماط المنطقية.

والنمط المنطقي هو مجموعة الأشياء التي لو أخذنا منها واحدا لنضع اسمه مكان رمز المجهول في دالة القضية، أصبح لدينا بذلك قضية ذات دلالة مفهومة، سواء كانت صادقة أو كاذبة، بعبارة أخرى: النمط المنطقي هو «المدى»

38

الذي تصلح كل «قيمه»

39

لدالة القضية التي أمامنا، بحيث تجعلها قضية صادقة أو قضية كاذبة.

وقد تكون المجموعة التي تصلح لانتقائنا من بين أعضائها ما نضعه مكان الرمز في دالة القضية، مجموعة من أفراد، مثلا في دالة القضية «س طالب في قسم الفلسفة»، كل قيمة نضعها مكان «س» لا بد أن تكون اسما لفرد معين من الناس (وقد تكون القضية المتكونة بعد ذلك صادقة أو كاذبة)، وإذن فالنمط المنطقي هنا هو أفراد، أي إننا نتكلم في مستوى لا يصبح فيه الكلام ذا معنى إلا إذا جعلنا موضوع حديثنا فردا معينا.

وقد لا تكون المجموعة التي نختار من بين أعضائها واحدا لنضعه مكان الرمز في دالة القضية مجموعة من الأفراد، كما في الفقرة السابقة، بل قد تكون مجموعة من فئات، فقسم الفلسفة فئة من أفراد، وقسم التاريخ فئة من أفراد، وقسم اللغة العربية فئة من أفراد، أما «كلية الآداب» ففئة تندرج تحتها فئات؛ ولذلك نقول عنها: إنها فئة من فئات.

وقد نعلو درجة، بحيث يصبح الأمر الذي أمامنا دالا على فئة من فئات الفئات، مثل كلمة «الجامعة»، فهذه تندرج تحتها فئات كبرى هي الكليات المختلفة، ثم كل فئة من هذه الفئات تندرج تحتها فئات صغرى هي الأقسام المختلفة في كل كلية على حدة، ثم كل فئة من هذه الفئات الصغرى يندرج تحتها أفراد.

على أننا لا بد في هذا الموضع أن ننبه إلى نقطة هامة، وهي تحديد كلمة «فرد»، فهذه الكلمة لا نريد بها في المنطق ذلك الجزء الذي لا يمكن تحليله إلى ما هو أبسط منه، بل الأمر هنا نسبي يتعلق بالسياق ، «فالفرد» هو ما أنوي أن أجعله في حديثي «موضوعا» أصفه بالصفات المختلفة، وأربطه مع غيره بالعلاقات المختلفة، هذا يكون في اعتباري فردا مهما يكن تقسيمه ممكنا، «فالقاهرة» فرد واحد، ما دمت سأصفها بصفات معينة كأن أقول «القاهرة عاصمة مصر.» أو «القاهرة مدينة حارة في الصيف.» أو ما دمت سأربطها مع غيرها بعلاقات، كأن أقول: «القاهرة شرقي النيل.» و«القاهرة أكبر من طنطا.» وهكذا، والمهم هو أنني إذا ما جعلت شيئا ما «فردا» وجب أن يظل في اعتباري فردا من أول السياق إلى آخره، فلا يجوز أن أبدأ حديثي باعتباره فردا، ثم أتحول في وسط الحديث عن هذا المعنى إلى معنى آخر هو اعتباره مكونا من أفراد كثيرة.

والاسم الواحد قد نجعله فردا في سياق، وفئة في سياق آخر، «فالجامعة» اسم لفرد في سياق، واسم لفئة في سياق آخر، فإذا قلت مثلا: «أرسلت الجامعة خطابا إلى وزارة المعارف» كان اعتباري لها هو أنها فرد، وإذا قلت: «إن الجامعة قوامها عشرون ألف طالب» كان اعتباري لها هو أنها فئة.

ولا أظنني بحاجة إلى تذكيرك بأن الاسم الدال على فرد واحد يكون بمثابة اسم العلم، وأما الاسم الدال على مجموعة أفراد فقد أطلقنا عليه اسم الفئة، ولقد أسلفنا لك تحليلا لأنواع الأسماء الدالة على أفراد والأسماء الدالة على فئات.

12

نعود فنكرر أن الكلمة الواحدة في السياق الواحد، يجب أن يكون لها اعتبار واحد من حيث حسبانها فردا أو فئة، أو بعبارة أخرى: يجب أن تظل الكلمة الواحدة طول السياق منتمية إلى نمط واحد، فإذا كانت الكلمة من نمط «فئات الفئات»، فلا يجوز أن نتحدث عنها كأنما هي من نمط «فئات الأفراد».

فافرض بعد هذا أن كلمة «إنسان» قد أوردناها في سياق معين على أنها فئة لأفراد، هم فلان وفلان وفلان إلى آخر أفراد البشر، فإن كلمة «إنسان» في هذه الحالة تكون بمثابة دالة قضية (راجع ما قلناه في الفئات) هي «س إنسان»، وتكون القيم التي تصلح أن توضع مكان «س» هي أسماء أفراد الناس، كقولنا «سقراط إنسان» و«العقاد إنسان» ... إلخ .

ثم افرض كذلك أنني أريد أن أصف فئة «الإنسان» بأن أفرادها «عاقلون»، فإذا قلت «الإنسان عاقل» كان لا بد لي أن أفهم هذه العبارة على أنها دالة قضية، صيغتها هي «س إنسان وهو عاقل»، على أن القيم التي تملأ دالة القضية هنا أيضا هي أسماء أفراد الناس، فنقول «سقراط إنسان وهو عاقل»، و«العقاد إنسان وهو عاقل» ... إلخ، أما إذا ظننت أن «عاقل» تصف «إنسان» فإني أكون بمثابة من خلط بين نمط ونمط آخر، فما يصلح في السياق الواحد لنمط ما، لا يصلح لنمط سواه، وها هنا صفة «عاقل» جاءت لتصف أفرادا، فلا يجوز بعد ذلك أن أنقلها من دائرة الأفراد إلى دائرة الفئات، وإلا وقعت في تناقض وخلط.

وبعبارة اصطلاحية نقول: إن دالة القضية لا تصلح هي نفسها أن تكون قيمة لنفسها، يعني أنه إذا كان لدي دالة قضية «س إنسان»، فلا يجوز أن أجعل هذه الدالة نفسها هي المعلوم الذي يوضع مكان «س»، بل ينبغي أن يكون مجال القيم من نمط أدنى درجة، وهو في هذه الحالة نمط الأفراد.

هل تذكر ما قاله أفلاطون في المثل؟ ألم يقل إن الأسماء الكلية - مثل «إنسان» - تشير إلى موجودات حقيقية واقعية؟ فعنده أن «الإنسان» بصفة عامة موجود في عالم الواقع، كما أن العقاد موجود في عالم الواقع، فإذا قلت له: لكني لا أرى بين الناس «إنسانا» بصفة عامة، بل إن جميع من أراهم من الناس أفراد، ذوو صفات معينة مخصصة، فهذا الفرد من الناس - مثلا - متزوج وله ولدان وهو مدين بمائتي جنيه لجاره، فأين هذه الصفات المخصصة المعينة من «الإنسان» العام الذي لا يكون له من الصفات إلا «الجوهر»؟ أقول: إنك لو سألت أفلاطون أين هذا «الإنسان» العام فإنه يجيبك بأنه موجود، لا في هذا العالم الأرضي، عالم الجزئيات المادية المتغيرة، بل في عالم علوي، هو عالم المثل الثابتة الأزلية الخالدة.

ولعلك تدرك الآن موضع الخطأ عند أفلاطون ومصدره، فهو يخلط بين الأنماط ، فالكلمة التي تكون اسما لفئة في سياق ما ، يجعلها في نفس السياق اسما لفرد واحد، إذ هو لا يمانع في أن يقول «سقراط إنسان»، على اعتبار أن «إنسان» فئة من أفراد بينهم سقراط وغيره، ثم يعود فيقول إن «الإنسان» اسم لفرد مثالي واحد، وبالطبع لا فرق بين أن يجعل سكنى هذا الفرد المثالي في الأرض أو في السماء، فيكفي أنه قد تصوره فردا، بعد أن جعله فئة من أفراد.

وهكذا تنشأ طائفة كبيرة من الأخطاء عند الفلاسفة الميتافيزيقيين؛ بسبب خلطهم الأنماط الكلامية بعضها في بعض.

13

إذا تحدثنا عن فئات، وجب أن نراعي بكل دقة ما يصح أن يكون أعضاء في تلك الفئات، إذ لن يكون لكلامنا معنى، إذا نحن أردنا أن نتحدث عن فئة من طراز معين، فصرفنا الحديث إلى أعضاء فئة من طراز آخر؛ لأن نمط الفئة يحدده نمط أعضائها، ففئات الدرجة الأولى - الدنيا - أعضاؤها أفراد، وفئات الدرجة الثانية أعضاؤها فئات، وفئات الدرجة الثالثة أعضاؤها فئات لفئات ... وهكذا.

فإن كان لدينا دالة قضية، بها مجهول «س» وجب أن نستوثق جيدا أن المعلوم الذي نحله محل الرمز «س» هو من النمط الذي يجعل للقضية معنى، ولا يجوز أبدا أن نستخدم دالة القضية التي أمامنا قيمة لمجهولها - كما أسلفنا القول - ولا أن نستخدم دالة أخرى من نمطها قيمة لذلك المجهول.

خذ هذا المثال التقليدي المشهور في كتب المنطق، قصة الرجل الأقريطي

40

الذي قال عن أهل بلده إقريطش (جزيرة كريت) إنهم جميعا كذابون، لكن القائل نفسه هو أحد سكان بلده، وإذن فهو كذاب، وقوله هذا كاذب، وإذن فنقيضه صادق، وهو أن أهل إقريطش صادقون، والقائل واحد منهم، إذن فهو صادق، وإذن فقوله الأول بأن أهل إقريطش كذابون قول صادق، فمن ذلك يتبين أن ذلك القول الأول قد وصفناه بالكذب وبالصدق معا، وهذا تناقض، ومن ثم يكون الإشكال الذي تتحدث عنه كتب المنطق بمناسبة هذه القصة.

فأين مصدر الخطأ هنا؟ مصدره هو أننا جعلنا دالة القضية قيمة لنفسها، فالقول الأصلي الذي قاله الرجل عن أهل بلده، وهو أنهم كذابون، يمكن تحليله إلى دالة القضية الآتية: «س عبارة قالها رجل من أهل إقريطش، فهي عبارة كاذبة»، فإذا أحللنا هذا القول نفسه مكان «س»، كنا بمثابة من جعل دالة القضية قيمة لمجهولها، وهو ما حرمناه، لك أن تضع مكان «س» أي قول آخر مما يقوله أهل إقريطش إلا هذا القول؛ لأنه هو الدالة أو الصورة الفارغة أو القالب الذي أعد لغيره كي يوضع فيه، أما القالب نفسه فلا يصب في نفسه.

إذا لم نراع هذا المبدأ، نشأ ما يسميه «وايتهد» و«رسل» - في كتاب البرنكبيا - «مجموعات غير مشروعة»، أي إننا نعتبر مجموعة ما ليس بمجموعة إطلاقا، ثم نمضي في الحديث على هذا الأساس فيكون الخطأ.

إن من مبادئ المذهب الوضعي المنطقي أن يفرق بين القضية التحليلية (كقضايا الرياضة) والقضية التركيبية (كقضايا العلوم الطبيعية)؛ ليجعل لكل منهما معيارا للصدق يختلف عن معيار الأخرى، فإذا لم تكن الجملة تحليلية ولا تركيبية، قلنا عنها إنها كلام فارغ من المعنى، لا يخضع لمعايير الصدق في صورتيه. فها هنا ترى كثيرا من الناقدين يتوجهون بالنقد الآتي إلى المذهب الوضعي المنطقي، يقولون: لكن قولكم هذا نفسه ما هو؟ أتحليلي هو كقضايا الرياضة، أم تركيبي كقضايا العلوم الطبيعية؟ إنه لا هذا ولا ذاك، وإذن فهو بحكم مبدئكم نفسه كلام فارغ من المعنى، وإنا لنعجب أن نرى بين القائلين بمثل هذا الاعتراض الأستاذ «بوبر» وهو المنطقي النابه، إذ يقول في ذلك ما يأتي: إن قول الوضعيين المنطقيين بأنه يستحيل وجود عبارات إلى جانب تلك التي تعبر عن حقائق العلوم الطبيعية وتلك التي تعبر عن الرياضة والمنطق، هذا القول في حد ذاته لا هو يعبر عن حقيقة من حقائق العلوم الطبيعية، ولا هو من قضايا الرياضة أو المنطق، وإذن فما أشبهه بمشكلة الكذاب [يقصد مشكلة إبمنديز التي ذكرناها توا].

41

ومصدر خطأ هؤلاء الناقدين هو أنهم يضعون دالة القضية معلوما لمجهول نفسها، كما شرحنا في المثل السابق، وهو ما لا يجوز؛ لأنه يتضمن خلطا في الأنماط المنطقية إذ نضع نمطا من القول مكان نمط آخر، ولزيادة التوضيح، افرض أن أمامك على الصحيفة عشرين جملة مكتوبة باللغة الإنجليزية، فقلت عنها جملة عربية هي: «كل الجمل على هذه الصحيفة مكتوبة بالإنجليزية»، ثم تقدم لك ناقد بقوله: لكن جملتك الإضافية هذه ليست مكتوبة بالإنجليزية، فماذا أنت قائل له؟ ستقول له بالكلام اليومي المألوف: إن هذه الجملة العربية تحكم على غيرها ولا تحكم على نفسها، وهذا نفسه ما نحن قائلوه الآن بلغة الاصطلاح المنطقي عند «رسل»، وهو أن دالة القضية لا يجوز أن تكون قيمة لمجهول نفسها، أو بصورة أخرى: إنه إذا اقتضى مجهول ما في دالة قضية قيمة من نمط معين، فلا يجوز أن نضع قيمة له من نمط آخر.

إن جملتك العربية التي أضفتها لتصف سائر الجمل، فقلت فيها «كل الجمل على هذه الصحيفة مكتوبة بالإنجليزية» هي تعميم لأفراد، لكنها هي نفسها من نمط آخر؛ لأنها دالة على فئة، وليست فردا من الأفراد، فإذا كانت الدالة هي «س جملة مكتوبة بالإنجليزية»، فالقيمة التي ينتظر أن تملأ مكان «س» هي فرد، ولو وضعنا القيمة فئة، خلطنا بين الأنماط المنطقية، ووقعنا في الخطأ.

ونلخص الموقف السالف فنقول: إذا كانت لدينا مجموعة من مفردات جمعناها في فئة واحدة، فلا يجوز أن نعتبر الفئة كأنما هي عضو بين سائر المفردات الأعضاء، فمثلا إذا جمعت القضايا المنطقية كلها في حكم واحد (أي في فئة واحدة)، وقلت عنها هذه العبارة الآتية: «كل قضية إما أن تكون صادقة أو كاذبة»، فلا يجوز بعد ذلك أن أقول عن هذه العبارة الأخيرة نفسها إنها قضية من القضايا التي تكون إما صادقة أو كاذبة، وإلا فلو فعلت ذلك، كنت كمن ينظر إليها نظرته إلى أية قضية أخرى مما تجمع فيها من قضايا.

وما مؤدى هذا الكلام؟ مؤداه أنه لا يجوز التحدث عن هذه العبارة الكلية: «كل قضية إما أن تكون صادقة أو كاذبة»، وكل حديث عنها هو من قبيل الكلام الفارغ من المعنى، إذ ماذا عساك قائل فيها ما دام محرما عليك منذ البداية أن تصفها حتى بمجرد كونها صادقة أو كاذبة؟ إنك تتحدث عن حكم من الأحكام إذا جاز لك أن تناقش صدقه، أما إذا لم يجز لك ذلك، فقد امتنعت كل سبيل أمامك للكلام المفيد.

إننا إذا أضفنا الرمز الدال على المجموعة كلها إلى أفراد المجموعة، تكون لنا بذلك ما يسميه «وايتهد» و«رسل» «مجموعة غير مشروعة»، أي إنها ليست مجموعة بالمعنى المفهوم لسائر المجموعات، وذلك يقتضي استحالة أن نقول شيئا عن «كل أعضائها»، خذ هذا المثل الآتي - وهو مأخوذ من كتاب البرنكبيا: «كان لنابليون كل خصائص الرجل العظيم.» فهل نعد هذا القول نفسه صفة من الصفات التي يتصف بها نابليون، فتكون في مستوى واحد مع بقية صفاته مثل الشجاعة وبعد النظر ... إلخ التي يتحلى بها القائد العظيم؟ كلا؛ لأنها صفة من نمط أعلى من سائر الصفات، بل قل إنها ليست صفة على الإطلاق، إنما هي عبارة تجمع سائر الصفات في فئة، فلا يجوز لنا أن نعد الفئة المتجمعة فردا من أفرادها كأي عضو آخر، فإن جاز لك أن تتحدث عن شجاعة نابليون، أو عن بعد نظره، فلا يجوز لك أن تتحدث عن «كل صفاته» جملة واحدة؛ لسبب بسيط، وهو أن «كل الصفات» ليس صفة من الصفات، إنه رمز يجمع بقية الرموز، لكنه هو نفسه لا يرمز في العالم الواقع إلى شيء.

وننتقل من هذا المثل إلى مثل شبيه به عميق الأثر في الفلسفة الميتافيزيقية التأملية التي نعمل على محوها وهدمها، فكم من فيلسوف يحدثك عن «الوجود» حين يقصد «بالوجود» كل الموجودات جملة واحدة، أرأيت الآن كيف يجيء كل كلام عن «الوجود» كله دفعة واحدة كلاما فارغا بغير معنى؟ لأن «الوجود» تعميم لمفردات، ولا يكون التعميم مفردا من المفردات كأنه واحد منها؛ لأنه من نمط أعلى من نمطها، فما يجوز أن تحكم به على كل فرد على حدة، لا يجوز أن تحكم به هو نفسه على مجموعها كأنه هو الآخر فرد منها.

وبعبارة اصطلاحية أسلفناها لك مرارا فيما مضى، نقول: إن أية عبارة تتحدث عن «الوجود» هي عبارة فارغة لا تجوز منطقيا؛ لأنها استخدمت دالة القضية قيمة «لمجهول نفسها»، فاحكم بما شئت على هذا الكائن أو على ذاك؛ لأنه سيكون في مستطاعنا عندئذ أن نراجع حكمك على الكائن الفرد الذي تحكم عليه، لنرى إن كنت قد أصبت أم أخطأت، لكن لا تحكم على مجموعة الكائنات كلها كأنها كائن واحد؛ لأن المراجعة عندئذ تستحيل علينا، وبالتالي لا يكون كلامك من الكلام المقبول المفهوم في شيء، إنه لا يكون كذبا فحسب، بل يكون كلاما فارغا من المعنى.

الكلام الفارغ منطقيا هو الذي يجعل قيمة المجهول في دالة القضية من نمط غير النمط المطلوب، فلو كانت دالة القضية هي: «س إنسان»، فلا تكون القضية المستحدثة ذات معنى إلا إذا اخترنا للرمز «س» قيمة من نمط معين، هو نمط الأفراد، فنقول: «العقاد إنسان»، لكن الكلام يكون فارغا بالمعنى المنطقي إذا وضعنا مكان الرمز «س» قيمة من نمط آخر، فنقول مثلا: «الحكمة إنسان» أو «الناس إنسان».

وإذا كانت دالة القضية هي «س كثير»، فإن العبارة المتكونة تكون فارغة من المعنى لو وضعنا اسم «العقاد» قيمة للرمز «س»، فنقول: «العقاد كثير»، لكنها تصبح ذات معنى لو قلنا: «الناس كثير»؛ لأن القيمة المطلوبة هنا - على خلاف المثل السابق - لا بد أن تكون فئة لا فردا واحدا. وهكذا ترى لكل دالة - أعني لكل سياق - نمطا يصلح وأنماطا لا تصلح، والخلط في ذلك مدعاة إلى الخطأ.

إننا نكرر هنا ما قلناه في موضع سابق، وهو أن مهاجمة الميتافيزيقا التأملية لا تكون بمناقشة «نظرياتها»، إذ لا «نظرية» هناك تناقش، بل المهاجمة تكون بتحليل عباراتها؛ لبيان خلائها من المعنى.

ونعود إلى مثل «الوجود»، فلو قال فيلسوف مثالي: «الوجود واحد» فيكفيك للرد عليه أن تحلل له هذه العبارة نفسها تحليلا يكشف عن حقيقة تركيبها، وعندئذ سيرى معك أنها لا تحمل معنى، وبالتالي لا تعبر عن «نظرية» كائنة ما كانت؛ لأن دالة القضية «س واحد» يحتاج رمزها «س » إلى قيمة من الأشياء التي تعد بالواحد، أعني تحتاج إلى شيء من نطاق «الأفراد»؛ كي تصبح قضية مفهومة، أما إذا أحللت محل الرمز «س» فئة، فقد قفزت من نمط إلى نمط آخر، وقد أسلفنا القول بأن الكلام الفارغ منطقيا هو الذي يجعل قيمة المجهول في حالة القضية من نمط غير النمط المطلوب، إن كلمة «الوجود» تساوي «كل الموجودات»، وإن جاز لك أن تحكم على كل موجود على حدة، فلا يجوز أن تحكم على «كل الموجودات»؛ لأن العبارة التي تبدأ بقولنا: «كل الموجودات» هي عبارة تعمم أحكاما كثيرة متفرقة قيلت عن الموجودات وهي فرادى، أي إنها تلخيص لأحكام سبق الحكم بها على مفردات، فلا ينبغي أن تكون هي بدورها موضوع حكم، ولو فعلنا لما اقتصرنا على الوقوع في الخطأ، بل لتجاوزنا حدود الخطأ إلى حيث الكلام الخالي من المعنى.

إن لأفلاطون عبارة عجيبة في محاورة «بارمنيدس» يقول فيها ما ملخصه: إنه إذا كان هنالك العدد 1، إذن فالعدد 1 له وجود، لكن العدد 1 وصفة الوجود ليسا متطابقين تطابقا ذاتيا يجعلهما شيئا واحدا بذاته، وإذن فهما اثنان، وإذن فهناك العدد 2، وإذا ضممنا العدد 2 إلى العدد 1 وإلى صفة الوجود كان لنا بذلك مجموعة عددها ثلاثة وهكذا، وهكذا تستطيع أن تمضي في مثل هذا التفكير حتى يتكامل لديك ما شئت من أعداد. ويقول «رسل» تعليقا على هذا التفكير الأفلاطوني: إنه فاسد بما فيه من أغاليط، من ذلك «أن كلمة الوجود ليست بذات معنى محدد»، أضف إلى ذلك أنه حتى لو اخترع لها معنى محدد؛ لوجدنا أن ليس للأعداد وجود؛ لأن الأعداد في حقيقة أمرها «تصورات منطقية».

42

إن القارئ لكثير جدا مما كتبه الفلاسفة الميتافيزيقيون، لو أراد محاسبة هؤلاء الفلاسفة على المعاني الدقيقة التي ينبغي أن تكون لكل كلمة وكل عبارة؛ لدهش دهشة بالغة مما يتحول إليه معظم ما كتبوه، إذ إنه سرعان ما يتحول في ضوء التحليل إلى كلام لا دلالة له ولا معنى.

الفصل السابع

الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند رودلف كارناب

1 «عملنا هو التحليل المنطقي لا الفلسفة»، هكذا يقول كارناب في تقديمه لمجموعة «وحدة العلم».

1

والفلسفة التي يبرأ منها «كارناب» هي الميتافيزيقا بالمعنى الذي يجعل الميتافيزيقا بحثا في أشياء لا تقع في مجال الحس، مثل: «الشيء في ذاته» و«المطلق» و«المثل الأفلاطونية» و«العلة الأولى للعالم» و«العدم» و«القيم الأخلاقية والجمالية» وما إلى ذلك.

2

غير أن «كارناب» إن تبرأ من الاشتغال بالفلسفة بهذا المعنى الميتافيزيقي، فلا ضير عنده من قبول كلمة «الفلسفة» على شريطة أن تفهم الكلمة بمعنى التحليلات المنطقية للعبارات اللغوية، «فكل من يشاركنا وجهة نظرنا المعادية للميتافيزيقا، يتبين له أن جميع المشكلات الفلسفية بمعناها الحقيقي إن هي إلا تحليلات لتركيبات لغوية»،

3

ولما كانت التركيبات اللغوية التي تعنى الفلسفة بتحليلها، هي في الأغلب ما تقوله العلوم المختلفة من قضايا، أمكن أن نقول عن الفلسفة إنها منطق العلوم، أي تحليل القضايا العلمية تحليلا يبرز طريقة تركيبها وصورة بنائها ليتضح معناها.

فليست الفلسفة منافسة للعلوم في موضوعات بحثها، بل هي تخدم تلك العلوم بتوضيح قضاياها، ومعنى ذلك أنه إذا كان عمل العلوم هو أن تقول أقوالا عدة في وصف الأشياء الطبيعية على اختلافها، فعمل الفلسفة هو البحث في منطق تلك الأقوال العلمية لتجلية غامضها، فعلم الحيوان - مثلا - يبحث في الحيوانات نفسها من حيث خصائصها وعلاقاتها بعضها ببعض، وعلاقاتها بما ليس حيوانا ... إلخ، وأما الفلسفة في هذه الحالة فمهمتها تحليل العبارات التي قيلت في الحيوان،

4

ولقد رأى «وتجنشتين» في الفلسفة هذا الرأي نفسه، إذ قال: إن «العمل الفلسفي هو في جوهره توضيحات، فليست مهمة الفلسفة أن تنتج لنا عددا من القضايا [التي تصف الأشياء] بل مهمتها أن تجعل القضايا واضحة.»

5

وتعليقا على قول «وتجنشتين» هذا، يقول «كارناب»: «إني أوافق وتجنشتين على أن منطق العلم (أي الفلسفة) ليست له جمل خاصة به، إذ ينصب كلامه كله على طريقة تركيب الجمل التي قالها العلم، وإذن فمنطق العلم (= الفلسفة) لا تضيف إلى ميادين العلوم ميدانا جديدا.»

6

وهذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم، القائمة على أساس أن العلم قضاياه تصف الظواهر الطبيعية وصفا مباشرا، وفلسفة العلم قوامها البحث في قضايا العلم من حيث هي تعبيرات لغوية؛ أقول: إن هذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم هي التي أخذ بها الأستاذ «آير» إذ قال في فصل عقده لشرح فلسفة العلم ما يلي: «الكتاب العلمي يتألف في جوهره من عبارات، والكثرة الغالبة من هذه العبارات تتحدث عن أشياء ... لكنك يغلب أن تجد فيه كذلك عبارات ... [لا تصف أشياء] بل تفسر طريقة استعمال ألفاظ معينة، أو تعلق على العلاقة المنطقية القائمة بين عبارات أخرى واردة في الكتاب، كأن تقرر عبارة ما بأن نظريتين مختلفتين متعارضتان أو غير متعارضتين، أو أن مجموعة من العبارات تأتي لتشهد بصدق مجموعة أخرى، فهذه العبارات التي لا تشير إشارة مباشرة إلى مادة العلم الذي هو موضوع البحث، بل تشير إلى مدركاته [الواردة في الجمل التي تصف الأشياء وصفا مباشرا]، أو تشير إلى عبارات أخرى يمكن القول عنها بأنها هي فلسفة العلم.»

7

إذن فالمهمة التي تضطلع بها الفلسفة عند الوضعيين المنطقيين - ومن بينهم «كارناب» الذي نحدثك الآن عنه، هي التحليل؛ تحليل أية عبارة مما يقوله الناس بصفة عامة، وتحليل العبارات العلمية بصفة خاصة، وفي رأيهم ألا شأن للفلسفة بالعالم وما فيه من أشياء؛ لأن ذلك من عمل العلماء، كل عالم في المجال الذي اختص به وتخصص فيه، فكما يقول «جون وزدم» في عبارة مختصرة يصف بها الفلسفة اليوم: «لأن تتفلسف معناه أن تحلل.»

8

2

ولعل أبرز طابع يميز العمل الذي أداه «كارناب» في مجال التحليل هو اشتغاله بالسميوطيقا

9 - أو علم الرموز - فقد أنفق في ميدانه شطرا كبيرا من جهده، ووضع فيه المؤلفات الفنية، التي تحتاج دراستها إلى تخصص وانقطاع، إذ لم يعد أمر «الفلسفة» - باعتبارها تحليلا من هذا الطراز الرمزي المعقد الدقيق - صفحات تقرؤها وأنت مسترخ على كرسيك، تأخذ منها ما تشاء وتدع ما تشاء.

والسميوطيقا - أو علم الرموز - تنقسم ثلاثة أقسام، هي: (1)

البراجماطيقا،

10

وهي تبحث في المتكلم نفسه باعتباره أداة الكلام. (2)

السمانطيقا،

11

وهي البحث في مدلولات الألفاظ . (3)

السنتاطيقا،

12

وهي البحث في العبارات اللفظية نفسها من حيث تركيبها وتكوينها، بغض النظر عن المتكلم وبغض النظر أيضا عما تشير إليه الألفاظ من مدلولات.

وسنعرض لك الآن كل قسم من هذه الأقسام في كلمة موجزة تشرحه: (1) البراجماطيقا

من أمثلة البحث البراجماطيقي في الرموز وطرائق استخدامها، التحليل الفسيولوجي للعمليات التي يؤديها الجهاز العصبي والتي تؤديها أعضاء الكلام كاللسان والأحبال الصوتية والحنجرة، ثم التحليل السيكولوجي للعلاقات التي تربط بين عملية الكلام - وهي ضرب من سلوك الإنسان - وبين سائر ضروب السلوك، ثم الدراسة السيكولوجية أيضا للمفهومات كيف تختلف للفظ الواحد عند مختلف الأشخاص الذين يستخدمون ذلك اللفظ، ثم الدراسات البشرية والاجتماعية لاختلاف المجموعات البشرية كالأمم المختلفة والقبائل المختلفة والأعمار المختلفة والطبقات الاجتماعية المختلفة واختلاف الجنسين: الرجال والنساء، وما إلى ذلك في عادات الكلام، إذ من الواضح أن طبائع هؤلاء في طرائق التعبير ليست سواء.

فالبراجماطيقا هي - كما ترى - البحث في الرموز اللغوية وهي ما تزال محصورة في الإنسان الذي يستخدمها، أعني البحث فيها وهي لا تزال صورة من صور السلوك البشري، بغض النظر عن مدلولات تلك الرموز، فنحن ها هنا نبحث في عادات بشرية وطبائع، كأننا نبحث - مثلا - في طرائق الناس المختلفة في الأكل ولبس الثياب.

وأهم ما يهمنا نحن من البحث البراجماطيقي للغة، هو تعبيرها عن «عقائد» قائليها؛ لأنك إن قلت جملة لتصف بها أمرا واقعا، كانت العلاقة بين الجملة ومدلولها الخارجي علاقة سمانطيقية، أما إن قلتها لا لتصف شيئا في الخارج، بل لتعبر عن اعتقاد معين لديك، فالعلاقة هنا بين الجملة وبين الاعتقاد الداخلي الذي جاءت الجملة لتعبر عنه، هي علاقة براجماطيقية؛ إذ هي عندئذ علاقة بين الجملة وبين حالة عقلية، أو ميل شخصي عند قائلها، والجملة الواحدة يقولها متكلمون مختلفون، قد تعبر عن حالات عقلية مختلفة مع أن مدلولها الخارجي واحد دائما؛ ذلك لأن شخصين قد يقولان جملة معينة، حين يقصد أولهما إلى قول الصدق، على حين يقصد الآخر إلى قول الكذب، فعندئذ تكون الجملة بالنسبة إلى الحالة النفسية عند القائل الأول مختلفة عنها بالنسبة إلى الحالة النفسية عند القائل الثاني.

13

3 (2) السمانطيقا

كان أول ما اتجه إليه «كارناب» من ميادين البحث، هو الدراسة «السنتاطيقية المنطقية» وحدها، أعني الدراسة التي تعنى بتحديد العلاقات التي تقوم بين الكلمة وسائر الكلمات التي تشترك معها في بناء الجملة الواحدة، إذ البحث «السنتاطيقي» ينصرف إلى البناء اللفظي للغة دون الالتفات إلى ما وراء هذه الألفاظ اللغوية من مدلولات خارج المتكلم أو داخله، وأما وصفنا للبحث السنتاطيقي الذي قام به «كارناب» في أول مراحله، بأنه كان «منطقيا» - إذ أسميناه بالسنتاطيقية المنطقية - فنقصد به إلى القول بأن «كارناب» لم يعن بالتركيب اللفظي للغة معينة بذاتها - كاللغة الإنجليزية أو الفرنسية مثلا - بل حاول أن يبحث التركيب الرمزي العام، الذي تشترك فيه أية لغة كائنة ما كانت، كأنما أراد بذلك أن يقول إن اللغة مهما تكن لا بد منطقيا أن تجيء عباراتها مركبة على الصورة الفلانية والصورة الفلانية، لكي تصلح أداة للتفاهم.

لكن «كارناب» لم يلبث أن وسع ميدان البحث في اتجاهين آخرين، بحيث أصبحت اتجاهات بحثه ثلاثة، إذ راح يبحث في اللغة من حيث مدلولات الألفاظ والعبارات، ثم راح يبحثها كذلك من حيث علاقة العبارة بقائلها، وإذن فلم يعد بحثه مقصورا على بحث العبارة اللغوية من حيث كيفية بنائها كما كانت الحال عند المرحلة الأولى من حياته العلمية، بل جاوز ذلك إلى مدلولات اللغة من جهة، وإلى ارتباطها بالمتكلم من جهة أخرى.

والأرجح أن «مورس»

14

كان أول من دعا إلى توسيع نطاق البحث اللغوي المنطقي في هذين الاتجاهين الجديدين، إذ يقول: إن «الرمز» يكون دائما ذا علاقات ثلاث: (1)

فهو متعلق أولا بالشخص الذي يستخدمه ليرمز به إلى شيء ما. (2)

وهو متعلق ثانيا بالشيء الذي يرمز إليه. (3)

وهو متعلق ثالثا بالرموز الأخرى التي قد تشترك معه في بناء صيغة أو عبارة. وهذه العلاقات الثلاث يطابقها ميادين ثلاثة في البحث، هي على التوالي: (1) البراجماطيقا. (2) السمانطيقا. (3) السنتاطيقا.

وما اللغة إلا مثل من أمثلة الرموز، فالبحث فيها - إذن - لا بد أن يتناول هذه الميادين الثلاثة إذا أريد له أن يكون وافيا شاملا.

ومن هنا اتجه «كارناب» وجهته الجديدة في بحثه اللغوي المنطقي، فبعد أن كان قاصرا على بحث العلاقة القائمة بين الرمز اللغوي وغيره من الرموز التي تشترك معه في عبارة ما (وهذا هو السنتاطيقا)، أخذ يوسع من نطاق بحثه إلى حيث يتناول الفرعين الآخرين، وهما «السمانطيقا» و«البراجماطيقا»، فهو يقول في كتابه «المدخل إلى السمانطيقا»: «إنني الآن أرى كثيرا من الأبحاث والتحليلات السابقة غير كاملة - ولو أنها صحيحة - ولا بد من إتمامها بتحليل سمانطيقي يقابلها، إذ إن مجال الفلسفة النظرية لم يعد مقصورا على السنتاطيقا، بل إنه كذلك يشمل كل تحليل آخر للغة، بما في ذلك السنتاطيقا والسمانطيقا، بل ربما شمل البراجماطيقا أيضا.»

15

ويقول الأستاذ «كورنفورث» عن هذا التطور في البحث عند «كارناب» ما يلي: «لقد نجح كارناب بادئ ذي بدء في تناوله لفلسفة اللغة [من حيث تكوين عباراتها] متجاهلا تجاهلا تاما أن للكلمات التي يبحثها معاني، أما الآن فلم يعد يقتصر على بحث القواعد التي تتحكم في البناء الصوري للغة، بل أضاف إلى ذلك محاولة أخرى، هي البحث في القواعد التي تجعل للعبارات معنى، فبناؤه الفلسفي قوامه قواعد يزعم أنها تنطبق انطباقا عاما وضروريا على أية لغة كائنة ما كانت، وإذا فهمت هذه القواعد، فقد فهمت طريقة استخدام اللغة على الوجه الصحيح، وبالتالي فقد عرفت كيف تجتنب الأخطاء الناشئة عن سوء استخدام اللغة.»

16

وما دام «كارناب» لا يريد ببحثه أن يقتصر على هذه اللغة المعينة أو تلك، بل يريد له أن يكون عاما وضروريا، ينطبق على أية لغة تصلح للتفاهم، فلا بد أن يجول في تجريدات صرف؛ لأنه لا يتناول لغة قائمة بذاتها، بل يتناول لغة مجردة، ومن ثم اتجه ناقدوه إلى التقليل من شأن عمله، بأن وصفوه بأنه شبيه باسكولائية العصور الوسطي، «فجوهر طريقته الفلسفية هو أن يحول الفلسفة إلى أبحاث اسكولائية خاصة ببناء وقواعد شيء ليس بذي وجود حقيقي، وأعني به اللغة بصفة عامة، فلا شأن لها بأية لغة حقيقية ولا بالحياة أو المجتمع.»

17

والحق أن «كارناب» يفرق منذ بداية بحثه السمانطيقي

18

بين ما يسميه «بالسمانطيقا الوصفية»،

19

وما يسميه «بالسمانطيقا المجردة»،

20

أما الأولى فتتناول اللغات التي وجدت فعلا، والتي تم بها التفاهم فعلا بين أبناء هذه الأمة أو تلك - سواء ما كان منها قائما إلى اليوم وما انقضى وانقرض - وهذه الدراسة كأية دراسة تجريبية أخرى، إن هي إلا بحث في كائن موجود، نسجل أوصافه وقوانينه وفق ما نلاحظه، وهذه الدراسة التجريبية للغة هي أقرب إلى «البراجماطيقا» منها إلى «السمانطيقا» بمعناها الصحيح؛ لأنها تبحث في الرموز اللغوية بالنسبة إلى طائفة من الناس يستخدمونها فعلا، أو استخدموها فعلا في زمن مضى، فالسمانطيقا الوصفية تتناول من اللغة ألفاظها ونحوها وصرفها ... إلخ.

وأما «السمانطيقا المجردة» - وهي موضع الاهتمام والعناية عند كارناب - فهي التي لا تتعلق بلغة معينة بذاتها، بل تصدق على كل لغة يمكن أن يتصورها الإنسان أداة للتفاهم، وإذن فهي بحث منطقي لا تجريبي، فكما أنه في بحثه للسنتاطيقا قد انصرف إلى الجانب المنطقي منها، بمعنى أنه لم يقف عند تحليل البناء اللغوي للغة معينة، بل أراد أن يحلل البناء الرمزي لأية لغة يمكن تصورها أداة للتفاهم، فكذلك هو الآن مهتم بالجانب المنطقي للسمانطيقا.

والبحث السمانطيقي يتناول كيفية الدلالة التي تكون للألفاظ، كما يتناول البحث في معنى الصدق، والبحث في الاستنباط المنطقي، أي كيف نستنبط قضية صادقة من أخرى صادقة.

4

ولكي نبحث في كيفية الدلالة التي تكون للألفاظ، ينبغي أولا أن نفرق بين نوعين من الكلام، أو نوعين من اللغة، يسميهما «كارناب» على التوالي: «بلغة الأشياء»

21

و«لغة الشرح»،

22

فلغة الحديث العادية هي «لغة أشياء»، أي إن الناس يستخدمونها ليتحدثوا عن الأشياء التي يريدون أن يتحدثوا عنها، كما يقول المتكلم لسامعه: «الكتاب على المنضدة»، وأما إذا تحدثنا عن هذه اللغة نفسها، كأن أقول مثلا عن اللغة العربية: «إن ألفاظها لا تخرج عن أن تكون اسما أو فعلا أو حرفا.» كانت هذه اللغة الجديدة «لغة شارحة»، أو إن شئت فقل إنها لغة للغة لا لغة للأشياء التي من أجل وصفها والحديث عنها خلقت اللغة بمعناها الأول. «فإذا كنا نبحث ونحلل ونصف لغة ما (ولنرمز لها بالرمز «ل

1 ») فإننا بحاجة إلى لغة أخرى (ولنرمز لها بالرمز «ل

2 »)، نصوغ فيها نتائج بحثنا في «ل

1 »، أو نصوغ فيها قواعد استخدام «ل

1 »، في هذه الحالة نسمي «ل

1 » لغة الأشياء، ونسمي «ل

2 » لغة الشرح. فلو كنا نصف بالإنجليزية التركيب النحوي للغة الألمانية الحديثة أو اللغة الفرنسية الحديثة، أو إذا كنا نصف التطور التاريخي لصور الكلام، أو نحلل المؤلفات الأدبية في هاتين اللغتين، عندئذ تكون الألمانية والفرنسية بالنسبة لبحثنا لغتي الأشياء، وتكون الإنجليزية لغة الشرح، وكل لغة كائنة ما كانت يمكن اتخاذها لغة أشياء، وكل لغة فيها تعبيرات صالحة لوصف معالم اللغات يمكن اتخاذها لغة شارحة، وقد تكون اللغة الواحدة لغة أشياء ولغة شرح في آن واحد، مثال ذلك حين نتحدث بالإنجليزية عن النحو الإنجليزي أو الأدب الإنجليزي ... إلخ.»

23

والسمانطيقا من حيث هو بحث في دلالات الألفاظ والعبارات على معانيها، يشتمل على الدراسات التي تترجم لغة الأشياء إلى لغة شارحة، وبعبارة أبسط: السمانطيقا هي دراسة معاني العبارات اللغوية، وإذن فمحور السمانطيقا هو دلالة اللفظ على مسماه، وهذه الدلالة إن هي إلا علاقة قائمة بين اللفظ وبين شيء آخر مرموز له يقع خارج حدود اللغة، فكلمة «العقاد» تدل على شخص بين الناس معين بصفات خاصة، وواضح أن هذا الشخص المشار إليه ليس كلمة من كلمات اللغة، إنما هو شيء في عالم الأشياء، فالسمانطيقا إذن هو ربط العلاقة الدلالية بين الكلمة أو العبارة، وبين الشيء أو الحادثة المشار إليها في عالم خارج عن حدود اللغة بكل ما فيها من كلمات وعبارات.

فإذا أردنا بناء لغة محددة الدلالات، جعلنا رمزا خاصا لكل مسمى على حدة، ولما كانت المسميات - أي الأشياء - ثلاثة أقسام: أفراد، وصفات تصف الأفراد، وعلاقات تربط كل فرد بغيره من الأفراد؛ أمكن أن نتصور رموز لغتنا مقسمة إلى مجموعات ثلاث على النحو الآتي:

س

1 ، س

2 ، س

3 ، س

4 ... إلخ وهي أسماء المفردات.

ص

1 ، ص

2 ، ص

3 ، ص

4 ... إلخ وهي أسماء الصفات.

ع

1 ، ع

2 ، ع

3 ، ع

4 ... إلخ وهي أسماء العلاقات.

حتى إذا ما تم لنا ذلك، كانت كل عبارة لغوية مؤلفة من مجموعة من هذه الرموز، وأمكن في كل عبارة أن نطابق بين التركيبة الرمزية وما تدل عليه خارج حدود الرموز.

5

بعد أن نفرغ من وضع رموز دالة على مفردات الأشياء جميعا - والأشياء إما ذوات فردة أو صفات أو علاقات - فإننا نكون بذلك قد مهدنا الطريق واضحا جليا لوضع قواعد الصدق لأنواع الجمل المختلفة، فالجملة «(ص

1 ) س

1 » - ومعناها الفرد المعين س

1

موصوف بالصفة المعينة ص

1 - تكون صادقة لو كان الفرد المعين المرموز له بالرمز س

1

في عالم الأشياء موصوفا حقا بالصفة المعينة المرموز لها بالرمز ص

1 ، فإذا لم نجد للرمز مرموزا له كانت العبارة باطلة، وإذا وجدناه لكننا رأيناه غير موصوف بالصفة ص

1

كانت العبارة باطلة أيضا.

على أنه ليست العبارات اللغوية كلها من هذا النوع البسيط، بل كثيرا ما تكون العبارة مركبة من عدة أجزاء بسيطة، كأن نصل عبارتين بسيطتين برابطة العطف أو بكلمة «أو» في مثل قولنا: «إما أبيض أو أسود»، أو بكلمة «إذا» في مثل قولنا: «إذا غربت الشمس أضأت المصباح.» ... إلخ إلخ، فإننا لنحكم بالصدق على عبارة مركبة وجب أولا أن نحلها إلى عناصرها البسيطة، ثم نطابق بين كل عنصر بسيط ومقابله في عالم الأشياء، على النحو الذي أسلفنا ذكره.

ومن هنا جاءت النظرية السمانطيقية في معنى «الصدق» حين نصف عبارة ما بأنها «صادقة»،

24

فكلمة «صدق» كلمة زائدة لا ضرورة لها؛ لأن قولك عن عبارة إنها صحيحة مساو لقولك العبارة مجردة عن ذلك الوصف، فقولك - مثلا - «(القمر مستدير) عبارة صادقة»، مساو لمجرد قولك «القمر مستدير».

ذلك لأننا إذا ما نطقنا بعبارة، كان هنالك أمامنا شيئان: الشيء الذي نشير إليه بالعبارة التي نطقنا بها، والعبارة نفسها، والمفروض هو أن العبارة تصوير للشيء، كأننا وضعنا أمامنا شيئا وصورته، وأصبحت كلمة «صادقة» بغير مدلول؛ لأن الشيء المصور ليس فيه جزء اسمه «صدق»، وإذن فهي اسم بغير مسمى، أعني أنها رمز لا موجب له، فيجب حذفه.

25

وواضح أنه لو اقتصر باحث في بحثه على التشكيلات اللغوية وحدها، أعني لو أنه اقتصر على بحثه للطريقة التي تتكون بها العبارات اللغوية، والطريقة التي يمكن بها اشتقاق عبارة من عبارة (وهذان هما قوام السنتاطيقا) لما كان هنالك حاجة إلى استخدام كلمة «صدق» أو كلمة «كذب» إطلاقا، إذ تبدأ الحاجة إلى استعمال هاتين الكلمتين، حين نلتفت إلى عالم الأشياء والوقائع؛ لنرى هل التركيبة اللفظية المعينة تصور أو لا تصور شيئا من الواقع، ولعل هذا هو ما حدا ب «كارناب» أن يضيف بحثه السمانطيقي إلى بحوثه الأولى في السنتاطيقا، أي حدا به إلى إضافة طريقة إدراك المدلولات إلى بحوثه الأولى التي اقتصرت على تحليل التكوين اللفظي للعبارات، بغض النظر عن مدلولاتها الخارجية.

لكن إذا كان صدق العبارة معناه مطابقتها للشيء الخارجي أو للواقعة الخارجية، فماذا نقول في صدق قواعد المنطق نفسها، مع أن هذه القواعد صدقها ضروري يستحيل عليه الخطأ؟ خذ - مثلا - قاعدة أن النقيضين لا يجتمعان، فلا يجوز قبول عبارة كهذه «س ولا س»، هذه قاعدة «صادقة» بالضرورة، فما معنى «صادقة» هنا، مع أنه ليس هناك في عالم الأشياء ما نرجع إليه لنطابق بينه وبين قولنا: إن «س ولا س لا يجتمعان»؟

هنا يقول «كارناب»: إن قواعد المنطق صادقة بمعنى أننا اتفقنا عليها حين اتفقنا على رموز اللغة وطريقة استخدامها،

26

فقواعد المنطق مختارة منا اتفاقا، وصدقها اتفاقي،

27

كأن يتفق اثنان - مثلا - على أن يتفاهما برمز معين مثل هذا الرمز «-» على أنه يعني عدم وجود الشيء الذي يجيء هذا الرمز سابقا لاسمه، فإن قال أحدهما «- س» فهم الآخر أن س غير موجود، فإذا وجدا بعد ذلك أن الرمز «-» يدل دائما على معنى معين، لما جاز لهما أن يعجبا؛ لأن دوام معناه ودوام صدقه هو نتيجة اتفاقهما، وقد كان في مستطاعهما أن يتفقا على خلاف ذلك، كأن يتفقا - مثلا - على أن الرمز نفسه دال على وجود الشيء الذي يجيء الرمز سابقا لاسمه، فقولنا عن العبارتين الآتيتين : «نابليون ولد في كورسكا» و«نابليون لم يولد في كورسكا» إنهما جملتان متناقضتان، أي إن الواحدة منهما تنفي الأخرى منطقيا، معناه أننا اصطلحنا بحكم القواعد التي تواضعنا عليها في اللغة واستعمالها، على أن كلمة النفي «لم» إذا وجدت في جملة، كان معناها أن الجملة تصبح متناقضة مع نفس الجملة إذا خلت منها، بحيث يستحيل صدقهما معا أو كذبهما معا.

28

ولقد تعرض الأستاذ «آير» لهذه النقطة فشرحها شرحا واضحا

29

نلخصه فيما يلي:

إن مما أدته الحركة التحليلية في الفلسفة خلال الخمسين سنة الأخيرة، هو أنها أزالت الإشكال الذي كان يظن أنه ملازم لقضايا المنطق الصوري والرياضة البحتة، إذ كان الرأي مجمعا على أن هذه القضايا صادقة بالضرورة، لكن نشأت الصعوبة حين أرادوا معرفة كيف أتيح للإنسان أن يعلم عنها أنها صادقة بالضرورة، لماذا يكون العالم منطقيا؟ كيف أتيح لنا أن نوقن بأن قوانين المنطق لن تخالف الواقع؟ الجواب هو أنه لا معنى لقولنا: إن العالم منطقي أو غير غير منطقي، إذ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوصف بكونه منطقيا أو غير منطقي استدلال عبارة من عبارة أخرى، والاستدلال المنطقي هو ما نجربه وفق قوانين المنطق، وقوانين المنطق هي قواعد وضعناها لإجراء مثل هذا الاستدلال.

30

إن قوانين المنطق يستحيل أن تتعارض مع الواقع؛ لأنها في ذاتها لا تقول شيئا عن الواقع، إننا بتطبيقنا لقوانين المنطق نستطيع أن نشتق عبارة صحيحة من عبارة أخرى صحيحة، لكن المنطق وحده ليس هو الذي يقول عن العبارة الأولى إنها صحيحة؛ لأن ذلك موكول إلى الخبرة وحدها، كل ما يستطيع المنطق أن يقوله هو أنه إذا صدقت عبارة - أو مجموعة عبارات - وصفية، فلا بد أن تصدق كذلك عبارة وصفية أخرى هي كذا وكذا.

لكن لماذا نلزم أنفسنا باشتقاق العبارة الثانية من العبارة الأولى؟ الجواب هو أننا إذا سلمنا بالعبارة الأولى الصحيحة ورفضنا أن نسلم بالعبارة التي تلزم عنها، فإننا نكون بمثابة من يناقض نفسه.

والسؤال الآن هو: ولماذا ينبغي لنا أن نجتنب مناقضة أنفسنا؟ أليس ذلك لأن العالم مكون على نحو يستحيل معه أن يصدق النقيضان معا؟ وإذا كان أمر العالم كذلك، فهو إذن عالم يجري على اتفاق مع قوانين المنطق ... لكن الجواب على هذا كله هو أنه ليس ثمة ما يلزمنا بألا نقبل التناقض،

31

إنما هو اتفاق بيننا نشأ عن اتفاقنا على طريقة معينة نستخدم بها لغة التفاهم، إننا اتفقنا على أن يكون لأداة النفي «لا» معنى معين، بحيث إذا قلنا عبارة كهذه «ق ولا ق» جاءت عبارة بغير معنى، أي لم نجد لها مدلولا في عالم الأشياء، وليس ذلك لأن في طبيعة العالم نفسه ما يأبى ذلك، بل لأننا نحن الذين صنعنا لغتنا على نحو يجعل ضم القضية إلى نقيضها لا يفيد وصفا لشيء.

إن قولنا: إن «عدم اجتماع النقيضين» قانون من قوانين المنطق، مساو لقولنا: إننا اتفقنا على استخدام معين لأداة النفي، وكان يجوز لنا أن نبني نسقا منطقيا آخر يخرج على هذا القانون - قانون عدم اجتماع النقيضين - إذ يجوز لنا مثلا أن نبدأ بناءنا المنطقي الجديد باشتراطنا صدق «ق ولا ق»، ثم نأخذ في استدلال النتائج من هذا الاشتراط الأولي، وعندئذ يكون اجتماع النقيضين هو الصحيح، وهو الذي نرتب على صدقه صدق القضايا التي تستدل منه، وإذا بدا هذا القول مشكلا غريبا، فلأننا نظن أن علامة النفي ستظل في البناء المنطقي الجديد المقترح، محتفظة بمعناها الحالي، مع أنه واضح طبعا أننا لو أبقينا لها معناها الحالي الذي يجعل عدم اجتماع النقيضين صحيحا؛ استحال أن يكون اجتماع النقيضين صحيحا أيضا.

32

إننا في تكويننا للغة التي نقرر فيما بيننا أن تكون أداة للتفاهم، نكون عندئذ أحرارا في أي القواعد نضع لهذه اللغة كي تكون أداة صالحة مستقيمة وافية موفية لأغراضها، حتى إذا ما تمت هذه الخطوة لم يعد لنا مجال للاختيار، وها هنا - كما يقول كارناب - لا تظل مبادئ المنطق أمرا جزافا، بل تصبح ضرورية الصدق، ويرجع صدقها الضروري هذا إلى أن القواعد السمانطيقية، التي استخدمناها في بناء العبارات ذوات الدلالة تكفي وحدها لبيان صدقها ،

33

فمبادئ المنطق الصوري نتائج تلزم بالضرورة عن القواعد السمانطيقية التي وضعت لتخلع على العبارات اللغوية معانيها، ولما كانت هذه القواعد السمانطيقية ثابتة أبدا، كانت النتائج المترتبة عليها - أعني مبادئ المنطق الصوري - صادقة هي الأخرى صدقا لا يخطئ.

خذ لذلك مثلا هذا المبدأ الآتي من مبادى المنطق الصوري: «إذا كانت كل ص

1

هي أيضا ص

2 ، ثم إذا كانت كل ص

2

هي أيضا ص

3 ، فإن كل ص

1

تكون أيضا ص

3 »، هذا مبدأ نقول عنه إنه صادق بالضرورة، لماذا؟ لأنه مترتب على المعنى الذي اتفقنا عليه لكلمة «كل» ولكلمة «إذا»، وإذن فالصدق الضروري للمبدأ المنطقي السالف الذكر، هو نتيجة تلزم حتما عن قاعدة سمانطيقية وضعناها لاستخدام بعض الكلمات،

34

إن مبادى المنطق الصوري لا تتطلب - من أجل تصديقها - رجوعا إلى الخبرة والملاحظة لما يجري في العالم الخارجي، إذ فيم الخبرة وعلام الملاحظة إذا كنا لم نعد استخلاص نتيجة من قاعدة وضعناها نحن لتستقيم لنا معاني كلماتنا وعباراتنا؟

6

وما دمنا في معرض الحديث عن صدق المبادئ المنطقية الصورية، فيجدر بنا - استكمالا للموضوع - أن نذكر رأيا ل «كارناب» جديرا بالنظر والبحث.

يفرق «كارناب» بين شيئين هما: (1) «الوصف الشامل لحالة العالم».

35

و(2) «مدى صدق الجملة».

36

أما «الوصف الشامل لحالة العالم»، فقد يكون وصفا للحالة الواقعة فعلا في لحظة زمنية معينة، وقد يكون وصفا لحالة ممكنة الوقوع في أية لحظة زمنية، وسواء كان هذا أو ذلك، فلا بد أن يكون الوصف قوامه جملة مركبة من قضايا بسيطة كثيرة، كل واحدة منها تصف فردا من أفراد الكائنات بما له من صفات أو علاقات، فافرض مثلا

37

أن اللغة التي نستخدمها ليس فيها إلا ثلاثة أسماء لثلاثة أفراد، هي: أ، ب، ج، وأن هنالك في العالم صفتين اثنتين هما صفتا «أزرق» و«بارد»، إذن فمن الممكن أن تكون صورة العالم متمثلة في «الوصف الشامل» الآتي: أ أزرق ولكنه ليس باردا، ب أزرق وبارد معا، ج لا هو أزرق ولا هو بارد.

وبديهي أنه إذا كان هذا هو «الوصف الشامل لحالة العالم »، فهنالك جمل تصدق فيه وجمل أخرى تكذب فيه، فمثلا الجملة القائلة بأنه «إما أ بارد أو ج بارد» صادقة، بينما تكذب جملة كهذه «أ وج كلاهما بارد».

وهنا تأتي فكرة «المدى»، فلكل جملة مدى من الصدق، يتسع لبعض الجمل ويضيق لبعضها، «ومدى صدق الجملة» يقرره عدد «الأوصاف الشاملة لحالة العالم» - الفعلي منها والممكن على السواء - التي تكون الجملة صادقة فيها، فمثلا مدى صدق الجملة «أ إما أزرق أو بارد» أوسع من مدى صدق الجملة «أ أزرق وبارد معا»؛ لأن عدد «الأوصاف الشاملة لحالة العالم» التي يمكن أن تتصورها، والتي تصدق فيها الجملة الأولى أكثر من تلك التي تصدق فيها الجملة الثانية، ويمكن القول، على وجه العموم، إن مدى صدق الجملة يتناسب تناسبا عكسيا مع إمكان تنفيذها، أي كلما اتسع إمكان خطئها ضاق مدى صدقها.

وبهذا الذي قلناه نستطيع أن نفرق بين الصدق التجريبي والصدق المنطقي، فقولها: إن «سكان مصر عشرون مليونا.» صادق صدقا تجريبيا، ومعنى ذلك أنه قول يطابق الحالة الواقعة، لكن يمكن تصور حالات لا حصر لعددها ممكنة الوقوع، ويكون فيها هذا القول خاطئا، فقد كان يمكن أن يكون سكان مصر فعلا ثلاثين أو أربعين أو خمسين مليونا أو أي عدد شئت، وفي كل حالة من هذه الحالات الممكنة يكون قولنا: إن «سكان مصر عشرون مليونا.» قولا باطلا، فالجملة التجريبية تصدق في حالة واحدة فقط، هي حالة مطابقتها للحالة الواقعة فعلا.

وأما الصدق المنطقي فيكون حين لا يمكن تصور حالة من الحالات الممكنة تنقضه وتفنده، فالجملة الصادقة صدقا منطقيا، تصدق في أي وصف يمكن تصوره للعالم،

38

أي إن «مدى صدقها» يبلغ أوسع نطاق ممكن، فقولنا مثلا: «إذا كانت أ أكبر من ب، وب أكبر من ج، كانت أ أكبر من ج» قول صادق صدقا منطقيا؛ لأنه يصدق في كل حالة ممكنة من حالات العالم، فليس هناك «وصف شامل لحالة العالم»، بحيث تكذب فيه هذه العبارة.

وقل هذا نفسه عن الجملة التي تكون باطلة منطقيا، كالجملة التي يكون فيها تناقض ، فهي جملة باطلة مهما يكن وصف العالم الذي تتصوره.

جملة مثل «أ إما أن تكون باردة أو ليست باردة» صادقة صدقا منطقيا في كل عالم ممكن، وجملة مثل «أ باردة وليست باردة معا» باطلة بطلانا منطقيا في كل عالم ممكن.

ونحن نحكم على الجملة الصادقة صدقا منطقيا بضرورة صدقها في كل الحالات، دون حاجة منا إلى مراجعة العالم الواقع، لا لأن فيها سرا عقليا دفينا يجعلها لغزا من الألغاز، بل لأن القواعد السمانطيقية التي وضعناها للغتنا تقتضي ذلك.

7 (3) السنتاطيقا

قلنا إن ميادين البحث اللغوي المنطقي عند «كارناب» ثلاثة، هي: البراجماطيقا التي تبحث في القول بالنسبة إلى قائله من حيث الحالة الجسمية والنفسية التي صاحبت النطق به، والسمانطيقا التي تبحث في القول بالنسبة إلى دلالته وإلى صدقه وصدق ما يشتق منه، والسنتاطيقا التي تبحث في القول بالنسبة إلى علاقة رموزه بعضها مع بعض، بغض النظر عن قائله، وبغض النظر عن دلالته وصدقه.

وقد أسلفنا القول في الجانبين الأول والثاني، وسنوجز القول الآن في الجانب الثالث.

يقول «كارناب»: إن اللغة تتميز من ناحية بنائها وتكوين عباراتها - أي من الناحية السنتاطيقية - بمجموعتين من القواعد تسير وفقهما: (1) قواعد التكوين.

39

و(2) قواعد التحويل.

40

الأولى تبين كيف تتركب الجملة من الرموز اللغوية الجزئية، والثانية تبين كيف نشتق جملة من جملة أخرى.

فمن قواعد التكوين نعرف كيف نبني الجملة البسيطة التي تتحدث عن جزئي واحد في واقعة واحدة، فها هنا لا بد من رمز يرمز إلى فرد معين وليكن «س»، ثم لا بد من رمز آخر يرمز إلى صفة معينة يتصف بها ذلك الفرد وليكن «ص»، أو إلى رمز ثالث يرمز إلى علاقة تربط ذلك الفرد بفرد آخر أو أفراد أخرى، وليكن رمز العلاقة «ع»، ورمز الفرد الآخر هو «م»، وبعد أن نفرغ من وضع الرموز لنسمي بها الأفراد والصفات والعلاقات، يتسنى لنا أن نبني الجملة البسيطة بصورها المختلفة، فنقول مثلا «(ص) س» - أي إن الفرد «س» موصوف بالصفة «ص»، أو نقول «س ع ص»، أي إن الفرد «س» مرتبط بالعلاقة ع مع الفرد ص.

ثم من قواعد التكوين أيضا نعرف كيف نبني الجملة المركبة من جمل بسيطة، بواسطة الروابط المنطقية مثل «أو» و«و» و«إذا»، كأن نقول مثلا: «إما (ص) س أو (ح) س»، أي إن الفرد س إما موصوف بالصفة ص أو بالصفة ح، أو أن نقول: «(ص) س، و(ح) ك»، أي إن الفرد س موصوف بالصفة ص، والفرد ك موصوف بالصفة ح، وما دمنا قد رسمنا الطريق لتكوين الجملة البسيطة والجملة المركبة من رموز نضعها للأشياء والصفات والعلاقات، فقد رسمنا الطريق لتكوين العبارات اللغوية كلها.

تلك هي قواعد «التكوين»، أما قواعد «التحويل» فهي التي تخول لنا أن نشتق جملة من جملة، فمثلا إذا كان لدينا هاتان الجملتان: (1) «إما س أو ص». و(2) «ليس س». جاز لنا أن نشتق العبارة ص.

ومن قواعد التكوين وقواعد التحويل معا، نستطيع أن نلم باللغة كلها من حيث مبنى عباراتها، وعلاقة الرموز اللغوية بعضها ببعض في الجملة الواحدة، وعلاقتها بعضها مع بعض في الصيغ الرمزية المختلفة، وواضح بالطبع أننا ما دمنا نحصر أنفسنا في دائرة هذه القواعد وحدها، فسنظل في عزلة عن عالم الأشياء والحوادث، سنحدد أنظارنا بحدود العبارة اللغوية وأجزائها، فلا نجاوز هذه الحدود إلى ما وراء العبارة اللغوية من مدلولات تجعل العبارة صحيحة أو كاذبة، وفي هذه الحدود السنتاطيقية حصر «كارناب» نفسه أول الأمر، ثم خرج عن هذه الحدود حين وسع من نطاق بحثه، بحيث شمل الجانبين الآخرين: جانب السمانطيقا الذي يربط فيه بين العبارة ومدلولها الخارجي، وجانب البراجماطيقا الذي يربط فيه بين العبارة وقائلها، وبذلك تكمل جوانب البحث في منطق اللغة.

8

يفرق «كارناب» بين ثلاثة أنواع من العبارات، هي: (1)

عبارة شيئية، أي تتحدث عن شيء ما مباشرة دون توسط اسم ذلك الشيء، كأن تضع على الورق بقعة خضراء، وتكتب إلى جانبها كلمة أخضر، على اعتبار أن يفهم القارئ مما يراه جملة: «هذا أخضر».

ومن قبيل ذلك أيضا تكتب - مثلا - الرقم 4 وإلى جانبه تكتب عبارة «عدد زوجي»، فعندئذ العبارة الوصفية «عدد زوجي» تصف الشيء الموصوف مباشرة وهو «4». (2)

عبارة سنتاطيقية، وهي التي تتحدث عن كلمة من كلمات اللغة، كأن تقول مثلا: «يكتب مكونة من أربعة أحرف.» «الهرم اسم يطلق على أثر مصري قديم في الجيزة.» «المقعد كلمة تقال عن أي شيء معد للجلوس.» (3)

عبارة تتذبذب بين النوعين السابقين، فهي مصوغة على نحو يوهم بأنها تتحدث عن شيء ما مباشرة (كأنها من النوع الأول)، بينما هي في حقيقة أمرها تنتمي إلى النوع السنتاطيقي (النوع الثاني)، و«أمثال هذه العبارات سنطلق عليها اسم (عبارات تتحدث عن أشباه أشياء)».

41 «إلى هذا النوع [الثالث] الذي يقع وسطا [بين العبارات الشيئية والعبارات السنتاطيقية] تنتمي مسائل كثيرة وعبارات كثيرة متصلة بالأبحاث التي يقال عنها إنها أبحاث فلسفية».

42 «خذ مثلا بسيطا لهذا، فافرض أننا في مناقشة فلسفية عن فكرة العدد، أردنا أن نقرر أن هنالك فرقا جوهريا بين الأعداد من جهة والأشياء (الطبيعية) من جهة أخرى ... فقلنا هذه الجملة: «خمسة ليست شيئا لكنها عدد.» (ج

1 ) فظاهر هذه الجملة هو أنها تصف العدد خمسة بوصف معين، شأنها ذلك شأن هذه الجملة الآتية: «خمسة ليست عددا زوجيا بل هي عدد فردي» (ج

2 ) مع أن الجملة الأولى (ج

1 ) في حقيقة الأمر لا تقول شيئا عن العدد خمسة، بل هي خاصة بالكلمة (لا العدد) خمسة، ويتبين هذا من الصيغة الآتية (ج

3 ) التي يمكن أن نحلها محل الجملة الأولى (ج

1 ): ««خمسة» ليست كلمة دالة على شيء، بل هي كلمة دالة على عدد.» فبينما ج

2

عبارة شيئية بالمعنى الصحيح [أي تتحدث عن شيء ما مباشرة دون وساطة كلمة دالة عليه] ترى أن ج

1

عبارة تتحدث عن شبه شيء [أي توهم بأنها تتحدث عن شيء والحقيقة هي أنها تتحدث عن كلمة].»

43

إنني أدعو القاري إلى حصر انتباهه جيدا في هذه التفرقة التي يبرزها «كارناب»، أعني التفرقة بين العبارة التي تتحدث عن شيء، والعبارة التي ليست كذلك، فتوهم بأنها تتحدث عن شيء مع أنها تدور حول كلمة، فهذا الصنف الثاني صنف زائف من الكلام، وهو هام في بحثنا هذا؛ لأن ما يسمى بالمشكلات الميتافيزيقية كله من هذا اللون الزائف الذي يدور الحديث فيه عن «أشباه أشياء»، على حين أنه يوهم بغير ذلك.

ولتوضيح هذه التفرقة بين الصنفين، سنسوق عدة أمثلة مما أورده «كارناب» في هذا الصدد: (ج

1 ) «محاضرة الأمس كانت عن بابل.» هذه عبارة ظاهرها هو أنها تقرر شيئا عن بابل، ما دام اسم بابل واردا فيها، مع أنها في حقيقة الأمر لا تقول شيئا على الإطلاق عن مدينة بابل، بل تقول ما تقوله عن محاضرة الأمس، وعن كلمة «بابل»، فعلمنا بصفات مدينة بابل نفسها لا يتأثر قط بكون ج

1

صادقة أو كاذبة، ومما يدل على أن ج

1

تحدثنا عن شبه شيء (لا عن الشيء نفسه) أنها يمكن ترجمتها إلى العبارة الآتية ج

2 : «في محاضرة أمس وردت كلمة «بابل» أو ورد تعبير مرادف لهذه الكلمة.»

44

وتحويل الكلام على هذا النحو - من صورته الغامضة إلى صورته الواضحة - يسميه «كارناب» تحويلا للعبارة من الأسلوب المادي

45

إلى الأسلوب الصوري، ويقول إن العبارات الفلسفية [الميتافيزيقية] كلها ينكشف أمرها بهذا التحويل، فعندئذ ترى أن كل ما يسمونه بالمشكلات الفلسفية ليس إلا حديثا عن هذه اللفظة أو تلك، وليست هي بالحديث عن هذا الشيء أو ذاك، بحيث يمكن مراجعة الأشياء لقبول الحديث أو رفضه.

وهاك عدة أمثلة لترجمة العبارات من أسلوبها المادي إلى أسلوبها الصوري.

46

مثل 1: (الأسلوب المادي) كانت محاضرة الأمس عن بابل. (الأسلوب الصوري) في محاضرة الأمس وردت كلمة «بابل» أو ما يرادفها.

مثل 2: (الأسلوب المادي) كلمة «الليث» تدل على الأسد. (الأسلوب الصوري) كلمة «الليث» وكلمة «الأسد» مترادفتان، أي يمكن إحلال الواحدة مكان الأخرى أينما وجدناها.

لاحظ أن الأسلوب الصوري في هذا المثل يوضح لنا كيف أن العبارة الأولى (في أسلوبها المادي) لا تعني منطقيا وجود شيء في عالم الأشياء، فلو ثبت أن ليس هنالك «شيء» في الخارج يقابل كلمة الأسد، لظلت العبارة قائمة، وهي أن كلمة الليث مرادفة لكلمة الأسد.

مثل 3: (الأسلوب المادي) كلمة

luna

في اللغة اللاتينية تدل على القمر. (الأسلوب الصوري) هنالك ترجمة للغة اللاتينية إلى اللغة العربية، يمكن بها إحلال عبارات اللغة الأولى مكان عبارات اللغة الثانية، وفي هذه الترجمة كلمة «قمر» في اللغة العربية هي التي تقابل كلمة

luna

في اللغة اللاتينية.

مثل 4: (الأسلوب المادي) الجملة «...» في اللغة الصينية معناها أن القمر كري. (الأسلوب الصوري) هنالك تقابل في الترجمة بين اللغتين: الصينية والعربية، بحيث تكون الجملة العربية «القمر كري» مقابلة للجملة الصينية «...».

مثل 5: (الأسلوب المادي) هذا الخطاب خاص بابن العقاد. (الأسلوب الصوري) في هذا الخطاب ترد عبارة «ابن العقاد» أو ما في معناها، لاحظ في هذا المثل أن العقاد قد لا يكون له ابن، ومع ذلك تظل هذه العبارة صادقة، والذي يكذب هو الخطاب نفسه، مما يدل على أننا كثيرا ما نصدق طالما نحن محصورون في حدود العبارات اللغوية نشير ببعضها إلى بعضها الآخر، حتى إذا ما خطونا خطوة أخرى وحاولنا مطابقة هذه العبارات على الواقع الخارجي وجدناها لا تصور شيئا.

هكذا يأخذ «كارناب» في سرد الأمثلة التي توضح ما يعنيه بالأسلوبين: المادي والصوري في الحديث، وكيف أن الأسلوب الصوري يكشف عن الزيف المستور في الأسلوب المادي، والذي يهمنا من هذا كله أن العبارات التي نقولها كثيرا ما توهمنا بأنها تتحدث عن أشياء، وإذا هي لا تخرج عن كونها حديثا عن كلمات، وإذن فلا يكون لنا الحق - بناء على تلك العبارات وحدها - أن نزعم شيئا عن الواقع الخارجي.

وهذا واضح بصفة خاصة في العبارات الفلسفية، «فالحق أنه كثيرا ما تنشأ مواضع للغموض في الكتابات الفلسفية، وذلك راجع إلى حد كبير إلى استخدام الأسلوب المادي في الحديث بدل الأسلوب الصوري؛ إذ العبارات الزائفة [التي تتحدث عن أشباه أشياء] تضللنا فتوهمنا بأنها تعالج أشياء خارج نطاق اللغة، مثل الأعداد والأشياء والصفات والخبرات والوقائع والمكان والزمان وما إلى ذلك، مع أن حقيقة الموقف الذي نعالجه هي أن الأمر كله أمر عبارات لغوية وما بينها من روابط، وإنما يخفى ذلك عن أبصارنا بسبب استخدامنا للأسلوب المادي في الحديث، ولا تتضح حقيقة الأمر إلا بترجمة ذلك إلى الأسلوب الصوري، أو بعبارة أخرى: ترجمته إلى عبارات سنتاطيقية تتحدث عن اللغة التي نستخدمها.»

47

وينشأ الغموض في استخدامنا الأسلوب المادي؛ لأن هذا الأسلوب يجعل المدركات التي يتحدث عنها مطلقة، كأنما هي مدركات تحتفظ بمعانيها بالنسبة إلى كل لغة مهما تكن، مع أنك - لكي يكون حديثك واضحا دقيقا - لا بد من تعيين نوع اللغة التي تريد أن نفهم كلامك بالنسبة إلى قواعدها ومواضعاتها؛ لأن الكلام قد يكون خطأ إذا نسبناه إلى لغة الحديث الجارية، صوابا إذا نسبناه إلى لغة العلم المتفق عليها بين العلماء.

وكثير جدا من مشكلات الفلسفة ينشأ بين المذاهب المختلفة؛ لأن متحدثا في مذهب ما يقصد إلى استعمال لغة معينة، بينما المتحدث في المذهب الآخر يقصد إلى استعمال لغة أخرى، وبهذا يكون الخلاف بينهما اختلافا في طريقة التعبير، لا اختلافا على حقيقة موضوعية خارجية.

خذ مثلا هذا الخلاف المشهور: هل الشيء الذي أدركه - كالقط الذي في يدي الآن مثلا - مركب من معطيات حسية، أم هو مركب من ذرات مادية خارج حواسي؟

لو أننا وضعنا أقوال المذهبين في أسلوب صوري يوضح نوع اللغة المستعملة في الحديث؛ لتبين ألا تناقض بين الرأيين، فالرأيان هما: (أ) الأسلوب المادي (ب) الأسلوب الصوري (1) الشيء مركب من معطيات حسية. (1) كل جملة ترد فيها لفظة دالة على شيء تساوي مجموعة من الجمل الخالية من الألفاظ الدالة على أشياء، إذ تشتمل فقط على ألفاظ دالة على معطيات حسية. (2) الشيء مركب من ذرات. (2) كل جملة ترد فيها لفظة دالة على شيء تساوي مجموعة من الجمل المشتملة على إحداثيات مكانية زمانية (بالمعنى المفهوم في علم الطبيعة).

هذان رجلان، يقول الأول قولا، ويقول الآخر قولا آخر، فلو اقتصرا على استخدام الأسلوب المادي لظهر بينهما خلاف، أما إذا استخدما الأسلوب الصوري لتبين ألا تعارض بين قوليهما؛ لأن الأول بمثابة من يقول: أنا أستطيع أن أحول الجملة التي فيها لفظة «قلم» إلى مجموعة من الجمل أستغني فيها عن لفظة «قلم»، وأستعمل بدلها المعطيات الحسية التي أدركها، من لون وصلابة وشكل ... إلخ، وأما الثاني فهو بمثابة من يقول: إني أستطيع أن أحول الجملة إلى مجموعة جمل أستغني فيها عن لفظة «قلم»، وأستبدل بها أبعادا مكانية ووزنا ... إلخ، إنه لا تعارض بين الرجلين، كل ما في الأمر أن كلا منهما يتحدث بلغة تختلف عن اللغة التي يتحدث بها زميله، الأول يقصد بلفظة «قلم» غير ما يقصده الثاني، فكل منهما صواب بالنسبة إلى اللغة التي يتحدث بها.

48

وخذ مثلا آخر مشكلة ميتافيزيقية أخرى، تعجب أشد العجب كيف استنفدت من الفلاسفة كل هذا الجزء الذي استنفدته، وأعني بها مشكلة العلاقات، فهل العلاقات التي نراها قائمة بين الأشياء حقيقية أم وهمية؟ فأنا أرى الآن ساعة على مكتبي، وهي قائمة إلى يمين المصباح وهكذا، والسؤال مرة أخرى هو: أحقيقة أن العالم مكون من عدة أشياء بينها علاقات على نحو ما أرى؟ أم أنه في حقيقته كائن واحد لا كثرة فيه، وبالتالي لا علاقات بين أجزائه، وإذن فهذه العلاقات التي أراها بين الكثرة الموهومة هي أيضا وهمية من خلق الإنسان؟

أما أنصار المذهب المثالي

49

فيأخذون بهذا الرأي الثاني الذي ينكر الكثرة وينكر العلاقات بينها، وطريقتهم في تأييد مذهبهم هذا هي أن يبينوا لك أننا لو فرضنا جدلا وجود العلاقات بين الأشياء لوقعنا في تناقض، مثال ذلك:

والد العقاد مرتبط ارتباطا ضروريا بالعقاد؛ لأنه محال أن نتصور الوالد بغير تصور الولد، على أن والد العقاد هذا قد يكون مالكا لأرض وقد لا يكون، فملكيته للأرض صفة عرضية، ثم انتقل إلى هذه القطعة من الأرض التي أمامنا، فمالك هذه الأرض مرتبط ارتباطا ضروريا بهذه الأرض، إذ يستحيل أن نتصور المالك دون أن نتصور ما يملكه، على أن مالك هذه الأرض قد يكون والدا للعقاد وقد لا يكون، فأبوته للعقاد صفة عرضية.

غير أنه ربما اجتمعت الصفتان في شخص واحد بعينه، فيكون شخص معين والدا للعقاد ومالكا لهذه الأرض في آن معا، وها هنا يقول أصحاب المذهب المثالي: إننا في هذه الحالة نجد أن صفة امتلاك الأرض أصبحت بالنسبة لهذا الشخص الواحد صفة ضرورية وصفة عرضية في وقت واحد، وهذا تناقض، ولا نجتنب هذا التناقض إلا بإنكار ما افترضناه أولا، أي بإنكار أن هنالك كثرة من أشياء بينها علاقات.

وموضع الخطأ عند أصحابنا المثاليين في هذه المشكلة، هو استخدامهم للأسلوب المادي في الحديث، ولو استعملوا الأسلوب الصوري لانكشف لهم الغطاء عن حقيقة الموقف؛ فالحقيقة هي أن كلمة «العقاد» - لا العقاد نفسه - هي التي ترتبط بعبارة «والد العقاد» لا بالوالد نفسه، وكذلك عبارة «هذه الأرض» لا قطعة الأرض نفسها، هي التي ترتبط بعبارة «مالك هذه الأرض»، فالأمر كله روابط بين ألفاظ وعبارات لا بين الأشياء التي تمثلها هذه الألفاظ والعبارات، وبالتالي فلا إشكال هناك عن حقيقة العالم الخارجي.

50

Неизвестная страница