Волна огня: сборник рассказов
موجة نار: مجموعة قصص
Жанры
تلك النوافذ التي لبثت مقفلة أسبوعين عادت تنفتح، وذلك الوجه الذي شحب عاد إليه الرواء، وذانك القيراطان اللذان ذابا استردهما وسط محمد الكرار قراريط، وكذلك رجعت المرارة تتأكل نفس رئيفة إذ عادت إليها الحياة، غير أن حبها لمحمد عمق وزها صفاؤه؛ فليس من شيء يجعل النفس تتماسك مع نفس أخرى مثل أن تترافقا في سفرة خطرة.
وفيما تتمطى الحياة في منزل هذين الزوجين فاجأهما البريد بحوالة مائة دولار ثمن «صرعت الموت»، واعترفت حينذاك رئيفة بأنها أرسلت الأبيات إلى عنوان نقلته عن مجلة أميركية، فتسلم محمد الحوالة ووقع على صك طويل عريض مطبوع بحروف صغيرة، مبتسما ابتسامته الهادئة غير مكترث، شأنه في جميع أمور الحياة، حتى إنه لم يقرأ الصك الذي وقعه، كذلك غفلت رئيفة عن قراءة الصك؛ فقد أصبحت فوارة المرح بهذا الظفر فلا تطيق قراءة.
في خريف 1946م، كان في دمشق موضوع واحد للمجون: محمد الكرار؛ فقد اكتسحت الدنيا أغنية «صرعت الموت»، وترجمت إلى كل اللغات، وأنشدت في المراقص والحانات، وحينما جهرت رئيفة بأن زوجها هو ناظمها تجاوب الضحك في أنحاء المدينة، فأي يصدق أن محمد الكرار نظم قصيدة قبض عليها مائة دولار ووقع صكا يتنازل به عن كل حقوقه، صكا طبع بأحرف صغيرة تكاسل عن قراءته قبل أن يمضيه؟ ومتى عرف عن «الفرار» أنه شكسبير اللغة الإنكليزية؟
وكأن ربة المجون لم تكتف بهذا لتشبع بالهزء عابديها، فجاءتهم بشيء أضحك؛ فقد هرع تلامذة الأستاذ محمد إليه ذات صباح؛ إذ أبصروا به ووجهه إلى الجدار يعالج بطنه بيد، وسبابة اليد الأخرى في فمه يحاول أن يتقيأ، فلما سألوا عن حاله أجاب: ما من أمر خطير . زوجتي في وحامها، وفي بعض الأحيان تصيبني أعراضها.
فسرت في المدينة إشاعة أن الأستاذ حامل، وأي شيء من دلائل الحمل أوضح من ذلك البطن الضخم البارز؟ وذات يوم طلعت جريدة «النخوة» بالخبر التالي تطوقه دائرة ضخمة حمراء:
يسوءنا أن نعلم أن إجهاضا جرى في منزل الأستاذ محمد الكرار، وقد انقطع الأستاذ عن المداومة في مدرسته. ونحن فيما نذيع هذا الخبر آسفين نتساءل: ترى أي الزوجين أجهض؟
بين الحيوانات الناطقة فئة سادية لا تستطيب الحياة إلا حين تدوس على الضعيف؛ فإن السقط في نفوسها يتطلب التفوق، فلا يظفر به إلا في إظهار القوة على من ضؤل شأنه. هم في بعض الأحيان يسرفون في الإجرام حتى ليقتلوا، وأحيانا تقصر جناياتهم على ترويج الأكاذيب. وكانت من ضحايا هذه الشيمة الصفراء رئيفة؛ إذ إنها بعد أن فقدت جنينها ضجرت بمنزلها فصارت تبتعد عنه فأوسعها ذلك، وهي قد فهمت من الطبيب أنها حين فجعت بالجنين فقدت أمومتها إلى الأبد. ولقد أرادت ذلك الجنين أملا يحقق ما وعد به محمد من فوز وأخفق بتحقيقه في الحياة. فها هي الآن وزوجها ميت حي، وآمالها بطفل قد تلاشت، وغريزة الأمومة فيها مكبوحة، فلا عجب أن نبذت القعود في البيت، وصارت تنزل إلى السوق تبتاع حاجاتها بنفسها من خضار ولحم وثياب وعطور وغيرها، تبتغي بذلك التسلية وقتل الوقت. وأمست تطيل الوقوف في الحوانيت لا تنعما بالوقوف، بل اتقاء لشر المكوث في البيت. هذا، وقد بدأت أسعار الحاجات تتصاعد بحيث صار راتب زوجها يقصر عن شراء كل شيء تحتاجه، فأصبح من الحكمة التروي في الشراء والانتقاء والمساومة.
لذلك ارتجفت الألسنة السوداء بسم الأقاويل: «هل بلغك أن رئيفة تطيل الوقوف في دكان اللحام؟ ... هل سمعت أنها تتهامس مع ذلك العطار؟ ... هل قيل لك إن رئيفة والبقال في مغازلة؟»
وكان من حسن حظ رئيفة أن لم يبق لها عشراء، فلم يترام إليها ما يقال عنها.
وكأن آلامها من الإجهاض، ونكبة الخيبة بمحمد، وفشلها في أمل يعيضها عن محمد، وأوجاعها من رؤية ذلك الفتى الذي عشقته وما تزال تهواه ، والذي سمعت من شفتيه أولى كلمات الحب في ليلة الزفاف، وها هي تراه قد مسخ كاريكاتورا، وكأن شقاءها في عزلتها عن الناس؛ كل هذه تكالبت عليها؛ فنحلت وتهدمت، فما عادت تستطيع الخروج من البيت في بادئ الأمر، ثم عيت عن الحركة فلازمت الفراش وبدأت تتلاشى.
Неизвестная страница