وجاشت نفس أرميا وهو صبي بخواطر النبوة ، ثم ألقي إليه أن الرب يقول له: «قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب.» فاستكثر النبوة على سنه وقال في صلاته: «آه يا سيد الرب! من أين لي أن أعرف الكلام وأنا ولد. فمد الرب يده ولمس فمه وقال: ها قد جعلت كلامي في فمك؛ فانظر، لقد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك؛ لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس.»
ولقد خشي الأنبياء الكبار على الشعب خطر المعجزات والآيات التي يدعيها المتنبئون؛ لأنهم عرفوا عجائب السحر في مصر وبابل، وأشفقوا من فتنتها على عقول السواد، فلم ينكروا المعجزة الصادقة، ولكنهم حسبوا حساب المعجزة الكاذبة التي يقتدر عليها السحرة وأتباع الأرباب المحرمين، فكان من وصايا سفر التثنية التي تنسب إلى موسى - عليه السلام - «أنه إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: لتذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها؛ فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل؛ لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب ...»
إلا أن الحيرة بين أصحاب الآيات والمعجزات لم تبطل في عهد أنبياء بني إسرائيل، ولا بعد ظهور السيد المسيح، فكان الرسل يستدلون بالعجائب والآيات العظيمة على صدقهم، وكانت العجائب الكثيرة تجري على أيدي الرسل كما جاء في سفر الأعمال، وكان بولس الرسول يبكت أهل كورنثوس وينعى عليهم سوء معتقدهم بعد العلامات التي صنعها بينهم، وصبر عليها بآيات وعجائب وقوات ... وكان إلى جانب هذا يحذر الشعب ممن يقتدرون بقوة الشيطان على الآيات والعجائب الكاذبة «بكل خديعة الإثم في الهالكين».
وجاء في الرؤيا أن الأنبياء الكذبة يقتدرون على ذلك إلى آخر الزمان: «ومن فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة تشبه الضفادع، فإنهم أرواح شياطين صانعة للآيات، تخرج على ملوك العالم وعلى كل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم.»
ومنذ عرف اسم النبوة بين قبائل إسرائيل ظهر فيهم مئات وألوف من هؤلاء المتنبئين، لم يكن شأن الأكثرين منهم ليزيد على شان الدراويش الذين يلوذون بأماكن العبادة، أو أماكن الزيارة في جميع الأديان، ولم تكن قبائل البادية ولا أهل القرى ليضيقوا بتكاليف معاشهم؛ لأنهم كانوا يقنعون بالقليل من الخبز والأدم، وبالخشن الرخيص من ملابس الشعر والصوف، وربما استراح إليهم الدهماء؛ لأنهم يفرجون عن صدورهم بالاجتراء على كبرائهم وسرواتهم الذين يستسلمون للطمع والكبرياء.
أو ربما حمد لهم الأمهات والآباء أنهم يباركون أطفالهم، ويشفون مرضاهم، ويفوهون أمامهم بأطراف من الأقاويل يفسرون رموزها بما يطيب لهم، ولا يشعرون منها برهق شديد؛ لأنهم لا يحملون مؤنتها إذا أخذت مأخذ الجد والجسامة، بل ترتفع إلى أيدي ولاة الأمر ورؤساء الدين والكهان والحكماء، فيوفقون بين نقائضها، أو يستخدمونها في تلقين الشعب ما يحبون أن يقولوه بلسان المتنبئين ولا يقولونه بألسنتهم؛ خوفا من تبعاته، أو من قبيل الحيطة للتراجع إذا حسن لديهم أن يرجعوا عما فرضوه وأثبتوه.
كان خطب المتنبئين من هذا القبيل ميسورا للقبائل ورؤسائها، حتى إذا ظهر الأنبياء الكبار ظهرت معهم حالة كبرى لا تعرض للقبائل كل يوم؛ لأنهم لا يظهرون إلا إذا احتاجت القبائل إلى تغيير شامل في معيشتها وأخلاقها ومعاملاتها، وقد يتقاضاهم الأمر هجرة إلى بلد ناء أو قتالا مع أهل البلد الذي هم فيه، أو مع أهل جواره، وليست خطتهم مع المتنبئين الصغار بمجدية مع هؤلاء الأنبياء الكبار دعاة التغيير الشامل، وأصحاب الحق في القيادة المطاعة، وإنما الخطة المجدية هنا هي الانقياد للدعوة التي يخشى على من يعصيها أن يهلك بغضب من الله، ولو عم الهلاك قومه أجمعين، فلا يلبث النبي الكبير أن ينزل في منزلته بين القوم، وأن يتولى بينهم مكان القيادة والتشريع والتعليم، وهو أرفع مكان يسمو إليه عندهم صاحب حق أو صاحب سلطان.
دليل الأمان
إن مهمة النبوة كما قام بها هؤلاء الأنبياء الكبار هي أعلى ما ارتفع إليه نظر الأقدمين من بني إسرائيل وغيرهم إلى مقام النبوة ، فقد كانوا يلقون عليهم كل معولهم، ويطلبون منهم ما لم يطلبوه قط من ذي ثقة أو مقدرة بينهم، فانتهت هذه المطالب كافة إلى غاية واحدة، وهي أن النبي «دليل أمان».
يقبلون منه التعليم والهداية، ولكنهم يقبلون تعليمه وهدايته لأنه دليلهم إلى الطريق الأمين.
Неизвестная страница