مثل هذا التحدي بالبلاغة لا يحدث في أمة لم تتأصل فيها مفخرة اللسان العربي والوحدة العربية جيلين أو ثلاثة أجيال، ولا بد - مع ذلك - أن تكون فتحا قريبا أو شعورا فنيا لم يتطاول عليه العهد مئات السنين، ولم تذهب روعته بالألفة وفتور النسيان.
ووحدة اللغة القرشية أو الحجازية لا تصبح من مفاخر العرب جميعا كرامة لقريش أو لأرض الحجاز، ولكنها خليقة أن تسري إلى نفوس العرب من حيث يشعرون بالعروبة الموحدة عالية الرأس، غير مستكينة لسلطان من «العجم» على الخصوص.
والكعبة هي الجوار الوحيد الذي يشعر عنده العرب هذا الشعور.
فهم في الشام رعايا دولة الروم، وهم في الحيرة رعايا دولة الفرس، وهم في اليمن أتباع للحبشة أو لفارس، أو رعايا لسلطان يدينهم بالمذلة كما يدينهم الملوك الغرباء.
ولكنهم عند بيت الله في حرم الله يقدسونه جميعا؛ لأنه لهم جميعا يضمهم إليه كما يضم أوثانهم وأصنامهم وأربابهم، يلوذون به ويأوون إليه، فكلهم من معبود أو عابد في حمى من الكعبة؛ لأنهم في بيت الله.
وشعورهم هنا بأنهم «عرب» لم يماثله شعور قط في أنحاء الجزيرة العربية، وقد أوشك أن يشمل شعب اليمن وجمهرة أقوامه على الرغم من سادته وحكامه، فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانها، ويقيموا لها نظيرا في أرضهم لو كان شعب اليمن منصرفا عنها غير معتز بها كاعتزاز البادية والصحراء.
وحدة الكعبة
وقد وافق ذلك زوال عرش الحيرة، وزوال عرش حمير، واستكانة الغساسنة في الشام تارة للروم وتارة للفرس، بلا ولاء لهؤلاء ولا لهؤلاء، ولا بقية من الفخر لهم غير أنهم عرب، وليسوا من هؤلاء ولا هؤلاء.
وإن إبقاء الإسلام على مكانة الكعبة لدليل على هذه المكانة، ودليل على حكمة الإسلام في الاحتفاظ بها للعالم الإسلامي في متسعه العميم بعد عالمه الأول في الجزيرة العربية.
ونكاد نقول: إن العرب أقبلت على الإسلام أفواجا حين صارت الكعبة إلى يديه، وأصبحت عاصمة العروبة عاصمة للدين الجديد.
Неизвестная страница