أخفها يتلوها ليلة ما أشدها كما قيل:
إنّ الليالي للأنامِ مَنَاهلُ ... تُطوى وتُنْشرُ بينها الأعْمَارُ
فقِصارُهنّ مع الهُمُومِ طويلةٌ ... وطِوالهنّ مع السرورِ قصارُ
فلما طلع القمر وسطع نوره وانتشر، ومد بساطه الأزهر على ذلك الزهر، وصقل
نور ضيائه صداد ذلك النهر، عزمنا على الترحال، وشددنا الأحمال على البغال، وودعنا من الأصحاب من بقي وأنشدناهم إن نعش نلتقي، وسرنا وقلبي يتوقف عن اللحاق، ويتخلف عن الرفاق، ويتخوف من فرق الفراق بعد فرح التلاق:
ولولا الترجي للمحبين لم تكن ... قلوبُهُم يوم النّوى تعمر الصَّدرا
واستمر بنا السير من ذلك الوقت إلى وقت الغداء وجزنا في خلاله بوادي بَرَدَى وهو وادٍ أفيح كثير الأشجار، بعيد القرار عظيم المقدار، عديم المماثل والنظير، ذو مرأى حسن ومنظر نضير، يحف كل قطر منه بستان، ويدور بجنباته نهر بَرَدَى كالثعبان، قد بسطت يد السماء به بُسُطًا سُنْدُسيّة، وطرحت عليه مطارح بالزهر موشية، وقد جر عليه النسيم بعد ذلك ذيوله، وأجال بميدانه خيوله، واستنطق أطياره، وشقق أزراره، وأفشى أسراره، وأذاع رنده وعَرَاره، وفضض نُوّاره، وذهّب
1 / 35