فإذا اتجهنا إلى كاتب آخر مثل جرهارت هاوبتمان (1862-1946م) وجدنا صعوبة التفاهم تعبر عن نفسها بشكل أوضح قليلا. ومن المعروف أن شخصيات هاوبتمان تفقد القدرة على الكلام في المواقف الحافلة بالإثارة والانفعال. إنها عندئذ تتعثر وتبحث عبثا عن الكلمة المناسبة. ولقد لاحظ الكاتب النمسوي موزيل أن شخصيات مسرحية هاوبتمان المشهورة «ميخائيل كرامر» لا تستطيع أن تعبر تعبيرا دقيقا عما يحركها ويهزها، وإنما تشير فحسب إلى أن هناك شيئا يحركها ويهزها. ولهذا نجد «روزه بيرند» و«أرنولد كرامر» يهلكان بسبب عجزهما عن الكلام. فالمخلوقة البائسة روزه بيرند لا تستطيع أن تتكلم ولذلك تدفعها البيئة المحيطة بها إلى الموت. وأرنولد كرامر يكتم سره فيحرم الحياة على نفسه. وهكذا تتحول كلمات كرامر العجوز على تابوت ابنه إلى تعبير شاعري خالص عن عالمه الباطن: «أين نرسو؟ إلى أين نسير؟ لم نهلل في بعض الأحيان للمجهول؟ نحن الصغار، الضائعين في العالم المخيف؟ وكأننا نعرف إلى أين. هكذا هللت وفرحت! وماذا عرفت؟ لا أثر لأعياد الأرض ولا لسماء القديسين! لا هذه ولا تلك، فماذا ... ماذا سيكون المصير في النهاية؟»
هذه الكلمات التي لا تكاد تفهم، والتي تلمس ذلك الشيء الذي طالما حاول الدوق «بول» عند «هوفمنستال» أن يعبر عنه فوجده عصيا على التعبير، هذه الكلمات لا تكاد تعبر عن شيء. إنها تنتهي بسؤال حائر حزين.
إن مسرحيات هاوبتمان الأولى ذات النزعة الطبيعية تلتقي مع مسرحيات إبسن وتشيكوف وموزيل وهوفمنستال التي تلمس مشكلة الفعل كما تعبر عن عجز شخصياتها عن التفاهم مع المجتمع أو الاتصال بالغير. ومن المعروف أن هاوبتمان تأثر تأثرا كبيرا بأعمال «بوشنر»، وأن معظم أبطاله في مرحلته الطبيعية أبطال سلبيون - مثلهم مثل فويسك لبوشنر - يتبدد فعلهم في دوامة الصراع بين ذواتهم وبين العالم المحيط بهم. وإذا كانت الظروف والضغوط الاجتماعية تحاصرهم من كل ناحية، فإن عواطفهم المشبوبة تغلهم وتقيدهم. وإذا كان العالم الخارجي يحدد تصرفاتهم، فإن عالمهم الباطن ليس بأقل تحديدا لهم. إن شخصيات مثل «أرنولد كرامر» أو السائق «هينشل» أو «روزة بيرند» أو هيلنه كراوزة في مسرحية «قبل شروق الشمس»؛ كل هذه الشخصيات تختنق في جو البيئة المحيطة بها كما تختنق في مأساتها الباطنة. ولا يكفي أن نردد هنا شعار الطبيعيين عن البيئة والوارثة؛ فالمضمون في هذه المسرحيات أكبر من أن يحده إطار تقليدي. •••
ثم جاء من يعارض هاوبتمان ويواجه النزعة الطبيعية بأشكال درامية جديدة. ها هو ذا فرانك فيديكند
14 (1864-1918م) يوسع من نطاق مسرحية فويسك - التي كانت في جوهرها دراما غنائية قصصية - ويضيف إليها نغمة الاحتجاج، ويصوغ مسرحياته في ثوب الأشكال المسرحية البسيطة - الصاخبة بالتهريج والألوان والصراخ - التي نعرفها في الموالد والأسواق والاحتفالات الشعبية والسيرك حيث يروي الراوية حكاية مخيفة أو يطالب بأخذ ثأر أو إنقاذ عرض. كان المجتمع في المسرحية الطبيعية موضع هجوم واحتجاج، ولكنه ظل وسطا معترفا به. وجاء «فيديكند» فعبر عن رفضه له واحتجاجه عليه عن طريق مسرحياته (غير الاجتماعية) التي تدور في جو السيرك أو أوساط الفنانين والفنانات. وتتغلغل العناصر الفنية الراقصة في بناء الدراما وتصبح وسيلته للهجوم على النظام الاجتماعي السائد. وهكذا يفسح «فيديكند» مجالا واسعا للمشهد الراقص ومشاهد التمثيل الصامت (البانتوميم) على خشبة المسرح، كما يتابع تراث «بوشنر» و«جرابه» وحركة العاصفة والاندفاع فيسير مثلا في بنائه لمشاهد مسرحيته «صحوة الربيع» (1891م) على طريقة اللوحات المفردة المستقلة بعضها عن البعض، التي تبدو كأنها مراحل متعددة من حدث واحد، صفت إلى جانب بعضها البعض كما تصف قطع الفسيفساء. وقد كتب فيديكند مسرحيته «شراب الحب» (1891م) التي يحتل فيها التمثيل الصامت حيزا أوسع، ثم اتجه بعد ذلك إلى تأليف مسرحيات توشك أن تكون تمثيليات صامتة خالصة، وراح يؤكد أسلوب ألعاب الأسواق الشعبية والأعياد السنوية، فجعل لكل لوحة عنوانا ملحميا على طريقة المنادين والهتافين في تلك الأسواق، كأن يقول مثلا في بداية إحدى اللوحات:
15 «كيف راحت الإمبراطورة فيليسيا تشكو لكبير معلميها عن آلامها النفسية، وأي أنواع العلاج وصفها لها طبيبها الخاص دبدي زويدوس للتغلب على هذه الآلام والاختيار العجيب الذي صممت عليه الإمبراطورة فيليسيا لتبني عليه سعادتها؟»
حاول فيديكند أن يكمل خشبة المسرح التقليدية بالمشاهد والمناظر المعروفة في مسارح المنوعات الاستعراضية، فخرج على اتجاه المدرسة الطبيعية وأخذ يؤكد الجانب الملحمي، والرقص، واستخدام الأقنعة، والدلالة الرمزية والمعنوية للمحسوسات. وإذا كانت شخصيات هاوبتمان لم تستطع أن تعبر عما يجيش في باطنها تعبيرا صريحا، فقد راحت شخصيات فيديكند تتكلم بوضوح وتعرض على الأنظار ما يجب على كل عين أن تراه. ولهذا تحولت الغنائية الشاعرية في المسرح الطبيعي إلى ألوان من التهكم والمعارضة الساخرة، عبرت عنها القصائد القصصية التي تتلى في الأسواق، واقتربت بهذا كله من طريقة المغنين المتجولين والشحاذين والدجالين. وهذا التركيز على عناصر ملحمية إلى جانب عناصر أخرى مسرحية خالصة، واستخدامها معا للاحتجاج والسخرية بأوضاع اجتماعية بعينها، يخلق أهم ركيزة يعتمد عليها المسرح الملحمي، ألا وهي البعد عن الحدث الدائر على خشبة المسرح أو ما يمكن أن نصفه تجاوزا بالموضوعية المتهكمة. ولا شك أن هذه العناصر التي ظهرت في مسرح فيديكند كان لها أثر كبير على تطور الشكل الدرامي فيما بعد، وبالأخص عند برشت.
أما أوجست استرندبرج (1849-1912م) فقد كان له دور كبير في «خلخلة» المسرح الطبيعي والنفاذ من جدران النزعة الطبيعية. هنا نجد أن الرؤيا أو اللوحة الباطنة هي التي فجرت بناء الدراما الأرسطية ونقلت المشهد، إن جاز هذا التعبير، من الخارج إلى الداخل. فبعد أن أسس استرندبرج ما سماه ب «المسرح الحميم» سنة 1906م انتقل إلى شكل الفصل الواحد فيما يسمى بمسرحيات الغرفة مثل المحرقة، والبرق، وصوناتة الأشباح. ونستطيع أن نعتبر كل هذه المسرحيات بمثابة لوحة واحدة مركزة في عدة مشاهد. لم يعد الحدث هو الذي يسيطر عليها، بل أصبح الآن يقوم بدور الوسيط ويحمل الرؤيا الباطنة في أعماق النفس.
ثم سار استرندبرج في تطوره من مسرح الغرفة إلى مسرحية الحلم (1901-1902م) وإلى دمشق (1897-1904م). وما حدث في مسرحيات الفصل الواحد تكرر في مسرحيته المشهورة «حلم»، نفذت الرؤيا الباطنة من إطار المسرحية الطبيعية، وأفسح المنطق والتسلسل العلي مكانهما لمنطق الحلم وقوانينه الداخلية، وأصبح المكان والزمان مجرد وسائل درامية لا وحدات تقليدية، يلجأ الكاتب إليها لتجسيم عالم الذكريات والوعي الباطن في مشاهد ولوحات، وبذلك يسبق التحليل النفسي وعلم النفس الفردي بسنوات طويلة، ويزوده بحقائق قيمة عما يجري في عالم اللاشعور من غرائب وأسرار ومتناقضات. لنقرأ ما يقوله استرندبرج نفسه في تقديمه لمسرحية الحلم : «حاول المؤلف في هذه المسرحية أن يحاكي الشكل غير المترابط للحلم، وهو الذي يبدو مع ذلك في شكل منطقي. كل شيء يمكن أن يحدث، وكل شيء جائز ومحتمل. الزمان والمكان لا وجود لهما، والمخيلة تواصل نسج خيوطها على أساس واقعي لا أهمية له وتستحدث نماذج جديدة. خليطا من الذكريات والتجارب والخواطر الحرة والأفكار المتناقضة المفاجئة. إن الشخصيات تنقسم وتتضاعف وتذوب وتتكاثف وتسيل وتتجمع. غير أن هناك شعورا يسيطر على كل شيء. ذلك هو شعور الحالم، وليس هناك بالنسبة إليه أسرار ولا تناقض ولا شكوك ولا قانون. إنه لا يدين ولا يبرئ، بل يقرر ما يجده فحسب.»
وليس من العسير أن نلاحظ من هذا النص أن استرندبرج يتحدث بنفسه عن وصف موضوعي يقوم على أساس موقف ملحمي. فالواقع أن دراما الحلم والدراما المرحلية (أي التي تبني الدراما من مواقف أو مشاهد متتابعة تمثل كل منها مرحلة قائمة بذاتها) يلتقيان التقاء كاملا من حيث البناء والأسلوب. ومن هنا نجد في مسرح استرندبرج مجموعة من المشاهد المتتالية التي لا يجمع بينها حدث أو فعل واحد بقدر ما تؤلف بينها ذات الحالم نفسه أو «أنا» البطل. وهذا الحالم يمكن في الحقيقة أن نسميه «الأنا الملحمية» التي تتحرك خارج الحدث المسرحي وتعلق عليه وتصفه عن بعد. والواقع أن مسرحية «الحلم» تحافظ على الشكل الاستعراضي المألوف في عروض المنوعات أكثر مما تحرص على شكل الحلم. ولهذا يسود المسرحية طابع العرض والبيان، بحيث تصبح محاولة لعرض العالم الذي تعيش فيه بكل ما يزخر به من مآس وآلام، على ابنة الإله أندرا. وينطبق هذا الكلام على مسرحيات فيديكند التي تحدثنا عنها؛ فهي تحرص على طابع العرض والاستعراض الذي سيلعب دورا هاما في مسرح برشت فيما بعد. صحيح أن الفرق بين الكاتبين فرق أساسي؛ إذ اهتم فيديكند بإبراز الحركة الخارجية على عكس استرندبرج الذي اعتمد على الصورة الداخلية أو الرؤية الباطنة التي تحدد البناء الدرامي لديه. ومع ذلك فقد فتحا للمسرح أبواب عالم جديد تتناثر فيه الأفكار والآراء والمشاعر دون أن تدور حول مركز واحد، ويهتم بواقع جديد هو واقع الحلم والرؤية الذي يختلف عن الواقع المحسوس. لم تعد اللوحة فوق خشبة المسرح مجرد ديكور أو زينة تابعة للنص أو الشخصية. بل أصبحت رمزا وموضوعا من موضوعات الأدب والفن. ويكفي أن نتذكر مشهد الباب السري أو مغارة الدموع التي تتسمع لها أذن أندرا «في مسرحية الحلم»، أو قاعة انتظار الأرواح «في مسرحية إلى دمشق».
Неизвестная страница