ربط الناس جميعا - بالطبع ما عدا الخال جمعة ساكن - بين حريق القطية وغياب - أو بالأحرى اختفاء - عبد الرحمن، ربط الناس بين قلق العمة خريفية، قلة كلامها مع الآخرين، حديثها لنفسها، بقائها في السوق لزمن أطول، شربها للقهوة المتكرر، وبين اختفاء ابنتها وصديقتها وحبيبتها عبد الرحمن. ربط الناس ما بين شكوى خريفية من آلام الظهر، وغيابها عن الأفراح والأتراح، صبرها على عباطة شليل المجنون، وبين اختفاء عبد الرحمن، بل استلطافها له وهي التي كان يفكر مليون مرة قبل أن يطرق الطريق التي تعمل فيها العمة خريفية، حيث إن العمة خريفية عندها خوف فطري من المجانين، وكما هو معروف أن نيالا بها هذه الأيام عدد هائل من المجانين؛ إنهم ورثة الحروب، من كل نوع وكل عمر. ولكنهم أبدا لم يخطر ببالهم أن يربطوا ما بين اختفاء عبد الرحمن واختفاء اثنين من الجنجويد بصورة نهائية وتامة، حيث لا أثر، لا دليل، لا خيط، ولا رائحة تدل على مصيرهم، على الرغم من الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة بحثا عنهما، فقد استنفر كل الشرطيين بالمدنية، أهملت كل الحراسات المدنية، جند ألف رجل من الاستخبارات العسكرية والأمن العام، استخدم مئات المدنيين كمخبرين مؤقتين وجواسيس يسعون بين الناس يخبرون عن الجميع، لا فرق بين أصدقائهم، جيرانهم أو ذويهم، استعانوا بالفكيان وضاربي الرمل، وضاربي الودع وبعض السحرة من قبيلة الداجو المعتصمين في أحد كهوف جبل أم كردوس شرق نيالا. كان يعمل الجميع بجد وجهد متواصل من أجل الوصول لقتلة الجنجويدين، اللذين أقسم قائدهما برأس أبيه ثم بالله، إذا لم تسلمه الحكومة قاتلهما أو قتلتهما، فإنه سيقتل - عشوائيا - على الأقل مائتين من المواطنين، بسوق نيالا والشمس في قبة السماء، لا فرق بين طفل ورجل وامرأة، أو بنت عرب أم زرقة ولا أم خفير، وتحرك بمليشياته الغاضبة في اليوم السابع، بعد أن فقد الأمل في تحركات الحكومة التي وصفها بالبطيئة والمتواطئة، أحاط سوق نيالا، أغلق كل المداخل التي تقود للسوق، ومنع الخارجين منه، ولكنه سمح للداخلين إليه فقط بالولوج، عند الثانية عشرة ظهرا، استطاعت الحكومة أن تقبض على قتلة الجنجويدين، وهما رجلان من قبيلة المساليت: قبضنا عليهما بينما كانا يحاولان الهرب إلى خارج المدينة من السوق، في طريقهما إلى معسكر كلمة، حيث يمكنهما الاختفاء نهائيا وللأبد، هؤلاء القتلة الكافرون.
كانا في غاية الإعياء من أثر الضرب، لدرجة أنه عندما صعد على ظهريهما قائد الجنجويد، أبا جربيقا جلباق، بعربته اللاندكروزر ذات الدفع السداسي، حديثة الصنع، التي تزن خمسة أطنان بالإضافة لحمولتها من الدوشكا والحراس الأربعة الغاضبين، فإنهما لم يتألما كثيرا، ماتا بسهولة ويسر.
سكك الخطر
التقرير الذي كتبه شيكيري عن إبراهيم خضر إبراهيم، هو الذي عجل بأن يتم اختيار الاثنين لمصاحبة القوة الخاصة المنوط بها إيصال الوقود إلى كتيبة مرابطة على مشارف مدينة زالنجي، ولا يمكن الوصول إليها إلا من نيالا، بالرغم من أنها لا تبعد عن زالنجي أكثر من عشرين ميلا، وعشرة أميال عن مدينة كاس، ومن أجل التشويش للجواسيس والخائنين، على القوة أن يخرج أفرادها فرادى، ويتم تجميعهم على بعد ثمانية أميال جنوب نيالا، ثم تلحق بهم السيارات اللاندكروزر حاملات الدوشكا الخمس، تليها شاحنة الوقود، ثم المدرعتان الخفيفتان اللتان نستخدمهما للهجوم السريع المباغت ونقل الجنود أيضا.
لا يتوقع الناس عادة أن تصل مثل هذه القوة إلى هدفها بسهولة ودون مناوشة، وربما معركة صغيرة، ولكن التغطية التي سوف تقوم بها المروحيات على مدار الساعات الثماني التي يجب أن تأخذها القوة في الطريق، سوف تسهل مهمتها كثيرا، قد تقوم بواجب الإنذار المبكر وتمشيط الطريق. لكن للأسف بدأت المعركة الصغيرة مبكرا جدا، وهي في ذات المكان الذي بدأت تتجمع فيه القوات، وقبل أن تنتظم صفوفها وتأخذ التمام الأخير، في اللحظة التي وصلت فيها شاحنة الوقود، كان الطورابورا قد سيطروا على الموقف تماما، واستطاعوا أن يستولوا على حاملات الدوشكا، وأن يعطبوا المدرعتين الخفيفتين، ويأسروا تقريبا كل الجنود الأصحاء، وينسحبوا كما لو أن الأرض قد انشقت وبلعتهم، تاركين خلفهم خمسة من الجنود الجرحى، كثيرا من القتلى، مدرعتين معطوبتين، شاحنة الوقود كما هي، حيث إن السائق الذي استطاع أن ينسحب في الوقت المناسب قام بتأمينها بصورة لا يمكن قيادتها مطلقا ما لم يبطل التأمين، ولسبب أو لآخر فضل الطورابورا تركها دون أن تحرق.
كان الأسرى يرقدون في باطن صناديق العربات كالخراف فوق بعضهم البعض، والعربات تسابق الريح، تقفز في الحفر والخيران دون أية مراعاة للسلامة، وكأنما بها جوالات من التبن، وسط غابة من الأغبرة، حيث لا يمكن رؤية ما أمامها وما خلفها، غير سحابات من الرمل. بعد أربع ساعات من توقع الموت المحقق، دخلت العربات السلسلة الجبلية الوعرة، حيث معسكراتنا الآمنة التي لا يقترب منها الطيران الصيني مطلقا، إلا في مغامرات مهلكة؛ لأن مضادات الطيران الأمريكية الدقيقة سوف تسقطه في الحال.
وضع الأسرى في صف واحد، راقدين على الأرض، كانوا عشرين أسيرا، سجلت بياناتهم الأساسية وجمعت ما في حوزتهم من وثائق ثبوتية، تم كل ذلك عبر ركلات، شتائم وبصاق في الوجوه. أخيرا تم قسمتهم إلى ثلاث مجموعات: اثنان من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، عشرة من الجنود النظاميين، ثمانية من المجاهدين وحرس الحدود وهو الاسم الرسمي للجنجويد. في الحال، تم إعدام الجنجويد والمجاهدين بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحا، طالبين منهم في سخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة، وهذه سخرية مبالغ فيها؛ لأن الجنجويد لا يعرف شيئا عن الجنة أو النار، يحارب من أجل هدف غامض لا يعرفون كيف يعبرون عنه؛ لأن السياسيين الذين يدفعون بهم للتهلكة لا يفصحون عنه في الغالب، إما لقناعتهم الشخصية بأن الجنجويد لا يفهمون، أو لخوفهم منهم إذا فهموا، وهدف آخر، وهو الغنائم، وتشمل الغنائم فيما تشمل كل شيء يمكن حمله، بالإضافة إلى النساء والطفلات، أو مجرد أن يفرغ حيواناته المنوية في رحم سيدة أو طفلة ما عنوة. وقد يفكر الجنجويد كبير السن في مرعى آمن ودائم لإبله وإبل أحفاده من بعده وأحفاد أحفاده، فيما تبقى من زمان قبل نهاية الكون. الجنود قيدوا ووضعوا في سجن عبارة عن غرفة كبيرة من الحجر، مع جنود أسرى سبقوهم. أما مجندا الخدمة الوطنية، وهما إبراهيم خضر إبراهيم وشيكيري توتو كوه؛ فخيرا، إما أن يبقيا بالسجن مع الجنود النظاميين أو يعملا في صفوف الطورابورا، ولأنهما ظنا - لسوء أو لحسن تقدير منهما - أن هذين الخيارين ليسا سوى خيار واحد والآخر هو الموت، اختارا العمل في صفوف الطورابورا.
كان إبراهيم مرهقا، بل مريضا، ارتفعت درجة حرارته بصورة مرعبة، فأحضروا له طبيبا أسيرا، يعمل في صفوف الطورابورا، رجلا مرحا وذكيا، أعطاه بعض الأدوية وأخذ يدير معه حوارا مضحكا، حيث إن إبراهيم كان في حالة أشبه بالغيبوبة، لكن حديثه اللاواعي هذا رفع من مكانته بين الطورابورا، وأخذوا يثقون فيه بصورة مطلقة؛ لأنه في غيبوبته تلك، قال بصورة واضحة إنه يكره الصينيين الذين جلبوا الدمار لدارفور ويؤيد الطورابورا.
في بادئ الأمر كانوا يستخدمونهما في طهو العدس وصنع اللقمة للأسرى من الجنود النظاميين، الذين ما كانوا يبقون على حياتهم إلا لأنهم يمثلون دروعا بشرية، ويقوون جانبهم في المفاوضات، ثم بعد ذلك للاعتبارات الإنسانية، وقد تحدث أحد المقاتلين عن اتفاقيات جنيف والقانون الإنساني الدولي. كان إبراهيم قد وضح لقادة المقاتلين أنه لا يحمل السلاح، ويستطيع أن يموت في سبيل هذا المبدأ، ولو أنهم احترموا ذلك إلا أنهم كانوا يستخدمونه في حمل الأسلحة والذخائر؛ أي كحمار. أما شيكيري كعادته كان سكوتا، يسمع جيدا ويفعل ما برأسه، وكان لا يتردد في الذهاب إلى المعارك، والمشاركة في نصب الكمائن، بل أصبح ماهرا جدا في ذلك. قال لإبراهيم مرة إنه ما عاد يخشى سكك الموت، بعد أن خسر عبد الرحمن لا شيء يهم، وكان يفكر بجدية في عبد الرحمن وهو قلق جدا عليها؛ لأنه لا يعلم أين اختفت، وكيف ستنتهي مغامراتها في قتل الجنجويد، يعلم أنها قد قتلت اثنين، صاحب البندقية، أو ما أسمته بالجنجويد السكران، وصاحب التمائم.
لا يدري أحد كيف تستدرج الجنجويد إلى حيث يلاقي حتفه، وكيف كانت تفعل ذلك وحدها. السؤال الأغرب: هل كانت تأكل أكبادهم حقا؟ أين هي الآن؟ وماذا لو قبض عليها؟ بلا شك سوف يقتلونها بالطريقة التي تعرف برقصة الطورابوراي، وهي أن يضعوا القرنيت منزوع التيلة داخل فستانها، بعد تقييد رجليها، ويهربون من قربها، فحتما ستؤدي الرقصة المرعبة لبعض الثواني قبل أن ينطلق جسدها في الفراغات مزقا. وتخيل ذلك يحدث أمام عينيه، فهو ما زال يحبها، وقرر بصورة قاطعة ونهائية أنه - إذا حدث في يوم والتقى بها - سوف لا تكون بينهما أية صلة، إذا اكتشف أنها كانت تأكل أكباد الجنجويد، نيئة كانت أم مشوية، لا يحب أن تكون زوجته آكلة للحوم البشر، ببساطة الفكرة كانت تخيفه.
Неизвестная страница