وقد اشتهر تجار هذه المدينة بالثروة، وبنوا لهم القصور الفخيمة في جوانبها وتقدموا في العلم أيضا حتى ارتقت مطابعهم وجرائدهم ومدارسهم ارتقاء كبيرا، والذي يرى مكتبة الخواجات أرل في هذه المدينة يظنها قصرا؛ فإنها في بناء لها ذي ثلاث طبقات ملئت بالمؤلفات والعمال في كل الجوانب. وفي بلفاست من الشوارع الكبرى والحدائق والمتنزهات ما يعسر علينا عده ولا يفيد سرده، ولكن أهم هذه الطرق الفسيحة شارعا يورك ورويال يتصل أحدهما بالآخر، وينتهيان في الطرف الواحد بميدان فسيح جميل اسمه ميدان دونجال، وفي الطرف الآخر بالمينا والأحواض البحرية، حيث تبنى السفن وقد سبقت إليها الإشارة. ويمر بهذه المدينة من ناحيتها الجنوبية نهر لاجان فتستقي منه الحدائق والمتنزهات، يؤمها القوم في أكثر الأحيان ولها منظر كثير الجمال.
وقد أقمت في بلفاست أياما تمكنت فيها من مشاهدة معالمها وآثار عظمتها ثم برحتها إلى دبلن عاصمة أرلاندا، والمسافة بين البلدين بقطار الحديد 100 ميل يقطعها المسافر في أرض جميلة تكسوها المزارع والخضرة، تحكي مناظر فرنسا في إتقانها ولها دروب جميلة، زرع الحور والصفصاف إلى جانبيها، وقد نمت نماء عجيبا بسبب خصب الأرض وكثرة الأمطار فأضافت إلى حسن البلاد حسنا.
ويلسن
بنيت هذه المدينة في سهل فسيح واتسع لها المجال وأحاطت بها المناظر الطبيعية الجميلة، فكان موقعها من أحسن المواقع في المملكة الإنكليزية، ولها أهمية سياسية كبرى؛ لأنها عاصمة أرلاندا من قدم، فيها آثار العظمة الأولى والقوة الحالية، وعدد سكانها لا يقل عن ستمائة ألف نفس جلهم من الكاثوليك، فهي مخالفة لبلفاست في هذا الأمر؛ لأن أهل بلفاست أكثرهم من البروتستانتيين، ويزيد هذه المدينة حسنا أنها يشطرها نهر ليفي شطرين، ويخترقها من الشرق إلى الغرب ثم يصب في خليج مار جرجس الفاصل بين إنكلترا وأرلاندا، وعند مصبه أحواض ومين عظيمة الأهمية لا يقل عدد السفن التي تنتابها كل عام عشرة آلاف سفينة وباخرة، وقد نظموا خطوطا من البواخر تسير بين هذه المدينة وثغور إنكلترا والسويد وأميركا وروسيا تنقل الركاب والأمتعة، وأهم ما تنقله من أرلاندا إلى الخارج حاصلات البلاد الزراعية، مثل البطاطس والماشية والأسماك المقددة تصاد من شطوط البلاد وبحيراتها، وبعض الحبوب والزبدة واللبن والبيض والجبنة، فإن للأهالي عناية بالزراعة وبسباق الخيل مشهورة، وقد بنوا فوق نهر ليفي الذي يخترق المدينة 11 جسرا تسهيلا للمرور ووسعوا الشوارع لسبب انبساط الأرض ورحبها في تلك الجهة، فجاء منظر المدينة بديعا لا سيما وأن لها مميزات كثيرة في مناظرها وأهلها، من ذلك أن طول القامة صفة تكاد تكون عامة في رجال هذه المدينة ونسائها، حتى إنك لترى الصبيات والسيدات يمشين على عجل ببسيط اللباس في شوارع المدينة، ولهن قامات تزري بغصن البان ووجوه طلقة ناصعة البياض، وترى الرجال أيضا أكثرهم طوال ولا سيما أفراد البوليس؛ فإنهم ينتخبون انتخابا لحسن مناظرهم، وتعتني الحكومة بأمرهم وتدرسهم في مدارس خاصة بهم حتى إن بعض الممالك الأخرى تنسج على منوال أرلاندا في نظامات البوليس وتنقل عنها.
وتمتاز هذه المدينة أيضا بعربات الأجرة فيها؛ فإنها بنيت على طرز لا نظير له في أكثر المدائن المعروفة، يقعد الراكب فيها إلى مقعد طويل ويمد رجليه ويسند ذراعه إلى وسادة في آخره، وفي الجانب المقابل له مقعد آخر على شكله، والحوذي على منصته بين المقعدين، وهذه العربات كثيرة في كل ناحية من المدينة أخذت واحدة منها حين خرجت من فندقي لأدور في جوانب دبلن، وكنت قد نزلت في فندق متربول، وهو في شارع ساكفيل أكبر شوارع هذه المدينة يبلغ عرضه ستين مترا، وفي وسطه عمود شاهق نصب في أعلاه تمثال نلسون أمير البحر المشهور، والعمود مجوف في داخله 168 درجة، صعدت أعلى البرج عليها ورأيت المدينة كلها من دوني فإذا بها زاهرة بهية لا يشوه منظرها دخان المعامل الكثيرة؛ لأن المعامل متباعدة عنها في الضواحي الفسيحة ثم هبطت الذرى إلى قاعدة العمود وسرت في شارع ساكفيل حتى التقيت بتمثال أوكونل الذي كان زعيما في أرلاندا ورأس مجلس نوابها في أواخر القرن الماضي، نصبوا له هذا الأثر على قاعدة علوها 40 قدما وارتفاع الأثر من فوقها 12 قدما، ثم ظللت على المسير وانتقلت فوق جسر من الجسور المشهورة في هذا البلد إلى الجانب الآخر من الشارع؛ فوجدتني أمام بناء قديم فخيم هو مجلس النواب الأرلاندي الأول بني سنة 1739، ولما ألغي نظامه على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية صار هذا المجلس مصرفا، وهو الآن موضع بنك أرلاندا المشهور من منذ سنة 1802، وقد تركوا في جانب من البناء قاعة الاجتماع على حالها فهي باقية فيها كراسي الرئيس والأعضاء على مثل ما كانت في القرن الثامن عشر، وأنشئوا على مقربة منه مدرسة تدرس بها العلوم العالية، ولها مكتبة عمومية طولها 300 قدم كلما طبع كتاب مفيد أضيف إلى ما فيها من نفيس الكتب حتى أضحت من أكثر المكاتب قيمة ونفعا. وللمدرسة هذه حديقة جميلة يقضي التلامذة فيها أوقات الرياضة، وفيها تمثال وليم أوبرين وهو من فصحاء الأرلانديين حرض قومه على الثورة ومحاربة الدولة الإنكليزية سنة 1848 حين كانت الأمة في هياج على أثر الثورة الفرنسية الثانية، فقبض عليه أولياء الأمر وحكموا عليه بعد المحاكمة بالإعدام، ولكنهم أشاروا على الملكة أن ترأف به فأبدلت الإعدام بالنفي المؤبد، وما مرت أعوام حتى صدر العفو عنه وعاد إلى بلاده.
ومررت بعد هذا بكثير من الشوارع المهمة، مثل شوارع آدم وناسو قامت إلى جانبيها المنازل المشيدة والصروح الفخيمة والمخازن الكبرى حتى وصلت حديقة ستيفن جرين في وسط العاصمة، وقد أحيطت بسور من قضبان الحديد وملئت بالأغراس الشهية والأعشاب الندية يلعب عليها الرجال والنساء والأولاد بقصد ترويض الأجسام، وفيها برك وتلال وطرق تشرح بمرآها الصدور، ومن حول سورها بيوت الأكابر والموسرين كثرت زخارفها وأطلت شرفاتها على جوانب الحديقة، فهي مرتع الآمنين ومقر أهل اليسار المتنعمين، مع أنها كانت في الذي مر من الزمان مقر اللصوص وأهل الجرائم ينتابونها على مثل ما كان أشقياء مصر ينتابون الأزبكية قبل أن عمرت وصارت مركز العز في هذا القطر السعيد.
وتابعت المسير في هذه الجهة حتى أتيت المتحف الأرلاندي، وهو من مشاهد دبلن المعدودة، فيه من آثار أرلاندا الأولى شيء كثير، مثل الخلاخل والأساور والجيب والجلابيب على أشكالها، وبعضها يقرب في طرزه من الشرقي والطبول، ظهرها من النحاس كالتي يستعملها العرب حتى اليوم في أفراحهم والأدوات الحربية على أنواعها والأقمشة الأرلاندية مع آلات الغزل والنسيج والحياكة الأصلية، وغير هذا كثير مما يستحق الذكر ويضيق عن سرده المقام.
كل هذا يراه السائح إذا سار على خط واحد من حيث بدأنا في شارع ساكفيل حتى إذا انثنى من ذلك الطريق رأى بعض الأبنية العظيمة، مثل بناء المحاكم على ضفة النهر أنفقوا عليه نحو 200 ألف جنيه، وبناء الجمرك وهو من أثمن ما في هذه العاصمة لا تقل الأموال التي صرفت عليه عن 500 ألف جنيه، وكنيسة القديس بارتك تضاهي كنائس أوروبا الكبرى في تحفها وجمالها، وهي أعظم كنائس أرلاندا طرا بنوها على اسم القديس باترك حامي الجزيرة وقديسها الخاص بها يجل الأهالي ذكره إجلالا، ولهم وسامات رفيعة الشأن باسمه ومحافل يدخلها كبراء الناس تعرف باسم القديس باترك أيضا فهو بمثابة القديس جورجيوس عند الإنكليز أو القديس نفسكي عند الروس.
ولما انتهيت من هذه المشاهد قصدت أعظم حدائق دبلن وأشهرها، أريد بها حديقة فنكس العظيمة، اشتهرت في الأيام الحديثة ببعض الحوادث التي سنذكرها، وبالاجتماعات السياسية التي تعقد بعض الأحيان في جوانبها، وتعد حديقة فنكس من أكبر حدائق المملكة الإنكليزية تبلغ مساحتها 1753 فدانا، وفيها من الهضبات والآكام والربض والآجام وحراج الشجر الغضيض ومرابع العشب السندسي وباسق الشجر ويانع الزهر ما يقصر عن وصفه قلم البليغ، وقد زادها حسنا أن النهر يشطرها شطرين إذ يمر في وسطها، وأن فيها من التماثيل والآثار لذكر مشاهير الرجال شيئا كثيرا أهمه مسلة من الصوان الأحمر أقيمت لذكر ولنتون القائد العظيم الذي يتباهى الإنكليز على ممر الزمان بانتصاره على نابوليون، وهو من الذين ولدوا في هذه المدينة صرفوا على إقامة هذا الذكر له 20 ألف جنيه، ونقشوا جوانب المسلة بكتابات مذهبة تدل على انتصاره في المعارك المشهورة. والمنزل الذي ولد فيه هذا القائد العظيم كائن في شارع ماريون نمرته 24، يقصده السائحون ويذكرون من رؤيته أعمال هذا البطل الكبير. ولوالي أرلاندا قصر صيفي في هذه الحديقة يقرب منه موضع فيها وجه الدليل نظري إليه؛ لأنه قتل فيه اللورد كافندش والي الجزيرة والمستر بورك وزيرها سنة 1882 في وسط النهار، وكان لقتلهما رنة ودوي في الأقطار بسبب مكانة الاثنين، وأولهما اللورد كافندش أخو الديوك أوف دفونشير ومن أكبر البيوت الإنكليزية العريقة في شرف المحتد، والثاني وهو المستر بورك كان من الخطباء وفحول السياسة. وعدت من هذه الحديقة فرأيت الناس في استعداد لزيارة الديوك أوف يورك حفيد جلالة الملكة مع قرينته، وكان الاثنان قد عزما على هذه الزيارة ليحضرا سباق الخيل وبنوع أخص النوع المعروف منه بقفز الخيل من فوق الأسوار في علو عظيم وهو سباق تعطى فيه الجوائز الكبيرة، ويشهده الألوف من أطراف البلاد، فهم يعتنون بتربية الخيل عناية خاصة، وكان سمو الديوك يريد من زيارته أيضا إزالة أثر الجفاء من صدور الأهالي الناقمين على الهيئة الحاكمة وعلى الأمة الإنكليزية، فأحسنت البلاد استقباله وكانت أكثر الجرائد تحرض الناس على إكرامه وإظهار الاحترام له فعاد الرجل من أرلاندا شاكرا مسرورا.
ولدبلن من الضواحي الجميلة ما لا يمكن لنا وصفه إلا موجزين، نذكر منها تلال كيلني سرنا إليها بالترامواي البخاري ما بين مناظر البحر من جهة وخضرة الجبال الشهية من ناحية أخرى، حتى إذا وصل الترامواي سفح الجبل قمنا في عربة جعلت تلتف وتتعوج بين تلك الصخور حتى وصلت غابة اضطررنا من بعدها أن نترجل ونرتقي قمة التلال على الأقدام، وهنالك رأينا منظرا من أجمل المناظر يحكي في بدائعه منظر جبل العصافير في موسكو أو كاهلمبرج من ضواحي فيينا، ويزيده حسنا أن فيه صخورا طبيعية أو هي من بقايا معبد وثني قديم تركت في جوانب الجبل، وفي تلك الجوانب قصور وحوانيت تلتقي حولها جماعات الناس وتتلذذ بالنظر وسمع الأنغام.
Неизвестная страница