جان دارك.
وكان لويس السادس عشر الذي خلفه وحدثت الثورة في أيامه رجلا بسيط البنية سليم القلب محبا لخير رعاياه، إلا أنه كان ضعيف الرأي فلم يقدر على إيقاف تيار الأفكار الذي قاد الأهالي كلهم إلى كره الملوك والأمراء؛ فحاول جهده أن يرضي الأمة وجمع مجلس نواب فتحه بنفسه وعرض على أعضائه كل ما يمكن للملك إعطاؤه للأمة من الحقوق، وتساهل ما أمكن التساهل فلم يهدأ غضب الشعب، وظلوا على الهياج حتى لم يبق للملك سلطة وأحاطوا بقصره يقصدون قتله وقتل أفراد عائلته، وعاث الثائرون في البلاد مفسدين وارتكبوا الأهوال والفظائع، وعمت في البلاد فوضى غريبة وثورة على الأغنياء والأمراء ورؤساء الدين، فلما رأى الملك أنه لا يمكن له استرجاع الملك بعد ذلك الهياج حاول الفرار مع عائلته فعرفه بعضهم في وسط الطريق، وأرجعوا العائلة المالكة إلى باريس ذليلة مهانة، وهنالك أقاموا عليها الحجر وتولى الأمر رجال الثورة وزعيمهم يومئذ رجل لا ذمة عنده ولا إشفاق ولا شعور اسمه روبسبير، فبعد أن طال زمان فظائعهم وقتلوا ألوفا من نبلاء فرنسا، قادوا الملك إلى المحاكمة وأجمعوا على أنه خان المملكة وحكموا عليه بالإعدام؛ فأعدم في ساحة الكونكورد بباريس في صباح 21 يناير من سنة 1793، ولما وقف على آلة الذبح - والفرنسويون يعدمون المجرمين ذبحا لا شنقا بآلة قاطعة يسمونها جيليوتين - خاطب الحاضرين قائلا: «أيها الفرنسويون، إنني أموت بريئا مما اتهمني به هذا الشعب، وأسامح الذين يريدون قتلي، وأطلب إلى الله ألا يحمل فرنسا مسئولية سفك دمي.» ولم تسمع بقية كلامه؛ لأن الطبول قرعت وعلت ضوضاء المنتقمين وأعدم لويس السادس عشر، وهو لم يقم بين ملوك فرنسا أطيب منه قلبا ولا أسلم نية، وزاد رجال الثورة في الهول والفظائع بعد ذلك فاتهموا الملكة ماري أنتوانت - وهي ابنة ماريا تريزا إمبراطورة النمسا المشهورة - بالاشتراك في الخيانة، وحكموا عليها بالإعدام فقادوها إلى الجيليوتين محملة على عربة حقيرة للأبضعة، وقبل أن تسقط الآلة القاتلة على عنقها صرخت: «يا إلهي أسألك أن تسامح قاتلي.» وهكذا سفك دم امرأة لا ذنب لها، وتمت فظائع الثورة الفرنسوية بأن سجن بقية أعضاء العائلة المالكة، ومات ولي العهد وهو صبي معذبا في سجن كثير الظلام.
وتمادت فرنسا في المبادئ الثوروية فهاج شعبها هياجا عظيما، وما أبقوا على كبير ولا أثر للنظام الملوكي ونادوا بالحرية والإخاء والمساواة، وأعلنوا في الأقطار أنهم يساعدون كل أمة على ثل عرش الملوك فيها، ونيل الحرية والاستقلال؛ فأرجف إعلانهم الملوك واهتزت لذلك ممالك أوروبا، وبدأ أصحاب النفس الأمارة بالسوء في بقية الممالك يفكرون في الثورة؛ فاتحد أكثر ملوك أوروبا على محاربة الفرنسويين وإذلالهم قبل أن يستفحل أمرهم وتعم مبادئهم، ولكن شبان فرنسا كانوا قد ثملوا بخمرة الثورة والاستقلال؛ فحاربوا الأعداء حربا شيبت الولدان وأظهروا من البسالة ما حير العقول وانتصروا على جميع الأعداء وردوهم عن حدود فرنسا.
وفي سنة 1793 اجتمع نواب المملكة بعد كل تلك الأهوال وانتخبوا 12 عضوا من رفاقهم لإدارة الأحكام فأداروها على نسق غريب من الفظاعة والشناعة حتى ألقوا الرعب في كل القلوب، وسمي حكمهم «بحكم الرعب»؛ لكثرة ما قتل فيه من الناس، وما حدث من الأمور المغايرة لطبع الإنسان، من ذلك أنهم غيروا أسماء الأشهر وحساب السنة، وسارت فرنسا على نظام جديد جعلت سنة الثورة بدء سنيه، وذبح على الجيليوتين ألوف من الأبرياء حتى نفر الناس من فظائع تلك الحكومة، وقادوا رؤساءها وأشهرهم روبسبير - الذي ذكرناه - ودانتون إلى المجزرة فضربوا أعناقهم وأراحوا البلاد منهم، وقامت على إثر ذلك حكومة جمهورية جديدة اسمها «ديركتوار» أو الإدارة، وهي الجمهورية الفرنسوية الأولى، كانت مركبة من 5 أشخاص يحكمون البلاد برأي مجلسين: أحدهما مركب من 500 نائب والثاني من 250 نائبا ودامت هذه الحكومة إلى سنة 1799 حين أبدلت بحكومة القنصلية.
وبينا البلاد في حرب واضطراب قام فيها شاب غريب الذكاء عجيب الاقتدار كان جنديا بسيطا لا يعرف الناس عنه شيئا حتى إذا شرع الإنكليز والطليان في محاصرة طولون كان هو حاضرا تلك المعركة وأبدى من حسن الرأي والبسالة ما أعاد المدينة إلى قبضة الفرنسويين، وكان ذلك الشاب نابوليون بونابرت المشهور، ولعله أعظم قواد الأرض من يوم ذكر للناس حرب وقيادة، ولا حاجة إلى سرد تاريخ هذا الرجل العظيم هنا، ولكننا نكتفي بالقول إن حكومة الديركتوار اتصل بها ذكاؤه فرقته حتى جعلته قائد جيش، حارب ألمانيا والنمسا وإيطاليا وانتصر في كل المعارك انتصارا باهرا، وضم إيطاليا إلى مملكة فرنسا وسن لها القوانين والنظامات وطرد جنود النمسا منها، ثم عاد إلى باريس فتلقاه الشعب بسرور عظيم واحتفلوا به احتفالا لا مثيل له، وارتفع ذكره بين الناس إلى حد أن حكومة الديركتوار بدأت تحسب لشهرته حسابا، فعرضت عليه قيادة العمارة البحرية لمحاربة إنكلترا وغزو شطوطها، ولكنه آثر أن يغتصب الهند منها أولا وطلب جيشا يسير به إلى مصر والشام ليفتحهما ويتقدم إلى الهند، فجندت له الحكومة 30 ألفا سار بها إلى مصر في تلك الحملة المشهورة، فانتصر ثم خذل في الشام وتحطم أسطوله في أبي قير واضطر إلى الرجوع إلى فرنسا، فلما وصلها قلب الحكومة وجعلها قنصلية يحكمها ثلاثة قناصل هو أولهم، وحارب النمسا وإيطاليا مدة القنصلية فانتصر عليهما ثم رقي إلى رتبة إمبراطور في سنة 1804 فصار أعظم أهل زمانه.
نابوليون الأول.
وقامت أوروبا على بونابرت بعد هذا الارتقاء، فحاربها وانتصر في كل جهة حتى إنه نظم الممالك الجديدة وتصرف بالبلدان، فأنشأ مملكة بافاريا في ألمانيا وجعل صهره مورات ملكا عليها، ونصب أخاه يوسف ملكا على نابولي وإسبانيا، وعين أخاه لويس ملكا لهولاندا، وأخاه جيروم ملكا لوستفاليا في ألمانيا، وقسم ألمانيا تقسيما حتى أضعفها، ولعله نظر بذلك إلى صالح فرنسا وخاف على بلاده من اتحاد الجرمانيين عليها كما حققت الأيام ظنونه، وظل ينصب الملوك ويعزل ويولي حتى دانت أوروبا له بعد انتصاراته الباهرة، ما خلا إنكلترا؛ فإنه حاول عزلها وعقد المحالفات مع الدول على قطع المخابرات معها، فأخلفت روسيا وعدها من هذا القبيل، وقام لمحاربتها فدخل بلادها ووصل موسكو، ولكن اتساع البلاد ومقاومة الأهالي أضنت قواه فعاد من روسيا وقد فشل لأول مرة في حروبه، فلما وصل فرنسا في سنة 1812 جند جيشا جديدا وخرج لمحاربة الدول المتحدة عليه، وهي روسيا وإنكلترا والنمسا وبروسيا، فغلب وتقهقر إلى باريس، ومن ثم دخل ملوك الدول المتحدة عاصمة فرنسا وعزلوا نابوليون وولوا مكانه لويس الثامن عشر، وهو أخو لويس السادس عشر الذي قتل في الثورة، ونفي نابوليون إلى جزيرة ألبا في البحر المتوسط، ولكنه ما عتم أن رأى جنود الدول راحلة عن باريس حتى عاد إليها في سنة 1814، وجند جيشا جديدا قام ليحارب به الدول فكانت آخرته في معركة واترلو التي ذكرناها في تاريخ البلجيك.
وأخذ بونابارت بعد أن سلم نفسه للإنكليز أسيرا ونفي إلى جزيرة القديسة هيلانة في الأوقيانوس الأتلانتيكي عند شطوط أفريقيا الجنوبية، حيث توفي في 5 مايو سنة 1821 ونقلت عظامه بعد ذلك إلى باريس باحتفال عظيم.
وكان لهذا القائد العظيم زوجة اسمها جوزفين عاشت معه إلى أن صار إمبراطورا ولم تلد له نسلا؛ فاضطر إلى الاقتران بغيرها ليولد له من يرث الملك العظيم عنه؛ ولهذا فإنه طلق جوزفين على كره من البابا ورجال الدين، واقترن بالأرشدوكة ماري لويز ابنة مكسميليان إمبراطور النمسا فرزق منها ولدا واحدا سمي يوم ولادته ملك رومة، وأوصى له والده بمملكة فرنسا من بعده، فعرف باسم نابوليون الثاني، ولكنه لم يملك بعد أبيه ومات مسلولا في قصر شونبرن من ضواحي فيينا.
واتفقت دول أوروبا بعد نفي نابوليون على إعطاء الملك ثانية للويس الثامن عشر فعاد وملك إلى يوم موته سنة 1824 وخلفه أخوه شارل العاشر وحصلت في أيامه ثورة؛ لأنه أراد إدخال نظامات لم يوافق الشعب على إدخالها، فتنازل عن الملك وخلفه لويس فيليب من آل أورليان، ودامت دولته إلى سنة 1848، وهي سنة الثورة الفرنسوية الثانية حين سقطت المملكة ونودي بالجمهورية الثانية.
Неизвестная страница