لما انتقلنا من هولاندا إلى بلاد البلجيك وصلنا مدينة أنفرس هذه واسمها عند الإنكليز والأميركان أنتورب، وهي أعظم الفرض البلجيكية ولها أهمية في التجارة عظيمة؛ لأن ميناها من أجمل المين تنقل منه وإليه معظم متاجر البلجيكيين على اتساعها، ويحيط البحر بها من الجهات الأربع كلها تقريبا بحيث إن الساكن فيها يرى البواخر تمخر في البحر عن يمينه ويساره ومن أمامه وورائه. وفي هذه المدينة نحو ثلاثمائة ألف نفس، ولها علاقات كبرى بجميع البلدان حتى إن الإنكليز والفرنسيس والأميركان أنشئوا بواخر خاصة تروح وتغدو بين أنفرس ومين بلادهم، وقد بنيت أحواض وأرصفة في هذا المينا عظيمة القدر والقيمة حتى تفي بمراد المتاجرين وأصحاب الشركات والبواخر الكثيرة، فما ترك أهل البلد وسيلة لهذا الغرض إلا وأتوها من أيام نابوليون إلى هذه الأيام حتى إنك إذا زرت هذا المينا العظيم الآن ترى من السكك الحديدية والأرتال والأبضعة الموضوعة ركاما وتلالا. والآلات الرافعة تدار بقوة البخار وتنقل هذه الأبضعة من البواخر إلى المخازن أو بعكس ذلك، وغير هذا مما يدل على عظمة المدينة واجتهاد أهلها وأهمية التجارة البلجيكية التي يعد هذا البلد مركزها ومفتاحها، ويمر على خطوط هذا المينا كل يوم أكثر من 2500 عربة مشحونة بالأبضعة تفرغ في الأحواض المختلفة، وأهمها الحوض الكبير خصص لمتاجر المملكة البلجيكية ومساحته 94000 متر مربع، وهنالك حوض آخر اتساعه 131000 متر مربع خصص لتجارة البلاد مع أوروبا، وحوض ثالث خصص لمتاجر البلاد مع الشرق والديار القاصية، وكنا في غربة ندور حول هذه الأعمال العظيمة فلزم للتفرج عليها كلها ثلاث ساعات.
نزلت في فندق أوروبا وهو في موقع بديع؛ لأنه في طرف ميدان يعرف باسم الميدان الأخضر لكثرة ما فيه من الشجر، وهنالك تصدح الموسيقى في كل يوم بعد الظهر فيتألب الناس جماعات كثيرة؛ لسماع الأنغام تحت ظل الشجر وهم يخطرون بين صفوف الخضرة النضرة على مهل؛ فيرى المتفرج على تلك الجماهير ما يشرح الصدر من اختلاف الأشكال وأدلة الترف، وتوجهت يوم وصولي إلى مرسح واسع تلعب فيه الأفيال والخيل ألعابا مختلفة، منها أن الفيلة ترقص على الأنغام رقصا إفرنجيا من النوع المعروف عندهم بالكادريل، فيكون لها في ذلك منظر غريب، وقد قضى صاحب هذا المحل زمانا طويلا على تعليمها حتى أوصلها إلى هذه الدرجة، وبدأ يجمع من رقصها المال. وفي اليوم الثاني دخلنا كنيسة أنفرس الكبرى، وهي أجمل ما في هذه المدينة من المعابد وأكبر كنائس البلجيك طرا يشبهها القوم بكنيسة باريس المشهورة المعروفة باسم «نوتردام»، وفي هذه الكنيسة رسوم ونقوش وآثار تستحق الذكر؛ أهمها صورتان من رسم روبان الشهير أنجزهما في عامي 1610 و1612، فهما تعدان من أجمل الآثار الباقية من القرن السابع عشر، وقد جعل الصورتين للدلالة على صلب المسيح وارتفاعه عن الصليب فعلقتا في جدار الكنيسة وغطيتا بالحجب لا ترفع عنهما إلا متى انتهى المصلون من عبادتهم وبقي المتفرجون فتنزاح تلك الحجب، ويدور خادم المعبد يتقاضى من كل متفرج فرنكا رسم مشاهدتها وهو يفعل ذلك في كل حين لكثرة الزائرين. ورأينا كنيسة أخرى في هذه المدينة وهي قديمة العهد بنيت سنة 1600، وفيها حفر على الخشب يمثل ملائكة الجنان والقديسين والحواريين، وكل ذلك من صنع الرجال الماهرين.
ولا حاجة إلى القول إن هذه المدينة على اتساعها وكثرة المترددين إليها من الأجانب بسبب مركزها التجاري تحوي شيئا كثيرا من المراسح والملاهي والمشاهد، ولكننا لم نذكر هنا غير المهم منها فنقدم من ذلك إلى ذكر عاصمة البلاد.
بروكسل
قصدنا بعد أنفرس هذه العاصمة البهية، ووجدنا أن الذي قاله الواصفون عن محاسنها لا يزيد عن الحقيقة، وما أخطأ الذين أطلقوا عليها اسم «باريس الصغيرة»، فإن عاصمة البلجيك أكثر مدن الأرض زهاء وبهاء وبهجة بعد مدينة باريس ، وهي تقرب منها في أوضاعها ومناظرها، وبنوع أخص في طباع أهلها وأميالهم وأهوائهم وعوائدهم، وقد بنيت هذه المدينة على مرتفع من الأرض تحته واد غير عميق، فهي بهذا تقسم قسمين: أحدهما علوي والآخر سفلي، وفي كل منهما ما يستحق الذكر والوصف من المشاهد العظيمة، والقسم السفلي من هذه المدينة الزاهرة مركز الحركة التجارية فيها، وهو القديم من قسميها، وفيه البورصة وإدارة البوسطة العامة ومجلس البلدية، وفيه من الشوارع المغروسة فيها الأشجار ما يشبه شوارع باريس الكبرى (البولفار)، وأهمها شارع إسبناخ ثم شارع الشمال ثم شارع هينو، وكلها متصلة بعضها ببعض، وهي ذات سعة وجمال بديع رصعت بالمخازن المزخرفة بأشكال البضائع والحانات المرتبة على أجمل مثال والمطاعم النظيفة وغير هذا مما يكثر وجوده في كل مدينة عظيمة، ومن أعظم ما يرى في هذا القسم من بروكسل سراي المجلس البلدي، وهي كانت قصر الملوك السابقين الذين حكموا بلاد البلجيك بنيت في ساحة كبرى على مقربة من البورصة، وقد عني الصناع الماهرون بزخرفتها ونقشها حتى جعلوها من أجمل المشاهد وطلوا ظاهرها بماء الذهب فزادوها رونقا وبهاء، وفي داخل هذا البناء صور الملوك الذين درجوا، بعضهم هولانديون والبعض نمسويون والبعض فرنسويون، والكل بالملابس التي كانت مستعملة في أيامهم، فالنظر إلى هذه الصور من وجه تاريخي يلذ لطالب الحقيقة؛ لأنه يمثل له حالة أوروبا في العصور المتوسطة على أوضح الأشكال، ويذكره بما فعل أولئك الأقيال، وما حاربوا وما عانوا من هياج الأمة، فإن البلجيكيين قرروا الاستقلال من الحكومة الهولاندية في هذه الدار، وقطعوا رأس 25 كبيرا من كبراء الهيئة الحاكمة في غرفة من غرفها، هذا غير أن الصور المجموعة في هذا القصر تمثل تاريخ البلجيك كله فيمكن لطالب المعرفة أن يدرس تاريخ البلاد من تلك الصور.
وأما القسم العلوي من هذه المدينة - وهو القسم الحديث - فأهم كثيرا من الذي مر ذكره، وفيه مجموع عظمة بروكسل وبهائها الحاليين؛ لأن فيه قصر الملك وندوة النواب والأعيان والأبنية الفخيمة الخاصة بالوزارات ودور الأمراء من الأسرة المالكة في هذه البلاد الآن، وسراي المحكمة وفنادق عظيمة وحوانيت بديعة الصنع ومخازن وافية الترتيب، وغير هذا شيء كثير، وإني قصدت هذا المكان من فندقي صعدا؛ لأنه - كما علمت - مبني فوق أكمة كبيرة ، وبلغت ساحة تعرف باسم الساحة الملوكية أقيم فيها تمثال الأمير البلجيكي جوفروا دي بويون، وهو أمير اشتهر في الحروب الصليبية المعروفة شهرة زائدة، ومثل هنا في حالة الحرب والجهاد، وقد نصب هذا التمثال في سنة 1848 وكتب على قاعدته ما يأتي «جوفروا ده بويون ملك القدس الأول، ولد في مدينة بندي بالبلجيك وتوفي في فلسطين يوم 17 يوليو سنة 1115، وقد نصب هذا التمثال في حكم الملك ليوبولد الأول سنة 1848.» وعلى الجوانب الأربعة ذكر حروب جوفروا هذا وأعماله، وهو في موضع يكثر مرور الناس منه. وفي هذه الساحة فندق فلاندر وهو أعظم فنادق المدينة وأفخمها وإلى جانبه فندق المنظر الجميل (بيل فو) يتصل بقصر الملك ليوبولد، وليس لهذا القصر من الخارج منظر يميزه عن منازل الكبراء والأغنياء، فلا يعرف الغريب أنه للملك إلا إذا أتاه العلم من غيره لا سيما وأن القصر ملاصق لفنادق وأبنية أخرى، ويكثر أن تكون قصور الملوك داخل أسوار وحدائق خاصة بها لا تتصل بسواها، ولم يمكن دخول هذا القصر؛ لأنهم لا يأذنون بذلك في كل حين، ولكن دخول الحديقة التابعة له مباح، فدخلتها مع الداخلين ودرت في جوانبها على صوت الأنغام تصدح بها الموسيقى العسكرية، ويتصل طرف هذه الحديقة بمجلس النواب والشيوخ والنظارات، وقد أقيمت عند مدخل المجلس تماثيل تدل إلى العدل والقوة والحلم والحكمة، وغير هذا مما يعدونه شعارا للحكومة الدستورية.
ولما انتهيت من رؤية هذه المشاهد عدت إلى الساحة الملوكية لأذهب منها إلى المحكمة أو قصر العدلية كما يسمونها، وهي ذلك البناء الفخيم الذائع الصيت في الآفاق يعد من معجزات الإتقان في هذا الزمان إذا عدت الأبنية العظيمة في الأرض كان هو في أولها؛ ولذلك ترى رسومه في كل جهة من جهات الأرض ولطالما قال الناس إن هذا القصر الفخيم كثير على محاكم بروكسل، وإنه لا يجدر بدولة البلجيك الصغيرة أن تقيم أثرا عظيما كهذا في عاصمتها ليس له نظير في أكبر عواصم الأرض وأعظم ممالكها، شرعوا في بناء هذا القصر سنة 1866 فانتهوا من البناء سنة 1883، أعني أنهم اشتغلوا به 17 عاما وأنفقوا عليه أكثر من مليوني جنيه، وهو قائم على طرف القسم العلوي من المدينة ومن دونه القسم الواطئ، فالذي يقف فيه يرى القصور والأبنية الشاهقة في ذلك الوادي مثل الأكواخ الحقيرة أمام منظره الفخيم، يكتفي السائح الذي يقصد بلاد البلجيك أن يدخل هذا القصر ويدور في داخله وخارجه ويتنقل في غرفه وقاعاته وردحاته ودرجاته وقباته وعمده وبقية غرائبه، فإنه إذا لم ير في بروكسل غيره لم تعد زيارته بلا فائدة. ويشغل هذا البناء أرضا مساحتها 24600 متر مربع، طوله 180 مترا وعرضه 170 وعلو قبته 122، وفيه 27 قاعة كبرى يمكن أن يجتمع في كل منها مئات من الناس، و245 غرفة متوسطة الحجم للمداولات والتحريرات وغير هذا، وثمانية ردحات كبيرة تحيط بها القاعات والغرف إحاطة النجوم بالشمس، وأكثر هذا البناء العظيم من الرخام الأبيض المصقول، إذا تأملته من الخارج أو من الداخل وجدت له رونقا وبهاء كثيرا، وقد جمعت فيه علوم المتأخرين الهندسية والصناعية كلها، فما ترك البلجيكيون واسطة حتى أتوها لإتقان هذا القصر، وجعلوه بذلك من مشاهد الدنيا المعدودة، ولعله أجمل محكمة في الوجود. ودخلت بعض الغرف وفي جملتها غرفة الاستقبال كلها رخام بديع الصنع حتى إن جدرانها من الرخام الملون أسفلها أسود لماع وفوقه أحمر قان، ومن فوقه إلى السقف أبيض ناصع، ولهذه الصفوف الثلاثة منظر بديع يؤثر في الناظرين. وقد قامت القاعة كلها على أعمدة من الرخام أيضا كثيرة الزخرف، فإذا جلس المرء في صدر هذه القاعة وتأمل محاسنها شعر بعظمة في نفسه، وأقر بالفضل للذين بنوا هذا الأثر الجليل، ومساحة هذه القاعة 3600 متر مربع، وهي نظرا إلى هذه السعة يرجع فيها صدى الصوت ويرن مدة دقيقة واحدة فيزيدها مهابة ووقارا، ودخلنا قاعات الجلسات للمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، وكلها وضعت على أجمل مثال فيها الكراسي للقضاة من خشب الأبنوس غطيت بالقطيفة الحمراء، وفي صدر القاعات تماثيل العدل والقسطاس وكلها رموز، منها شكل سليمان الحكيم في كرسي القضاء وإلى يمينه ميزان العدل وإلى يساره شكل امرأة تحمل طفلا.
وجملة القول أن الساحة الملوكية في بروكسل تعد من أجمل الساحات لما يحيط بها من المشاهد العظيمة. وعلى مقربة منها متحف الفنون الجميلة مثل النقش والتصوير فيه من الرسوم ما يستغرق الكتب وصفه. ويليه قصر الكونت ده فلاندر عم الملك، وهو رجل طويل القامة طولا ظاهرا، رأيته يتمشى إلى جانب قصره مع أحد القواد العسكريين وقد اضطره الطول إلى الانحناء فلازمه وصار فيه طبعا. ويتفرع من هذه الساحة أجمل شوارع المدينة وأبهاها، غرس إلى جانبيها الشجر الجميل، ولها اتساع يكفي للعربات الذاهبة والآيبة، وأرصفة عريضة للمارة من الناحيتين، فهي تسمى عندهم باسم «الشانزليزه»، وهو المتنزه المعروف في باريس لقربها منه في المناظر، والناس يقصدونها عصاري كل يوم من كل صوب فتراهم زرافات ووحدانا، يتمشى منهم الرجال والنساء أو يسوقون العربات أو يجرون على الدرجات، أو يمتطون صهوة الجياد الصافنات فيكون من مجموعهم مشهد من أجمل المشاهد للمتفرج أو المتنزه. ولما تركت هذه الجهة سرت في الشارع الملوكي إلى حديقة النبات، وهي من الحدائق المشهورة في أوروبا وضعت في منحدر من الأرض، فهي إذا وقف المتفرج في أعلاها رأى من دونه صفوف الخضرة النضرة وأشكال النبات العجيب والشجر البديع من كل نوع تعشقه العين، وقد جمعوا في هذه الحديقة من غرائب النبات ما ينمو بعضه في البلاد الحارة، فغرسوه في حديقتهم داخل بيوت من الزجاج يضرمون النار من تحتها لتوليد الحرارة اللازمة لإنمائه؛ فينمو هنالك كأنه لم ينقل من موضعه في أواسط أفريقيا أو أميركا الجنوبية، وبعد أن سرحنا الطرف مليا في هذه الحديقة الشهية توجهنا إلى القصر الثاني للملك، حيث يقيم أكثر أيام وجوده في بروكسل، وله حديقة من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين وطرقات في وسط الأشجار والأزهار وبحيرات من الماء لها جمال غريب، وكان الجرس الملوكي واقفا على باب القصر وهيئة المكان بوجه الإجمال تدل على الملك أكثر من هيئة القصر الآخر الذي مر ذكره، فتأملناه من الخارج؛ لأن الدخول غير مباح للمتفرجين، وقد مر على هذا القصر زمان فإنه بناه أحد الولاة الهولانديين لما كانت البلاد تابعة لتلك المملكة ثم استولى عليه نابوليون الأول، وجعله محل إقامته من سنة 1802 إلى 1814 وفيه أصدر أمره بإشهار الحرب على روسيا في سنة 1812، ويقال إنه ظل بعد ذلك يعد بروكسل وهذا القصر شؤما ويتطير من ذكرهما إلى يوم وفاته؛ لأنه غلب في واترلو، وهي بلدة تقرب من بروكسل - سيأتي ذكرها - وكانت واقعة واترلو هذه الضربة القاضية على عزه، وبدأ نجم سعده بالأفول من بعد الحرب الروسية التي أمر بها في قصر بروكسل هذا، فكانت عاصمة البلجيك وقصرها شؤما عليه ومقدمة هبوطه على ما يزعم، وهو مع اتساع مداركه وعظمته كان كثير التشاؤم راسخ الاعتقاد بمثل هذه الأمور، وعاد هذا القصر بعد خروج البلجيك من قبضة فرنسا إلى أصحاب البلاد في سنة 1815، وتوفي في إحدى غرفه ليوبولد الأول مؤسس الدولة المالكة حالا وكانت وفاته في سنة 1865، فأقيم له تمثال بديع الصنع ونصب على أكمة تسمى أكمة الرعد على مقربة من هذا القصر، وقد بني عليها برج هرمي يصعد إليه من الداخل بسلم مستدير الشكل، إذا رقي المرء أعلاه رأى قسما كبيرا من مدينة بروكسل وبعض أجزائها ترى من ذلك الموضع بكل ما فيها، ويلي هذا البرج كنيسة مشهورة يصلي فيها الملك لقربها من قصره وفي ساحتها مدفن الملوك والأمراء، من ذلك قبر ليوبولد الأول مؤسس الدولة - وقد ذكرناه غير مرة - وولي العهد ابن ليوبولد الثاني توفي سنة 1869، والبرنس بدوين ابن أخي الملك وكان ولي عهده توفي سنة 1891، ووراء هذا المدفن المقبرة العامة تعرف باسم بير لاشيز تشبيها لها بمدفن في باريس يعرف بهذا الاسم أيضا، وهناك من الأضرحة وأشكال النقوش والرموز شيء كثير.
وكان في بروكسل يوم زرتها معرض بديع لشركة من البلجيكيين والإنكليز استأجرت قطعة من الأرض وأقامت معرضا مثلت فيه هيئة مدينة البندقية «فنيس» الكائنة في إيطاليا، وكانت هذه الشركة قد أقامت هذا المعرض في لندن وكأنما هي نقلت مناظر البندقية وترعها وشوارعها وقصورها وجسورها وزوارقها إلى لندن على طريقة غريبة ، فكان الذي يدخل هذا المعرض يظن أنه في البندقية نفسها لا في مدينة أخرى، وتقاطر الناس على ذلك المعرض مدة وجوده وهي ستة أشهر فقط، فربحت الشركة من ذلك أموالا طائلة تزيد خمسة أضعاف عن رأس مالها، والذي دفع من المساهمين ألفا أخذ في نهاية الأشهر الستة خمسة آلاف، فلما رأى رجال الشركة هذا النجاح الباهر؛ نقلوا معرضهم بصوره وأكثر أشكاله إلى مدينة بروكسل، وحفروا الترع وبنوا الجسور والزوارق وجاءوا بالعمال من مدينة البندقية نفسها، فكنت إذا دخلت ذلك المعرض في بروكسل تسمع اللغة الإيطالية ولا ترى غير مناظر مدينة البندقية فتظن أن تلك المدينة العجيبة انتقلت بقوة الآلهة أو بفعل السحر الذي يفوق العقول من موضعها، وفي ذلك من معجزات العلم والهمة ما لا يخفى، وكان رأس مال المعرض المذكور كبيرا جمع بالاكتتاب فربح أصحاب المشروع منه أموالا وفيرة. وهنا يتضح للقارئ مزية التشارك والتعاون على قضاء المهمات الكبرى، فإن كثيرا ما يتوفر منه الربح لا يمكن لفرد واحد، فإذا تعاون عليه أفراد وتشاركوا على إنجازه ربح الكل منه وغنموا ما يملأ الجيوب كما غنمت شركة معرض البندقية في بروكسل وفي لندن من قبلها.
وقد كنت مدة وجودي في هذه المدينة كثير التردد على حرجة بديعة تسمى بوا ده لاكامبر، وهي مثال الغابة الباريزية المعروفة باسم بوا ده بولون، وفي هذا المحل الغريب بحار من الماء وبحيرات تتخلل الخضرة، وجزيرة من أرض الغابة تحيط بها المياه فيصل إليها القاصدون بالزوارق، وهم يسمونها جزيرة روبنصن يأتيها الناس أفواجا كثيرة في كل حين، فيدورون بين تلك الأشجار وينثنون ملتفين حول تلك الجداول وهم يسمعون الأنغام المطربة تصدح بها الموسيقى العسكرية.
Неизвестная страница