كان يضعها على منكبيه، والراية النبوية أخذها السلطان سليم الأول من مصر لما فتح هذه البلاد في سنة 1517 ونقلها إلى دمشق، وفي سنة 1595 نقلها السلطان مراد الثالث إلى غاليبولي، وفي سنة 1597 نقلها السلطان محمد الثالث إلى الآستانة، وقد كان الأتراك يحملونها معهم إلى ساحات الحرب، وهناك أيضا شعرات من لحية النبي حلقت بعد موته، وسن من أسنانه، ونعاله، ونسخ من القرآن الشريف منقولة بخط بعض كبار الصحابة. وفي الخامس عشر من شهر رمضان كل عام يذهب جلالة السلطان بموكب عظيم يسير فيه سماحة شيخ الإسلام والوزراء والكبراء جميعهم بالملابس الرسمية والنياشين، فيدخلون المكان لزيارة هذه الآثار، وهي داخل صندوق من الفضة فيقبلها، ثم يتقدم أمين السراي السلطانية ولديه مناديل يمسح بها المخلفات النبوية ويوزعها على الحاضرين، ثم يعيد هذه الآثار إلى صندوقها، وبذلك تنتهي هذه الحفلة الفريدة.
ومما يذكر من هذا القبيل، متحف الآثار القديمة في الآستانة بني من عهد قريب، وكان أول الذين وجهوا العناية إلى تنظيمه مديره الأول سعادة حمدي باشا بن أدهم باشا بعد أن درس سنين طويلة في مدارس ألمانيا، وعني بذلك من سنة 1881، فجمع في هذا المعرض أشكال الآثار الغريبة من ممالك الدولة العلية وهي - كما تعلم - أغنى أراضي الدنيا بآثارها الفاخرة، وكل معارض أوروبا التاريخية لا تقوم بغير آثار مصر وآشور وفينيقيا والروم والفرس وهاتيك الدول الشرقية القديمة، ومعظمها واقع في حوزة الدولة العلية إلى الآن، وأكثر ما في هذا المتحف آثار آشورية وفينيقية لا حاجة إلى وصفها بالإسهاب، وبعضها نواويس من الرخام جميلة الصنع غالية الثمن وجدوها على مقربة من صيدا، وعلى أكثرها نقوش بارزة ورسوم نسوة تنوح، وقد ظهرت ملامحها ظهورا غريبا، ويستفاد من بعض الكتابات التي عليها أن أحد تلك النواويس كان مدفن تبنت بن أشمنصر ملك صيدا.
ولكن المتحف الذي نحن في شأنه لم يزل صغيرا قليل الأهمية بالنسبة إلى ما يماثله من متاحف أوروبا، ولما كانت بلاد الدولة العلية هي مقر الآثار القديمة وفيها ما ليس في سواها، فإذا زيد الاعتناء بهذا المتحف وأنفق عليه مال يذكر صار من متاحف الطبقة الأولى في الأرض، وحق للدولة العلية أن تفاخر سواها بما جمعت من آثار الأولين.
ولما عدت من زيارة هذا المتحف عرجت على البنك العثماني، وهو بناء فخيم من أجمل أبنية الآستانة، له ثلاث طبقات وأشغاله كثيرة مع الأهالي والحكومة؛ لأنه يعد البنك الرسمي للحكومة العثمانية باتفاق تم بينها وبين الشركة الإنكليزية التي أنشأته، وقد قابلت مديره العام، وهو يومئذ السر أدجر فنسنت، وكنت أعرفه من أيام وجوده في مصر مستشارا ماليا.
السلاملك:
وحضرت بعد هذا حفلة السلاملك، وهي موكب صلاة الجمعة تجري في الآستانة كل أسبوع حين يذهب جلالة السلطان للصلاة، وكان السلطان عبد الحميد الذي شهدت هذه الحفلة في أيامه لا يصلي صلاة الجمعة إلا في الجامع الذي بناه على مقربة من قصره في يلدز؛ ولهذا الاحتفال أبهة وبهاء لا مثيل لهما؛ فقد شهد الإفرنج وغيرهم ممن حضره أنه من أعظم أشكال الاحتفال الرسمي، ولا عجب فإن الأمر متعلق بسليل آل عثمان والأمة العثمانية المعروفة بالمفاخر والمآثر، ومعلوم أن السلاملك أو البناء الذي يستقبل فيه الضيوف كائن إلى يسار هذا الجامع، ولكنه لا يؤذن لأحد بالدخول فيه إلا إذا كان من أهل المقام المعروف في الآستانة، فإذا كان الزائر أجنبيا فلا بد له من واسطة سفير دولته، أو مصريا فبواسطة حضرة قبوكتخدا الخديوية المصرية، ولكنني لم أطلب وساطته لبعد محله، فأوصيت سائق العربة أن يسير بي توا إلى السلاملك ففعل حتى أتيت سلم السلاملك، وقدمت رقعة عليها اسمي إلى عامل على بابه بقصد الاستئذان بالدخول، فأخذها الخادم وأطال الغياب ثم جاءني في سعادتلو شفيق بك من ياوري الحضرة السلطانية، فحياني برقة ولطف، ودعاني للدخول فدخلت ورأيت ذلك الاحتفال العظيم من أحسن موضع.
وبدأ الموكب بقدوم فرقة عسكرية تلوح على رجالها لوائح البسالة والنجابة، مثل أكثر فرق الجيش العثماني الذي طارت شهرته في البسالة وفي تحمل المشاق والصبر على الكريهة. وكانت الفرقة العثمانية التي ذكرناها تحمل البنادق، فحالما وصلت الساحة الكائنة بين السلاملك والجامع أحاطت بالجامع من كل جهة ووقفت تحرس جوانبه، ثم جاءت فرقة أخرى تتقدمها الموسيقى مثل الفرقة الأولى ووقفت في متسع من الأرض ما بين الجامع والقصر، ثم جاءت فرقة من الجنود العربية تلبس السراويل الضيقة والسترة الصغيرة ولها عمامات خضراء وتوجهت إلى القصر، وتلتها فرق أخرى من الفرسان يحملون المزاريق والمشاة بالبنادق والحراب والبحرية بملابسهم الخاصة، وتفرقت في جوانب ذلك المكان الفسيح فكان عدد الجنود الذين وقفوا في ذلك الموكب العظيم يومئذ لا يقل عن عشرة آلاف، ودخلت فرقة من الحرس الخاص إلى ساحة الجامع وأحاطت بالباب الذي يدخل منه جلالة السلطان، ثم دخل وراءهم عدد كبير من كبراء الآستانة وأصحاب الرتب والوظائف العالية، وجلهم من رجال المابين والعسكرية والرقباء وبعض المشايخ والعلماء، فلما تم عقد الجماعة على مثل ما ذكرنا أقبلت عربة الحرم السلطاني، ومن ورائها عربتان أخريان فدخلتا الجامع، وجاء بعد ذلك أنجال السلطان السابق وجلالة السلطان الحالي وأنجال السلطان عبد العزيز، وكان دولتو نجايتلو سليم أفندي بكر السلطان عبد الحميد أشهر الذين رمقتهم الأنظار، وهو يومئذ شاب في مقتبل العمر ضئيل الجسم أبيض الوجه يلبس النظارات المقربة لقصر نظره، وعلى وجهه دلائل الأنفة والذكاء، وهو كثير الظهور في متنزهات الآستانة، وكان هؤلاء الأمراء العظام على ظهور الجياد الكريمة، فدخلوا ساحة الجامع الخارجية ووقفوا على جيادهم كأنهم البدور، ولما حدقت بهم الأبصار كلها سمعنا بوقا وحركة تشير إلى اقتراب جلالة السلطان، فتحفز كل من حضر ذلك الاحتفال وتهيأ لإبداء مظاهر الإكرام حتى إذا تم ذلك فتح باب القصر على عجل، وظهرت عربة فاخرة يجرها فرسان كريمان، وفيها جلالة السلطان بسترة إسلامبولية بسيطة، وأمامه في المركبة دولة الغازي عثمان باشا جالسا مكتف اليدين إجلالا لمولاه واحتراما، ومن حول العربة حوالي ستين كبيرا من كبراء الدولة يمشون على الأقدام وهم بأفخر الحلل الرسمية والوسامات العلية، فما بقي بين تلك الأبصار عين إلا واتجهت إلى جلالة السلطان وجعلت فرق الجيش العثماني كلما اقترب جلالته من أحدها يهتف رجالها بالدعاء «أفندمز جوق يشاه »، وكان جلالته يحيي الحاضرين برفع يده، وبدأ بتحية الواقفين في السلاملك، فكان لبساطته في وسط ذلك الموقف الرهيب والمناظر الباهرة تأثير عظيم في النفوس.
ودخل جلالة السلطان الجامع في عربته، وأولئك الكبراء يحفون به على ما تقدم، والموكب على أبهى حالاته، فلما وقفت العربة عند الباب نزل جلالته منها، ولم يساعده أحد عند النزول كما هي عادة بعض الملوك والأمراء، ولما دخل بدأت الصلاة، وبعد نحو نصف ساعة عادت الحركة؛ لأن جلالة السلطان خرج من الجامع مارا بين صفوف الجند فنادت بالدعاء لجلالته، وكان جلالته في الرجوع وحده راكبا عربة غير الأولى، وهي من نوع الفيتون يجرها فرسان كريمان أبيضان، ويسوقها جلالة السلطان بيده الكريمة، وهو يمسك بالأزمة بيساره ويحيي الجماهير بيمينه إلى أن يدخل باب القصر ويتوارى عن العيان، ويرجع من عند حضرته أحد الياوران فيبلغ تحيته للذين في السلاملك ويأمر الجنود بالانصراف إلى ثكناتها فيتفرق الجمع وتعود الجنود وأمامها الموسيقى العسكرية تصدح بشهي الأنغام إلى أن تصل مواضعها، وينتهي بذلك احتفال السلاملك أو موكب صلاة الجمعة المشهور.
ولما رأيت السلطان السابق تأملته طويلا فإذا هو صغير الجسم نوعا، أصفر الوجه تلوح عليه لوائح الاشتغال العقلي والفكر الكثير، ولا عجب فإن الذي يدير أمور سلطنة آل عثمان ولا يشاركه في الرأي كبير أو صغير في معظم المسائل الداخلية والخارجية لا بد من ظهور أدلة الفكر والاهتمام على وجهه، ورأيت له عينين براقتين لونهما أسود ولهما تأثير غريب في الناظرين، اشتهر به بين العالمين، وقد عرفه الذين تشرفوا بمقابلته باللطف الزائد والذكاء الكثير، وكان إذا أذن لضيف أن يتشرف بالمثول بين يديه أكرمه ورفع مقامه حتى إنه ليقدم السجاير إلى ضيوفه بيده الكريمة، ويحدث كل ضيف على حسب ذوقه، فيظهر علما بأحوال الممالك غريبا، وقل أن يخرج من حضرته شخص إلا وهو معتقد باقتداره.
وقد آن لي أن أصف ملتقى البحرين والصلة الجامعة بين القارتين، أريد به بوغاز البوسفور الشهي الذي يمتد من البحر الأسود إلى البحر المتوسط طوله نحو 38 كيلومترا وعرضه يختلف ما بين 500 متر و3200، وله تاريخ مشهور، فكم من أسطول شراعي مر به! وكم من معركة حدثت على ضفافه في أيام داريوس الفارسي إلى هذه الأيام! ولقد أقمت في الآستانة شهرا ما مر علي من أيامه يوم إلا وأنا فوق ماء البوسفور، فرأيت في آخر الأمر أن أركب إحدى بواخر الشركة الخيرية التي تطوف نواحيه، ولها مكتب تباع فيه التذاكر على طرف جسر غلطه، وبواخرها ترفع أعلاما مختلفة، منها الأخضر وهو دليل أن الباخرة تمر على الشاطئ الأوروبي من ضفاف البوسفور، والأحمر دليل أن الباخرة تقصد الجهة الآسيوية، والاثنان معا معناهما التنقل ما بين الضفتين.
Неизвестная страница