فريدريك الثامن ملك الدنمارك.
وفي سنة 1863 رقي عرش الدنمارك ملكها السابق كرستيان التاسع وكان ذا منزلة عظمى بين ملوك أوروبا وأقيالها؛ لأنه - فضلا عن فضائله وحسن سياسته - ارتبط بأعظم العائلات المالكة بربط القرابة، فإن ابنته الأولى اقترنت بجلالة ملك إنكلترا الحالي ولها شهرة بالفضائل لا تفوقها شهرة، يحبها الإنكليز جميعهم حبا مفرطا لحسن خصالها، واقترنت أختها الثانية بالمرحوم إسكندر الثالث قيصر روسيا والد القيصر الحالي، وهي أيضا من أشهر الأميرات في رقة القلب وحب الفضيلة، واقترنت الثالثة منهم بالديوك أوف كمبرلند حفيد جورج الرابع ملك إنكلترا، وهو المطالب الآن بسرير مملكة هانوفر التي ذكرنا خبر ضمها إلى السلطنة الألمانية في الفصل السابق، وأما أولاده الذكور فأولهم جلالة الملك الحالي، وثانيهم جلالة ملك اليونان الحالي أيضا ، والثالث أمير اسمه فلاديمير عرضت عليه إمارة البلغار فلم يقبلها، توفي هذا الملك الكبير يوم 29 يناير سنة 1906 بعد أن ملك 23 سنة وهو في سن الثمانين، فأثرت وفاته في أكثر عائلات أوروبا المالكة، ودفن باحترام عظيم فخلفه جلالة الملك فريدريك كرستيان الحالي وهو الثامن من ملوك الدنمارك بهذا الاسم، وقد بدأ حكمه بخطاب ألقاه على الناس من شرفة قصره يوم وفاة أبيه قال فيه: «إن ملكنا السابق والدي العزيز قد قضى نحبه، وكان أمينا في قضاء الواجب عليه حتى ساعة الممات؛ فورثت عنه الحمل الكبير، ولي أمل أن أحذو حذوه وأسأل الله إعانتي على تحقيق هذا الأمل، ويسرني أني على اتفاق مع نواب الأمة فيما يضمن خيرها وتقدمها، فلنناد كلنا بصوت واحد ليحيا الوطن.» فوقعت هذه الخطبة أحسن وقع في النفوس، وعدد النفوس في بلاد الدنمارك نحو ثلاثة ملايين.
كوبنهاجن
هي عاصمة الدنمارك، فيها من السكان أربعمائة وخمسون ألف نفس، ومعنى اسمها «فرضة التجارة» إشارة إلى اشتهارها بالمتاجر من عهد بعيد أو من عهد تأسيسها، فإنها بدأ ببنائها الأسقف إكسل في القرن الثاني عشر للميلاد، وكانت في أول الأمر قرية ينتابها بعض تجار السمك، ويقيم فيها الصيادون، فجعلت تكبر وترتقي إلى أن تولى مملكة الدنمارك كرستيان الرابع سنة 1588، وكان مقداما نشيطا ميالا إلى توسيع المتاجر هماما باسلا في الحروب، فتقدمت المدينة على أيامه تقدما عظيما وبنيت فيها حصون لصد هجمات الأعداء، أكثرها باق إلى الآن، وهي من المناظر التي تستحق الذكر في كوبنهاجن، وقد اشتهرت هذه المدينة فوق المتاجر بصناعة القفاز أو الكفوف والسفن الشراعية، وبعض أشكال الخزف، وأتقنت صناعة الجبن؛ لأن أهلها اشتهروا بتربية المواشي. وفيها من المشاهد المعدودة شيء كثير، من ذلك الميدان الملكي كان أول ما قصدناه عند خروجنا من الفندق، فإذا هو ساحة متسعة الأطراف أقيم في وسطها تمثال للملك كرستيان الخامس راكبا جواده، وكان كرستيان هذا من ملوكهم العظام، حكم البلاد من سنة 1670 إلى 1699، واشتهر بمحاربة الأسوجيين، واتحد مع النمسا لمحاربة لويس الرابع عشر ملك فرنسا ، وسن قانونا للأحكام لم يزل أساس الأحكام الدنماركية إلى هذا اليوم. وفي ذلك الميدان بناء المرسح الكبير وسفارات الدول العظيمة ومنازل لبعض السراة وفنادق وحانات ومطاعم في جوانبه الأربعة، فترى الناس يقصدونه بسبب وجود هذه الأشياء كلها عصاري كل يوم يتمشون في جوانبه أو يقعدون في إحدى حاناته، وهو من أشهر مواضع الاجتماع في كوبنهاجن.
وإني بعد أن رأيت هذا الميدان الملكي خطر في بالي ملك الدنمارك وطلبت إلى الدليل الذي كان معي أن يسير بي قبل كل شيء إلى قصر الملك السابق ففعل، ولما انتهيت إليه تولاني العجب من بساطته فعلمت أن القصر الذي كان الملك يقيم فيه احترق عام 1884، ولم يشأ جلالته أن ينفق الأموال الطائلة على تجديده؛ لأنه كثير الميل إلى البساطة، فهو يقيم حيث تقدم الكلام، وللملك الحالي قصر أجمل من مسكنه ولأخيه جورج ملك اليونان قصر أجمل من الاثنين، وهو مقفل لم يرض كرستيان أن ينتقل إليه؛ لما اشتهر من حبه للعيش البسيط وإنفاقه المال على الإحسان بدل التلذذ بالأطايب والتفاخر باليسار. وقد كان يوالي فقراء أمته بالمال والزاد ويوزع على بيوت كثيرة في كوبنهاجن وسواها وقودا وطعاما في زمن الشتاء، ونوادر بساطته كثيرة، قص علي صاحب الفندق الذي نزلت فيه واحدة منها، هي أنه لما زارت هذه العاصمة البرنسيس ستفاني ابنة ملك البلجيك وأرملة رودولف ولي عهد النمسا الذي انتحر عام 1888، جاء الملك ليسلم عليها في ذلك الفندق ووصل الباب وحده كأنما هو واحد من تجار المدينة أو صناعها، فأخذ من جيبه بطاقة الزيارة وأعطاها لواحد من الخادمين؛ ليوصلها إلى الأميرة وظل هو منتظرا عند الباب يحدث صاحب الفندق ويسأله عن إيراده ونفقاته، وعدد الذين يدخلون فندقه كل عام وغير ذلك من المباحث، حتى عاد الخادم وأخبره أن الأميرة تنتظر تشريفه فصعد إليها وراء الخادم، وبعد أن أقام معها زمانا عاد كما جاء بلا طنطنة ولا احتفاء، وكان الناس يحبون هذا الملك الفاضل وأسرته الكريمة حبا مفرطا ، وهم يعلمون ميله إلى البساطة ونفوره من الطنطنة والأبهة، فإذا مر بهم حادوا من طريقه احتراما وتوقيرا، وقد لا يسلمون عليه حتى لا يحملوه مشقة الرد، وفي ذلك موافقة لأمياله أيضا.
وأما متاحف كوبنهاجن وقصورها العظيمة فأشهرها قصر روزنبرج، وهو صرح ترك على حالته الأصلية، وفيه من نفائس التحف وثمين الآثار شيء كثير، بناه الملك كرستيان الرابع عام 1588، وله موقع في وسط المدينة جميل، وسرت إلى هذا القصر في ثاني الأيام فوجدت غيري ينتظرون الإذن بالدخول على مثل ما كنت أرى في أكثر هذه المتاحف المشهورة، حتى إذا جاء الموعد أتانا خادم باللباس الأسود والقفاز الأبيض وربطة العنق بيضاء أيضا كأنما هو في حفلة للتشريفات، وقادنا إلى غرف القصر، فإذا هي أو أكثرها ملونة بالألوان الواضحة كالأصفر والأحمر والأزرق، وأول هذه الغرف قاعة فسيحة كانت معدة لاستقبال الزائرين، وقد وضعوا فيها صور أفراد العائلة المالكة حالا في الدنمارك والكل بملابسهم الرسمية القديمة على أتم إحكام وأوفى إتقان، وهنالك عروش كثيرة جلس عليها ملوك البلاد من آل أولدنبرج، بعضها من الفضة والبعض الآخر من الخشب الثمين، وقد نقش على أكثرها شعار الدولة الدنماركية، وهو ثلاثة أسود، ورسوم أخرى تشير إلى بعض ما حدث في البلاد من الأمور الكبيرة. ومن غريب الآثار المحفوظة في هذه الغرفة أيضا قرن جاموس له حكاية خرافية، فحواها أن الكونت أولدنبرج أبا مؤسس الدولة الدنماركية الحاضرة ظهرت له منجمة في سنة 1448 وأعطته ذلك القرن، وأشارت عليه أن يشرب ماء فيه فيرافقه السعد ويخدمه الزمان؛ ففعل بإشارتها وما مر زمان بعد ذلك حتى صار ابنه ملكا لبلاده والملك باق في يد سلالته إلى اليوم، وقد أبقوا هذا القرن أثرا لمؤسس دولتهم فطلوه بالفضة ورصعوه بالحجارة الكريمة وحفظوه في هذه الغرفة مع حلي لبعض ملكاتهم وأسلحة مثمنة لبعض ملوكهم وملابس مزركشة، وغير هذا من آثار الملوك الذين درجوا نكتفي بهذه الإشارة إليها؛ لأنها كثيرة ووصفها يضيق عنه المقام.
ودخلنا بعد ذلك غرفة الورد، سميت بذلك؛ لأن جدرانها ملبسة بنسيج من الحرير النفيس عليه صور الورد من كل أشكاله، وفيها المصابيح والثريات البديعة، ومنضدة صنعت من خشب الأبنوس وزخرفت بالعاج والصدف وضعت على أشكال الطيور، وفيها فوق العشرين من الأدراج السرية يفتح كل منها بأسلوب خاص، وقد صنعت هذه المنضدة للملك في سنة 1735 وأنفق عاملها على صنعها نحو 450 جنيها، وهي من الآثار الجميلة في هذا المتحف لغرابة صنعها وغير هذا كثير.
ثم صعدنا الدور الأعلى من القصر ومن غرفه العجيبة: قاعة المرائي سميت بذلك؛ لأن جدرانها كلها من هذه المرائي، وتليها قاعة النبلاء ملئت بصور الأمراء والقواد الذين اشتهروا في تاريخ الدنمارك، وفيها كرسي من الفضة جميل الصنع يتوج عليه ملوك هذه البلاد، وجرن للعماد يعمد فيه أطفال الأسرة المالكة، وقد نقش عليه تاريخ 1720 وكله من الفضة الخالصة، وعليه رسوم كثيرة، منها رسم يوحنا المعمدان يعمد المسيح في نهر الأردن، وفي جدران هذه القاعة صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي جاء هذه المدينة متنكرا، وأقام في معامل السفن يدرس بنفسه كيفية صنعها حتى يعلم أهل بلاده وكان مدة وجوده هنا مثل بقية العمال في معيشته.
وظللنا في ذلك القصر القديم ندور بين نفائسه ونمتع الطرف زمانا، ثم انصرفنا وكثيرون من السائحين والسائحات يترددون في الخروج، وقد رأينا من خدمة هذا القصر شمما لم نعهده في أمثالهم من الخادمين؛ فإنه لما عرض على أحدهم مال قليل كالذي يأخذه الخادمون في كل موضع أبى قبوله، وأظهر الاستغراب من صنيعنا، وهذا أمر يستحق الذكر للدنماركيين، وهم قوم اشتهر عامتهم وخاصتهم بالأمانة والصدق. وأحقر الناس عندهم لا يجهل القراءة والكتابة؛ لأن التعليم قسري في هذه البلاد، فليس في طولها والعرض أمي واحد، ونزلنا بعد ذلك إلى حديقة قصر روزنبرج هذا، وهي بعيدة الأطراف فسيحة المجال فيها من صفوف الكستناء أشجار عمرت قرونا. وهنالك تمثال للملك كرستيان الرابع الذي مر ذكره وتمثال آخر للعالم أندرسون الذي اشتهر بالكتابات الأدبية والقصص الصغيرة يقرأها الأولاد في المدارس ويتعلمون منها أحسن المبادئ، وهو في التمثال هذا واقف بيده كتاب ومن حوله صبية يصغون لأقواله، والناس يحترمون ذكر هذا الكاتب المفضال هنا حتى إنهم أقاموا له الذكر في عدة مواضع، ولما ساروا بجثته للدفن بعد وفاته كان الملك في جملة الماشين وراء النعش احتراما لفقيد الأدب، وهنا يظهر لك نفع البساطة والحرية عند الملوك؛ فإن إكرام العلماء إلى مثل هذا الحد ينشط أصحاب العقول ويشجعهم ويدفعهم إلى الإقدام على الدرس والكتابة فيما يفيد.
وعلى ذكر هذه الحديقة التي نحن في شأنها أذكر أني زرت في كوبنهاجن حديقة أعظم منها وأوفر جمالا وأوسع شهرة، هي حديقة تيفولي تعد من المتنزهات المشهورة عندهم. وقد قضيت سهرة من أحلى السهرات رأيت في جوانبها الواسعة مصابيح تعد بالآلاف، وهي صغيرة كثيرة الألوان صفت صفوفا منظمة على أبواب الحديقة، وعلى أقواس عدة نصبوها من هنا ومن هنا في نواحي الحديقة، وعلى جوانب الطرق الكثيرة وفوق بركة من الماء كبيرة، وبين غصون الشجر وفي المروج الخضراء، وكلها - كما تقدم - ذات ألوان مختلفة توافق محل وضعها، ولها منظر بديع شائق لا تشبع العين من النظر إليه، ولا سيما فوق ماء البحيرة وحول جوانبها، حيث تنعكس الأنوار الكثيرة الملونة فتزيد المنظر غرابة وبهاء. والقادم إلى هذه الحديقة يحسب أنه في يوم عيد عظيم مع أن هذا حالها في كل يوم، وقد أنفقوا المال الكثير على إيصالها إلى هذه الدرجة من الجمال حتى صيروها من أجمل المشاهد، وبنوا في وسطها الملاعب والحانات والمطاعم، أذكر أني دخلت مطعما منها سموه باسم قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا، وجعلوه على شكل ذلك القصر الفخيم الذي ترى وصفه عند الكلام على مملكة إسبانيا، وفي ذلك المطعم الموائد الشهية ومواضع لثلاثمائة شخص صفت على أجمل الأشكال، وفي بحيرة الحديقة أيضا سفائن صنعت على شكل السفن الدنماركية القديمة، يدور بها المتنزهون حول تلك الضفاف البهية، ومغارة تشبه المغارة الزرقاء في نابولي، وسوف يأتي الكلام عليها أيضا عند الكلام على مملكة إيطاليا، وتل صناعي من الصخور الجميلة يتدفق الماء من جوانبه وينصب في البحيرة، ومن فوق ذلك التل صرح صغير أو كشك أنير بالمصابيح الملونة، وفيه نفر من القوم الطليان يغنون الأنغام الإيطالية، والناس يدورون بهم من كل جانب، وقد كانت سهرتي في تلك الحديقة كثيرة الفكاهة واللذة، ولا سيما إذا ركبت زورقا في البحيرة والزورق يخترق صفوف السفائن ملأى بالمتفرجين. وأعجبني على نوع خاص ما رأيت من هدو أهل البلاد وسكونهم وتأدبهم في الحديث والإشارات، فإن الذين دخلوا الحديقة في تلك الليلة لا يقلون عن عشرة آلاف، ومع هذا فإن الهدوء كان سائدا والأنس شاملا، فما سمعت جلبة ولا ضوضاء ولا رأيت غير كل وقار ومهابة، والناس يسيرون أفرادا وأسرابا في جوانب الحديقة على مهل فرحين وشعور صغارهم ذكورا وإناثا تتلألأ بياضا كأنما هي فضة فوق ورد الخدود النقية، وهي صفة عامة في أهل الشمال.
Неизвестная страница