ويذكر بين مشاهد فيينا قصر الخزائن وهو مستودع للتحف الإمبراطورية القديمة والحديثة، لأكثرها شأن في التاريخ عظيم، من أهم ما يذكر بينها خوذة عسكرية من الفضة قدمها الشعب المجري للإمبراطور الحالي عند تتويجه ملكا للمجر سنة 1867، وفي داخلها أوراق مالية بنحو 750 ألف فرنك أوقفها الإمبراطور لإعانة أهل الحاجة من المجر. ومن ذلك التاج الإمبراطوري والصولجان وبقية الحلي التابعة للبيت المالك، منها ألماسة وزنها 133 قيراطا تقدر قيمتها بستين ألف جنيه كانت من جواهر شارل الجسور أحد ملوك فرنسا وراحت منه، ثم قيل إن فلاحا وجدها وباعها بفرنكين لأمير توسكانا وانتقلت منه إلى ملوك فيينا، ومن ذلك أيضا الوسامات المشهورة، منها وسام فيليس فيه 150 حجرا كريما في وسطها حجر وزنه 42 قيراطا، وتاج الإمبراطورة ماريا تريزا وفيه 548 حجرا ثمينا، وحلي وجواهر أخرى غالية القيمة أودعتها العائلة المالكة وسواها هذا المتحف، بعضها على سبيل الأمانة وبعضها هدية للمملكة، مثل ملابس شارلمان وتاجه وصولجانه، وغير هذا مما لا يحصى.
علمت أن فيينا يدخلها فرع من نهر الدانوب الشهير؛ فلهذا كانت محاسنها متفرقة ما بين قسميها الشرقي والغربي، وقد ذكرنا معظم ما يهم ذكره في القسم الغربي. وأما القسم الشرقي فأهم ما فيه ليوبولدستاد، وهو حي كبير من أحياء فيينا كله منازل مشيدة وطرق فسيحة ومخازن كبيرة، ومن أشهر مشاهده تمثال أمير البحر تجتوف الذي ذكرناه، والقوم يعتبرونه من أكبر رجالهم؛ لأنه أحيا الأمة النمسوية بانتصاره على الطليان مع تكاثر عديدهم، فهم اعتنوا بتمثاله وجعلوه على مدخل حديقة براتر المشهورة وجعلوا ارتفاعه 36 قدما، وهو على قاعدة تشبه مقدم السفينة صنعت من النحاس والبرونز، ومن تحتها رسوم خيل البحر تجرها وتذكر الناس بالنصر في تلك المعركة البحرية.
ولقد ذكرنا أن هذا التمثال في أول حديقة براتر، والحق يقال إن في فيينا حدائق كثيرة والناس يهتمون لحدائقهم ويجعلون لها شأنا خلافا لما تعودناه من إهمال الناس شأن الأزبكية في مصر مع أنها من أجمل الحدائق العمومية، وقد تضاهي الحدائق المشهورة في أوروبا ولكنها لولا الموسيقى الإنكليزية تصدح مدة وجيزة في بعض ليالي الصيف لما رأيت فيها شيئا من مظاهر الهيئة الاجتماعية، وحدائق براتر هذه مجموع حراج غضيضة غرست في أرض أريضة وغابات بهية تتخللها مروج من العشب شهية فلا تقل مساحة الكل عن أربعة آلاف فدان تقسم أقساما ثلاثة، أولها متنزه هوبت وهو شارع عريض جميل تمر به العربات عشرات ومئات، ويمر الناس مشاة أو على ظهور الجياد، ويحف بهذا الشارع غابات من شجر الكستنا تشرح بمنظرها الصدور، وفي وسطها مطاعم يلذ للآكل فيها الطعام وحانات للبيرا وسواها يقعد الواحد فيها فيسمع شجي الأنغام، وأكثر ما يكون اجتماع الخلق هنا في أيام الأحد أو يوم عيد الإمبراطور أو اليوم التالي لعيد الفصح، وهو هنالك بمثابة شم النسيم في القطر المصري، والقسم الثاني من هذه الحديقة يعرف باسم «فورويك»، وفيه ألعاب كثيرة من خيل خشبية تسير بالبخار وأراجيح ومشاهد شتى يجتمع أهل الطبقة الوسطى لمشاهدتها في كل حين ويقصدها أصحاب العائلات فيركبون أولادهم تلك الخيول الصناعية ويجارونهم على اللعب والضحك، وهنالك بحيرة صغيرة تجري عليها زوارق صغيرة للأولاد أيضا ويسيرها البخار وألعاب أخرى يلذ التفرج عليها ، وأولئك الصغار بملابسهم النظيفة يضحكون ويطربون.
وما زلنا نسرح الطرف بتلك المناظر حتى وصلنا بناء المعرض الذي أنشئ سنة 1872 وهو عظيم الارتفاع يشرف على تلك الغياض والحراج والمنازل إلى مسافة بعيدة بني من الخشب والحديد ومن ورائه سلم من الحديد ارتقينا ذراه حتى إذا وصلنا القمة رأينا فيينا وضواحيها من دوننا، والنهر ينساب انسياب الأفعى بين منازل مشيدة وغابات غضة نضرة وأودية بهية وهضاب منضدة بالزهر والبنيان الفخيم، ولا بد لكل سائح يريد أن ترسخ في ذهنه صورة المدن التي يزورها أن يطل عليها من موضع مثل هذا مرتفع، وقد كان هذا شأني في أكثر الأماكن فإني جعلت هذه النظرة الإجمالية خاتمة ما أردت رؤيته في فيينا، وقصدت من بعدها الضواحي التي يجيء ذكرها في الفصل التالي.
ضواحي فيينا
لضواحي فيينا شهرة تحاكي شهرة الضواحي التابعة لأكثر الضواحي المشهورة، ولا تزيد عنها في الأهمية غير ضواحي باريز البهية، من ذلك جبل كاهلبرج قصدناه صباح يوم في باخرة تقوم من ترعة الدانوب، وكان الناس يومئذ جماهير تتسابق إلى ذلك الموضع فسرنا في الباخرة هذه حتى بلغنا قرية نسدورف، وكان قطار سكة الحديد ينتظر القادمين إليها لينقلهم إلى أعلى الجبل في سكة كانت تختلف ما بين صعود ونزول وانحناء يمنة أو يسرة ودخول وخروج بين غياض الشجر الباسق ومروج العشب النضر، وأغرب من هذا صعود القطار في أكواع ملتفة إلى قمة ذلك الجبل والمناظر تتبدل من حين إلى حين فتتبدى الطبيعة بكل جمالها الساحر للقاعد في الرتل، وهو يتقدم صعدا إلى تلك القنة ومن دونه الحراج والبقاع والأودية فيحدث جمال ذلك المنظر فتنة في القلوب ويحيي في النفوس بهجة لا يوصف لها مقدار، وعلى مثل هذا بلغنا غاية المتفرجين، ودرنا بين الطرق المفروشة بالرمل نرى هنا مزارع بهية وهنا منازل مشيدة مطلية، وهنا حانات تجتمع الناس فيها والنفوس منهم رضية، وهنا مطاعم يتناولون فيها الألوان الفاخرة على صوت الألحان الشجية، والكل ناظرون إلى عاصمة النمسا وما يليها معجبون بما أوجده التحسين الصناعي فوق تلك البدائع الطبيعية.
ومن هذا القبيل قصر شونبرن، وهو مصيف الإمبراطور بنته الملكة ماريا تريزا وأقام فيه نابوليون مدة وجوده في هذه العاصمة، ومن مؤلمات الأحكام التي لا ترد أن ابن هذا الفاتح العظيم من امرأته الثانية، وهي ابنة إمبراطور النمسا، مات في الغرفة التي كان والده ينام فيها، وهي من غرف هذا القصر الفخيم، قصدتهذا القصر مع جماعة كثيرة من السائحين، فأتانا خادمه وأدخلنا بعض جوانبه، ولا حاجة إلى القوم إنه آية في الحسن والزخارف، وإن رياشه وبناءه وبقية ما فيه يليق بقيصر عظيم وملك بلاد كبرى، وفي جملة قاعاته واحدة تعرف باسم القاعة الصينية، كل رياشها حرير أسود مزركش بالقصب، وخشبها من اللك الأسود المصقول، وقاعة واسعة الجوانب للاستقبال والولائم الكبرى تضم فوق 1500 نفس، وفي القصر مكتبة خاصة بالإمبراطور وكنيسة صغيرة له ولأعضاء عائلته، وملهى صغير لمن ذكرنا أيضا، ومواضيع أخرى فائقة الإتقان كثيرة الجمال، ويلحق بهذا القصر حديقة أو هي مجموع غابات وحدائق كانت فيما مر من الأيام حراجا يصطاد الأمراء فيها الأيل والأرانب، فمشيت في طريق بهذه الحديقة يحف به جداران أو هما بالحقيقة صفان من الشجر تعرشت أغصانه، والتفت عروقه وعولجت بالمقراض حتى صارت مثل السور الأخضر طوله 322 مترا، وفي آخره بركة من الماء بديعة ووراؤها أكمة تغشاها الأعشاب السندسية، وفي أعلاه كشك بديع الصنع من الرخام النقي، وما زلت أسرح في هاتيك الطرقات البهية حتى بلغت معرض الزهر والحيوان، فأما الزهر فإنه جمع من أطراف الأرض وغرس هنا في حقول بديعة الترتيب، وبعضه لا ينمو إلا في الأماكن الحارة، فهم غرسوه داخل بيوت من الزجاج والنار توقد من تحت أرضه حتى يظل على النماء، فترى من أشكال النبات في تلك الحديقة ما يعجز عن وصفه قلم المتغزل بمحاسن الطبيعة، وأما الحيوانات فبينها في هذا الموضع كثير من كل غريب الطبع والشكل جاءوا به من أقصى الأقطار، ولكن معارض باريز ولندن للحيوانات أشهر من هذا المعرض وأكبر، وجملة القول إن هذه الحديقة من أعظم متنزهات فيينا يقصدها الناس لفخامة منظرها وحسن هوائها. وأما الذين يريدون اللهو والطرب فعليهم بحديقة براتر التي ذكرناها.
ومن هذا القبيل فيسلاو، وهي مجموع عمائر لأهل الترف والأكابر واقعة على جبل ارتفاعه 800 قدم، ولها شهرة بالخمرة اللذيذة، سرنا إليها بالقطار انتهى بنا إلى سفح الجبل، ومنه قمنا في عربة سارت صعدا إلى رأس الموضع، وفي تلك الجهات حمامات معدنية تفيد في تقوية الأعصاب والماء فيها بارد جدا يرش على الجسم من كل الجوانب رشا شديدا يكاد الرجل أن يقع من وقعه، وقد رأيت هنالك رجلا رومانيا من بخارست، قال لي إنه جاء تلك الحمامات مقعدا يسير على العكاز فتقوت أعصابه حتى صار يمشي بدونها، وبعد أن أقمت مدة في ذلك الموضع البديع عدت إلى فيينا بطريق بادن وهي بلدة مشهورة بحماماتها المعدنية تفيد في الأمراض العصبية وتشفي من داء الروماتزم، فالناس يأتونها من كل صوب بعيد للاستحمام في حماماتها الكثيرة، وأكثرهم يأتونها عن طريق فيينا.
بلاد المجر
قبل أن نتقدم إلى وصف بلاد المجر وعاصمتها بودابست لا بد من ذكر شيء عن السباحة في نهر الدانوب العظيم لشهرة مناظره وجمال غرائبه، فإني قمت في باخرة صغيرة اجتازت الترعة التي تتفرع من الدانوب إلى فيينا، فلما انتهت إلى النهر الكبير ألقت رحلها فتركناها ودخلنا باخرة أكبر منها سارت في صباح ذلك اليوم وظلت تمخر عباب النهر مدة ثلاث عشرة ساعة، ومرت على تسع عشرة محطة قبل أن تبلغ بنا عاصمة المجر، وفي أوائل الطريق قريتا أسبرن وأيزلن اللتان جرت فيهما المعارك بين النمسويين وجنود نابوليون الأول، وكانت جنود ذلك الفاتح العظيم قد عبر نصفها نهر الدانوب إلى الضفة اليسرى من النهر، فأضرم النمسويون النار في الجسر الذي يوصل بين الضفتين عند جزيرة لوبو وهجموا على النصف من جنود نابوليون فاضطروهم إلى التقهقر وكانوا 150 ألف راجل و30 ألف فارس و700 مدفع، واستحكاماتهم باقية آثارها إلى اليوم، على أن بونابارت عاد وعبر النهر من نقطة أخرى، واستأنف القتال فبطش بجيش النمسا وفل مواكبه وسحق قوته ودخل فيينا على مثل ما جاء في الشذرة التاريخية، وسرنا من ذلك الموضع إلى بلدة هنبورج وهي مشهورة بمعمل للدخان أنشأته حكومة النمسا على نفقتها، وعماله بنات عددهن ألف وخمسمائة، وتليها برسبورج، وهي عاصمة المجر من قدم يبلغ عدد سكانها 50 ألفا، وهذه هي المدينة التي جاءتها ماريا تريزا تستنجد أهلها من أبطال المجر على الأعداء فأنجدوها ونصروها على مثل ما تقدم معنا، ومنظر البلاد في هذه الناحية جميل والناس الذين نزلوا في هذه المحطة أو صعدوا الباخرة منها كثار لأهمية الموقع، فكنا هنا وفي كل مدة أخرى مدة السباحة في الدانوب نتطلع أبدا إلى ما حولنا من المشاهد، ونستعين بالآلة المقربة على ما بعد من الأماكن، ولطالما رأينا في الطريق جزرا بهية تمر الباخرات الذاهبة من أحد جانبيها والغادية من الجانب الآخر، وكلها خضرة تنفي عن القلب الحزن، وعمائر وضياع نظيفة تدل أراضيها على الخصب الوافر واعتناء الناس باستدرار ما فيها من الخير الكثير، وهم يسمون هذه الجزر بجزائر الذهب؛ لأن أرضها أريضة خصيبة وخيرها متدفق كثير.
Неизвестная страница