اغتبط سواد اليهود - أو قل سواد الصهيونيين - بهذا التصريح، وإن كانت هناك أقلية كانت ترجو أن يصدر في صيغة أخرى، توضح رضاء بريطانيا عن إنشاء دولة يهودية ولو تحت الحماية أو الانتداب أو الإشراف البريطاني، على أنه بينما اتجه بعض الصهيونيين إلى إنشاء مملكة وإقامة عرش وملك، اتجه آخرون إلى إقامة جمهورية اشتراكية، ثم مضى اليهود - أو الصهيونيون - منذ صدور التصريح، يزيدون مهاجرتهم ويقوون نفوذهم، متوسعين في شراء الأراضي من السكان العرب الفقراء بأثمان مربحة جدا، فكانوا يؤدون عن الدار أو المزرعة ثلاثة أمثال ثمنها أو أكثر.
أما العرب، فقد ألفوا المظاهرات ونظموا الإضراب. وقاموا بالثورات احتجاجا على صدور التصريح وعلى زيادة عدد المهاجرين اليهود وإنشائهم الشركات والمستعمرات والمصانع، وشرائهم لكثير من الأراضي. وكان العرب في سائر البلاد العربية من المسيحيين والمسلمين ينصرون العرب الفلسطينيين.
وقد عقد منذ خمس عشرة سنة مؤتمر إسلامي في فلسطين دعا إليه ونظمه سماحة السيد أمين الحسيني - رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين - وحضره الكثيرون من المسلمين، وكان موضوعه الخلافة الإسلامية.
وفي شهر أكتوبر 1938م انعقد في القاهرة مؤتمر برلماني عالمي برياسة رئيس مجلس النواب المصري يومئذ بهي الدين بركات باشا، وقد ألقى محمد علي علوبة باشا خطاب الافتتاح الذي جاء فيه:
حضرات النواب المحترمين: دفعت محنة فلسطين القاسية كثيرين من ذوي العاطفة الشريفة إلى عقد مؤتمرات سابقة، اشترك فيها كثير من الوجهاء والنبلاء والمفكرين، وأصدروا قرارات، لكنا رأينا - وقد ازدادت المحنة وعم البلاء - أن يكون هناك مؤتمر مؤلف من نواب الأمم العربية والإسلامية، وممثلي الجماعات ذوات الشأن، حيث لا توجد مجالس نيابية، فكان هذا المؤتمر ممثلا تمثيلا صادقا للأمم العربية والإسلامية، وكان لحضراتكم أن تعتقدوا بحق أنكم في مداولاتكم وفي قراراتكم التي تتخذونها ستتحدثون عن أممكم، وتقومون بتنفيذ هذه القرارات بما أوتيتم من صفة النيابة في برلماناتكم، وجماعاتكم، وبما لكم من النفوذ العظيم في دياركم، وسيصغي العالم السياسي إلى كلمتكم في هذا المؤتمر، باعتبار هذه القرارات صادرة من أمم العرب والإسلام جميعا، فبقدر ما يكون لهذه القرارات من أهمية رسمية سيكون لها الأثر القوي في توجيه المساعي وتوحيدها نحو الغاية المنشودة التي تبتغيها، وسنصل بعون الله وتوفيقه إلى تحقيقها، ما دامت تظللنا هذه الراية الكريمة من الإخلاص، والوفاء، والتضامن. «تصفيق».
وإذا كان موضوع قضية فلسطين موجها إليكم كنواب، فوجب أن تعرض عليكم وقائع قضيتها عرضا صحيحا صادقا، لا لبس فيه ولا إبهام، ولكم بعد ذلك أن تصدروا قراراتكم غير متأثرين إلا بدافع الحق والعدل. واعتقادي أن فلسطين لا تطلب منكم أن تصدروا حكمكم، متأثرين بالعاطفة وحدها، عاطفة القرابة والدم - وهي قوية الأثر عند النفوس الأبية الكريمة - ولكنها تطلب أن تحكموا - وأنتم رجال مسئولية ومركز نيابي - الحق والعدل، والتاريخ الصادق. «تصفيق».
أيها السادة: إن بحث هذا الموضوع يتطلب أن أرجع بكم إلى تاريخ احتلال اليهود فلسطين بعبارة موجزة، ثم أعرض لكم التطورات التي قامت، وكيف وجد اليهود الآن في فلسطين؛ حتى تستبينوا الحق من الوقائع، وتقدروا مبلغ الكارثة التي وقعت على فلسطين.
كانت فلسطين وطنا لأمم من غير اليهود، وحوالي سنة 1100 قبل الميلاد احتل الإسرائيليون أغلب البقاع الجبلية فيها، ثم اتحدوا بعد شقاق وقع بينهم، تحت لواء الملك داود، وهزموا الفلسطينيين، ثم قام الملك سليمان وانتهى عهده حوالي سنة 930 قبل الميلاد، وبموت الملك سليمان، الذي بنى الهيكل، تطرق الضعف إلى هذه المملكة، وانقسمت قسمين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا.
اندمجت أولاهما في إمبراطورية آشور ، فيما بين سنة 721 وسنة 715 قبل الميلاد. وبقيت الثانية وهي مملكة يهوذا، تحت سيادة هذه الإمبراطورية. وفي سنة 588 قبل الميلاد قام بختنصر - ملك الإمبراطورية البابلية التي حلت محل الإمبراطورية الآشورية - وضم مملكة يهوذا إلى ملكه، ونهب مدينة القدس، ودمرها كما دمر الهيكل تدميرا تاما، ونفى اليهود إلى جهة الفرات في منطقة بابل. وفي سنة 536 قبل الميلاد بعد أن احتل قورش - مؤسس الإمبراطورية الفارسية - بابل، سمح لليهود بالرجوع إلى فلسطين، فرجع إليها بعضهم، وأخذوا في إعادة الهيكل بتصريح من هذا الإمبراطور، وبعد ذلك بقرنين أو أكثر خضع اليهود لحكم البطالسة، خلفاء إسكندر الأكبر. وفي سنة 63 قبل الميلاد اكتسح الرومان القدس، ولم تقم لدولة اليهود بعد ذلك قائمة إلى الآن.
ومن هذا البيان ظهر أن اليهود قد اغتصبوا فسطين من أهليها الأصليين، ولم تكن لهم دولة مستقلة ذات سيادة إلا في حكم الملك داود، وخلفه الملك سليمان من سنة 1100 قبل الميلاد إلى سنة 930 قبل الميلاد؛ أي 170 سنة كما أسلفنا. ثم استمروا خاضعين لدول أجنبية، يطردون ويرجعون إلى أن كانت سنة 63 قبل الميلاد، وهي التي انتهى فيها كل أثر لدولة اليهود، سواء كانت مستقلة استقلالا تاما، أو خاضعة لإمبراطوريات مختلفة، استمر الرومان يحكمون، وبقي هيكل اليهود الثاني تحت رحمة الدولة الرومانية إلى سنة 70 بعد الميلاد. وفيها دمر الإمبراطور «تيطوس» أورشليم، وأحرق الهيكل، بعد ثورة شبت من اليهود، وفي سنة 135 ميلادية جاء إمبراطور الرومان «أدريانوس» وأقام مكان الهيكل اليهودي هيكلا وثنيا، باسم آلهة المشتري «جوبيتير»، وبقي إلى أن قامت المسيحية في القدس. فدمر النصارى هذا الهيكل الوثني من أساسه، في عهد الإمبراطور قسطنطين، ووالدته هيلانة.
Неизвестная страница