Великая трагедия
المأساة الكبرى: رواية تشخيصية في الحرب الحاضرة
Жанры
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
Неизвестная страница
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
خاتمة
المأساة الكبرى
المأساة الكبرى
رواية تشخيصية في الحرب الحاضرة
تأليف
شبلي شميل
مقدمة
Неизвестная страница
المأساة الكبرى
وضعت هذه الرواية في الحرب الحاضرة، وجعلتها على أسلوب الروايات التشخيصية؛ لكي أجعل لأشخاصها في كلامهم وأفعالهم صورا خاصة تدل عليهم، وتنطق عنهم بلسانهم؛ لتكون العبرة من ذلك في معرض الفكاهة أوقع في النفس.
وقسمت الكلام فيها قسمين: قسم حقيقي واقع؛ وصفت فيه مقدمات الحرب والأعمال التي جرت فيها، وقسم تخيلي منتظر؛ جعلته توطئة «للمحاكمة» المقصودة من كل هذه الرواية، والتي تظل صحيحة مهما تكن النتيجة، لمثيريها أو عليهم، عسى أن تنجلي هذه الأمور الاجتماعية البسيطة للجمهور، فيصون نفسه ومصالحه من عبث العابثين، وينزه مداركه عن أن يكون كالآلة العمياء في أيدي السفاحين المخربين؛ لقضاء أغراض لهم سافلة في غالب الأحيان، كما هي الحال في هذه الحرب الشنيعة التي تضحي الناس فيها بالملايين لأحلام ومطامع لا يجوز أن تصدر في هذا العصر خاصة إلا من مصدعين مجانين، ولا يقبلها إلا المغفلون.
ولا غرو؛ فجنون العظمة والغرور كلاهما جنون، كما هو شأن إمبراطور الألمان اليوم متعاظما بعراقة محتده، وبسطة ملكه، وقوة أمته، وهذا أقل عيوب الأسر المالكة، وكما هو شأن أمته مغترة بما وصلت إليه من النجاح الباهر في العلم والصناعة والتجارة في هذا الوقت القصير، فأصابها من ذلك خمار كخمار محدثي شاربي الخمرة، وللمحدثين في كل شيء - حتى في العلم - خمار أيضا؛ فانقادت بحكم التربية المصنوعة إلى مطامع إمبراطورها الجنونية، وصبت الويلات على العالم غير حاسبة للأضرار التي تلحق بها من ذلك حسابا، كأنها فعلت كل ذلك عن غير روية، أو عن روية غير ناضجة، أو هي مختمرة اختمارا فاسدا، فأتت أعمالا تحاسب عليها حتى الأمم الجاهلة، ولا تليق بأمة مثلها سمت سموها في العلم والحضارة، ولما فعلت ذلك لو أنها شاءت أن تدرك مبادئ علم الاجتماع الطبيعي كما ينبغي أن يكون.
فأنا توخيت من هذه الرواية أغراضا أربعة: (1)
أن أصف وصفا بسيكولوجيا (أخلاقيا) الأشخاص الذين ذكروا فيها ينطبق على أخلاقهم ومطامعهم وأحلامهم ومراميهم على ما فيها من الغرابة والحمق اليوم؛ للتنفير منها. (2)
أن أصف الوقائع - بالإشارة إليها - وصفا تقريريا في الجانب الحاصل منها، ويكاد يكون نتيجة لازمة في الباقي غير الحاصل، بناء على أنه في حالة الاجتماع الحاضرة لا يجوز أن تصح نتيجة أخرى، مهما تقلبت أحوال الحرب، ومهما طال أجلها. (3)
أن أشير إلى بعض انتقادات في أمور اجتماعية كائنة؛ لأنها كانت لا تهضمها معدة الاجتماع الراقي. (4)
أن أبحث بحثا سوسيولوجيا (اجتماعيا) فيما يجب أن تكون نسبة الأمم بعضها إلى بعض، ولا سيما الراقية بناء على ما هي صائرة إليه، طبقا لمرامي العلم الطبيعي الصحيح المفهوم كما هو، لا كما يؤوله أصحاب الغرض، وأصحاب النظر القصير.
فإذا كنت لم أبلغ غاية الإجادة في الوضع كرواية تمثل على المراسح؛ فأنا لم أنظر فيها إلى ذلك بقدر ما نظرت إلى الغاية التي قصدتها منها، وهي القضاء على ما في العقول من السخائم، وتأييد مصلحة الاجتماع بمقاومة ما فيه من النظامات الفاسدة التي لا تتفق مطلقا مع هذه المصلحة، ولا سيما في هذا العصر الذي ينبغي فيه على الأمم الراقية أن تكون متضامنة؛ للبلوغ بالاجتماع إلى الغاية القصوى من العمران، فلقد نظرت إلى جسم الاجتماع كما ينظر الطبيب إلى الجسم الحي؛ ليتعهد - كما يتعهد هذا الجسم في صحته، وفي مرضه - بتوفير الأعضاء الصحيحة، ومداواة الأعضاء المريضة بما يصلحها - إن أمكن - وإلا فبالقطع أو البتر إذا كانت لا ترجى؛ لئلا يمتد فسادها إلى المجموع، لا أن تعكس الآية ويقوض الصحيح النافع من الأمم، ويوالى الفاسد الضار من الدول التي لا ترجى. وكل عمل اجتماعي يخالف ذلك هو خرق وهمجية مهما يكن مقام صاحبه، هكذا يجب أن يكون طب الاجتماع لقوم يحرصون على صحة هذا الجسم ونمائه.
Неизвестная страница
على أن هذه الحرب مهما تكن اليوم شنيعة، فظيعة، مدمرة، مثكلة، مثيرة للعداوات، باعثة على التخاذل والتقاطع، مفككة لأوصال الأمم؛ فإن الاجتماع سيجني منها فوائد أدبية كبرى تفوق جدا الخسائر المادية اللاحقة به منها، والتي ضررها يقتصر على المعاصرين المساكين؛ إذ تكون له كالصرخة في أذن الغاط المستبحر في نومه، أو كالعصا على كفل الحمار البليد؛ فتستفز الأمم للانتباه إلى حقوقها، ومعرفة مقامها في الاجتماع، فتهب لإصلاح نظاماتها وشرائعها، وتضع حدا لمنازع أصحاب الامتيازات الموروثة، أو الطامعين فيها من سواهم، والذين هم قيد في رجل الاجتماع، وغل في عنقه، وسيف مسلول فوق رأسه، وتنزلهم عن عروشهم المغتصبة إلى مستوى ترفع إليه الجمهور، وتشتغل بما يحقق لها الفوز على الطبيعة، ويذلل لها مصاعب الحياة القصيرة، وتخلص الاجتماع ممن هم فيه بمنزلة «البقر»، وما عددهم في كل أمة حتى اليوم بقليل، وتسرع في الانتقال بهم إلى مقام البشر الحقيقيين؛ سعيا وراء سيادة الكل لأجل مصلحة الكل، وهي نتيجة لازمة، ومن حسنات الطبيعة في تطورها مهما توالى عليها من التقلبات والنكبات والوقوف والتقهقر الوقتيين؛ فإن النتيجة، وإن أبطأت بذلك، فإنما هي إلى الارتقاء أخيرا، وما الثورات - حتى الطائشة مثل التي نشهدها اليوم - إلا مهماز في جنب الاجتماع الخامل للإسراع في السير لبلوغ هذه الغاية.
الفصل الأول
المنظر الأول (غليوم - الحكيم - الكرونبرنس (أي ولي العهد)) (غيليوم في مكتبه في قصره يناجي أحلامه غاضبا، والحكيم جالس معه): لقد طال ما صبرت! والدول لا تريد أن تعرف لي هذا الفضل، كأنها ترى صبري عجزا، أتريد أن تحرجني لتخرجني؟ فلأرين الجميع أني رجل هذا العصر الوحيد، بل رجل كل العصور؛ حتى لا يبقى عظيم يتحدث الناس به سواي لا من الغابرين، ولا من المعاصرين. ومن هم أقراني اليوم؟ فلأسحقنهم سحقا حتى يذلوا لي. ومن هم أبطال الماضي كنابوليون، وقيصر، وأنيبال ممن يذكرهم الناس بالإعجاب؟ فلأفعلن ما يمحو ذكرهم؛ حتى يبيتوا بالقياس إلي كالأعشاب الصغيرة الحقيرة في ظل الشجرة الباسقة العظيمة. ولو أني اضطررت أن آتي مكبرا ما أتاه سواي من السفاحين قبلي مصغرا كتيمورلنك وجنكيزخان وآتيلا، فليس أرهب للناس من التمثيل بالناس، والعاجز من لا يستبد، حتى أخضع الجميع لي، وأصبح وحدي سيد هذا العالم. (يبهت قليلا كأنه يرى وعورة هذا الأمر، ثم يقول كأن خاطرا خطر له): وبعد ذلك، أليس هذا هو النظام الإلهي: الكل للواحد والواحد فوق الجميع؟ (يبتسم ويرسل ببصره إلى السماء ويقول): أليس كذلك يا إلهي الشيخ؟ فلنقتسم العالم بالإنصاف: لك ملك السماء، ولي ملك الأرض. فيا رب آل هوهنزلرن الأشراف المقدسين، ويا رب الأمة الجرمانية المجيدة؛ بارك هذا السيف لأحكمه في رقاب العباد، وشدد هذه الذراع (ويمد ذراعه المشلولة)؛ ليشعر الناس جميعهم بثقل يدي الحديدية فوق رءوسهم. (يمشي متهيجا إلى جهة الحكيم، ويقول له): دعني هذه المرة من تقريعك أيها الحكيم، فلقد أصخت لك طويلا، وحافظت على هذا السلم المصطنع حتى فرغ صبري، ومصلحة ألمانيا تقتضي أن تكون وحدها السائدة، والحكمة ليست دائما في الحلم، بل كثيرا ما تكون في الغضب، والغضب كثيرا ما يكون مقدسا. (يتركه، ويجتاز الباب إلى داخل القصر.) (الحكيم وحده يطلب من ربه أن يقوي ذراعه ليسحق بها العالم، فكيف بها لو كانت صحيحة! ولو كانت ذراعه صحيحة، فلربما كانت مطامعه أصح، وكان في أخلاقه أكثر اعتدالا، هو في جنونه يريد أن يكون اليوم نيرون هذا العصر، وأنا أرى أنه سيكون شمشونه.) (يهز رأسه.) (عن طمع فادح، لا عقل راجح، وهو مع ذلك يطلب من ربه أن يكون شريكه في جناياته، فيا للضلالة! ويا للكفر! هو يريد أن يحتكر الله لنفسه، كأن المخلوقات الأخرى ليست من صنع هذا الإله، ولا تستحق اهتمامه، فهل هو مقتنع بما يريد؟ أم ذلك من أنواع العدة أيضا في الحروب للسطو على المغفلين؛ ليساقوا إلى الحتوف متحمسين راضين؟ وغدا يقوم خصومه، ويستنجدون الله لأنفسهم، فكأن كل فريق يشق من الإله الواحد إلها ضده، ولقد كان يفعل مثل ذلك آباؤهم من قبلهم، ولكن آباءهم كانوا أعقل منهم في تصورهم، وأحكم في عملهم على هذا التصور، فقد كانوا يعتقدون بتعدد الآلهة، ويختار كل قوم منهم إلها خاصا؛ ليصرع به الآلهة الأخرى، ولكن الموحدين اليوم كيف يطبقون ذلك على تصوراتهم؟ فيا إله الجميع، كيف تطيق مثل هذه المفتريات من مثل هؤلاء المخلوقات، ولا تطبق السماء على رءوسهم؛ لتخلق سواهم أنظف منهم في عقولهم؟) (يتأمل قليلا ثم يقول): فما أوسع مجال الريبة! (يدخل الكرونبرنس فجأة من دون استئذان، فيجد الحكيم، ويقول في نفسه): أف، إن أبي لا يفارق هذه البومة المشئومة. (ثم يلتفت إليه، ويقول له): أنت هنا أيها الحكيم! أما فرغت من تسميم عقل والدي بإرشاداتك ونصائحك كأنك مأجور على إذلال ألمانيا وطمس معالم مجدها؟!
الحكيم (للكرونبرنس) :
اطمئن يا مولاي، واعلم أن الطبع يغلب التطبيع، فقد شفي والدك من سمومي كما تقول، ولقد كان هنا منذ هنيهة، وقد صرح بأميال كأميالك، ولا تظن أن صبره حتى اليوم نتيجة نصائحي، بل كان لتوقع الفرصة المناسبة، واستكمال الاستعداد، وستعلمان غدا من منا يسعى لخراب ألمانيا، وطمس معالم مجدها.
الكرونبرنس (للحكيم مشفقا ومستخفا) :
إني أجلك - أيها الحكيم - لسلامة نيتك، لا لإرشاداتك. فحكمتك عصرها قد انقضى، ولو عمل الناس بها لقعدوا عن العمل، ولرضوا بالكفاف من كل شيء، والطمع مهماز وهمة في رءوس الرجال، ولكن دعنا من كل ذلك، أين والدي الآن؟ فإني أريد أن أقابله في الحال. (يدخل الإمبراطور عائدا من القصر، ويرى ابنه ويخاطبه بقوله): كيف أنت هنا يا ويلهلم؟ فماذا تريد؟
الكرونبرنس (لأبيه محتدا) :
يا صاحب الجلال إلى متى هذا الانتظار؟ كأنك عاقد محالفة مع القضاء، فإذا كنت صبورا إلى هذا الحد، تتمجد بأحلامك كأنها حقائق، وأنت جالس على عرش ألمانيا، فأنا لم يبق لي صبر، فلا بد لي من زيارة باريس قبل الشتاء، والأمر - كما لا يخفى على جلالتكم - لا يكلفنا مشقة كبيرة، ولا سيما أن الجند متحمس لإحراز النصر، ومتضجر من القعود، ولا حاجة لأن أقول لجلالتكم إن الجند لا يخفي عني شيئا. (ويناجي نفسه على سمع من أبيه قائلا): آه، ما أحلى هذا اليوم الذي أدخل فيه هذه المدينة الزاهرة في مقدمة جنودي المظفرة، راكبا جوادي المطهم، متخطرا في شوارعها الواسعة، طائفا في ضواحيها الجميلة! نعم، لا بد لي أن أجعلها كرسي مملكتنا الجديدة، وأجلس فيها على هذا العرش الجديد؛ لأتمتع من لذة الحكم بما يتمتع به سواي اليوم.
الحكيم (يسمع ذلك، ويقول في نفسه) :
Неизвестная страница
صدق من قال: إن الولد سر أبيه، وأجل الملوك مهما قصر، فهو طويل على أولياء العهد.
الكرونبرنس (واقف ووجهه جهة الحكيم فرآه يتمتم، ولا يسمع ما يقول، وخشي أن يكون يريد أن يتكلم ليؤثر على والده بنصائحه فيتقدم منه سائلا) :
ماذا تقول أيها الحكيم؟ كأني أسمعك تتكلم.
الحكيم :
إني أصلي عسى أن يلهمكما الله إلى الخير، ويمنعكما عن الشر.
غيليوم (في نفسه، وابنه ملته مع الحكيم) :
ما أشد قحة هذا الولد العقوق! نعم، نعم، يجب أن أسارع، لا لئلا يدهمني القضاء، بل لئلا يخطر ببال هذا المجنون (ويشير إلى ابنه) .
أن يفسد علي الأمر، ويسلبني هذا الفخر الذي أحلم به من قبل ولاية والدي القصيرة، والذي لأجله أقصيت عني بسمارك؛ حتى لا يكون لي فيه شريك أو شبه شريك، هذا الفخر الذي صرفت أكثر من ربع قرن وأنا أتأهب، وأعد له العدة، وكأن هذا الولد الطائش يتودد إلى الجند ليكسب ثقته، وكأنه واثق منه اليوم حتى خاطبني بهذه اللهجة، نعم، يجب أن أسرع، ولا أدع الفرصة له، على أن الحكمة تقضي أن أخادعه ولا أغاضبه. (ثم يلتفت ويخاطب ابنه) : لا أخفي عليك - يا ولدي العزيز، وولي عهد ألمانيا المعظم - أني كنت أفكر في الأمر حين دخولك علي، وكنت عازما على استدعائك واستدعاء قواد جيوشي ووزراء مملكتي؛ لأشاوركم أولا، وأسألكم عن مبلغ استعداد الجند، ولا سيما عن استعداد الأمة، وكيف يكون وقع شهر الحرب عندها؛ لأني - وإن كنت كما تدري صاحب القول الفصل، الذي لا مرد له، وكنت على يقين من أن حلفائي في السماء ينصرونني كما نصروا آبائي من قبلي - لكني مع ذلك أود أن أجعل للأمة شأنا معي ولو صورة؛ حتى لا يكون لها سبيل للشكوى، ولا سيما في هذا العصر الذي علت فيه «ضوضاء» الاشتراكيين ، ولا أقول «كلمتهم»، وإن يكن اعتقادي بزعمائهم كاعتقادي بسائر رجال مملكتي، فجميعهم رهن ابتسامة أو تقطيبة في وجههم مني. (ولكي يكسر من حدة ابنه يتقدم منه باسما، ويربت له على ظهره براحة يده.)
على أني أطمئنك أنك قبل الشتاء ستكون كما تشتهي مقيما في قصر التويلري، وهذه كانت إرادتي من قبل أن تفاتحني بعد انتصارنا على الفرنساويين ودخولنا باريس.
الكرونبرنس (طروبا) :
Неизвестная страница
ما أحلى هذا اليوم المنتظر!
ولأبيه يقول جلالة أبي ومولاي الإمبراطور المعظم إنه يريد أن يعرف مبلغ استعداد جيوشه المظفرة، وحقيقة أميال أمته المخلصة، فالذي أعرفه عن الجميع يسر جلالته كثيرا، فالجنود على أتم الأهبة، ولي يقين بأني أفتح العالم بهم، وثقتي هذه بهم من تأكد محبتهم لي؛ لأنهم يرونني أميل إلى تحقيق أمانيهم، ولأني مع ذلك حائز لثقة جلالة الإمبراطور الذي ينظرون إليه كنظرهم إلى معبود، والأمة لا تختلف عنهم في فضل التربية الجرمانية العالية التي غرسها فيها الأساتذة في المدارس، والفلاسفة في الكتب، والأمهات في البيوت حسب أوامر جلالتكم السامية، حتى أصبحت الأمة الألمانية كلها تتحرك حركة واحدة بإرادة واحدة كالآلة الميكانيكية العمياء، وما هي عمياء؛ لأنها تعلم لكم أنتم عينها الباصرة، وإن شاء جلالة مولاي زيادة إفصاح؛ فليدع إليه الذين ذكرهم من رجال مملكته.
الإمبراطور (لابنه) :
وإنه لكذلك، فادع كبير حرسي يدعوهم لي. (يذهب والإمبراطور يقول في نفسه) : ما هذه المتناقضات؟ أدب بقحة، وتزلف بكبر، وخضوع بتهديد، إني غير مطمئن إلى هذا الولد إلا إذا شهرت الحرب ودفعته إلى خوض معامعها.
المنظر الثاني (غيليوم ووزراؤه وقواده والكرونبرنس والحكيم في قصر الإمبراطور.)
الإمبراطور (يخطب فيهم) :
دعوتكم - أيها الوزراء الكرام والقواد العظام - لأمر هام جدا، يتوقف عليه مستقبل الأمة الألمانية المجيدة، ومستقبل آل هوهنزلرن الأكارم، الأمة الألمانية التي خلقها الله لكي تسود الأرض، والتي أعدتها تربيتها الخاصة لأن تكون فوق كل الأمم مهددة اليوم في حياتها، وآل بيتي المجيد الذين أرسلهم الله؛ لكي يقودوا هذه الأمة العظيمة إلى المجد لا يستطيعون أن يروا ذلك بقلب بارد، وعين غافلة ، فأنا الذي أمثل في أقنومي المقدس الهوهنزلريين أصحاب المجد الباذخ أراني مسئولا أمام الله، وأمام نفسي، وأمام آلي الأماجد إذا لم أدرأ عن أمتي الأخطار التي تتهددها من كل جانب.
الأمم جميعها تحسدنا لأننا متفوقون عليهم في كل أمر: في العلم والفلسفة، في الصناعة والتجارة، في الذكا والنشاط، والذين منهم يهمهم أمرنا أكثر من الآخرين عاملون على بث العراقيل في سبيلنا؛ فإن رمينا إلى الاستعمار، وقفوا في وجهنا، وإن قوينا بحريتنا شكوا منا وقاموا يناظروننا، وإن أصلحنا جنديتنا أساءوا الظن بنا وزادوا جيوشهم ليتفوقوا علينا. وهذه روسيا بفضل أموال الفرنساويين ستصبح في سنين قليلة ذات جيش جرار مستوفي العدة ممهد الطرق، حتى يكون لها من ذلك كله قوة لا تقف في وجهها دولة من دول الأرض مهما تكن قوية، فالخطر علينا في البر من الروس خطر السيل الجارف، والخطر علينا في البحر من الإنكليز خطر الحيتان الكبيرة على السمك الصغير، نحن أمة مسالمة لا نطلب إلا أن نعيش. وهم يضيقون علينا المذاهب، ولقد طال صبرنا؛ لأننا لا نريد أن نكدر السلم الأوروبي، فهل تريدون أن يتحول صبرنا إلى موت لا يبقي منا سوى جثة هامدة تجتمع حولها النسور؟ فإن رضيتم أنتم ورضيت أمتي بهذا العار؛ فمعاذ الله أن أرضى أنا به، ودم آبائي في عروقي يصرخ بي: الثأر، الثأر، والنار ولا العار، والأمة الألمانية خلقت لأن تكون فوق الكل، فيجب أن تكون فوق الكل.
قلت الثأر لأنه لا يجوز للأمة الألمانية أن تغضي عن أقل مزاحمة لها، أو مغاضبة من دون أن يمس ذلك بشرفها وشرف مصلحتها، فكل مناظرة يقصد بها التقدم علينا هي جناية علينا يجب أن نثأر لها.
انظروا إلى فرنسا جارتنا في البر، فبدلا من أن تكون حليفتنا لنفتح بها العالم؛ هي التي تمد أعداءنا بالمال، وتنظم المحالفات ضدنا، وتسابقنا إلى الاستعمار، وتهددنا بأخذ الثأر، مع أنا رحمناها رحمة لو رحمنا بها أية أمة سواها؛ لما نسيت لنا هذا الجميل، فقد أبقينا عليها، واكتفينا منها بالزهيد من المال يوم كنا قادرين ألا نبقي فيها حجرا على حجر، وهذه أكبر أغلاطنا في الحرب الماضية، والتي لأجلها لم أسامح بسمارك، وهي حتى اليوم عقبتنا الكبرى الحائلة بيننا وبين تحقيق حلمنا، ومد سطوتنا على المسكونة كلها، ولولاها لكنا الآن سائدين على العالم آمنين على أنفسنا من كل معتد أثيم، بل هي التي لا تفتر تحرك ضدنا، وتقلق راحتنا، وتعد العدة بالاتفاق مع سواها لسلبنا كل ما جنيناه بجدنا وكدنا، كل ذلك ونحن عليها صابرون، فإلى متى الصبر؟! وهل يليق بالأمة الألمانية التي هي فوق كل الأمم أن ترى ذلك، ولا تقسم هذه المرة بأن تثأر لنفسها، حتى لا تبقي ولا تذر على هذه الأمة الفرنساوية الناكرة الجميل.
Неизвестная страница
الحكيم :
ما أبدع هذا الخطاب في المغالطات! وأبدع من ذلك أنه توجد عقول تشربه.
الجميع (للإمبراطور) :
صدق جلالة الإمبراطور، هذه أمور لا تطاق، ورأي جلالتكم فوق كل رأي.
الإمبراطور (لهم) :
فأنا دعوتكم لأستشيركم في أمرين مهمين، عليهما يتوقف النصر في الحروب؛ وهما: أولا، حالة الجيش وما له من العدة. وثانيا، المال اللازم. فما رأي وزير الحرب أولا؟
وزير الحرب (للإمبراطور) :
أما العدة؛ ففي وسعي أن أؤكد لجلالة الإمبراطور أننا نستطيع أن نحارب الدول أجمع ثلاث سنين بلا انقطاع، من دون أن نحتاج إلى قنبلة جديدة، أما الجيش؛ ففي طاقته أن يقهر جيوش العالم كلها تدريبا وعددا وحماسة، هذا بقطع النظر عما يردنا من الأخبار عن يد مراسلينا العسكريين، وكلها مجمعة على أن جيوش سائر الدول في حالة سيئة جدا؛ من فضل كتابها دجالي الأقلام، ومن فضل خطبائها أمراء شقشقة اللسان، ومن فضل انقسام أحزابها رواد المنتجعات من مال ومناصب، وهم مع ذلك يخلقون لنا الأسباب بتهجمهم علينا في كتاباتهم، وتهورهم ضدنا في خطبهم كأنهم يعتبرون الطعن والضراب جولة في صحيفة أو صولة في خطاب، ويا ليت شعري لو اشتدت الأمور على ما يعولون!
الإمبراطور :
هم حتى الساعة عولوا على حلمي. (يبهت ثم يبتسم.)
Неизвестная страница
ويعولون أيضا على جائزة نوبل التي منحوني إياها جزاء حفظي للسلم. (ثم يضحك ساخرا.)
كأنهم يظنون أنهم يفتونني بهذه الجوائز الصبيانية المدرسية؛ لأبقى غافلا عن مساعيهم ضدي، وأعمى عن مصلحتي، وما هم إلا بأنفسهم هازئون، ولعلهم يرون نتيجة غفلتهم عن قريب.
الإمبراطور (لوزير المال) :
وما رأي وزير المال في المال الذي عندنا فيما لو نشبت الحرب بيننا وبين أعدائنا؟
وزير المال (للإمبراطور) :
مولاي المعظم! إن روح النظام الذي بثه جلالتكم في الأمة عموما، ولا سيما في دواوين الحكومة جعلنا جميعا قوما لا نتكل على الأقدار.
الإمبراطور :
لا تنسوا اتكالي على حليفي الأكبر في السماء.
الوزير :
وفوق ذلك نحن قوم نتخذ لكل شيء أهبته، ونعد له عدته، فالمال المدخر في خزينة الحكومة يزيد كثيرا على ما يلزم لمثل المدة التي فرضها احتمالا زميلي المكرم وزير الحرب، مع ما فيها من المبالغة. قلت المبالغة - وأستسمح حضرة زميلي على ما ليس من خصائصي - لأني على يقين تام أن الحرب إذا نشبت بيننا وبين أعدائنا لا يمضي علينا شهر حتى نكون في عاصمة فرنسا، فنجد هناك من المال ما يغنينا عن استهلاك المدخر منه لدينا، أو اقتراض أي مبلغ آخر سواه، وهذا رأي كبير القواد أيضا كما علمت منه.
Неизвестная страница
الإمبراطور (لكبير القواد) :
وأنت، ماذا تقول أيها القائد العظيم؟ وهل الخطط الحربية الموضوعة تضمن لنا هذا الفوز السريع، وقد توفر لديك المال والعدة جميعهما كما سمعت؟
كبير القواد (للإمبراطور) :
جلالتكم تعلمون أن ألمانيا بنظامها البديع - الذي كل الفضل فيه لجلالتكم - هي أشبه شيء بثكنة عسكرية ممتلئة جنودا، وبفضل هذا النظام نفسه هي ميدان تنتقل فيه الجيوش من القلب إلى الحدود بسرعة سيندهش منها العدو، وبفضل جاسوسيتنا المتقنة التي يفتخر كل ألماني بأن يتطوع فيها، وينتسب إليها؛
1
لنا في البلدان الغريبة مراكز مجهولة إلا منا؛ لترتكز عليها مدافعنا الجهنمية الهائلة، التي ليس لها مثيل عند سوانا لدك المعاقل والحصون مهما تكن منيعة، فإذا أضفنا إلى كل ذلك معلومات حضرة وزير الحرب عن حال الجند في الممالك الأخرى كما تقدم، لم يصعب علي أن أؤكد لجلالتكم أن وصولنا إلى باريس سيكون نزهة حربية، ويتم في أقل من شهر.
ولي العهد (طروبا) :
باريس! باريس! عاصمة ملكي الجديد!
الإمبراطور (يسمع ذلك ويقول في نفسه) :
ما أقبح هذا الولد الأهوج! ومن نكد الدنيا أن ليس لي بد من تسليمه بعض القيادة، وأنا لا أخشى الفشل إلا منه. (ثم يلتفت إلى المستشار الإمبراطوري.)
Неизвестная страница
الإمبراطور (للمستشار) :
بقي علي أن أعرف رأيك - أيها المستشار الحكيم - فيما لو شهرت الحرب علينا، أو على فرض أنا اضطررنا نحن إلى شهرها، كيف تستقبل ذلك الأمة؟
المستشار (للإمبراطور) :
مولاي، إن تربية الأمة الألمانية في عهد ولايتكم الزاهرة لم تبق لها إرادة غير إرادة قيصرها العظيم، وحتى لو كان لها ذلك، فالقوة العسكرية لا تسمح لها بأن تتنفس إلا على هوى السلطة الحاكمة، والجند لا يطلب إلا خوض المعامع لنيل الشرف الأثيل على حد الظبى، وهو واقف يتطلع إلى حركات جلالتكم كالمستسقي يستطلع الغيث من مهاب الريح، فإذا نشبت الحرب، وكان لا بد من خوضها، رأت جلالتكم الأمة كلها واقفة لها على قدم وساق مقبلة عليها إقبال الظمآن على الغدير.
الإمبراطور (للجميع) :
هذا كاف الآن، فانصرفوا، وإياكم أن تبوحوا بشيء من ذلك لأحد، ولا سيما للصحف، وليبق هنا مستشاري الخاص وحده. (ويلتفت إلى ولي عهده.)
وأنت كن كتوما هذه المرة، وسيكون لك ما تحب. (يخرج الجميع، ويقف المستشار صامتا ينتظر أوامر الإمبراطور.) (والإمبراطور يمشي في القاعة متمهلا مطرقا، ويداه وراء ظهره، ثم يرتد إلى مستشاره ويقف أمامه، ويده «المشلولة» على قبضة سيفه، ويقول له وهو يحدق فيه):
الإمبراطور (للمستشار) :
الحرب واقعة لا محالة، متى تم الاستعداد لأعدائنا. وقد انتبهوا اليوم، وأخذوا يستعدون، ومن الحكمة كما في المثل «أن نتغداهم قبل أن يتعشونا» ما دمنا نحن مستعدين وهم غير مستعدين، ولا بد من إشراك حليفتنا النمسا معنا فيها ضرورة، فيجب أن نضطرها إليها اضطرارا، فاذهب الآن، وأرني حكمتك، وتذكر خاصة بسمارك. (يذهب الجميع، ويبقى الحكيم وحده ويجلس حزينا ويندب): الحرب واقعة لا محالة، يا للمصيبة! ويا لحرب ستشيب من هولها الولدان! ويا للخراب! إنها ستكون حربا لم يشهد العالم نظيرها في التفظيع والتدمير، الناس اليوم بالعلم أنوفون شديدو الشكيمة، وإخضاعهم ليس بالأمر السهل، والمقاومة الشديدة ستثير الوحش الرابض من مكمنه في النفوس، والعدة اليوم طاحنة تقوض الجماد، وتحرق النبات، وتزهق الأرواح، هو في أطماعه مستهوى، فهو لا يدري الأضرار التي ستحيق بالعالم بسبب هذه الحرب، أو هو يدري ولكنه لا يدري أنها ستحيق به وبأمته مهما تكن نتيجتها له، فكيف بها إذا كانت عليه؟ مصالح الناس اليوم مشتبكة، فلم تبق فواصل بين الممالك فيها، يدعي أن الدول تتحفز للوثوب عليه، مع أنها حتى اليوم غافلة عنه، وهي اليوم إذا انتبهت وأظهرت شيئا من الاهتمام بأمر الحرب؛ فلاتقاء شر استعداداته الهائلة، ويا ليتها كانت مستعدة لها نظيره؛ لكان الخوف منها يمنعه عنها. التوازن ضروري في كل شيء، وإلا وقع الاضطراب، هو لو عمل بمبادئ المدنية الصحيحة التي يرمي إليها العلم اليوم؛ لاتخذ الدول الراقية صديقات لا عدوات، ولسهل عليه حينئذ الاتفاق معها على ما يكسر من شوكة الحروب، ويؤيد سلطان السلم، ويمد بساط المدنية، وكان له بذلك من الفخر المؤثل الأكيد ما هو فوق ما يحلم به من ذلك الفخر الموهوم والمطعون فيه اليوم، ولجد ليحصر التنازع بين الأمم الراقية فيما يعمر، لا فيما يدمر. أوروبا الراقية يجب أن تكون اليوم ممالك متحدة، إن لم تكن صورة فمعنى؛ لتتناصر في العمارة والعلم، وهو يريد أن يثير بينها الحروب ليثير بينها الضغائن والأحقاد، كل ذلك منه طمعا في أن يخضعها لسلطانه، بقية نعرة من عصور الهمجية في رءوس بعض البيوت القديمة المالكة، كأنها في مطامعها الهمجية عائشة واقفة لا تسير مع العصر، ومن نكد الدنيا أنها تجد في كل مجتمع راق أو منحط نصراء لها على أنفسهم، هؤلاء هم «بقر» الاجتماع، لم يبق أمل إلا أن تكون أمته أرقى منه في أفكارها، وأعقل في مطامعها، وهي التي نالت بعملها واجتهادها مركزا ممتازا في العمران، فتنتقض عليه إذا صح ما ينوي وشهر الحرب، وتكون قدوة الأمم في معرفة المصالح العمرانية المشتركة واحترامها، ولكن الأمل قليل وهؤلاء رجاله المختارون من الأمة قد أعمتهم العبودية، وإذا كان ذلك طبعا في الأمة؛ فالطبع أغلب، وكأنه هو يريد أن يخدع الأمة، ويصور لها بأنها المعتدى عليها؛ ليحقق بها حلمه الجنوني، فيا للجناية!
الفصل الثاني
Неизвестная страница
المنظر الأول (المستشار الإمبراطوري - وزير الخارجية - كبير الجواسيس)
المستشار (وحده في مكتبه) :
هو يريد سببا يتوسل به لشهر الحرب! أمام من يريد أن يبرر عمله؟ أمام أمته وهي بروح الطاعة التي تربت عليها في عهده تبلع الجبال ولا تغص، وتشرب البحار ولا تشرق؟ أم أمام العالم؟ يوصيني أن أتذكر بسمارك في كذبته، أيجهل أن لكل مقام مقالا، وأن لكل زمان دولة ورجالا؟ فرنسا قبل حرب السبعين كانت في المقام الأول بين الدول، وحكومتها الإمبراطورية بالغة في الكبر حد الطيش، وبروسيا كانت في أول نشاطها، ومغاضبة الصغير للكبير لا تطاق مهما تكن طفيفة، والضعيف محتاج دائما إلى تبرير عمله حتى في حقه الواضح. وأما اليوم، فماذا تجدي كذبة بسمارك، وحكومة الجمهورية أعقل من أن تتهور بتلغراف مكذوب؟ أو ماذا تخشى ألمانيا وهي بهذه القوة الهائلة، وهذا المقام الممتاز بين الدول؟ والقوي لا يحتاج إلى تبرير عمله وذنبه مغفور، والناس يحكمون دائما لا بحسب الأسباب، بل بحسب النتائج، ولكن الإمبراطور يريد سببا يبرر به عمله، ومن الأسف أنه مع ما له من المدارك السامية والمطامع الكبيرة هو مقلد لا مبتكر، والفرق أن المقلد ينسج على منوال واحد في كل زمان ومكان، والمبتكر يلبس لكل حالة لبوسها؛ أي: أنه يفتق بحسب الحوادث والأحوال، ولكني «أنا» لا يصعب علي أن أرضيه، وأخرج عن أن أكون مقلدا، فأنا أجاريه في رغبته، وأرتفع فوق بسمارك كثيرا، فإذا كان بسمارك قد أدهش الناس بحيلته؛ فأنا سأذهلهم بإقدامي، غير أنه يريد أيضا أن أشرك النمسا في الحرب ضرورة؛ أي: أن أضطرها إليها اضطرارا، حتى لا يكون لها مناص منها، فكأنه لا يثق كثيرا بهذه المحالفات إذا لم تتوفر فيها المصالح على السواء، وهي معه غير متوفرة، وما حلفاؤه عنده إلا آلات لتخدمه لا ليخدمها، والذي يعلم من نفسه أنه لا يوثق به فهو لا يثق بسواه. والعجيب أنه لم يفاتحني في أمر إيطاليا، فكأنه لا يريد أن يشركها لا في الحرب، ولا في الرأي، فهل هو غير واثق منها بالمرة؟ أو هو غير معتد بها؟ أو هو ناقم عليها؟ ولعل في الأمر شيئا من كل ذلك، والحقيقة أن محالفتنا لإيطاليا كانت غلطة من أغلاط بسمارك، فقد خدمناها كثيرا، فكبرت وقويت في ظلنا، ولم تنفعنا بشيء، بل أضرتنا، فإذا كانت فرنسا سلبتنا تونس ومراكش، فهي أخذت طرابلس الغرب من تحت ذقننا، ولقد خدعنا بها هذه المرة أيضا؛ فسكتنا عنها لاعتقادنا أنها ستفشل في حملتها هذه، ويفضي بها ذلك إلى الرجوع للضعف، فأخطأ فيها حسابنا مع كل مساعينا ضدها مع خصومها في السر، ويلوح لي أن صمت الإمبراطور عنها هذا الصمت دليل على أنه يكظم لها الغيظ، وينوي لها شرا، وليس يوجد انتقام أشد من انتقام الغضب البارد، فإذا اكتسح فرنسا - واكتساحها في اليد - وجه عنايته إليها، وأذلها حتى تصبح أوروبا كلها في يده كالخاتم في الخنصر، وحتى لا يبقى سوى تلك الجزيرة المنعزلة، وحسابها قريب. على أن ذلك إذا لم يكن في حساب الإمبراطور فهو في حسابي، وسأتكفل بتحقيقه له، حتى تنسى ألمانيا ذكر بسمارك وينساه العالم معها.
الخادم (للمستشار) :
وزير الخارجية بالباب يطلب مقابلة مولاي.
وزير الخارجية (للمستشار) :
وردتني أخبار من سفيرنا في النمسا أن ولي عهدها عازم على سياحة في داخل المملكة، وسيتجول على نوع خاص في أملاك النمسا السلافية.
المستشار (للوزير) :
وماذا يقصد يا ترى من هذه السياحة؟ هل قال لك السفير شيئا؟
الوزير (للمستشار) :
Неизвестная страница
لم يقل سوى أنها سياحة تعرف، وأنا أرى أن الأرشيدوق ولي العهد يتوقع من دقيقة إلى أخرى أفول نجم ذلك الشيخ الفاني الإمبراطور فرنسيس يوسف، فهو يريد أن يتبين أحوال الأمم في مملكته؛ ليعرف كيف يحكمهم بيد من حديد، وحضرتكم تعلمون أن ولي العهد شديد، وهو تلميذ إمبراطورنا وصديقه الحميم.
المستشار :
يظهر أن هذا الفصل هو فصل السياحات الملوكانية، إمبراطورنا غائب في ستوكهلم، وبوانكاره في روسيا، وولي عهد النمسا يجول في مدن بلاده، وملك الإنكليز هذا مشغول اليوم بحرب الأحزاب في إيرلندة.
يا للعجب من تماسك هذه السلطنة الضخمة حتى الآن! وهي في يقيني لا تمسكها إلا خيوط من عنكبوت، وأرى أنها أشبه بصنم هائل من خزف، فأقل شيء يسحقه إلى الأرض، أليس كذلك يا حضرة الوزير؟
الوزير (للمستشار) :
أنا أعلم أن مستعمرات الإنكليز غير مخلصة لهم، والمسلمون من أهلها لا يحبونهم مع كل توددهم الزائد لهم، والإغضاء عن هفوات تركيا ضدهم، ورغبتهم الزائدة في أن تبقى الأستانة عاصمة بيدهم مهما يكلفهم ذلك، خذ المصريين منهم، فإنهم لم يروا من عهد الفتح عصرا صلحت فيه أمورهم مثل عصر الاحتلال الإنكليزي، ومع ذلك فهم لا يفتئون يحركون ضدهم، ولمصلحة من يا ترى؟ لمصلحة الأتراك الذين أفنوهم، ولمصلحة الحكومات الأخرى التي أزهقتهم. ويعجبني من ناشئتهم إذ يقولون إن الإنكليز سلبوهم استقلالهم وسعادتهم. فهل الحالة التي كانوا فيها استقلال وسعادة؟ كان عددهم على عهد إسماعيل ثلاثة أو أربعة ملايين، فصار اليوم يربو على الاثني عشر مليونا، كان فدان الأرض يساوي عشرات الجنيهات، ولا من يشتري، فصار يساوي مئاتها، ولا من يبيع، وهل إذا طمحوا إلى استقلال حقيقي، ورحل الإنكليز عنهم يستطيعون أن يذودوا عن أنفسهم من احتلال آخر، وهم لا يملكون شيئا من أسباب الاستقلال أمام سائر الدول التي تدعوها مصالحها للتداخل في شئون مصر والمصريين؟ على أن ذلك يخدمنا في مصالحنا نحن، فعلينا ألا ندع الفرصة تضيع منا.
المستشار :
ولكن الأرض تخرج من أيدي المصريين.
الوزير :
وعلى من الذنب؟
Неизвестная страница
المستشار (متأملا) :
معلومات مهمة ينبغي علينا ألا نغفل عنها، وأن نتحين الفرص للاستفادة منها؛ لئلا تفوت، والفرص إذا فاتت قلما تعود. (ثم يلتفت إلى الوزير.)
فعلى رأيك لو وقعت حرب بيننا وبين فرنسا وروسيا، وانضمت إليهما إنكلترا ... (لا يدعه الوزير يكمل.)
الوزير (للمستشار) :
النصر مؤكد لنا ، وإنكلترا لو دخلت في الحرب ضدنا اغتنمت مستعمراتها الفرصة، وثارت عليها، وأغنتنا عن محاربتها، وكان ذلك قرع جرس نعيها، هذا يقيني.
المستشار (للوزير) :
شكرا لك. (يودع الوزير وينصرف.)
المستشار (وحده) :
الفرصة سانحة، ولو أردت أن أخلقها لما وجدت أنسب منها؛ فهي جامعة لجميع الشرائط المطلوبة. (يقرع الجرس.)
المستشار (للخادم) :
Неизвестная страница
ادع إلي كبير الجواسيس في الحال.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
ما دعوتك لأمر أهم من الأمر الذي أريد أن أعهد بإتمامه إليك، هو يحتاج إلى مهارة وتكتم ما بعدهما مزيد، ولكنك أنت ابن بجدتها.
كبير الجواسيس (للمستشار) :
ليأمر حضرة المستشار.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
هو سر ينبغي أن يدفن معك ومعي، وربما أبحنا به قبل إذا تحقق الغرض المترتب عليه، والغاية تبرر الواسطة، والغاية هنا ما بعدها غاية، وهي تحقيق حلم ألمانيا الجميل.
كبير الجواسيس (للمستشار) : ...؟
المستشار (لكبير الجواسيس) :
لا بد لنا من الحرب اليوم قبل أن تتم الدول استعداداتها؛ ليتأكد النصر لنا، ولا بد من إشراك النمسا فيها ضرورة، فلا بد إذا من سبب وجيه، هذه إرادة الإمبراطور. (وبعد صمت قليل يقول المستشار) : هل أنت عالم بسياحة الأرشيدوق ولي عهد النمسا؟
Неизвестная страница
كبير الجواسيس :
نعم، وهو سيكون في مدينة سراجافو من أعمال النمسا بعد ثلاثة أيام.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
بالحقيقة إن إدارتك بغاية الانتظام. (ثم يقول له) : وهل لا تخشى عليه هناك من يد أثيمة من السلاف الناقمين بدسائس الصرب، التي لا تزال تحركهم طمعا بضمهم إليها؟
كبير الجواسيس (وكأنه فهم المراد) :
أخشى عليه كثيرا، وإدارتي بغاية المقدرة.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
هذا ما كنت أنتظر، فاسمع إذن، السياسة تقتضي ذلك، والمصلحة فوق كل شيء، لا بد من هذه الجناية لاتهام الصرب بها، ولا بد من الكتمان.
كبير الجواسيس :
حتى على الإمبراطور؟
Неизвестная страница
المستشار (له) :
ولا سيما على الإمبراطور، فالأرشيدوق صديقه الحميم، وهذا هو السبب الذي لأجله اخترت أن تكون الجناية عليه، حتى إذا لانت النمسا ما لان الإمبراطور، ووقعت الحرب لا محالة.
كبير الجواسيس (للمستشار) :
كن مطمئنا، فمنذ الآن تستطيع السياسة أن تعتبر الصرب جانية.
المستشار :
بالحقيقة إن قوة ألمانيا الهائلة هي في جاسوسيتها المنظمة.
المنظر الثاني (الخادم - كبير الجواسيس - المستشار - ناظر الخارجية - غيليوم)
المستشار (في مكتبه قلقا) :
اليوم موعد وصول الأرشيدوق إلى سراجافو، مسكين الأرشيدوق هذا اليوم عليه يوم بؤس، ولكن هل توجد حيلة أخرى لتحقيق رغبة الإمبراطور وإشراك النمسا في الحرب؟ ألا يكون الإمبراطور يرمي إلى ذلك، حتى اختار هذه الفرصة وأوصاني أن أتذكر بسمارك؟ مع أن الأرشيدوق صديقه، ولكن أية صداقة تقف في سبيل مطامعه التي لا حد لها؟! ولقد أحسنت في أن أوصيت كبير الجواسيس بالكتمان، حتى على الإمبراطور نفسه، فالحكمة تقتضي ذلك، ولو أن العمل ينطبق على مرامي الإمبراطور. والحكمة وإن كانت تقرأ ما بين السطور، وتعلم ما في طي الصدور، إلا أنها في السياسة تطلب دهاء كثيرا. (يدخل الخادم ويستأذن لكبير الجواسيس.)
كبير الجواسيس (للمستشار) :
Неизвестная страница
الأقدار تخدم سعادتكم، لقد قضي الأمر من دون أن يكون لنا فيه أدنى يد تثقل ضمائرنا، فقد كانت المكيدة مدبرة من قبل تدبيرا شيطانيا، إذ صف القتلة اثنين اثنين على طول الطريق، حتى إذا نجا من أول كمين لم ينج من الثاني، وهكذا، وقد قتل الأرشيدوق وزوجته في الكمين الثاني.
المستشار (لكبير الجواسيس) :
رحمة الله عليهما، وماذا يقول الناس هناك؟
كبير الجواسيس (للمستشار) :
يقولون إنها مكيدة من الصرب، وهل في ذلك شك؟!
المستشار (للكبير) :
وأنت ماذا تقول؟
كبير الجواسيس :
ماذا أقول؟ أقول كما يقولون. (وفي نفسه.)
هو في حيرة، ويلذ لي أن أراه في هذه الحيرة. (يودع ويخرج.)
Неизвестная страница
المستشار (وحده) :
مهما يكن من ذلك، فالمطلوب حصل، ولكن حتى الساعة لم يرد نبأ بذلك على الحكومة. (يدخل الخادم ويستأذن لوزير الخارجية.)
وزير الخارجية (للمستشار) :
وردني نبأ مكدر جدا، وربما كان سببا لمشاكل كبرى بين الدول، ولا سيما أنه يحزن جدا جلالة الإمبراطور، فقد أنبأني سفيرنا في فينا أن قنصلنا في سراجافو أبرق له بأن الأرشيدوق ولي عهد النمسا قتل في هذه المدينة هو وقرينته، وأن قاتليه من السلاف، ويرجح أن الأمر بدسيسة من الصرب .
المستشار (للوزير) :
يا للفظاعة! يا للفظاعة! إذا كان الأمر كما ذكرت فليس أمامنا مشاكل دولية فقط، بل أمامنا الحرب على الأرجح، فإن النمسا لا يسعها السكوت عن هذه الجناية، وإمبراطورنا سيبلغ به الغضب من قتل صديقه مبلغا لا يقف به إلا عند سحق الصرب، هذه الدولة الحقيرة التي لم تعد تعرف في غرورها أن تقف عند حد.
نعم هي الحرب؛ لأن روسيا لا ترضى بأن النمسا تسحق الصرب، وفرنسا لا بد لها من نصر حليفتها، ونحن ناصروها إذا تحركت روسيا، فالحرب واقعة لا محالة، وعما قليل سينقض الإمبراطور علينا كالصاعقة عائدا من سياحته متى علم بالفاجعة، فلنستعد لشهود غضبه، وما سيتبع ذلك من المشاكل. (يودع الوزير ويخرج.)
المستشار (وحده) :
هذا الداهية كبير الجواسيس يجعلني بتصريحه في حيرة، أصحيح يا ترى ما يقول؟ إنه حينئذ لاتفاق عجيب، أم ذلك منه منتهى الحذر؟ ألعله لا يأتمن جانبي ويخشى غضب الإمبراطور؟ من يدري؟ وما دمت لا أنوي التصريح الآن، فلا بأس، وستكشف الأيام الحقيقة كما كشفت عن دهاء بسمارك، على أن المجال لدي واسع ما دام اعتمادي على إقدامي، وبهذا امتيازي العظيم على بسمارك.
المنظر الثالث (الإمبراطور - المستشار - وزير الخارجية - وزير الحرب - كبير القواد)
Неизвестная страница
الإمبراطور (وحده في قصره غاضبا) :
أبلغ من قحة هذه البعوضة أن تتهجم علينا إلى هذا الحد؟ أنا لا أكره أن يخلقوا لي الأسباب لأؤدبهم جميعا، لم يقتلوا ولي عهد النمسا وامرأته، بل قتلوا صديقي الحميمين، فوا أسفاه عليكما! لا بد لي من سحق هذه الدولة الحقيرة المغرورة، ولو أدى بي ذلك إلى أن ألهب النار في أوروبا كلها. (يقرع الجرس.)
الإمبراطور (لكبير الحرس) :
ادع إلي في الحال مستشاري ووزير الخارجية ووزير الحرب وكبير قوادي.
الإمبراطور (لهم) :
جميعكم تعلمون النبأ الصادع الذي ألم بحليفتنا، وهذا اليوم هو يوم انتقامي الشديد، فيا حضرة المستشار نص أنت البلاغ الذي يجب أن ترسله حكومة جلالة حليفي إمبراطور النمسا إلى هذه الأمة الشريرة دول الصرب، وليكن في الغاية القصوى من الشدة، حتى لا تقبله أية دولة مهما تكن حقيرة، ولا تمهلها أكثر من 48 ساعة للقيام بالترضية المطلوبة، ولتكن النمسا على قدر الاستعداد لاجتياز الحدود عند أول إشارة.
وأنت يا وزير الخارجية، أكد على حضرة زميلك هناك أن إرادتي هذه لا تقبل تعديلا، فلتكن حكومته شديدة إلى الغاية، ولتخلق الصعوبات إثر الصعوبات كلما بدا من الآخرين تساهل، إذ لا بد من الحرب، فالإهانة التي ألحقوها بنا لا تطاق، ومصلحتنا لا يسعها أن تصبر أكثر مما صبرنا حتى الآن.
وأنت يا وزير الحرب، أعط الأوامر لتعبئة الجيوش، وتجهيزها بكل ما يلزم لها من العدة، حتى لا ينقصها شيء.
وأنت يا كبير قوادي، لتكن جيوشي جاهزة واقفة عند الحدود؛ كي تجتازها عند أول إشارة، وها قد حانت تلك الفرصة لإظهار كفاءتك الموثوق بها، عسى أن تكتب لك في تاريخ ألمانيا صفحة مجيدة، كما كتب كبير أسرتك الشهير، وقد قاد جيوش جدي المظفرة إلى النصر، فحقق ثقتي فيك باختياري لك، وإني لمتفائل خيرا باسمك المجيد. (وإلى الجميع) : فانصرفوا الآن، وليقم كل واحد منكم بما أمرته به خير قيام.
المنظر الرابع (المستشار الإمبراطوري في مكتب الإمبراطور.)
Неизвестная страница
المستشار (للإمبراطور) :
زارني سفير إنكلترا، وقال لي إن حكومته ترغب في حل الإشكال إما بمؤتمر دولي، أو على الأقل بمداولة على يد السفراء، ولكن الوقت المفروض للترضية ضيق جدا، فهي ترغب تمديده، وتطلب منا أن نستمهل النمسا، ويظهر أن النمسا تميل إلى اللين.
الإمبراطور (بدهشة) :
ماذا تقول؟ تميل إلى اللين!
المستشار (في حديثه) :
ولكني قلت له: إن روسيا تعبئ جيوشها، وهذا ما لا قبل لجلالتكم بغض النظر عنه.
الإمبراطور :
وهل هي تعبئ حقيقة؟
المستشار :
جلالتكم تعلمون أن روسيا لا تسمح عن طيبة خاطر باكتساح الصرب، ولكنها كسائر الدول غير مستعدة للحرب، بل جميعهن لا يصدقن بإمكان وقوعها، فلعلي أحرجها إليها لإحراج فرنسا معها، ومع ذلك ماذا يهمنا إذا لم تطلبانا للحرب، فنحن نتذرع بألف وسيلة، ونشهرها عليهما، ألم تأمروني جلالتكم بأن أتذكر بسمارك؟ وماذا تجدي حيلة بسمارك اليوم؟ فقد كانت صغيرة مثلنا في ذلك العهد، ولكنها كانت كبيرة جدا على فرنسا لكبريائها حينذاك، وأما اليوم فيجب أن يكون عملنا على قدر قوتنا، وقدر استخفافنا بسوانا، والحق إنما هو للقوة دائما.
Неизвестная страница