هذا وجاء في تاريخ السودان لمؤلفه حسن باشا ما نصه: «وهكذا حكمت مملكة آشور مصر بعد أن حكمها الليبيون فالسودانيون، ولا يخفى أن هذين الأخيرين كانا شديدي الشبه بالمصريين، يحافظون على ديانتهم وعاداتهم وأخلاقهم، ويتطبعون بطباعهم ويتقلدون بملوكهم.» وقال علماء الآثار أنه لم يثبت لديهم للآن أن الآشوريين تقلبوا على مدينة طيبة، وإنما من المعلوم أن الملك طهراقة التزم خطة الدفاع في شمال بلاد النوبة. أما ملك آشور فإنه عاث فسادا في بلاد الوجه البحري وشدد النكير على سكانها، حتى اضطرهم إلى الاستنجاد بالملك طهراقة، فأخذوا يراسلونه سرا لإنقاذهم من الكابوس الآشوري المخيم على ربوع البلاد، ولكن سرعان ما بلغ ذلك آشور أخي الدين الذي قبض على دعاة الفتنة وأودعهم أعماق السجون. أما الوجه القبلي فلم يزل خاضعا لطهراقة الذي ولى ابنه «تانوت آمون» حاكما عليه في سنة 663 قبل الميلاد، وجعل مقامه في طيبة وبقي هو في نبتة «أي مروي»، وكان «تانوت آمون» كبير الهمة طامحا إلى استرجاع ما فقده أبوه من أملاكه بمصر، فتأهب لذلك وسار في جند كثيف إلى الشمال، وحارب أمراء الوجه البحري وأخضعهم لحكمه، ولكنه ما كاد يعيد السيف إلى غمده حتى كرت عليه جيوش الآشوريين في سنة 661 قبل الميلاد، وفتكت بالجنود المصرية الإثيوبية وخربت مدينة طيبة وسلبتها مجدها، وهدمت الحصون والقلاع.
ولما اشتدت وطأة الآشوريين بمصر طمحت نفوسهم إلى ما وراءها، وضعفت لدى الإثيوبيين إلى درجة العجز عن وقاية الحقوق وحماية الأرواح وصون الأعراض؛ أجالوا الفكرة وأمعنوا الروية في بقاع القارة الأفريقية، فلم يجدوا أرحب صدرا ولا أخصب أرضا ولا آمن جانبا من قطرهم الحالي، كثير الجبال والكهوف والغابات؛ فقرروا الانتقال إليه شيئا فشيئا، أما العاصمة فنقلت إلى مدينة البجراوية في سنة 560 قبل الميلاد، فبعدت الأمة قليلا عن منطقة الخطر المحدق بها والذي كان يتهددها من غارات الآشوريين الذين عاقت سفنهم الشلالات، وبذلك فطمت مطامعهم وكفوا أذاهم عن الإثيوبيين الذين كان فصلهم عن مصر واختلاطهم بقبائل الزنج سببا في تلاشي ثقافتهم المصرية التي رفعت مستواهم العلمي إلى ما كانت عليه فراعنة مصر كما تدل آثارهم الآن، واشتغل الإثيوبيون بحروب متواصلة مع قبائل الزنج لإخضاعهم وتسخيرهم لخدمتهم، وهذه وسيلة من وسائل الاسترقاق.
وعندما ساد الرومانيون في مصر ومدوا رواق نفوذهم إلى مروي السفلى وجزيرة الخرطوم انتقل الإثيوبيون مرة واحدة إلى هضابهم الشامخة وساحاتهم الفسيحة، وكان ذلك في خلال القرن الرابع بعد الميلاد، فوجدوا هناك حصنا طبيعيا نسقته يد القدرة الإلهية بحالة كانت جنة لحياتهم السياسية وصيانة هيئتهم الاجتماعية منذ تلك القرون المتطاولة والعصور المتوغلة. وهنا فلنترك الماضي هنيهة ولنتساءل فنقول: ماذا يكون عندما تحدث الغارة الجوية التي تتألف من ألف طائرة إيطالية مسلحة فوق سماء الحبشة حتى تحجب ضوء الشمس لكثافتها وتصم الآذان بدوي المراجل وحفيف القوادم وقصف القنابل، وحتى تعقد بذلك إكليلا من الغازات ومواد المهلكات على قنن تلك الجبال. وهل هذا وحده كاف لإرهاب الحبشة وإرخاء أعصاب أولئك الأسد التي تزمجر في زوايا الكهوف، فتترك العرين مذعورة من هول ما أصابها حتى تسير الفيالق الإيطالية لاحتلال أديس أبابا تترنح أعطافها على نغمات الموسيقى أظن الجواب سلبيا أكثر منه إيجابيا وإن قال قائل لماذا فنقول له أن الحبشة أمة جافة الطبع قضت جل حياتها بين صلصلة السيوف وموارد الحتوف وأنها حريصة على استقلالها إلى درجة الجشع. وقد ترى بطن الأرض خيرا من طهرها عندما تفكر في سيطرة الأجنبي، وربما تلجأ إلى كهوفها وعندما يظن العدو أنه مهد بغارته الجوية طريقا مأمونا إلى الاحتلال سارت مشاته فتجد في كل عرين كمينا وفي كل خطوة داء دفينا، فيقبض هؤلاء الجفاة بحلاقيم ذلك الجند الجديد المتوغل في بلاد لا يلائمه هواؤها ولا يصلح له غذاؤها، فتكون المصارعة عنيفة والمجزرة رهيبة مخيفة، وربك أعلم بالعاقبة؛ فسبحان القائل:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .
هذا ولنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: قد اشتهر الإثيوبيون في هضابهم باسم الحبشة وما بقي منهم على شطوط النيل عرف باسم النوبة. والنب في لغتهم هو الذهب؛ أي: سكان بلاد الذهب. قال هيردوت: «وكان في إثيوبيا عين ماء تنعش أهلها،
1
ومروج مخضرة يانعة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وكان الذهب في بلادهم كثيرا جدا، حتى إنهم كانوا يستعملونه في الأشياء الدنيئة كالسلاسل التي يسحبون بها الأسرى.» ويقال إن اثنين من ملوك إثيوبيا المعاصرين لقمبيز ملك مصر هما نستاسن وحروساتف أخضعا أكثر بلاد الزنج، وقهرا كل قائم في سبيل النفوذ الإثيوبي جنوبا. (2) اكتشافات حبشية
كانت الآثار الإثيوبية
2
منذ عصورها الأولى في دثار الإهمال لم تمتد إليها يد المكتشفين سوى تلك النقوش والخطوط الهيلوغرافية القائمة على الجبال والصخور، لا يعرف السودانيون منها شيئا عدا نسبتها إلى الأعمال الكفرية القديمة غير آبهين لها إلى سنة 1236ه الموافق 1820م؛ حيث امتد نفوذ محمد علي باشا إلى ربوع السودان. ولقد أميط الأذى عن سبيل العلماء الأثريين الذين أخذوا يجوبون الصحاري والقفار منقبين عن تلك الآثار العظيمة في نبتة، وصنم، وجبلة البركل ... وغيرها بدنقلا، والبجراوية، وسوبا، وعلوي ... وغير ذلك من البلاد الواقعة على ضفاف النيل. وإليك نبذا صغيرة عن خلاصة تلك الاكتشافات؛ قال المرحوم كمال باشا: «كانت بلاد إثيوبيا مملكة شورى، فإذا أرادوا انتخاب ملك كانوا يعقدون في معبد آمون بمدينة نبتة مجلسا يجتمع فيه الكهان والنواب الذين ينتخبهم القضاة وبعض العلماء والعساكر والضباط، فإذا اجتمع المجلس دخل الإخوة الذين هم من العائلة الملكية إلى معبد آمون ووقفوا أمام هذا المعبود المشير بأصبعه إشارة اتفاق إلى الإنسان الذي تريد الكهنة انتخابه من العائلة الملكية لتوليته الملك، ومتى تم الانتخاب واستقر الرأي على واحد جعلوه ملكا عليهم وظل طول حياته تحت سلطة الكهنة، فليس له أن يشهر حربا أو يجري شيئا مهما في الحكومة إلا إذا استأذن المعبود آمون وكهانه، فإن عصا أو أراد الاستبداد قرر الكهنة قتله، فلم يكن بد من تنفيذ هذا الحكم فيه. وكما كان هذا القانون مشددا على الملك أيضا كان مشددا على الرعية، فإذا خالف أحد الرعية رأي الكهنة أو غير أقل شيء في الشعائر الدينية عدوا عمله بدعة سيئة وحكموا عليه بالقتل.
Неизвестная страница