Mas'ala al-Iman: A Foundational Study
مسألة الإيمان دراسة تأصيلية
Жанры
مسألة الإيمان
دراسة تأصيلية
تأليف
علي بن عبد العزيز بن علي الشبل
عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه والمسلمين
تقريظ
أصحاب الفضيلة
الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان
1 / 1
تقريظ بقلم
فضيلة الشيخ الدكتور
صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فقد اطلعت على الكتاب الذي ألفه الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل في موضوع حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل واعتقاد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافًا للمرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، فسهَّلوا للناس طريق المعاصي والمخالفات، وخالفوا كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه أهل السنة والجماعة، ولهذه الفرقة الضالة من يروج مذهبها اليوم من المتعالمين. فكان لا بد من بيان ضلالتهم لئلا يغتر بهم من يخفى عليه أمرهم، ويحسن الظن بهم.
فوجدته فيما كتبه الشيخ علي وفقه الله، وافيًا في الموضوع، فجزاه الله خيرًا ونفع بما كتب وبين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
كتبه
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
في ٢٢/٢/١٤٢٢هـ
1 / 2
تقريظ بقلم
فضيلة الشيخ
عبد الله بن سليمان المنيع
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه، أما بعد:فقد منَّ الله عليَّ بتكرم أخي فضيلة الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل بإطلاعي على مسودة الكتاب القيم «مسألة الإيمان» واستعراض آراء علماء العقيدة، وما حصل لمجموعة من الفرق المنتسبة للإسلام من خلل وزلل وانحراف في الاعتقاد في مسألة الإيمان، مع اختلاف بعضهم عن بعض في مقتضيات الإيمان، وأن القول الحق، والاعتقاد المتفق مع أصول الاعتقاد ودلائله وكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، أن الإيمان إقرار باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وقد استعرض فضيلة الشيخ علي أقوال هذه الفرق المنحرفة في الاعتقاد وأصل الإيمان، وردَّ عليهم ردًا شافيًا سنده في الرد كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ تمسكًا بقوله ﷺ: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنة رسوله» .
واستدلاله في رده على ما ذكره المحققون من علماء السلف قديمًا وحديثًا ومنه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب - رحمهم الله تعالى - وغيرهم من أهل العلم وسلامة الاعتقاد.
فجزى الله المؤلف خير جزاء وأتمه، وجعل هذا الكتاب من الحسنات المثقلة للميزان، وعلمًا ينتفع به مؤلفه في حياته الدنيا بالدعاء له للانتفاع به، وفي الآخرة مما يتصل به عمله بعد انقطاعه، أطال الله عمره في طاعته وخدمة دينه.
قال هذا وكتبه
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان المنيع
والله المستعان
في ١٣/٣/١٤٢٢هـ
1 / 3
تقريظ بقلم
فضيلة الشيخ
عبد الله بن محمد الغنيمان
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن قضية الإيمان من أكبر القضايا وأعظمها بل هي أعظمها إذ عليها مدار السعادة والشقاء، فمن هدي إليها، وشرح صدره بها، ورزق فهمها والعمل بها فقد سعد في الدنيا والآخرة، ومن حرمها حرم الخير كله؛ فإنه يتمتع في هذه الحياة قليلًا ثم مصيره إلى عذاب الله الذي لا ينقطع.
وهذه الرسالة للشيخ علي بن عبد العزيز الشبل وفقنا الله وإياه للخير والعمل به - فيها إيضاح مسألة الإيمان، وبيان مذهب أهل السنة فيها، وقد قرأتها فألفيتها مفيدة وجديرة بالإشاعة ليعم الانتفاع بها.
أسأل الله - تعالى - لنا ولجامعها التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
قاله
عبد الله بن محمد الغنيمان
1 / 4
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
فإن مباحث العقيدة من أهم ما يعتني به المؤمن دراسة وتفهمًا، علمًا وعملًا؛ لأن العقيدة أهم المهمات وهي أساس الديانة، وقاعدة الملة المتينة، لذا اهتمت بها كتب الله المنزلة، ورسله المرسلة إلى عباده. وعلى العقيدة شُيدت مباني الشريعة، وقامت سوق الجنة والنار.
ولهذا وغيره صار علم العقيدة والإيمان والتوحيد أشرف العلوم وأزكاها، وأعظمها أثرًا. وأضحت مسائل العقيدة المبحوثة لها هذه الأهمية، وتداعى لها ذلك الشرف، وتأكد لها عظيم القدر.
هذا وإن من جليل مباحث العقيدة المحتفى بها عند أهل السنة والجماعة- السالكين جادة منهج السلف الصالح من لدن النبي ﷺ فأصحابه الكرام ﵃، فتابعيهم، ثم من تبعهم بإحسان وعلم وهدى - مباحثُ الإيمان، المناطة بأحكام أهله دنيا وأخرى، والمُعبَّر عنها عند العلماء بمسائل الأسماء والأحكام.
وهذه المسألة بما اشتملت عليه من تضاعيف المباحث من أجل مسائل العقيدة، وأول أصول العقيدة افتراقًا في بابها قديمًا وحديثًا؛ ولذا اعتنى بها العلماء في تصانيفهم ولا سيما من أئمة السنة، فإن علماء السلف الصالح أول ما قذعوا به الجهمية من ضلالاتهم هذه المسألة: مسألة الإيمان، يدركه من طالع كتب السنة والأثر!
ولما رأيت توافر الدواعي - في زمننا- إلى توضيح هذا الموضوع وتجلية مذهب السلف الصالح: أهل السنة فيه، رأيت المشاركة بهذه الورقيات التأصيلية للمسألة: مسألة الإيمان (١) .
موصيًا - ومؤكدًا في الوصية - بلزوم كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، والتفقه بفقه السلف الصالح، ورد الإشكال إلى أهل العلم المعتبرين ليحلوه ويوضِّحوه ويبينوه كما في آيتي النحل والأنبياء: ﴿فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء:٧] .
_________
(١) والواقع أن هذا البحث هو جزء من دراسة أطروحتي العالية: «ابن الحنبلي وكتابه الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة» . مع زيادات عليه. ومحذرًا شباب السنة وفتية الإسلام من ضد ذلك، من سلوك بنيات الطريق، ومزالق الفتن، ومسالك التعالم والتجهيل، والانطراح بين يدي الله والإلحاح عليه في الحذر من ذلك كله، والثبات على دينه، والاعتصام بهدي نبيه ﷺ وصالح سلف المؤمنين، وفقنا الله لذلك آمين.
هذا وقد سميت الموضوع: «مسألة الإيمان دراسة تأصيلية» .
1 / 5
«مسألة الإيمان دراسة تأصيلية»
وقد اشتمل على عدة مطالب رئيسة هي:
١.المطلب الأول: مقدمة بأهمية المسألة.
٢.المطلب الثاني ...: مسألة تعريف الإيمان ومسماه.
٣.المطلب الثالث: الأصل الجامع للنزاع في المسألة.
٤.المطلب الرابع: بيان فساد أقوال الطوائف إجمالًا.
٥.المطلب الخامس: معنى الإيمان لغة.
٦.المطلب السادس: العلاقة بين الإسلام والإيمان.
٧.المطلب السابع: زيادة الإيمان ونقصانه، والأدلة عليه، وأسباب زيادته ونقصانه.
٨.المطلب الثامن: المخالفون في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه.
٩.المطلب التاسع: تحقيق المروي عن الإمام مالك في نقصان الإيمان.
١٠.المطلب العاشر: مسألة الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان.
١١.المطلب الحادي عشر: حقيقة الخلاف مع مرجئة الفقهاء.
١٢.المطلب الثاني عشر ...: الكفر عند أهل السنة والجماعة ومخالفيهم ويشمل: ...
... أ- مقدمة في أهمية الموضوع.
... ب- الكفر ومعناه.
... ج- قواعد مهمة في معرفة أنواع الكفر.
ولما كان موضوع البحث بهذه الأهمية، عرضته على جمع من كبار العلماء ذوي الخبرة والاختصاص:
١-سماحة مفتي عام المملكة: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
٢- فضيلة الشيخ: د. صالح بن فوزان الفوزان.
٣- فضيلة الشيخ: عبد الرحمن الناصر البراك.
٤- فضيلة الشيخ: عبد الله بن سليمان بن منيع.
٥- فضيلة الشيخ: عبد الله بن محمد الغنيمان. وغيرهم.
جزى الله الجميع من نعمائه، وعوالي جنانه، وحرمنا وإياهم سخطه وعذابه ونيرانه.
... ثم إني قد رضيت من مهرها بدعوة خاصة بظهر الغيب إن وافقت قبولًا واستحسانًا، أو صادفت كفؤًا كريمًا، أو تدبرها عاقل حصيف.
فالحق من توفيق ربي وهدايته، ولقارئه غُنمه، وعلى مُعلقه غُرمه، والله يعامله ويجازيه بالحسنى وبعد: فـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاناَ لِهَذاَ وَماَ كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَاناَ اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّناَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٤٣] .
وأسأله سبحانه أن يعلي بها الدرجات، ويمحو بها السيئات، ويبدلها لنا حسنات، ويحقق بها الزلفى لديه بالمسرات. ويلفح علينا بها النفحات، ويغفر لنا ولمشايخنا ووالدينا وإخواننا المسلمين والمسلمات، برحمة وإحسان مولانا مبدع البريات. ﴿إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِماَ يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف:١٠٠] .
والله أعلم. اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا.
... ... ... ... ... ... كتبه الفقير إلى مولاه الأجل
... ... ... ... ... ... علي بن عبد العزيز بن علي الشبل
... ... ... ... ... الرياض ١١٤١٥- ص. ب: ٦٣١٢٨
... ... ... ... ... ... ... فاكس ٢٤١٧٤٣٨
1 / 6
أهمية مسألة الإيمان
... مسألة الإيمان من مسائل العقيدة الجليلة التي وقع الاختلاف فيها، والافتراق عليها قديمًا في المسلمين؛ بل لا يبتعد إذا قيل إنها أول مسائل الاختلاف في هذه الأمة التي وقع النزاع فيها بين طوائفها، فخالف فيها المبتدعة الأمة الإسلامية!
ومن ثم ترتب عليها اختلافات أُخر في مسائل وثيقة الصلة بمسألة الإيمان.
ومسائل الإيمان يُعبِّر عنها العلماء بمسألة «الأسماء والأحكام»، بمعنى: اسم العبد في الدنيا هو هل مؤمن أو كافر أو ناقص الإيمان..؟ وحكمه في الآخرة أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، أم ممن يدخل النار ثم يخرج منها ويُخلد في الجنة؟
ولأهمية هذه المسائل ضمَّنها أهل السنة والجماعة في مباحث العقيدة الكبار (١) وقال الحافظ ابن رجب مبينًا أهمية هذه المسألة: «وهذه المسائل، أعني مسائل الإسلام والإيمان، والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدًا» .
فإن الله ﷿ علَّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار.
والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكُلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحَّلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين.
ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
وقد صنَّف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنَّف في الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم، وأبو بكر أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي، - رحمهم الله تعالى- وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف» .اهـ. (٢) .
وهكذا شأن الابتداع في الدين، فما يبتدع أحد بدعة- ولاسيما في أصول الدين وباب السنة-، إلا اتسعت اتساعهً كبيرًا شبرًا فباعًا فميلًا.. وحسبك أن تعلم ما يقابل هذا الاتساع من خفاء السنن واندراسها.
ولا يبتدع مبتدع من أهل الأهواء بدعة في هذا الباب إلا ويأتي عقبه من يبتدع بدعة تضاد بدعته وتقابلها، حتى يكون الحق عند من يجده وسطًا بن البدعتين، وهذا تلاحظه في:
_________
(١) بل قدَّمها الإمام البخاري في أول صحيحه من خلال كتاب الإيمان منه.
وقدَّمها الإمام أحمد في كتاب السنة، كما في كتاب السنة للخلال روايته عنه، فقد أضحت مسائل الإيمان والرد على المرجئة أول ما انتقده أهل السنة على الجهمية من ضلالاتهم، لاسيما هم المرجئة المحضة!
(٢) من جامع العلوم والحكم-شرح الحديث الثاني-حديث جبريل المشهور (٣٠٠) .
1 / 7
-بدعة الخوارج الوعيدية ومن تبعهم في مسائل الإيمان، ومقابلة المرجئة بطوائفها لهم ببدعتهم، والحق وسط بينهما!
-وفي باب الصفات ببدعة الممثلة المشبهة، ومقابلة المعطلة لهم.
-وفي باب القدر والإرادة بين بدعة القدرية نفاة القدر، وماقابلها من بدعة الجبرية الغلاة في إثباته.
-وفي باب الصحابة والإمامة بين بدعة الخوارج النواصب وما قابلهم من بدعة الروافض.
والحق في كل هو الوسط بين تلك البدع!
ومسائل الإيمان من ذلك، وقد اندرج تحتها عدة مسائل ومباحث بعضها يكون غرة عن بعض.
وأستعين الله بعرض بعض من مسائله المهمة، فبالله التوفيق، ومنه العون والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
مسألة تعريف الإيمان ومسماه:
وهذه المسألة هي الأساس الذي ينبني عليه الخلاف وثمراته في مسائل الإيمان.
واختُلف فيما يقع عليه اسم الإيمان، وما يُراد به اختلافًا كثيرًا (١)، أعرض هاهنا لمجمل الأقوال في المسألة التي لها شهرة، وينبني عليها فهم أهلها واعتقادهم بالمراد بالإيمان.
١ـ قول عامة أهل السنة وأهل الحديث:
... أن الإيمان إقرار باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان.
٢ـ قول الوعيدية من الخوارج والمعتزلة:
... أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، والعمل شرط في الإيمان يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه. فهم وافقوا أهل السنة في مسمى الإيمان لفظًا، وخالفوهم في حقيقته ومعناه، فجعلوا الإيمان يزول بزوال العمل مطلقًا من غير تفصيل في نوع العمل؟!
٣ـ قول المرجئة، وهم في هذه المسألة طوائف كثيرة أشهرهم:
_________
(١) ينظر في هذه الأقوال المقالات للأشعري ١/١٢٥، ١٤٩، ٢٠٤، ٢٢٣، ٣٢٩، وتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي ٢/٧٨٩ وما بعدها، والفرقان بين الحق والباطل ضمن المجموع ١٣/٤٧-٥١، والإيمان الكبير لابن تيمية ٧٢، والإيمان الأوسط له ٥٠٩-٥١١،٥٤٣-٥٥٠، وشرح الطحاوية ٤٥٩ وما بعدها.
1 / 8
أـ المرجئة المحضة وهم الجهمية ومن وافقهم من القدرية وغيرهم: والإيمان عندهم هو المعرفة بالله، والكفر الجهل به، وفساد هذا القول بيِّن ظاهر جدًا.
ب - قول جمهور الأشاعرة:
... ... بأن لإيمان هو تصديق القلب فقط.
... ... وربما جنح متكلموهم فيه إلى قول الجهمية بأنه معرفة القلب.
ج- المرجئة الكرَّامية وهو قول ابن كلاب والرقاشي؛ بأن الإيمان تصديق القلب، أما الإقرار باللسان فحسب. ومن لوازمه الباطلة اعتبار المنافقين مؤمنين؟!
د- قول الماتريدية ورواية عن أبي حنيفة: بأن الإيمان تصديق القلب، أما الإقرار باللسان فركن زائد فيه ليس بأصلي، حيث يسقط بالإكراه ونحوه.
هـ-قول مرجئة الفقهاء، هو قول الشمرية والنجارية والغيلانية من طوائف المرجئة، بأن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان.
الأصل الجامع للنزاع في المسألة:
هذا وقد استقرأ الشيخ أبو العباس ابن تيمية هذا الأصل الجامع للنزاع في الإيمان من خلال سبره لأقوال الطوائف في الإيمان وتمحيصه لحقائقها، وهو المطلع على أقوال أهل المقالات اطلاعًا لم يُعرف له نظير.
وهذه الأصول هي في الواقع قواعد قعَّدها –﵀ في مواقف تلك الطوائف من دلائل الوحي في مسألة الإيمان، وأجوبتهم عليها.
وهي:
* الأصل الأول:
قال ﵀ في الإيمان الأوسط: «وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه.
1 / 9
فلم يقولوا بذهاب بعض وبقاء بعض، كما قال النبي ﷺ: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان» .اهـ (١) .
* الأصل الثاني:
ما ضمَّنه شرحه للأصفهانية حيث قال:
«وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مُستحقًا للثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والحمد والذم. بل إما لهذا وإما لهذا، فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها..» اهـ (٢) .
وهذا هو معنى أن يجتمع في العبد: إيمان وكفر، وإسلام ونفاق، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية.. وهو الحق الذي دلت عليه نصوص الإيمان من الكتاب والسنة.
* الأصل الثالث:
ما ذكره العلماء- ﵏ من طريقة أهل البدع في تلقي النصوص والشريفة «الوحي» سواء كانوا من الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، أو من المرجئة على تنوع مراتبهم وأصنافهم، فهم لا يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد؛ بل إنهم – في استدلالهم، ينفردون فيهما بما يؤيد مذاهبهم.
أ-فالوعيدية يستدلون بنصوص الوعيد، ويهملون نصوص الوعد، أو لا يجمعونها مع نصوص الوعيد في التلقي والاستدلال.
ب-وكذلك المرجئة يعوّلون على نصوص الوعد، دون اعتبار للنصوص الواردة في الوعيد، وجمعها في التلقي والاستدلال مع نصوص الوعد. فكلاهما آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.
أما أهل السنة والجماعة فآمنوا بالكتاب كله، وعولَّوا على النصوص جميعها، فنظروا إلى نصوص الوعيد مع نصوص الوعد، فلم يضطربوا ولم يفرقوا بين المتماثلات وإنما كانوا الأمة الوسط، وأسعد الفريقين بالمذهب الحق.
* الأصل الرابع:
_________
(١) انظره في المجموع (٧/٥١٠)، وانظر ما بعده، وشرح حديث «إنما الأعمال بالنيات» في المجموع (١٨/٢٧٠، ٢٧٦)، والإيمان الكبير (٢٠٩-٢١١)، والفرقان بين الحق والباطل في المجموع ١٣/٤٨-٥٠، وشرح الأصفهانية (١٤٣-١٤٤)، والحديث مخرج في الصحيحين.
(٢) في شرح الأصفهانية (١٣٧-١٣٨)، وانظر الفرقان بين الحق والباطل (١٣-٤٨) .
1 / 10
أن الإيمان وكذا الكفر، كل منهما خصالٌ وشعبٌ عديدة، ومراتب متعددة، فمن الإيمان شعب إذا زالت زال الإيمان كله كالصدق في الحديث والحياء. وكذلك الكفر منه شعب إذا وقعت وقع الكفر الأكبر كالاستهزاء والسب لله ولدينه ولرسوله، ومنه شعب إذا وقعت لم يقع الكفر الأكبر المخرج عن الملة، كسب المسلم وقتاله والنياحة وغير ذلك، وإنما يكون مقترفها واقعًا في الكفر الأصغر، وهو الكفر العملي، وهو لا يخرج من الملة (١) .
* * *
بيان فساد أقوال الطوائف إجمالًا: ..
وهي الأقوال التي خالفت قول عامة أهل الحديث، أهل السنة والجماعة، إذ التفصيل ليس هذا مقامه، ولا لمثلي بيانه. لأنه يعتمد على عرض شبه كلٍ على حده، وتناولها بالبيان والجواب، وقد أفلح فيه الشيخ ابن تيمية في كتابيه الإيمان الكبير والأوسط، بما أظنه لو تأمله مريد الحق بعمدته لاكتفى به!
ونقد الأقوال إجمالًا يسلمني من مناهج المتكلمين في عرضهم المجرد لمقالات الطوائف دون تعقيب أو توضيح للصواب من ضده.
فأما قول الوعيدية: فقد خالف إجماع الصحابة، وخالف النصوص في الوحيين الشريفين؛ التي دلت على نفع الشفاعة لأصحاب الكبائر وإخراج الموحدين من النار، وعدم خلودهم فيها.
أ- من نحو قوله ﷺ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن أنس وجابر بن عبد الله ﵃.
_________
(١) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (١/٢٣٧)، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (٢/٥١٦-٥٢٠)، وكتاب الصلاة لابن القيم (٥٤-٦١)، والرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (٢٧/٢٩)، وأعلام السنة المنشورة للحافظ الحكمي (٧٣-٧٥) وغيرها كثير!
1 / 11
ب- وقوله ﷺ: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» متفق عليه من حديث أنس ﵁) (١) .
ج- كيف وقد وعد سبحانه أن يغفر لمن شاء ممن لم يشرك به شيئًا كما في آيتي النساء ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ماَدُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء:٤٨] .
د-وأيضا الهدي النبوي في أصحاب المعاصي والكبائر الذين اقترفوها في عهده ﷺ حيث لم يُنقل عنه ﷺ أنه أمرهم بتجديد إيمانهم أو الدخول في الدين من جديد، لو كانوا فارقوه كما يقول هؤلاء؟
هـ-أن هؤلاء محجوجون بأنه ليس أحد إلا ويخطئ أو يترك أمرًا واجبًا عليه من أوامر الدين ونواهيه، فيلزم على قولهم أنه لم يبق على الإيمان أحد.
لأن الإيمان بهذا القيد عندهم، وهو كل لا يتجزأ ليس إلا الإيمان المطلق؟ ومن يدعيه؟!
وقول المرجئة المحضة بيِّنُ الفسادِ، لما يلزمه من اللوازم القبيحة الباطلة:
أ- فإن أبا لهب وأبا جهل يعرفان ربهما ويوحِّدانه في الربوبية ولا يجهلانه ومع هذا فهما من أهل النار ولا شك.
وكذا عامة من لم يؤمن بالرسول الله ﷺ من أهل الكتاب والمجوس ونحوهم.
ب- أن أبا طالب عم النبي ﷺ شهد بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا وكان عارفًا بربه، غير جاهل به، وهو كافر من أهل النار. وكذا أبوه عبد المطلب!
_________
(١) الأحاديث التي أغفل تخريجها هنا يعني أنه سيأتي تخريجها في التعليق على الكتاب المحقق «الرسالة الواضحة» بحول ربي وقوته.
1 / 12
ج- ومن لوازم قولهم الفاسد أن فرعون الجاحد لربوبية الله ظاهرًا مؤمن كامل الإيمان لأنه عارف بالله في قلبه غير جاهل به، لقول أصدق القائلين سبحانه في آخر سورة الإسراء ﴿قاَلَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَضَآئَّرَ وَإِنِّى لأَظَنُّكَ يَا فِرْعَوْنَ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء:١٠٢]، وقوله في أول سورة النمل ﴿وَجَحَدُوا بِهاَ وَاسْتَيْقَنَتْها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًاّ فَانظُرْ كَيْفَ كاَنَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل:١٤] .
د- كما أن من أقبح لوازمه أن إبليس – أعاذنا الله منه- عند هؤلاء الجهمية مؤمن بالله، لأنه عارف له بقلبه غير جاهل به.
هـ- ومن لوازم قولهم أنه لا يكفر إلا الجاهل بربه، والحقيقة أنه لا أجهل من جهم وأضرابه بربهم حيث جعل لله الوجود المطلق، وعطَّله من جميع الصفات، ومن كان كذلك فلا يعرف إلا في الذهن فقط ولا وجود له في الخارج.
فمن أجهل بربه منه؟ سبحان الله وتعالى عما يصفون!
٣- من لوازم بطلان مذهب الكرَّامية وأضرابهم بأن الإيمان هو النطق باللسان فقط!
أ- فإن المنافقين الذين كفَّرهم الله وكذَّبهم وجعلهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. فقال تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّ المْناَفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا ً﴾ [النساء:١٤٥] .
وفي أول سورة المنافقون: ﴿إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ١-٣] .
1 / 13
وكذا كل من أبطن في قلبه كفرًا أو ناقضًا من نواقض الدين يكون عندهم مؤمنًا مادام مُقرًا بلسانه (١) .
ب- بل من جمع بين الكفر الاعتقادي والعملي أو النفاق الاعتقادي والعملي أو كلها يكون مؤمنًا ما بقي مقرًا بالإيمان باللسان!
ج- كما يلزم من ذلك- عندهم- أن من لا يستطيع النطق بلسانه لخرس أو عجز من خوف أو نحوه لا يكون مؤمنًا ولو كان قلبه وعمله مطمئنًا بالإيمان.
د- مناقضة هذا القول لقوله تعالى في آخر النحل: ﴿مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ ولَهُمْ عَذاَبٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُم اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْياَ عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهًُمْ فِى الأَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [النحل: ١٠٦-١٠٩] .
٤- قول جمهور الأشاعرة والماتريدين ونحوهم بأن الإيمان هو تصديق القلب) قول فاسد؛ لعدة اعتبارات منها:
_________
(١) فإن المرجئة سلَّموا أن المكذب في الباطن، المصدق في الظاهر مؤمن، لكنه مُعذب مخلد في النار، فنازعوا في اسمه لا في حكمه، ومن حكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة فهو غلط عليهم، ومع هذا فتسميتهم له مؤمنًا بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم. ذكره أبو العباس ابن تيمية في الإيمان الأوسط (٧/٤٧٥-٤٧٦) .
1 / 14
أ-ما ورد تسميته إيمان من الأعمال والأقوال في النصوص الشرعية، كقوله تعالى في سورة السجدة: ﴿إِنَّماَ يُؤْمِنُ بِئَايَتِناَ الَّذِّينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: ١٥] .
وفي سورة الحجرات: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونُ الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدَوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفًسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّدِقُونَ﴾ [الحجرات:١٥] .
وقوله عن المؤمنين والمنافقين في التوبة: ﴿لاَ يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٤-٤٥] .
ولما رواه مسلم عن النبي ﷺ أنه قال «من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا» (١) .
فنصَّ على أن الإتيان بهذه الأعمال من الإيمان، ويُعلم أن تركها نقص في الإيمان ونفيٌّ لكماله الواجب، وصاحبها مستحق للبراءة منه (٢) . مع وجود التصديق عندهما في قلبيهما.
_________
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان- باب قوله ﷺ: (من غشنا فليس منا» (١٠١) .
(٢) ولذا فإن أضبط حدٍّ للكبيرة: أنها كل ذنب تُوعِّد عليه بالحدِّ في الدنيا والغضب أو اللعنة أو النار، أو البراءة من صاحبه، أو نفي الإيمان عنه. كما اختاره المحققون.
1 / 15
كما روى مسلم أيضًا في حديث أنواع المجاهدة أن النبي ﷺ قال: «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» . فسمَّى النبي ﷺ عمل القلب واللسان والجوارح إيمانًا.
ب-يلزم عليه أن كل من لم ينطق بالشهادتين وهو مَصَّدق بقلبه بصدق الرسول وصحة دينه فهو مؤمن: كأبي طالب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ... مع الاتفاق على كفرهم، وأنهم من أهل النار خالدين فيها.
ج-كما يلزم عليه من الباطل أن من صدَّق بقلبه بالله ورسله.. ثم لم يصلِّ، ولم يصم، ولم يحج، أو لم يزكِّ سواءً جاحدًا أو متعمدًا من غير جحود.. أنه المؤمن الكامل؛ لبقاء التصديق بقلبه.
د-وكذلك يلزم عليه أن من صدق بقلبه ثم أتى ناقضًا من نواقض الإسلام من السحر أو الشرك أو الاستهزاء بالدين.. أنه مؤمن، لبقاء أصل التصديق بالله في قلبه وهذه من أفسد اللوازم على قولهم.
٥- أما قول مرجئة الفقهاء وأمثالهم فيستدل عليهم بفساد قولهم:
أ-بالأدلة الدالة على دخول الأعمال في الإيمان وهي كثيرة جدًا مضى طرف منها.
ب-يلزم عليه أيضاَ أن من ترك فرضًا أو واجبًا في الدين من الأعمال أنه لا يخرج عن الإيمان، كمن امتنع عن الزكاة عمدًا، وهو ما أجمع الصحابة ﵃ على قتالهم، كما فعلوا مع المرتدين من العرب. وهم عند هؤلاء معهم التصديق والإقرار؟!
ج-كذلك من أقرَّ بلسانه وصدَّق بقلبه، لكن فعل ناقضًا كذبح لغير الله، أو سجود أو سحر، أنه مؤمن ليس بكافر؟
د-كذلك يُردُّ عليهم بالنصوص التي نفت الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر – وهي النصوص التي يستدل بها الوعيدية على خروج هؤلاء من الإيمان مثل:
1 / 16
قوله ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف فيرفع الناس إليه فيها بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» الحديث متفق عليه عن أبي هريرة (١) ﵁.
وأمثاله من نصوص نفي الإيمان «الكامل» عن بعض الأعمال من الكبائر كالغلول، وامتهان الجار، وإهانة الكبير..
... هـ-ثبوت التصديق للجوارح في قوله ﷺ: «إن الله كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدركٌ ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويَصَّدق ذلك الفرج ويكذبه» متفق عليه من حديث أبي هريرة وهذا لفظ مسلم (٢) .
معنى الإيمان لغة:
ذهب كثير من المتكلمين وغيرهم؛ بل هو العُمدة عند جماهير المرجئة أن الإيمان في مفهوم اللغة العربية هو مجرد التصديق، استدلالًا بقوله تعالى في أول سورة يوسف: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّناَ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف:١٧] .
* الصواب: أن معنى الإيمان في اللغة ليس مرادفًا للتصديق، بل التصديق وزيادة، من الإقرار والإذعان والتسليم ونحوها، لعدة اعتبارات.
أن معنى الآية في الحقيقة: ما أنت بمُقرٌّ لنا ولا تطمئن إلى قولنا ولا تثق به ولا تتأكد منه ولو كناَّ صادقين، فإنهم لو كانوا كذلك فصدقهم، لكنه لم يتأكد ولم يطمئن إلى قولهم. وهذه بلاغة في اللغة.
_________
(١) رواه البخاري موصولًا في كتاب المظالم – باب النهي بغير إذن صاحبه (٢٤٧٥)، ومسلم في كتاب الإيمان (٧٥) .
(٢) رواه البخاري موصولًا في مواضع منها الاستئذان – باب زنا الجوارح دون الفرج (٦٣٤٣)، ومسلم في كتاب القدر – باب قُدِّر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره (٢٦٧٥) .
1 / 17
أن لفظة الإيمان يقابلها الكفر، وهو ليس التكذيب فقط بل قدر زائد عليه، وإنما الكذب يقابل لفظة التصديق.
فلما كان الكفر في اللغة ليس مقصورًا على التكذيب، فكذلك ما يقابل الكفر وهو الإيمان لا يقابل التصديق، وليس مقصورًا عليه.
أن لفظ الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار المشاهدة وغيرها، وإنما يُستعمل في الأمور الغائبة مما يدخلها الريب والشك، فإذا أقر بها المستمع قيل آمن، بخلاف التصديق، فإنه يتناول الإخبار عن الغائب والشاهد، وإخوة يوسف أخبروا أباهم عن غائب غير مشاهد فصح أن الإيمان أخص من التصديق.
أن لفظ الإيمان تكرر في الكتاب والسنة كثيرًاَ جدًا، وهو أصل الدين الذي لا بد لكل مسلم من معرفته، فلابد أن يؤخذ معناه من جميع موارده التي ورد فيها في الوحيين لا من آية واحدة؛ الاحتمالُ مُتطرق إلى دلالتها!
أن الإيمان مخالف للتصديق في الاستعمال اللغوي وفي المعنى:
فأما اللغة فقد مضت في الجواب الثالث؛ فالاستعمال اللغوي للإيمان يُتعدى فيه إلى المُخبِر باللام وإلى المُخبَر عنه بالباء كقوله تعالى: ﴿فَئَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ .
أما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن وهو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قرَّ يَقُر، وهو قريب من آمن يأمن.
وأما الصدق فهو عدم الكذب، ولا يلزم أن يوافقه طمأنينة إلا إذا كان المُخبر الصادق يُطمئن إلى خبره وحاله.
1 / 18
أن لفظ الإيمان يتعدى إلى غيره باللام دائمًا نحو قوله تعالى: ﴿فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت:٢٦]، وقول فرعون في الشعراء: ﴿ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾ [الشعراء:٤٩﴾، وقوله تعالى في يونس: ﴿فَمَآءَامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ [يونس:٨٣]، وقوله: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ [المؤمنون:٤٧] . وقوله: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء:١١١]، وآيات عديدة. أما لفظ التصديق وصدق ليصدق فإنه يتعدى بنفسه نحو: قوله تعالى في الصافات: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِناَّ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَْ﴾ [الصافات:١٠٥] . وفي أولها: ﴿بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات:٣٧] . وفي سورة الزمر: ﴿وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر:٧٤] فكلها بمقابل الكذب.
لو فرضنا أن معنى الإيمان لغة التصديق، لوجب أن لا يختص بالقلب فقط بل يكون تصديقًا باللسان، وتصديقًا بالجوارح كما في حديث أبي هريرة ﵁ السابق «العينان تزنيان..» الحديث.
كذلك لو قلنا: إن الإيمان أصله التصديق، فإنه تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والصوم إمساك مخصوص يتبيَّن بالمعنى الشرعي حيث يكون للتصديق لوازم شرعية دخلت في مسماه (١) .
* * *
العلاقة بين الإسلام والإيمان:
أي هل الإسلام هو الإيمان؟ وهل الإيمان هو الإسلام؟ أو غيره. فهذا مما افترقت فيه الطوائف، كافتراقهم في مسمى الإيمان.
_________
(١) هذه الأوجه وغيرها بسطها أبو العباس ابن تيمية في مواضع من كتبه: في الإيمان الأوسط (٧/٥٢٩-٥٣٦)، وشرك الأصفهانية (١٤٢-١٤٣)، والمجموع (١٠/٢٦٩-٢٧٦)، والإيمان الكبير (١٢٦-١٣٤، ٢٧٤-٢٨١) .
1 / 19
فقالت الوعيدية: إن الإسلام هو الإيمان والعكس صحيح (١) .
وقيل: الإسلام هو الكلمة أي كلمة التوحيد بالشهادتين. والإيمان هو العمل.
وهذان القولان لهما وجه صحيح يتضح عند التحقيق في معناهما.
وذهب الأشاعرة إلى أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، بأن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا (٢) .
وهذا القول فيه حق وباطل يتضح إن شاء الله.
والقول الصواب الذي عليه أهل التحقيق القول بالتفصيل، وهو إجمالًا: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا.
ومعناه:
* أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في نص واحد من كتاب أو سنة فإن لكل واحد منهما معنىّ يختص به.
فالإسلام: الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان والصلاة..
والإيمان: الأعمال الباطنة من الاعتقادات كالتوكل والخوف والمحبة والرغبة والرهبة... وغيرها.
وقد دل على هذا دلائل كثيرة منها اكتفاءً واختصارًا:
قوله تعالي في سورة الحجرات: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قَولَوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِىقُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات:١٤] فاجتمعا في نص واحد، ونفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام؛ فدل على افتراقهما أنهم مسلمون لكن لم يبلغوا أن يكونوا مؤمنين.
-وحديث جبريل ﵇ المشهور وفيه ذَكَر الإسلامَ: بالأركان الخمسة، والإيمان: بالأصول الستة.
فإنهما اجتمعا في نص واحد، أجاب النبي ﷺ لكلٍ بمعنى غير الآخر؛ فدل على افتراقهما.
_________
(١) كما في الإيمان الكبير (٢٢٩،١٣٤٦)، وجامع العلوم لابن رجب (٢٦) وما بعدها وهو لازم قولهم في مسمى الإيمان عند التأمل! وهو لازم قول الكرامية والمرجئة المحضة..!
(٢) وهو قول أبي بكر الباقلاني نقله عنه بلفظه شيخ الإسلام في الإيمان الكبير (١٤٧) وما بعدها وقال قبله: «فصل: قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين كالقاضي أبي بكر وهذا لفظه..» اهـ، فذكره.
1 / 20