بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإِشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ
ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"
المؤلف: الإمام الحافظ المفسر المؤرخ / برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي (المتوفى ٨٨٥ هـ)
دار النشر: مكتبة المعارف - الرياض
الطبعة الأولى: ١٤٠٨ هـ - ١٩٨٧ م
عدد الأجزاء: ٣
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 95
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
(وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم)
الحمد للهِ الذي أعلم سور الكتاب، بما دل على مقاصدها أولو
الألباب ودل بمقاصدها على تناسب جميع أجزائها من الطلاب، من خاض
فنون العلوم وفتح عن كنوزها الأغلاق والأبواب.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الكريم الفتاح، العلي الوهاب، وأشهد أن
سيدنا محمدًا عبده الأواب، ورسوله الذي بين للناس ما نزل إليهم من غير
شك ولا ارتياب، ونصب لهم على ذلك دلائل الصواب، فلم يدع لبسًا ولا
غرب عنه معنى ولا غاب، وحمل ذلك عنه أنجاب الأصحاب، فأدوه إلى
من رغب فيه من جميع الأحزاب، من شيخ، أو كهل أو يافع أو شاب،
1 / 97
تتميمًا للأسباب وتعميمًا للدعاء المجاب، فكان من تلك الطبقات، من صدق
قوله ﷺ (الجامع)، "رب مبلغ أوعى من سامع " فبين من دقائق المعاني، وجلائل المباني، ما أربى به على من تقدمه، فأجمل وأحسن وأطاب.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأنجاب، خير آل وأكرم أصحاب
وسلم تسليمًا يملأ السهول (والجبال) والشعاب، ويسهل الصعاب ويطيب
المبدأ ويكرم المآب، ما جلَل وجه السماء سحاب، أو انجلى عن أرجائها
البديعة وانجاب.
وبعد: فهذا كتاب، سميته: "مصاعد النظر، للِإشراف على مقاصد
السور". ويصلح أن يسمى: "المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل
سورة للمسمى".
اصطنعته وغيره من مصنفاتي، واخترعته وما سواه من مبتدعاتي، رغبة
فيما ندب الله سبحانه إليه من قوله تعالى: (ربنا هب لنا من أزواجنا
وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا)، وحث عليه رسولهيسمى: "المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل
سورة للمسمى في عدة نشر العلم، فيما يدوم ثوابه، فيسعد به أصحابه.
روى البزار، وأبو نعيم في الحلية - وذكره صاحب
1 / 98
الفردوس - عن أنس بن مالك ﵁، أن النبي ﷺ قالَ: سبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره، من علَّم علمًا، أو أجرى نهرأ، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدًا أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته.
وقد روى هذا الحديث ابن ماجة في "فصل العلماء" أول سننه، وابن
خزيمة في صحيحه، من حديث أبي هريرة ﵁ بلفظ:
1 / 99
""إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا نشره.
وولدًا صالحًا تركه، ومصحفا ورثه، ومسجدًا بناه، وبيتًا لابن السبيل بناه.
ونهرًا أجراه وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته".
وقد نظمت ما اجتمع من الروايتين من الخصال، وهي عشرة إلا
واحدة فقلت: *. -
للعبد يجري الأجر في تسع كما قال النبي المصطفي
إجراء نهر، حفر بئر، غرس نخل نشر علم، والتصدق في الشفا
وبناء بيت لابن السبيل ومسجد وبتركه ابنا صالحًا، أو مصحفًا
(قال المنذري: ولم يذكر ابن خزيمة فيه المصحف، فقال: أو نهر أكراه.
يعني أجراه، أو حفره.
وأصل حديث أبي هريرة ﵁ في الوصايا من صحيح مسلم.
وسنن أبي داود والنَّسائي، والأحكام من الترمذي وقال: حسن صحيح
ولفظه:
1 / 100
"إذا مات الِإنسان، انقطع عمله، إلا من ثلاث: إلا من صدقة
جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "
فلذا رأيت (أن أستودع ما وهبني الله من العلم بطون الدفاتر
وأستوضح ما منحني سبحانه من الفهم صدور أولى البصائر، فوضعت هذا
الكتاب، الحال من ذروة الصواب، وقمة الحق أعلى جناب، جعله الله
موضع الصواب، وموقع الأجر والِإرغاب، إنه الواسع الكريم الوهاب.
وذلك أنه لما منَّ الله - وله الحمد - علي بصوغي لكتاب "المناسبات بين
السور والآيات " بل الجمل والكلمات، الذي لم تسمح الأعصار بمثله حقيقة
غير غلو، ولا نسج ناسج على منواله وشكله، إخبارا بالحق من غير فخر ولا علو، فإنه أخرج من كتاب الله تعالى خفايا أسرار ما ظفر بها أحد، وأبدى غرائب أنوار ما عثر على بارق منها ولا وجد، وأجرى سوانح أنهار ما صدر
1 / 101
عن عذب ينابيعها ولا ورد، كان قلبي فيه مددا طوالًا أسير الواردات، وسمير الخفايا الشاردات، بينت فيه سرائر آيات، ما بيّن أحد ظاهر تفسيرها وأبديت أسرار سور ما كشف أحد خفي ضميرها، وعليّ عند المحاققة البيان
وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي
فليست - لعمرو الله - النائحة الثكلى. مثل النائحة المستأجرة.
أرد فيه على أهل كل باطل وعناد، بما في كتبهم ولهم فيه اعتقاد، مع بيان ما فيه من غث أو سمين، أو مزلزل أو مكين، ركبت إلى بيدائه وفسيح أرجائه وفنائه مطايا ليال حالفت فيها السهاد، وخالفت وطىء المهاد، وشهي الاضطجاع
والرقاد، أدرس مسائل العلوم، وأسرد وسائل الفنون والرسوم، وأمنع جلائل الهموم، وأمعن النظر في دقائق الفهوم، وأبعد أماني الغرور وأعبد الرب الغفور، وأنفي وساوس الصدور، وأتقي دسائس اللذاذة والسرور.
أترقى مما عندي إلى غيره، وأتقوى أشكاله، فأزيل إشكاله، وأسيّره
بسيره..
ولم يزل ذلك دأبي واختياري لذلك، ودأب الله لي باضطراري إلى
طريقة السالك، حتى انجاب عن قلبي ديجور الشكوك، وامتلأ من نور
المعارف والسلوك، ففاضت علي جواهر المعاني، وأقبلت إليّ باختصاصها وجوه التهاني، فقذفت إلى صدري أمواج الأسرار صافية عن زبد، وعطفت إلى فكري أمواج الأنوار، خالية عن نكد رأى أهل العصر، أنه أمر يفوت
غالب القوى، ويقف دون عليائه ألباب العقلاء، فإني مهدت لكل جملة مهادًا
يدل على الحال الذي اقتضى حلولها بمحلها، وأوجب ترتبها على ما قبلها من شكلها، وما أوجب تأكيدها، أو أعراها وتقييدها، ونحو ذلك من أفانين
1 / 102
الكلام، وأساليب النظام، فأثنى عليه المصنفون، منهم العالمون أولو السجايا
الطاهرة، والمزايا الباهرة الزاهرة المتقون، وصوب إليه بالطعن الحاسدون
وبالازدراء والثلب الناقصون.
نعم. ولقد انتدب لهذا الكتاب البديع، والديوان العلي الرفيع أقوام
من الأغبياء، والأساة القساة الأعتياء، لا يفهمون معانيه ولا يدركون قواعده ومبانيه، ذكروا أنهم ظفروا فيه بما لا يليق فأخذوا يشنعون عليه، ويصوبون بالطعن إليه، وقسموا فيه الأقوال، وفرقوا وجوه الانتحال، ولم يذكروا شيئًا من محاسنه المحققة، ومعاليه العجبة المونقة، التي هي بالنسبة إلى ما رأوا وأثبتوا له النقص على ما ادعوا، كالبحر بالنسبة إلى صغير القطر.
فكانوا كما قال النبي ﷺ فيما أخرجه أبو داود الطيالسي وابن ماجة في الزهد من سننه، وأحمد بن منيع وأبو الشيخ ابن حبان في كتاب الأمثال عن أبي هريرة ﵁: مثل الذي يجلس فيسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشر ما يسمع، كمثل رجل أتى راعيًا، فقال: يا راعي أجزرني شاة من غنمك، فقال له: اذهب فخذ بأذني خير شاة فذهب فأخذ كلب المغنم.
وكالذين يتبعون المتشابه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله.
على أن من الأمر المشهور الذي لم يخف على أحد أن الإِمام مالكًا
1 / 103
﵀ قال: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر.
يعني: النبي ﷺ.
وقال الِإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - صنَفتُ هذه الكتب، وما آلوت
فيها جُهدًا، وإني لأعلم أن فيها الخطأ، لأن الله يقول: "ولو كان من عند
غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا".
فكلام هذين الإمامين يدل على أن وجود الخطأ للمُصَنف، لا يوجب
ترك تصنيفه، ولا الغض عنه، لا سيما إن كان مشهورًا بالدين، غير مغموص عليه ولا مرتاب فيه.
اللهم إلا أن يكون الأمر الذي (فيه) أخْذٌ عليه أمرًا محققًا لا جواب
عنه ويعرف به ولا يرجع عنه، ولا يحتج له بشيء يقبل، وقل أن يرى
مصنِّف إلا وهو يقول:
وإن تجد عيبًا فسدا لخللا. . . فجل من لا عيب فيه وعلا
أو معنى ذلك.
وبعضهم يأذن في إصلاح الخطأ من كتابه للعالم المتحري، بعد التوقف
والتثبت.
وأنا لم أدَّع العصمة فيما قلت، وما تركت أحدًا ممن يلم بي، إلا قلت
له: المراد: الوقوف على الحق من معاني كتاب الله تعالى، والمساعدة على ما
ينفع أهل الإسلام، فمن وجد لي خطأ، فليخبرني به لأصلحه.
ووالله الذي جلَّت قدرته، وتعالت عظمته، لو أن لي سعة تقوم بما
1 / 104
أريد لكنت أبذل مالًا لمن ينبهني على خطأي، فكلما نبهني أحد على خطأ.
أعطيته دينارًا.
ولقد نبهني غير واحد على أشياء (فيه) فأصلحتها، وكنت أدعو لهم.
وأثني عليهم، وأقول لهم هذا الكلام، ترغيبًا في المعاودة إلى الانتقاد.
والاجتهاد في الِإسعاف بذلك والِإسعاد.
فكان طريق هؤلاء - لو أن كلامهم كان عن بصيرة، وكان للهِ بقصد
النصيحة - أن يأتوا إليَّ، أو يرسلوا، لينظروا ما عندي في ذلك الذي
ذكروه هل أبدي لهم، أو لذكرى إياه معنى صحيحًا، أو اعترف بالخطا، فإن أصلحته كنا قد تعاونًا على البر والتقوى، وإن أبقيته، وجب الطعن حينئذ على حسب ما يستحقه ذلك المعنى.
وحيث لم يفعلوا ذلك، كان طعنهم، إما عن جهل، لأن من
جهل شيئًا عاداه:
وكم من عائب معنى صحيحًا. . . وآفته من الفهم السقيم
وإما عن حسد لمن لا يحاسدهم، فصنيعهم صنيع من يريد التشنيع
على رجل مسلم، مقبل على ما يعنيه، تارك لما لا يعنيه، منقطع إلى الله تعالى
في بيت من بيوته، يتلو كتابه، ويقيم الصلاة، وينفق مما رزقه الله سرًا
وعلانية، وقد قنع بما آتاه الله، ما زاحم أحدًا منهم قط على دنيا، ولا ألحَّ
على أحد في سؤال ولا تصدى لعلو في الأرض، وأحواله في ذلك معروفة من
أربعين سنة فأكثر والشباب مقبل، والزمان غض، والأمل فسيح، وليس لهم
وجه في الكلام (فيمن) هذا حله، إلا تصديق قول النبي ﷺ، الذي رواه
1 / 105
الطبراني في الأوسط، عن أنس ﵁: "لو كان المؤمن في جحر
ضب، لقيض الله له من يؤذيه.
ومالي (من) ذنب عندهم، إلا اعتزالي عنهم، وعدم مشاحنتهم في
دنياهمْ ورضائي بما قسم الله، ومحبتي لإِظهار الفائدة فيهم، وشمول الفضل
لهم.
فما أجدرهم بما أجاب به ابن عباس ﵄ بعض من صنع به
هذا الصنيع.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "فضائل القرآن " حدثنا
1 / 106
يزيد - يعني ابن هارون - عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة
قال: شتم رجل ابن عباس ﵄، فقال له ﵁، أما
إنك تشتمني وفيَّ ثلاث خصال إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل
فأفرح، وعلى لا أقاضي إليه أبدًا وإني لأسمع بالغيث يصيب البلد من بلدان
المسلمين فأفرح، ومالي به من سائمة وإني لآتي الآية من كتاب الله، فأود أن
الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.
وهو عند البيهقي - أيضًا - من هذا الوجه.
ولا ريب عند من له أدق إنصاف (أن) من شنَّع على من هذا
حالُه، فقد عرض نفسه للمقت من الله، واللعن والدعاء بالهلاك من خُلَّص
عباد الله، على مدى الأعصار، في كل ارتحال وقرار، وصار ممن قال فيه
الِإمام الرباني، أبو الحسن الحرالي، في تفسيره، عند قوله تعالى:
1 / 107
(ومن يبدل نعمة الله)، قال: وأصل هذا التبديل: رد علم العالم عليه، ورد
صلاح الصالح إليه، وعدم الاقتداء بعلم العالم وصلاح الصالح، وذلك
هوالمتاركة التي تقع بين العامة، وبين العلماء والصالحين، وهو كفر نعمة الله
وتبديلها.
(من بعدما جاءته) .
في ضمنه إشعار باعتبار أمر الأمة، " بمبتدأ أمرها من أيام النبوة، وأيام
الخلافة، وسير الخلفاء الذين هم عقد أزِمَّة رسول الله ﷺ، وحجته على أمته.
وأئمة الأزمان، القائمين بأمر الله، الظاهرين على الحق إلى يوم القيامة.
(فإن الله شديد العقاب) .
في إشعاره منال عقاب يقع بهم في الدنيا كفارة، وتأخير عقاب يقع
بطائفة منهم في الآخرة، انتهى.
والعجب منهم في أنهم أشد الناس خوفًا ونكوصًا، وكَفا عمن يتهددهم
بأن يصيبهم بعذاب، أو يمسهم بعقاب، من كل مكشوف العورة، أو مرتكب لبعض المناكير المشهورة، وهم يرون من يؤذيني يذهبون واحدًا بعد واحد، على هيئات منكرة وصفات مستعظمة مستكبرة، وهم بذلك لا يعتبرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد قلت في حالي وحالهم، واعظًا لنفسي، حذار من حلول
رمسي، وهو من الطويل الأول، مطلق مرادف.
1 / 108
لسانَك عوّد "ذكر ربك لا تكن. . . بذي غفلة عنه - فديت - ولا لاغي
وإن سدد الأعداء إليك سهامهم. . . فإن نبال العدل تحمي من الباغي
فلا تخشى من كيد إذاكنت ذا تقي. . . فربك أخاذ لكل امرىء طاغي
على أن حالهم في تشنيعهم ظاهر، فإنه لو كان لهم علم، أو كان
كلامهم لله لبدأوا بما في مشاهير التفاسير، التي يتغالى فيها المفاليس منهم
والمياسير، من البلايا التي تعم الآذان، وتخرس ذَرِبَ اللسان، فنبهوا عليه.
وحذروا منه، وأزالوه من تلك التفاسير، بطريق من الطرق.
وذلك في تفسير قصة يوسف وداود، ﵉، وسورة الحاج.
والنجم في قوله تعالى: (إلا إذا تَمَنًى ألقى الشيطان في أمنئته)، وقوله:
(أفرأيتم اللات والعُزى) .
وفي "الكشاف " من التصريح بخلق أفعال العباد، وذم أهل السنة
بمخالفة ذلك في نسبة الأمور كلها إلى الله، وجعلهم مبتدعة، وهجوهم
بالأشعار، وعدهم حمرًا موكفة.
وفيه في آخر الزخرف عند قوله: "فأنا أول العابدين) .
1 / 109
وفي سورة براءة عند: "عفا الله عنك لم أذِنْتَ لهم ".
إلى غير ذلك مما أعمى الله أبصارهم، بل بصائرهم، حين تركوا
الكلام فيه وفي أمثاله، كسيرة البكري، التي لم تزل على غالب الأزمان تقرأ
1 / 110
في جامع الأزهر جهارًا، مع أن إجماع أهل النقل مُعْتَقَد على أنها مكذوبة
على رسول الله ﷺ، ولا يجد قارئها من يزجره، ولا ينهاه ولا يأمره، وصوبوا إلى
كتابي الطعن بمجرد الظن، بل الوهم، من غير تحرير ولا فهم، وما ذاك إلا
داء عضال، سكن قلوبهم، فصارت كالحجارة قسوة والجبال.
وأما كتب أصول الدين، وكتب الملل والنحل، فملآنة من نقل
المذاهب الباطلة والَأقوال الزائفة المائلة.
وكان مما قال بعضهم: إن هذا الكتاب لا يحل إبقاؤه بين الناس، لأنه
قسمان:
أحدهما: نقل الكتب القديمة، وهي قد بدلت، فلا يحل نقلها.
والثاني: كلام من عنده، لا سلف له فيه، فهو كلام في القرآن
1 / 111
بالرأي، لا يحل، وهذا عناد منهم من الألد الفاضل، وتقليد من الشرير
الجاهل، ونحو هذا الكلام الذي لا يقوله من في قلبه رائحة من الدين، ولا
المروءة، وقد قال الله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته
وليتذكروا أولوا الألباب)، (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب)، (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم
صادقين) .
وقال ﷺ فيما صح عنه من رواية الشيخين وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو ﵄: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ".
فعند ذلك عرضت الكتاب على قضاة القضاة وغيرهم، من علماء
1 / 112
من تقاريظ العلماء
تقريظ شرف الدين المناوي
فكتب عليه قاضي القضاة، شيخ الإسلام شرف الدين، يحيى بن
محمد المناوي الشافعي. أعلى الله درجته، ورفع منزلته، ومات ﵀
قبل فتنة ابن الفارض بعد الخطبة:
وبعد: فقد وقفت من هذا التأليف الحسن المستجاد، على ما أعرب
عن أن مؤلفه إمام علامة، في فنون العلم، فإنه قد أحسن وأجاد، وأظهر من
مجموع حسن، مجموعًا حسنًا، في غاية من الصواب، ولا يقال: قد استوضح في بعض المناسبات بما جاء في التوراة والإنجيل، لأنه اقتدى في ذلك بأئمة الإسلام، أهل الأصول والتأصيل، كالسيد عبد الله بن عمر ﵄ في صفة سيد الأنام، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وبعده الأئمة
الأعلام، فتعين القول بالجواز، على من اتضح ذلك لديه، ولا منع على من
اشتبه ذلك عليه.
فحق لهذا التأليف أن يُتلقى بالقبول، ولا يُصغَى لقول حاسد فيه
1 / 113
ولا عذول، والله تعالى يبقى مؤلفه منهلا للواردين، ويديم النفع به، وبعلومه
للمسلمين. في تاسع عشر شعبان، عام ثمانية وستين وثمانمائة.
تقريظ ابن الشحنة
وكتب قاضي القضاة شيخ الإِسلام، محب الدين، محمد بن قاضي
القضاة، شيخ الإِسلام، محب الدين، محمد بن الشحنة، الحلبي الحنفي.
وثبت على نصر السنة في فتنة أهل الاتحاد، فأيد الله به الدين، أسبغ الله
ظلاله، وزكَّى أعماله مشيرًا إلى أسماء الكتاب الثلاثة: (نظم الدرر من
تناسب الآي والسور، وفتح الرحمن في تناسب أجزاء آي القرآن، أو ترجمان
القرآن ومبدي مناسبات الفرقان:
الحمد للهِ ذي الحكم المتناسبة الدرر والنعم المتراكبة الدرر، نحمده
على ما فتح من الفيض الرحماني، ونشكره على ما أبدى من التناسب الترجماني ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة حق محققة الإِيمان، وقول صدق جاء به الدليل والبرهان، وشهادة عبد أخلص للهِ نيته ما استطاع، وأصفى طويته، فكشف له عن مخبات الخدود والقناع، ونشهد أن سيد البشر (محمدًا) عبده ورسوله، الذي شرف به الأقطار والبقاع، وخصه بنهاية الأوج، وغاية الارتفاع.
صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الحائزين قصب السباق، بعزيز
حديثه وكريم صحبته، وسلم تسليمًا كثيرًا.
1 / 114
أما بعد: فقد وقف العبد الفقير، الضعيف الحقير، على هذا المصنف
العديم النظير، المشتمل من الورد الصافي على العذب النمير، فوجد مؤلفه قد حلى فيه من أبكار أفكاره المقصورات في الخيام، على الأكفاء الكرام، من ذوي العقول والأفهام، كل خريدة بعيدة المرام، على من قعد عن طلب
المعالي ونام، وسلك مسلكًا قل من سلكه من الفحول قبله، وبحث بصائر
فكرهَ، عن تحرير ما أورده ونقله واستدل بقوة علمه، وجودة فهمه، بأدلة
برهانُها قاطع، وضياؤها ساطع، مقتديًا بما وقع في الكتاب المبين، من قوله
تعالى: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) .
ولا ريب أن الاستدلال بغير المبدَّل منها، من أقوى الأدلة القاطعة.
وأعظم البراهين الساطعة، لا سيما إذا قص الله - أو رسوله - ذلك علينا.
مبينا من غير إنكار، على أنه شرع لنبينا.
وأي استدلال أمْيَزُ (وآمن) من كلام الله جل وعز؟.
وقد صرح أصحابنا: أن كلام الله القديم، المصون عن التحريف.
والتبديل إن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرانية فتوراة، وإن عبر
بالسريانية فإنجيل وإن كلامه لا يختلف، وإنما تختلف العبارات، وتتفاوت
الأعمال بالنية، وإنما الأعمال بالنيات.
وهذا السيد عمر بن الخطاب، العظيم الشأن، ﵁، كان
يأتي اليهود ويسمع من التوراة، فيتعجب كيف تصدق ما في القرآن، كما
رواه الطبري من طريق الشعبي، في غير ما مكان.
1 / 115