فقال بحدة: لم يبق منه إلا مرتزق من المرتزقة!
وحضرته - طنطاوي إسماعيل - مرات في مكتب المدير العام فراعني منه أنه لا يحني ظهرا، ولا يردد ملقا، وأنه يحافظ على كرامته تماما، ثم يغادر المكان مخلفا وراءه أسوأ الأثر! ولفت نظري أنه كان يصحح الخطابات التي تعرض عليه للتوقيع من أخطائها اللغوية والنحوية لا المصلحية فقط. وكان يفتش على حجرات الإدارة متفقدا النظام والعمل، فلا يتسامح مع متلكئ، أو مهمل، أو متهم بسوء معاملة الجمهور. وبالرغم من ذلك كله لم أعثر على موظف واحد يعترف له بفضائله، كانت تصرفاته توصف عادة بالحماقة أو بجنون العظمة، وأذكر أنه قال لي قبيل حلول عيد الهجرة: أنا أول من طالب باعتبار يوم الهجرة عطلة رسمية!
ووعدني بالاطلاع على المقالة التي دعا بها إلى ذلك وقد فعل. وأذكر أيضا أنه رقي ترقية جديدة بعد أعوام، تنفيذا لقرار مجلس الوزراء الخاص بالمنسيين فهنأته بذلك، ولكنه قال بصوته الجهوري: لو أنصفوا لولوا المنسيين مقاليد الحكم فهم في الواقع أشرف الموظفين!
وكان عم صقر الساعي موجودا، وكان موضع عطف الرجل فقال له: لعل ذلك يدعو سعادتك إلى تغيير رأيك في الوفد؟
فقال بصراحته: ليس هذا بالإنصاف المنشود، ولكنه مداراة قلقه لشر مستحكم، نوع من أنصاف الحلول، وذلكم هو شعار الوفد الحقيقي الخفي، الحق حق والباطل باطل، والخير الحقيقي أن تولي من يصلح وأن تطرح في السجون الفاسدين، رحم الله زعماء الحزب الوطني، عرفوا الحياة تضحية وجهادا لا سياسة ومهادنة!
واطلع يوما على أسماء كبار الموظفين الذين نالوا رتبا وأوسمة لمناسبة من المناسبات فقال: لولا إيماني بالله، لولا إيماني بأن حكمته فوق العقول، لجننت!
وهمس عبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة في أذني: ما زال يتصور أنه عاقل!
أجل، بالجنون كان يرمى دائما، ولذلك غض عن الكثير من تصرفاته. وقد عرفت ماضيه من عباس فوزي وعم صقر وغيرهما، عين في الوزارة بدبلوم التجارة العليا، وهو في العشرين من عمره. وفي ظرف خمس سنوات عمل مفتشا بالحسابات، وكان ذا خلق نقي طاهر، يحمل الأمانة بإخلاص، ولا يحيد عن الحق، فأثار موجة من الرعب في قلوب الكتبة والمراجعين. كانوا يعملون من خلال نظام محكم تعاوني يقوم أساسه على الرشوة والهدية، فانفجر الرجل في أوساطهم كالقنبلة، فاتكا بمصادر رزقهم الحقيقية، ولو كانوا يملكون الشجاعة الكافية لاغتالوه، ولكنهم فكروا في وسيلة تخلصهم منه، ولعبوا بإمضائه لعبة ماكرة فوجد نفسه وهو لا يدري موضع اتهام وتعذر عليه تبرئة نفسه منه، وقدم إلى مجلس تأديب فقضى بفصله من عمله. - تصور شخصا أمينا لدرجة الجنون يجد نفسه مفصولا بتهمة خيانة الأمانة!
غادر الوزارة وهو يصرخ بأعلى صوته: «أنا أمين ... أنا شريف ... أنا مظلوم ... حسبي الله ونعم الوكيل.» وعانى الألم والجوع والجنون خمس سنوات كاملة حتى انهارت أعصابه تماما، وحتى اضطر عمه إلى نقله إلى مستشفى أمراض عصبية بحلوان، فقضى فيه عاما ثم غادره بعد أن تماثل للشفاء، ولكنه كان خسر شيئا صميميا لا يعوض. ومرض وكيل الحسابات فشعر بدنو الأجل، فاستدعى مدير إدارة التحقيقات واعترف له بحقيقة المؤامرة التي حيكت للإيقاع بطنطاوي إسماعيل. وأعيد التحقيق بصفة سرية ثم تقرر إعادة الرجل إلى الخدمة، مع إلحاقه بإدارة «غير مالية» تجنبا لأي أذى قد يلحق به أو بالآخرين! وقد عملت معه عشر سنوات فعرفته عن كثب، عرفت إيمانه بالله الذي لا حد له، عرفت نقاء خلقه الناصع، كما لمست فيه وطنية تبلغ درجة التعصب الأعمى. وكان كثير الاطلاع على المراجع الدينية، ميالا للمحافظة لدرجة أن يعاف أي حديث من فكر أو سلوك فيعده انحرافا وسقوطا. جمعني وإياه ركن بجامع الحسين في الليلة السنوية التي كان يحييها الشيخ علي محمود، وكان يسأل من حوله: ترى أما زالت الفضائل فضائل أم أصبحت موضة قديمة؟
وراح يحمل على الجبن، والتملق، وفساد الذمم، والانحلال فيقول: نحن في حاجة إلى طوفان جديد لتمضي السفينة بقلة الفضلاء؛ ليعيدوا خلق العالم من جديد!
Неизвестная страница