فهتف ضاحكا: علينا اللعنة جميعا حتى يوم الدين.
جعفر خليل
بذكره يذكر حينا «العباسية» في العشرينيات من هذا القرن، حي الهدوء الشامل والحقوق المترامية، والحدائق الغناء. شرقيه قصور كالقلاع، وشوارع شبه خالية يجللها صمت وقور، وغربيه بيوت مستقلة ذوات حدائق خلفية صغيرة تزدان بكرمة وشجرة جوافة وأرض مغروسة بالشيح والورد والقرنفل، تحدق بها الحقول، في طرفها ساقية تدور بين خمائل من أشجار الحناء، وتزكو رقعتها بالجرجير والطماطم، وتنتثر فوق أديمها نخلات معدودات، أما فيما يلي أسوار البيوت فتمتد غابة من أشجار التين الشوكي. في النهار لا يخرق صمتها إلا جلجلة الترام وفي الليل لا يتردد في جنباتها إلا صيحة الخفير، وإذا هبط الليل لفها بظلامه فلا يخفف من غلظته إلا إشعاعات الفوانيس المدلاة من أعالي أبواب بيوتها. ويوم انتقلنا من الحي القديم إليها، ومضى الحمالون بالأثاث إلى داخل البيت الجديد تجمع في الطريق صغار متقاربو الأسنان يستطلعون، فعندما خرجت مستطلعا كذلك وجدت أمامي جعفر خليل، سرور عبد الباقي، سيد شعير، عيد منصور، رضا حمادة، خليل زكي، شعراوي الفحام. وقفنا نتبادل النظرات حتى سألني خليل زكي: تلعب معنا؟
ترددت بلا جواب فسألني سرور عبد الباقي: من أي حي؟
فأجبت متشجعا بأدب اختص به: حي الحسين.
فسألني جعفر خليل: تلعب الكرة؟ - كلا. - تعلمها، متى تدخل المدرسة الابتدائية؟ - عقب الإجازة. - سندخلها جميعا في وقت واحد.
وسأل رضا حمادة: هل قابلتكم مظاهرات وأنتم قادمون؟ - جئنا عن طريق الحسينية، المحال والمقاهي مغلقة في إضراب شامل. - هل صادفكم إنجليز؟ - دورية واحدة، هل ترونهم هنا؟
فضحك جعفر خليل، وقال وهو يشير إلى ناحية ما: ثكناتهم هناك في قلب العباسية، ستراهم عند كل خطوة تخطوها.
وسأل سرور عبد الباقي: أتممت المدرسة الأولية؟ - مكثت بها عامين وعامين قبل ذلك في الكتاب. - لا توجد هنا كتاتيب!
فسكت وأنا أرمقهم في عدم ارتياح، غير أن صداقتنا كانت قد بدأت، وهي لم تنقطع بعد ذلك إلا بالموت في حال شخصين منهم. وفضلا عن ذلك كان جعفر خليل الوحيد الذي زاملني أيضا في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية، وكان يمتاز بخفة الروح، وحلاوة النكتة، والتفوق في اللعب والجد معا. وقد دعاني إلى مصاحبتهم لمشاهدة مباراة كرة القدم بالنادي الأهلي، ولما سألته عن التكاليف أجاب بكل بساطة: ولا مليم.
Неизвестная страница