وعقب ثورة يوليو 1952 قدم إلى التحقيق فاكتفي بإحالته إلى المعاش، ومضى بالنسبة إلي يذوب في ماء النسيان، حتى دعيت في خريف 1967 تليفونيا إلى المستشفى الأنجلو أمريكي، هناك وجدته راقدا مصابا بأزمة قلبية، لم أعرفه لأول وهلة، جاوز الستين وذكرني بصورة أبيه في أيامه الأخيرة. قال: معذرة عن إزعاجك.
فشجعته بما حضرني من كلمات فقال: لا أحد لي غيرك في الواقع.
ثم بصوت هامس: لكي تدفنني إذا قضي الأمر.
فعدت إلى تشجيعه، وخلوت إلى الطبيب مستعلما؛ فأكد لي أنه اجتاز مرحلة الخطر، وأن صحته بعد ذلك تتوقف على إرادته، ولما سمع بتلك المعلومات قال: عندي أكثر من داء!
فخمنت وراء قوله الخمر والنساء والقمار، فقلت: تجنب الانفعال لكي تتجنب أزمة أخرى.
فقال باستهانة: إنها آتية لا ريب فيها!
وجعلت أنقب في وجهه المريض عن الوحش الضاري الذي نشر الفزع في الزمان القديم، أو الشاب المهرج الظريف ولكن عبثا، ولم يكن في صدري حياله إلا شعور بالواجب، وعلمت أنه يقيم بشقة صغيرة بالزمالك، وأنه لم يتزوج طبعا، وأنه لم يعد له من صديق سوى نفر من كهول اليونانيين المدمنين لسباق الخيل، وهز رأسه ثم غمغم: يخيل إلي أنني انتهيت كما انتهوا.
ففطنت على البداهة إلى من يعني، كان 5 يونيو ما زال ممتزجا بريقنا كالعلقم. وأدركت من فوري مدى الحقد الذي عاشره منذ إحالته على المعاش، وكرهت مناقشة شماتته المنغصة بسوء حاله لتحديها الجارح لعواطفي الشخصية، وعلى أي حال لم تتحقق نبوءته السوداء فيما يتعلق بحياته أو حياة الثورة، غادر المستشفى عقب ذلك بثلاثة أسابيع، وزارني في بيتي للشكر، تبدى في حال صحية مقبولة، وراح يغازل ذكريات الجيل السابق، وطيلة الوقت وجدت إغراء لا يقاوم في نبش ماضيه الغريب، حتى واتتني الفرصة فقلت: أتدري أنني لم أكن أصدق ما يقال عنك؟
خيل إلي أنه تجاهل قولي تماما. اقتنعت بأنني أخطأت، ولكنه قال وكأنه يقرر حقائق لا علاقة لها بحديثي: يحدث أحيانا أن تصدم سيارة، أحد المارة فترديه قتيلا.
وأشعل سيجارة متحديا أول نصائح طبيبه ثم قال: من الخطأ أن نحمل السيارة تبعة ما حدث، التبعة تقع على السائق أو الطريق أو المصنع أو الضحية نفسها أما السيارة فلا ذنب لها.
Неизвестная страница