ثم كان الاعتداء الثلاثي وانقلابه على المعتدين، ولكن صديقنا قدري رزق أصيب في ساقه، وفقد عينه اليسرى فاضطر إلى ترك الجيش، وعين في وظيفة ثقافية كبيرة بوزارة الإرشاد. وبتوليته للوظيفة الجديدة بدأ اهتمامه بالثقافة لأول مرة في حياته، فكان يعمل نهارا ويدرس ليلا، وأثبت أنه عالي الهمة في التحصيل والإدارة. وكان في إجازة شهر العسل حينما نشبت الحرب فاستدعي من بين أحضان عروسه للقيام بواجبه العسكري فأصابه ما أصابه. ولما أعلنت القوانين الاشتراكية بعد ذلك بأعوام بدأ يدرس الاشتراكية بنفس الهمة التي درس بها الثقافة، وكان على استعداد دائما للإيمان بما تدعو الثورة للإيمان به؛ إذ إن إيمانه الحقيقي كان بالثورة، بالثورة وحدها. والحق أنه كان وما زال برجوازيا في أخلاقه وآماله وأحلامه وتقاليده، ولكنه كان وما زال برجوازيا ذا لسان اشتراكي، ولم يجئ ذلك عن نفاق أو خوف، ولكن بدافع إخلاص حقيقي للثورة وما تنادي به، وإني لأعده من أخلص الرجال وأنقاهم وأنزههم، كما كان من أشدهم سخطا على المستغلين والمفسدين ممن خانوا أمانة الثورة، ولما حاقت بنا هزيمة 5 يونيو 1967 زلزل لها كيانه حتى خيل إلي أنه يموت وهو حي، وتساءل فيما يشبه الهذيان: أيذهب ذلك التاريخ كله هباء؟!
ونظر في وجوهنا بوجه شاحب وتساءل مرة أخرى: أنركع مرة أخرى تحت أقدام الرجعيين والاستعماريين؟!
وكان يجاهد بعنف ليسترد أنفاسه اللاهثة، وليخلق في الضياع أملا جديدا، وليحول الهزيمة إلى درس وعبرة، وكلما مر يوم دون استسلام استرد بعضا من عافيته، وعكف على أرض الواقع الصلبة يحفرها بأظافره لعله يستخرج منها بعض قطرات من ندى الأمل. وما أشبهه في ذلك بالدكتور عزمي شاكر أو الدكتور صادق عبد الحميد، وكان يقول: ما تاريخ العرب الحديث إلا سلسلة من الهزائم أمام الرجعية والاستعمار، ولكن ما يكاد اليأس يخيم حتى ينبثق من ظلماته نور جديد، وهكذا ذهب التتار والصليبيون والإنجليز وبقي العرب!
وهو يريد للثورة أن تبقى، وأن تنتصر، مهما كان الثمن، كيلا تتعثر النهضة في زمن لم يعد يسمح بالتخلف يوما واحدا، ويتابع أنباء القتال وهو آسف على أنه لم يعد في إمكانه الاشتراك فيه، ويحزنه أن نتلقى ضربة دون أن نردها بالمثل، ولذلك فهو ينتظر على جمر اليوم الذي نستكمل فيه استعدادنا للقتال، إنه يعيش يوما فيوما بل ساعة فساعة في متابعة وقلق وترقب وأمل ومحاسبة للنفس لا هوادة فيها. وبصرف النظر عن آراء الأستاذ سالم جبر المتناقضة، وسخريات عجلان الحادة، وانتقادات رضا حمادة المرة؛ فإن قدري رزق يعتبر رجلا محترما ومخلصا من رجال ثورة يوليو، وقد يتعذر تعريفه على ضوء المبادئ العالمية، ولكن يمكن تعريفه بدقة على ضوء الميثاق، فهو يؤمن بالعدالة الاجتماعية إيمانه بالملكية الخاصة والحوافز، ويؤمن بالاشتراكية العلمية إيمانه بالدين، ويؤمن بالوطن إيمانه بالوحدة العربية، ويؤمن بالتراث إيمانه بالعلم، ويؤمن بالقاعدة الشعبية إيمانه بالحكم المطلق، وعندما يقبل علي وهو يعرج ويطالعني بعينه الباقية ينبض قلبي بالمودة والإكبار.
كامل رمزي
تعارفنا عام 1965 في بيت الدكتور عزمي شاكر، كان حديث عهد بالحرية بعد أن قضى في الاعتقال خمسة أعوام. وهو أسمر نحيل طويل أصلع كبير الرأس صغير العينين براقهما في الخمسين من عمره، دكتور في الاقتصاد، وكان أستاذا بكلية التجارة حتى تاريخ القبض عليه. قلت له: قرأت كتابك عن المذاهب الاقتصادية وأشهد بأنه أمتعني بقدر ما أفادني.
فشكرني وقال: كانت الحياة الجامعية تناسبني جدا!
وقال الدكتور عزمي شاكر: اتهم خطأ بالنشاط العملي أما الحقيقة فهي أنه أستاذ مفكر، لا يجاوز نشاطه مجال التفكير والتأليف.
وفي نفس الأسبوع الذي تعارفنا فيه ولي منصبا كبيرا، وقال لي عزمي شاكر للمناسبة: إنه مثال في العلم والحزم والنزاهة.
وكان صديقا لسالم جبر وزهير كامل، وعرفته بدوري لرضا حمادة وقدري رزق والدكتور صادق عبد الحميد، فنال احترامهم جميعا، ولكن لم يغال أحد في حبه! وقد أشعرني حديثه بالصدق والصراحة والعلم، وهو ممن أتموا تعليمهم بإنجلترا، وذو اطلاع شامل في الاجتماع والسياسة، وله قدرة فائقة في المناقشة والجدل، ويتكلم إذا تكلم بثقة وصراحة وقوة، ولا يؤمن في شيء بالحلول الوسطى، ولا بالمجاملة، ولا بالتسامح، بل يؤمن برأيه لحد التعصب، ولا يطيق المعارضة فهي تثير أعصابه وتخرجه عن الاتزان اللائق بمركزه، فسرعان ما يهدر غاضبا بالحجج والأدلة وكأنه يخوض معركة حامية. وهو يشبه عبد الوهاب إسماعيل في تعصبه على تناقضهما في الأسلوب، حتى قلت مرة للدكتور عزمي شاكر: إنه عالم ولكنه ذو عقلية دينية.
Неизвестная страница