ولم يعد النبي بعد الفتح إلى المدينة وإنما بلغه أن «هوازن» تجمع له جموعها فخرج للقائهم في الجيش الذي أقبل معه إلى مكة وفيمن انضم إليه من طلقاء قريش أو مسلمة الفتح كما كان يقال إذ ذاك. والتقى الجمعان يوم «حنين» فامتحن المسلمون امتحانا شديدا وجالوا جولة حتى قام النبي وحده في الموقعة على ظهر بغلته. والعباس آخذ بزمامها والنبي يدعو أصحاب سورة البقرة ويقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.»
ثم ثاب إليه الأنصار وثاب إليه بعدهم سائر المسلمين وأنزل الله نصره على نبيه وعلى المؤمنين فانهزم المشركون هزيمة منكرة قتل منهم من قتل وأسر منهم من أسر، وسبيت النساء والذراري، وعاد النبي وأصحابه موفورين، ولكن «هوازن» عادوا إليه بعد هزيمتهم يسألونه أن يمن على سبيهم ويذكرونه بأنهم أخواله؛ لأنه أرضع فيهم إذ كانت حليمة منهم.
وقد أطلق النبي من السبي من كان في أيدي رهطه الأدنين من بني عبد المطلب ووعدهم إذا صلى بالناس من غد أن يسألوه في ذلك ويذكروا خئولتهم له. فلما فعلوا شفع النبي لهم عند المسلمين فلم يبق أحد منهم إلا أطلق من كان عنده من السبي ورده على قومه.
وكان آخر حرب للنبي مع المشركين حين حاصر الطائف بجيشه ذاك، وقد أطال الحصار ولكن الله لم يسلطه على هذه المدينة، فرفع الحصار وعاد بجيشه إلى دار هجرته ثم لم تلبث ثقيف أن أرسلوا إليه وفدهم يطلبون الصلح، فقبله منهم على أن يدخلوا في الإسلام ويرفضوا الشرك ويمحقوا آثاره.
ومنذ ذلك الوقت جعل العرب يتسامعون في قلب الجزيرة وأطرافها بالإسلام وما أتيح للنبي وأصحابه من نصر، فجعلت وفودهم تفد عليه يعرضون إسلامهم وإسلام قومهم، فيقبل النبي منهم ويعلمهم دينهم. وربما أرسل معهم من يعلم قومهم شرائع الإسلام.
وكذلك عظم أمر الإسلام وانتشر في الجزيرة العربية كلها. ونظرة سريعة إلى ما بدأ الإسلام عليه في مكة وما انتهى إليه في المدينة في هذا الوقت القصير تبين في جلاء أن قوة عليا أرادت لهذا الدين أن يقوى وينتشر أولا وأن يجمع كلمة العرب ويوحد أهواءهم ويجعلهم أمة واحدة مؤتلفة تتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على الإثم والعدوان بعد الذي كان بينهم من اختلاف أي اختلاف واختصام أي اختصام، ومن حرب بالألسنة دائما وبالسيف والسنان في أكثر الأحيان.
وأرادت كذلك أن تغير من أخلاقهم وعاداتهم وسننهم الموروثة، فتحل الوفاء في نفوسهم محل الغدر، والأمانة محل الخيانة، والبر مكان الجحود، والرقة والرحمة مكان الغلظة والقسوة.
وأرادت أن تبين لهم الخير فيسلكوا إليه سبلهم وتدلهم على الشر فيتنكبوا طرقه، وأن تبين كبائر الآثام فيجتنبوها ومحاسن الأعمال فيجدوا فيها.
كل ذلك وأكثر جدا من كل ذلك أتيح للإسلام في أقل من ربع قرن، في ثلاثة وعشرين عاما، أنفق النبي منها ثلاثة عشر عاما بمكة لا يكاد ينشر الإسلام إلا قليلا، وعشرة أعوام في المدينة أتم الله فيها على يده جل هذه المعجزة الكبرى. فخلق العرب خلقا جديدا وجعل منها أمة بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها، أنشأها إنشاء جديدا وهيأها للنهوض بالمهمة الكبرى التي تتجاوز حدود جزيرتها وتحول وجهة التاريخ وتغير وجه الأرض في أقل من نصف قرن.
وكان النبي على هذا كله لا يدعي لنفسه معجزة إلا القرآن، وقد صدق النبي وبر في ذلك؛ فقد كان القرآن معجزة أي معجزة، كان معجزا بألفاظه ومعانيه ونظمه، لم يستطع أحد من العرب أن يحاكيه أيسر المحاكاة، وكان معجزا بآثاره التي ظهرت في حياة النبي والتي أشرنا إليها آنفا، وبآثاره التي ظهرت بعد وفاة النبي والتي لا يزال كثير منها باقيا إلى الآن وإلى آخر الدهر. وصدق الله حين قال في سورة النور:
Неизвестная страница