وكذلك كان في مدينة كالقاهرة قاض للحنفية، وآخر للشافعية وثالث للمالكية، وعلى هذا النحو. وأي شر أعظم أثرا في حياة الناس من ألا يجمعهم قانون واحد تقوم عليه الأحكام فيهم، وتحل به المشكلات التي تعرض لهم.
ولم يكن الكلام أحسن حظا من الفقه. فقد انتهى أمره إلى الجمود والعقم. وفرض على الناس مذهب بعينه من مذاهب المتكلمين، يراه علماؤهم دينا ويرون ما عداه من المذاهب انحرافا عن الجادة وجورا عن الطريق. وأصابه ما أصاب الفقه من اختصار الكتب ووضع الشروح والتعقيب عليها بالحواشي، حتى أصبحت العقول أدوات لا عمل لها إلا أن تبدئ وتعيد، وتهذي في غير انقطاع كما يهذي المحمومون.
وصار أمر العلوم كلها إلى ما صار إليه أمر الفقه والكلام، مختصرات تحفظ عن ظهر قلب، وشروح تفسر هذه المختصرات، وحواشي وتقارير تردها إلى الغموض والتعقيد بعد اليسر والإسماح. وإذا جمدت عقول العلماء على هذا النحو جمدت عقول تلاميذهم، وأصبح الجمود شيئا تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل.
ثم تعرضت العقول للخرافات والسخافات والأساطير، التي يتراكم بعضها إلى بعض ويتراكب بعضها فوق بعض، وصار العلم إلى شيء من الإعجام، وأغلق بابه على أوساط الناس فضلا عمن هم أقل منهم، وأطبق على علماء الأمة وعامتها سحب متكاثفة من الجهل والتواء التفكير، ثم الاستسلام والإذعان لكل ما يقال لهم وكل ما يراد بهم. وبعد الأمد إلى أقصى حدود البعد بينهم وبين قديمهم، فنسوا تاريخهم ونسوا علومهم وما ترك الأولون فيها من الكنوز التي لا تقدر ولا تحصى، والتزموا كتبا بعينها تتوارثها أجيالهم يفهمونها أو لا يفهمونها، فليس الفهم هو الشيء المهم وإنما المهم هو أن تقرأ الكتب الطوال في مجالس الدرس، وتحفظ الكتب القصار قبل الاختلاف إلى مجالس الأساتذة.
والأستاذ مقيد بما يقرأ من ألفاظ الشراح وأصحاب الحواشي لا يضيف إليها شيئا. قد وقف عقله عن التفكير واقتصر جهده كله على قراءة النص المختصر وتفسيره بالشرح المكتوب والتعقيب عليه بالحواشي المكتوبة أيضا على هذه الشروح.
وأصبح الأساتذة والطلاب أشبه شيء بالببغاء يحكي كل واحد ما سمع من شيخه ويحيكه بلفظه ما وجد إلى ذلك سبيلا. وقد أتيح للمسلمين لحسن حظهم أفراد من العلماء في عصور مختلفة لم يجحدوا التقليد جماعة، وإنما حاولوا أن يعملوا عقولهم ويثبتوا شخصيتهم وينشروا النور من حولهم، وينظروا من علم القدماء فيما أعرض الناس عن النظر فيه.
وكان هؤلاء العلماء يجدون نفورا منهم وإعراضا عنهم، وربما وجدوا تشهيرا بهم ومقاومة لهم، وربما أصابهم أذى يكثر ويقل باعتبار الظروف التي تحيط بهم وتحيط بالناس من حولهم.
وانظر إن شئت إلى سيرة ابن تيمية وما أصابه من إنكار العلماء الجامدين عليه، وبطش الحكام المستبدين به.
وكذلك صار أمر المسلمين إلى هذا النكر الذي عرضهم لألوان من المكروه ما كانوا ليتعرضوا لها لو سلكوا طريق قدمائهم. فلم يتركوا عقولهم تصير إلى هذا الجمود والخمود.
والكوارث السياسية بالطبع هي مصدر هذه المحنة التي امتحن بها المسلمون قرونا طوالا، والتي أطمعت فيهم دولا أجنبية لم تكن من الإسلام في شيء، رأتهم جاهلين غافلين مذعنين للظلم راضين بما كان يصب عليهم من الجور والهضم والاستذلال. وإذا بلغت الشعوب هذا الحد من الضعف ضعفت حكوماتها فلم تجد من القوة إلا ما يمكنها من ظلم الرعية واستذلالها واستغلالها. ولم تستطع أن ترد عن نفسها ولا عن شعوبها طمع الطامعين فيها، وكيد الكائدين لها ومكر الماكرين بها، واعتداء المعتدين عليها، بل ربما وجدت الشعوب شيئا من السرور والرضى بسقوط حكوماتها وانهزامها أمام العدو المغير، يئست من عدل هذه الحكومات ونظرت إليها على أنها شر سلط عليها، فتمنت أن يزول عنها هذا الشر، فهي طامعة في شيء من العدل قليل أو كثير عند المغيرين عليها والمحتلين لبلادها، نسيت كرامتها وجهلت هذه الكرامة وغفلت عن حقوقها وعن واجباتها أيضا، وطمعت في شيء واحد هو أن تخلص من هذا الشر الجاثم عليها.
Неизвестная страница