ثم لم يقف أمر الاختلاف بين المسلمين عندما وصفنا، ولكنهم اختلفوا في استنباط الأحكام التي يحتاج إليها الناس في حياتهم الاجتماعية، بل في عباداتهم أيضا اختلافا كثيرا نشأ عنه جدل لا يحصى بين الفقهاء. فكان أهل الحجاز في القرن الأول والثاني يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة، وما أجمع عليه أصحاب النبي، وما عمل به الممتازون منهم، يرون أن أصحاب النبي لا يجمعون على شيء إلا أن يكونوا قد استندوا في إجماعهم على سنة من النبي، ويرون أن الممتازين من الصحابة قد اشتد اتصالهم بالنبي حتى فقهوا الدين حق فقهه وتحروا سنته في أحكامهم، وكان أهل العراق يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة والإجماع، ولكنهم لا يكرهون أن يلجئوا إلى الرأي إذا أعوزتهم هذه الأصول، واشتد الجدال بين أولئك وهؤلاء، وكثر الخلاف بين أصحاب الرأي أنفسهم، فكثر الكلام في الفقه، كما كثر الكلام بين الذين اشتغلوا بأصول الدين إلى اختلاف الفرق القديمة في استنباط الأحكام. فللشيعة فقههم، وللخوارج فقههم. كل يقيم مذهبه في استنباط الحكام على مذهبه في السياسة وفي أصول الدين أيضا.
وكذلك بلغ الخلاف بين المسلمين في الأصول والفروع أقصى ما يمكن أن يبلغ، ثم أدركهم ما يدرك الأمم قبلهم وبعدهم من الضعف والجهل والانحطاط، فصار أمرهم إلى شر عظيم.
وقبل الحديث عن الجهل وما ترك في حياة المسلمين من شر يشقون به إلى الآن، لا بد من وقفة قصيرة عند ألوان من التعصب نشأت عن كثرة الفرق في الأصول والفروع جميعا، فكما كانت الأحزاب السياسية في أول الأمر تتقاذف بالكفر، ويستبيح بعضها دم بعض حين تمكنه الفرصة، أو يتاح له الخروج على السلطان، جعلت فرق المتكلمين تتقاذف بالكفر أحيانا وبالفسق غالبا، وتستبيح امتحان الناس بالسجن والضرب والقتل، إن أتيح لها الاتصال بالسياسة والاستيلاء على عقول الحكام وقلوبهم، كالذي كان حين غلب المعتزلة على عقل المأمون، وألقوا في قلبه مقالتهم هذه السخيفة، التي لا تقدم ولا تؤخر في فقه أصول الدين وفروعه، والتي لم يدفع إليها إلا الغلو في البحث والإمعان في الجدل، وهي مقالتهم في خلق القرآن؛ فهم قد أنكروا أن تكون لله صفات تقوم بذاته، وقرروا أن الله عالم بذاته وقادر بذاته إلى آخر ما قرروا فيما يسمونه التوحيد، ونظرا لأن الله قد أنبأ في القرآن بأنه كلم موسى تكليما وبأنه أنزل القرآن على محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأمر النبي أمرا مباشرا بأن يبلغ الناس عنه ما أنزل إليه، وأمره أمرا مباشرا غير مرة بأن يقول لهم أشياء مختلفة، يوجه بعضها إلى المسلمين ويوجه بعضها إلى الكافرين ويوجه بعضها إلى الناس جميعا؛ فقد استنبطوا من كل هذا أن كلام الله مخلوق محدث قد أنشأه الله بعد أن لم يكن وأنزله على أنبيائه فهو كغيره من الكتب التي ينشئها الناس إلا أنه هنا قد أنشأه الله كما أنشأ غيره من المخلوقات. ولو قد قالوا مقالتهم هذه ولم يفتنوا بها الناس لكان حسابهم إلى الله وحده، ولكنهم سيطروا على المأمون وأقنعوه بمقالتهم هذه، وأقنعوه أيضا بأن القول بغيرها إشراك بالله وخروج من الدين؛ لأن قدم القرآن معناه أن يكون هناك قديمان، مع أن القديم واحد لا شريك له ولا نظير له في القدم، وهو الله عز وجل. ثم لم يكفهم ذلك فحملوا المأمون على أن يفرض رأيهم هذا على المسلمين، ويبدأ بعلمائهم وفقهائهم ومحدثيهم. واستجاب لهم المأمون بعد تردد وجعل يمتحن علماء المسلمين ويفرض هذه المقالة على كل من يعمل في خدمة الدولة، بل في خدمة الأمة من القضاة والعمال والشهود، وقرر أنه ليس في حاجة إلى أن يستعين على خدمة الدولة الإسلامية بالمشركين. وألزم العمال أن يمتحنوا القضاة في ذلك فمن أجاب إلى رأيه أقر على عمله ومن أبى صار إلى العزل. وأمر القضاة أن يمتحنوا الشهود ولا يقبلوا إلا شهادة من يقول برأيه ويعلن إيمانه بأن القرآن مخلوق. ثم جعل يمتحن الفقهاء والمحدثين، فمنهم من أجاب إلى رأيه تقية وتجنبا لاحتمال المكروه، ومنهم من أبى فتعرض للسجن وتعرض للضرب، ولو قد عاش المأمون لتعرض خصومه من العلماء للقتل، فهو قد أمر عامله على بغداد أن يمتحن جماعة من العلماء، فمن أجاب إلى رأيه أطلقه ومن خالف عن رأيه ضرب عنقه وأرسل إليه رأسه.
وكان حين أصدر هذا الأمر إلى عامله على بغداد قد خرج من العراق محاربا للروم. والناس جميعا يعرفون أن أحمد بن حنبل - رحمه الله - لقي في هذه المحنة بلاء عظيما فصبر صبر الأبطال واحتمل السجن الطويل والحرمان الشديد والضرب المبرح الذي أضعفه إلى أن توفي. وأكبر الظن أن المعتزلة صاروا بالمأمون في هذه المقالة إلى شيء يشبه الجنون، ولولا أنه قد مات في سفره ذاك لملأ الأرض شرا ونكرا، ولكن الواثق والمعتصم سارا في هذه المسألة سيرة المأمون مع شيء من القصد، فلم يصلا بالممتحنين إلى القتل كما هم المأمون أن يفعل، وإنما اكتفيا بالسجن والضرب والحرمان. ولولا أن المتوكل ألغى هذه المحنة وعاد إلى القصد في حكم المسلمين لتعرض أمر الخلافة العباسية لخطر أي خطر.
وكذلك الأمر كلما اتصل رجال الدين - والغلاة منهم في الرأي - بالسلطان وسيطروا عليه. فقد أشرنا آنفا إلى الحلاج وقتله وصلبه. وقد حدث شيء من هذا الامتحان لبعض العلماء في الغرب الإسلامي؛ فمنهم من سجن كابن رشد، ومنهم من حرقت كتبه كابن حزم. وليس لهذا كله مصدر إلا أن الغلاة من الأحرار كالمعتزلة في المشرق، والغلاة من المحافظين كالفقهاء في المغرب الإسلامي، قد استطاعوا أن يستأثروا ببعض الحكام ويفرضوا عليهم غلوهم في الرأي، وأخذهم الناس بما لم يعرف عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، والذين يقرءون القرآن والسنة يعرفون ما لقي النبي وأصحابه المؤمنون من المنافقين في المدينة وفي باديتها، ويعرفون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعرض لأحد منهم بسوء، وإنما احتملهم صابرا عليهم مطاولا لهم، طامعا في أن يثوبوا يوما إلى الرشد، أو أن تمسهم رحمة من الله فتخلص قلوبهم للدين، وكان يستغفر لأحيائهم ويصلي على موتاهم، حتى قال الله له:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم .
Неизвестная страница