كان الوليد ينصت عابسا مفكرا يعبث بأصابعه في شعرات لحيته، وما كاد ينتهي الزهري حتى أرسل قهقهة طويلة اهتزت لها جوانح صدره، ثم نظر إلى القوم وقال: ألأجل ذلك جئتم؟ ومن أجل هذا أتعبتم دوابكم حتى بلغتم قصري؟ لقد سخر منكم هشام وغرر بكم، إن ما يجري في قصري من اللهو العفيف لا يزيد عما يجري في قصور فتيان بني أمية، ثم التفت إلى ابن عنبسة ويزيد، وقال: وعما يجري في دار ابن عنبسة، وفي قصر يزيد، وإن أبناء هشام أنفسهم يتمتعون بالحياة طولا وعرضا وعمقا، ولكن هشاما يريد شيئا آخر، يريد أن يسخركم من حيث لا تشعرون في مأرب هو أقصى أمانيه ومنتهى آماله، يريد أن يهدم هذا السد الذي يحول بين ابنه مسلمة والخلافة، يريد أن يخلع عني ولاية العهد بعد أن أقسم عليها أمام أبي أغلظ الأيمان، وأعطى أوثق العهود، ليقدمها إلى «أبي شاكر» هدية غالية ثمينة تبقى في أولاده وأحفاده أبد الدهر، ولم ير للوصول إلى ذلك من سبيل إلا أن يثلب عرضي، ويكثر في قالة السوء، ويبعث حولي جواسيسه وعيونه ليجعلوا من الفأرة جملا، ومن بيت النملة قصرا، وليملئوا الدنيا بأخبار زندقتي، حتى لقد أصبحت حديث السمار، ومثلا شرودا في اللهو وحب الطرب، وإني أسخر منه ومن أعوانه، وأزيد في نكايته بإصراري على ما أحب، وتمسكي بما يكره، ثم إنه أراد أن يخطو خطوته الأخيرة فبعثك يا ابن شهاب، وأنت من أنت في رأي العامة والخاصة علما ودينا ونسكا؛ ليستشهد بك لدى الناس إذا خلعني، وليقول لهم: لقد صبرت عليه كثيرا فلم يزدجر، ونصحت له كثيرا فلم يرعو، وهذا الزهري على ما أقول شهيد؛ لقد حرمني العطاء منذ عدت من الحج، وضيق علي وعلى ندمائي، ولكني لم أبال به، ولم آبه له، وإن لي من ميراث أبي ومن أموال أخوالي ما يزيد عن حاجتي، وإن في نفسي يقينا لا يزعزعه إرهاب هشام، ولا تنقص منه صولة هشام؛ ذلك أني سأكون خليفة على رغم أنوف بني أمية جميعا، وإن هشاما سيموت ويزول ملكه، ويذهب معه نهمه، وتدفن مطامعه، وسأكون من بعده الخليفة الأموي الفتي، وسوف أثيب أصدقائي أجزل الثواب، وأذيق أعدائي مر العذاب، فلقد أعددت في سرداب القصر مائة قيد من حديد كتبت على كل قيد اسم صاحبه، ثم التفت إلى ثلاثتهم وقال: وأكبر ظني أن أسماءكم بين ما كتب من أسماء، وسوف يقول الناس: إن الوليد لم يكن غرا مائقا، ولم يكن مغفلا ماجنا؛ لأنه عرف أعداءه فمحقهم، وعرف أحباءه فأجزل عطاءهم.
أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي
ومروان جدي ذو الفعال وعامر
أنا ابن عظيم القريتين وعزها
ثقيف وفهر والعصاة الأكابر
نبي الهدى خالي، ومن يك خاله
نبي الهدى يقهر به من يفاخر
ثم وقف ومد يده إلى الزهري وهو يقول: إذا لقيت هشاما فقل له عني:
كفرت يدا من منعم لو شكرتها
جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن
Неизвестная страница