انظر فإن أنت لم تقدر على مثل
لهم سوى الكلب، فاضربه لهم مثلا
ثم وثب فجأة، وأمر سبرة أن يدعو المغنين، وانطلق من باب الحجرة كما ينطلق السهم، وهو يصيح: إلى مطلع الفجر! إلى مطلع الفجر.
سجن وإطلاق
كان هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي في نحو الخمسين من عمره، وسيم الوجه، أبيض البشرة بادنا، عريض الجبهة، حسن اللحية، يخضب بالسواد، في عينيه حول، وكان حازما ذا رأي ودهاء، من رآه رأى رجلا محشوا عقلا، وكان بخيلا، جماعا للأموال، وكان يجلس في هذا الصباح بدار الخلافة، وقد وقف أمامه كاتبه سالم أبو العلاء، وجلس إلى يمينه ابناه مسلمة وسعيد، وإلى يساره جمع من رجال بني أمية، منهم يزيد بن الوليد، وإبراهيم المخزومي، ويزيد بن عنبسة، وأخذ سالم يقرأ عليه ما حمله البريد من أخبار الأطراف، وما بعث به الولاة والقواد من رسائل، وما ورد من العيون والجواسيس الذين كان يبثهم الأمويون في أقطار الدولة.
وقرأ سالم أول ما قرأ رسالة من حسان النبطي، يذكر فيها: أن خالد بن عبد الله القسري عسف بأهل العراق، وسلب أموالهم بالقهر، حتى لقد بلغت غلته عشرين ألف ألف درهم؛ فزمجر هشام وصاح: بمثل هؤلاء الولاة تزول الدولة، وتنهار الممالك، والله لأردنه إلى بغلته وطيلسانه الفيروزي ؟ اكتب إلى يوسف بن عمر عامل اليمن بولاية العراق، ومره أن يسجن ابن النصرانية وعماله، وأن يحتجز كل ما لهم من صامت وناطق، لن يشرب ماء الفرات بعد اليوم، وأنا ابن عبد الملك؛ إن الدولة بولاتها، فإذا فسدوا فسد فيها كل شيء، هل من حدث آخر يا أبا العلاء؟ - وهذا يا أمير المؤمنين كتاب من خراسان بعث به عذافر بن يزيد يقول فيه: إن خراسان أصبحت عشا للفتن، ووكرا لشيعة بني العباس، ينشرون فيها دعوتهم، ويبعثون منها رسلهم، ويعدون فيها ما استطاعوا من قوة، ويتلقون بالطاعة ما يأمر به محمد بن علي بن العباس المقيم بالحميمة. وقد كتب عذافر يقول: إن سليمان بن كثير، وبكير بن ماهان يعملان جاهدين في خفية وحذر؛ لدعوة الناس إلى بني العباس، وصرفهم عن بني أمية، ويقول: إن شابا نشأ بأصفهان يكنى بأبي مسلم، سيكون له شأن وخطر، وإنه دولة في شخص، وجيش في رجل، وإنه ألد الخصام، واسع الحيلة، وإذا لم يقض عليه من أول نشأته عظم أمره، وأثارها شعواء لا تبقي ولا تذر. - إن خراسان مكمن الداء في هذه الدولة، وهي حصن أعدائنا الناقمين علينا، وهذا بكير بن ماهان يعمل منذ أن وليت الخلافة على الانتفاض عليها، وإيغار الصدور على ولاتها، أليس في مملكتي رجل كريم العم والخال، عربي الأرومة يوجر رمحه في أحشاء هذا الكلب العقور؟ ... ويل للخلافة من نصرائها، إنها تتلهف إلى حجاج ثان يثبت ما اهتز من أركانها، ثم إني حرت في أمر محمد بن علي هذا، إنك حيثما قلبته لا تجد إلا زهدا وصلاحا، وانصرافا إلى الله وتبتلا، إن اليد لترتعد إذا امتدت إليه بسوء، وإن السيف ليتحطم في غمده قبل أن يسل في وجهه، ولكني أخشى أن يكون لابسا غير ثوبه، وأن يكون ساترا وراء هذا الزهد خبثا وخديعة وفتكا، وكلما ذكرت خبر أبي معه تملكني الخوف، واعتصمت بالحذر؛ ذلك أن محمدا هذا ورد مع أبيه على أبي، وكان بالمجلس قائف يلمح ما غاب عن الناس من أحكام القدر، فلما انصرف التفت أبي إلى القائف وسأله: أتعرف هذا؟ قال: لا، ولكني أعرف من أمره واحدة. قال: وما هي؟ قال: إن كان الفتى الذي معه ابنه فإنه يخرج من عقبه فراعنة يملكون الأرض، ولا يناوئهم مناوئ إلا قتلوه، فالتفت إليه يزيد بن الوليد وقال: هون عليك يا أمير المؤمنين، فذلك حديث خرافة، والله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، وأنصار العباسيين بخراسان حفنة متخاذلة يكفي أن يسوقها أحد عبيدك بالسوط إلى طاعتك. - لا تستهينوا بصغار الأمور يا بني أمية، فإنها إحدى علائم زوال الدولة. - إن الدولة بخير يا أمير المؤمنين، وقد قمت بالأمر فيها ثماني عشرة سنة، فثبت دعائمها، وشددت أركانها. - أتستكثر علي ثماني عشرة سنة في الخلافة؟ ويل لكم من بعدي! والله ما تشبثت بأهدابها إلا لأصون ملكا ضيعه أهله، وعبث به فتيانه، ولقد أعلم أن كثيرا منكم يعيبني بأني حفي بالخلافة، أكاد أعض عليها بالنواجذ. نعم، إنني عليها حريص، وبها ضنين، ولكني أرى بعين بصيرتي مجدا يترنح، وعرشا تكاد تسقط قوائمه، فأود لو امتدت حياتي، وتنفس لي العمر حتى أعيد إلى الخلافة مجدها القديم. عجيب شأن الإنسان، لا يكاد يكتمل حتى يذبل ويدركه الموت، وإن في الحياة ومطالبها وغاياتها ما يضيق به عمره القصير الأمد، أليس من أعجب العجب أن تعيش السلحفاة، وهي من أحقر المخلوقات مائتي عام، وأن تضن الحياة على الإنسان المسكين بأكثر من ستين أو سبعين عاما؟ ولو أنه عاش عمر السلحفاة لصنع العجائب، وأتى بالمعجزات. وماذا نعمل بالحياة إذا كنا نموت كلما أوشكنا أن نفهم حقيقتها؟ ثم زفر زفرة طويلة، واتجه إلى كاتبه سائلا: أعندك شيء آخر؟ - نعم يا أمير المؤمنين، قبض الشرط بالأمس على رجل بالقرب من الباب الشرقي كان بداره قيان وخمر وطرب، وقد أحضرناه ومعه البربط الذي كان يعزف به.
ودخل الرجل فوثب هشام من مجلسه واختطف البربط من يده، وهو يصيح مهددا: والله لأكسرن هذا الطنبور على رأسك أيها الفاجر؟ فبكى الرجل وأغرق في البكاء ، فسأله هشام عن سبب بكائه، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أبكي من خوف الضرب، وإنما الذي أبكاني أنك تهين البربط، وتسميه طنبورا.
ولم ينفع الرجل بكاؤه ولا توسله، فضرب وكسر بربطه أو طنبوره على رأسه، وبعد انصرافه اتجه هشام إلى كاتبه يسأله عمن قبض عليهم بالأمس من ندماء الوليد، وعما فعل بهم. - قذفنا بهم في سجن الظلام مكبلين يا أمير المؤمنين. - إن هؤلاء شياطين الشر، وأس البلاء، ولولاهم ما ركب الوليد رأسه، ولا أطاع هوى نفسه، ولقد بعثت الزهري إليه بالأمس لينصح له فلم يلق منه إلا نكرا، وإن من الخيانة لعهد الله ورسوله أن تترك الخلافة في يد هذا الفتى، يقولون: إنني أريد أن أصرفها إلى ولدي مسلمة، وأقسم إنني لو رأيت في ابن أخي خيرا ما جال هذا الأمر لي بخاطر، إنني أريد أن أرقد في قبري هانئا مستريحا، وأن أترك خلق الله في رعاية من يخاف الله، ولو حال ابن أخي بيني وبين ما أحب لهذه الأمة لرويت منه سيفي غير مستحقب إثما.
وبينما هو منساق في حديثه إذ دخل الوليد وهو يمشي في بخترة وعجب، شامخ الأنف، أصيد العنق، فحيا أمير المؤمنين، ثم جلس بجانبه حتى التصقت ركبته بركبته، وكاد يزحمه في مجلسه، ونظر إليه هشام نظرة المغيظ المحنق، ثم أسرع فبسط له وجهه كأنما طافت برأسه فكرة خاطفة صرفته عن نيته، وشرع الوليد يقول: لقد بعث أمير المؤمنين إلي نفرا من جماعته بالأمس ليثلبوا عرضي، ويحطوا ما رفع الله من كرامتي، في أثواب ناصحين مشفقين، وما كنت لعمر الله لأصبر على هذا الضيم، لولا أنهم رسل أمير المؤمنين. إن أبناء عبد شمس - وهم سادة الجاهلية، وخلفاء الإسلام - أقوى شكيمة، وأحمى أنوفا من أن يطأطئوا رءوسهم لناصح متطفل، ثم ما هذا الذي فعلته يا أمير المؤمنين مما أقض مضجعك، وجعلك تترك شئون الخلافة لتفرغ لي ولأخداني؟ أأحدثت في الدين حدثا؟ أم هدمت من الخلافة ركنا؟ أم جردت للفتنة جيشا؟ إنني أعيش في قصري بعيدا عنك وعن حاشيتك وبطانتك، ولكني لا أسلم من رقبة جواسيسك وتطلع عيونك، حتى أصبحت هدفا لكل رام، ثم لم يكفك هذا فعملت كادحا على الانتقام مني، فقطعت عني عطاءك لأذل لك وأستكين، وأستجدي جدواك، وأقسم بمن خلق للحق ميزانا، وأعد للطاغين نيرانا، إني ما سررت بعطائك، ولا حزنت لانقطاعه، فقد سبب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدته، ولا صرف شيء منه عن مواقعه، ولعل من الخير لك يا أمير المؤمنين أن ترعى في أواصر القربى، وأن تذكر أبي الذي آثرك بها على ولده.
فإن تك قد مللت القرب مني
Неизвестная страница