ومعي بعض حساسات الحيا
على أن هذه العفة الغالبة لم تكن لتثني بعض النساء عن حب الفجور وإيثار السفاح؛ فإن العواهر لا يخلو منهن مكان، ولا تسلم من آفتهن أمة، غير أن أكثر ما كانت تأتيهن العرب إذا وفد الليل وخيم الظلام، حتى إذا هموا بالرجوع أرخوا أزرهم لتنجر على آثارهم فلا تبين، كما ذكر ذلك التبريزي في شرح قول العوراء بنت سبيع:
طيان طاوي الكشح لا
يرخي لمظلمة إزاره
ويؤخذ من قول الآخر:
ألا رجلا جزاه الله خيرا
يدل على محصلة تبيت
إن المرتاد لهن كان إذا لم يهتد إلى موضع إحداهن لا يدع أن ينشدها مسترشدا إليها، ومعنى المحصلة هنا المرأة التي تختلف إليها الرجال، كما هو الأشبه والأظهر في المراد من هذا البيت، لا التي تحصل تراب المعدن وتميزه كما نقل في تفسيرها صاحب كتاب النوادر في اللغة.
ولكن أين مكان هؤلاء المومسات من سائر نساء العرب اللواتي كن لشدة إيثارهن للعفاف لا يقنعن لأجله بالترفع عن ملابسة المحرمات واقتراف المحظورات، بل يطمحن إلى ما هو أسمى من ذلك همة وأجل فضيلة ويصن النفس أيضا عما هو حل لهن مباح، حتى لقد كانت الفتاة المضطرمة شبابا يعرض عليها الزوج فتأباه لاعتقادها عدم كفاءتها له، أو تؤثر الدميم الخلقة الشريف النسب المشهور بالشجاعة على الصبيح الوجه الضئيل النسب المعروف بالجبن، ثم لا تتزوج الأول حتى تحمله بما استقر لها من السلطة في فؤاده على فعل ما يكسبه الفخر وترامي الصيت بين قبائل العرب، وأنا ناقل في الاستشهاد على ذلك قصة لا أحسب أن التاريخ أورد مثلها عن أمة مثل العرب نشأت في القفار لا أدب لها مكتسب إلا آدابها النفسانية، وهي ما حكاه صاحب الأغاني عن الحارث بن عوف، أنه خطب إلى أوس بن حارثة الطائي ابنته ومعه خارجة بن سنان، فرده أوس لأول وهلة، ثم أجابه وقال لزوجته: ادعي لي فلانة. لأكبر بناته فأتته فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب، قد جاءني خاطبا وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم. قالت: لأني امرأة في وجهي ردة (أي قبح) وفي خلقي بعض الشدة، ولست بابنة عمه فيرعى قرابتي، وليس بجارك في البلد فيستحييك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك الله عليك، ادعي لي فلانة. لابنته الوسطى فدعتها، فقال لها مثل قوله لأختها فأجابته بمثل جوابها وقالت: إني خرقاء ليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون علي في ذلك ما تعلم. فقال قومي بارك الله عليك، ادعي لي بهية. يعني الصغرى فقال لها كما قال لهما. فقالت: أنت وذاك. فقال: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت - ولم يذكر لها مقالتيهما: لكني والله الجميلة وجها الصناع يدا الرفيعة خلقا الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال بارك الله عليك. ثم خرج إلى الحارث فقال له: قد زوجتك يا حارث بهية بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إياه. قال خارجة بن سنان: فلما هيئت العروس بعث بها إليه، فلما أقبلت عليه لبث هنيهة، ثم خرج إلي فقلت: أبلغت شأنك؟ قال: لا. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لما دنوت منها قالت: مه، أعند أبي وإخوتي؟! هذا والله ما لا يكون.
قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا وسرنا ما شاء الله، ثم قال لي: تقدم. فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، وما لبث أن لحق بي فقلت: أكان ما تحب؟ قال: لا والله. قلت: ولم؟ قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليب أو الأخيذة السبي؟! لا حتى تنحر الجزر وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي. قلت: إني لأرى همة وعقلا، وأرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء الله. فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها وخرج إلي فقلت: أبلغت ما تريد؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: دخلت أريدها وقلت لها: قد أحضرنا من المال ما قد ترين. قالت: لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك. قلت: وكيف؟ قالت: أتفرغ لزواج النساء، والعرب تقتل بعضها؟! وذلك في أيام حرب عبس وذبيان. قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم، فأصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: والله إني لأرى همة وعقلا، ولقد قالت قولا فاخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح واحتملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير، وانصرفنا بأجمل الذكر. انتهى ببعض تصرف. فهل سمع قط بمثل هذه العفة الشريفة والعقل الراجح؟ يعرض على الفتيات في شرخ صباهن سيد من سادات العرب فتأباه بعضهن بدعوى أنها لا تصلح له، وترضاه إحداهن وبدلا من أن تتمتع بما أحل لها تصون عنه النفس تعففا؛ أنفة من أن تشتغل بلذتها، بينما الناس يقتل بعضهم بعضا. لا غرو أن مثل هذه العفة في مثل تلك الهمة لغريبة في مثل تلك الفتيات اللواتي لم يصحبن إلا الوحش في الفلوات.
Неизвестная страница