العلم وعلو الهمة
عبد الرحمن بن قاسم (ت 1392ه)
نشر عام 1357ه الموافق 1938م
عالي الهمة يطلب معالي الأمور، وفي (التعريفات) الهمة: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره.
فعالي الهمة يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع عليه لحظة في غير قربة، ويبادر اللحظات.
عالي الهمة يطلب أشرف شيء ينفعه في الدنيا والآخرة، وقد علم بالضرورة أنه ليس في الوجود أشرف من العلم {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11]، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9].
كيف لا والعلم هو الدليل، فإذا عدم وقع الضلال، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم، وبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وبالغفلة عنه زوال النعم وحلول النقم.
وطلب العلم ومعرفة ما قصد به العبد أشرف ما بذلت فيه الأنفاس والمهج؛ وأشرف الأرباح وعنوان الفلاح، وأقرب الخلق من الله العلماء، والعامل من غير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل. قال أبو حنيفة: من ترك الدليل ضل السبيل. اه. ولا سبيل إلى الله والجنة إلا الكتاب والسنة. وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
وقال ابن الجوزي: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في العلم والعمل زادت مرتبته في دار الجزاء انتهب الزمان، ولم يضيع لحظة، ولم يترك فضيلة إلا حصلها.
والعلم ما في الصدور لا ما في القمطر [ما يصان فيه الكتب]، ومن أخلص في طلبه دله على الله، ولا تنال الراحة بالراحة، وعلى قدر التعب تكون الراحة؛ فإن مصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له، كما قال الشاعر:
أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
وفاز بالحق من لم يأله طلبا
وعلو الهمة يدل على عظم العقل، ومن له عقل فهم الخطاب، ومن فهم الخطاب فهم المقصود. ومن عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق.
وينبغي لعالي الهمة الطالب المجد أن ينبعث من قلبه الافتقار إلى ملهم الصواب أن يدله على حكمه الذي شرعه لعباده، ومتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، ومن علامة توفيق الله له صرف همته العالية إلى العلم.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل) [إسناده ضعيف].
وأرشد صلى الله عليه وسلم معاذا لما بعثه إلى اليمن إلى سياسة حكيمة نافعة في التعليم قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فهذا بيان كيفية التعلم؛ البداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، ثم ينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض المتعلمين من الاشتغال بالفروع والذيول فضلا عن الفضول، ومن ترك الأصول حرم الوصول.
وأصل الأصول وأشرف الكلام كلام الله؛ فيه الهدى والنور، قال صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به).
وقال: (إنها ستكون فتن) قالوا: فما المخرج منها؟ قال: (كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) [ضعيف].
وكان يقول في خطبه: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).
وحض صلى الله عليه وسلم على التمسك به وبسنته في غير ما موضع، وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله وسنتي) فنفى الضلال عمن تمسك بهما. وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
إن عالي الهمة لا يؤثر على كتاب الله شيئا، فإنه كلام الله أنزله بلغة رسوله صلى الله عليه وسلم سيد العرب وأفصح العرب، ولغته أفصح اللغات وأوسعها وأدخلها في الإعجاز.
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحافظ على ألفاظ القرآن في تعبيراته، وكان الصحابة والتابعون يتحرون ألفاظ النصوص، وحدث خلوف رغبوا عن ألفاظ النصوص، وأقبلوا على الألفاظ الحادثة، وألفاظ النصوص من الكتاب والسنة حجة وعصمة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولهذا كانت علوم الصحابة والتابعين أصح من علوم من بعدهم وأفصح وأقل تكلفا فيما يروونه من المعاني، بل لما استحكم هجران النصوص عند أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في غاية الفساد والتناقض، فاتباع السنة- والله الذي لا إله إلا هو- نجاة؛ والسنة هي التي نقلها أهل العلم كابر عن كابر ومن رزقه الله العلم والنظر في سير السلف رأى أن هذا العالم في ظلمة، وجمهور العالم على غير جادة، ولو رفعوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء لرفعهم الله كما رفع سلفهم، ولأعزهم كما أعزهم {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}.
ألم يعلموا أن الأخذ بالعلم النافع من علامة كمال العقل، وصرف الزمان إلى حفظ ما غيره أولى من سخافة العقل والرضى بالدون.
ومن أكبر الرزايا وأعظم البلايا أن يعطيك الله همة عالية، ويمنعك من العمل بمقتضاها.
إن عالي الهمة لا يستبدل الأدنى بالذي هو خير، من بدل القراءة من كتاب الله وسنة رسوله وكتب أهل السنة والاهتداء بها والأخذ بها غيرها- فقد بدل نعمة الله كفرا، واستبدل الأدنى بالذي هو خير.
من ضيع ذهنه الوقاد الذي يميز به في الفضول فقد بدل نعمة الله كفرا، واستبدل الأدنى بالذي هو خير، والله سبحانه يجزيه بجنس عمله، فمن استبدل الأدنى بالأعلى فإن الله يبدله بالعز ذلا وبالفرح غما وبالسرور حزنا وبقرة العين سخنة العين: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 16].
وليس هذا كمن استبدل البقل بالمن لا والله. العلم قوت الروح، ويحتاجه الإنسان كل لحظة وذاك قوت البدن (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه).
ولا دواء لهذا إلا الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3]، و {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
عليك بكتاب الله وسنة نبيه، وأعظم سبب في تحصيلهما التقوى، قال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاص
ويحفظ العلم بالتذاكر والفهم، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.
وإذا ظفرت برجل من أهل العلم، طالب للدليل، محكم له، متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان، فاشدد يديك به.
وقف في مواقف الابتهال إلى ذي العزة والجلال، وانطرح بين يديه بالأسحار، وقل: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني. واعلم أن الله تعالى يثيب العامل المخلص رزقا عاجلا- إما للقلب أو البدن أو لهما- ورحمة مدخرة في خزائنة.
فلا تسأمن العلم واسهر لنيله
بلا ضجر تحمد سرى السير في غد
ولا يذهبن العمر منك سبهللا
ولا تغبنن في النعمتين بل اجهد
واعلم بأن جمع الهم أصل الأصول، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلم للعمل به؛ فإنه كلما دله على فضل اجتهد في نيله، وكثيرا ما ترى من يثب ويثيب وهو يقرأ، ولم يحصل على طائل لمانع قام به من نفسه لا من ربه {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49].
ولقد حصل من الغفلة عن الكتاب والسنة اللذين لا نجاة للعبد إلا بمعرفتها والعمل بهما ما يشجي الصدور، ويدمي القلوب، وصار اشتغال بعض طلاب العلم بالعلوم المزاحمة لهذا الأصل الأصيل والمنهل العذب الجليل، بل أصبحت حالهم تدمي العيون، وتفتت الأكباد، وتسقط القلوب، وتقتل النفوس الحية، ولقد كثر من يدعي العلم، وقل العلماء حقيقة، القائمين بما حملهم الله به، وصار كثير ممن يطلب العلم لحظوظ الدنيا، وأعرضوا عن الكتاب والسنة فلم يذوقوا لها حلاوة، ووقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: (إنكم في زمان قليل قراءه، كثير فقهاؤه، وسيأتي بعدكم زمان كثير قراؤه، قليل فقهاؤه) [من كلام ابن مسعود] فإنا لله وإنا إليه راجعون (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).
بل أصبحنا في جيل اتخذوا البدع والخرافات حجة وسندا على أن الكتاب والسنة غير صالح للترقية البشرية، ولا سيما في هذه القرون؛ قرون المدنية والحضارة، جهلا منهم بالدين الحنيف .. !! ولو تأملوا قليلا لعلموا أنهم في ضلال مبين، وجرى الأكثر وراء المدنية، وغلغلها في نفوسهم طائفة من المبتدعين حتى رموا الدين بالجمود والرجعية، فأصبحت تعاليم الدين في خبر كان، والله المستعان.
Страница 36