ولشخصية جحا مقام أثيل في الأدب، هو شخصية أخرى غير جحا العامة، جحا الأدباء رجل عاقل حكيم تخرج فكاهاته كما لو كانت فقاقيع الحكمة، أما جحا العامة فهو رجل مغفل يكاد لعاب البلاهة يسيل من فمه، لا ترتفع فكاهته إلى مقام النكتة، ولا يضحك منها غير السذج الذين لم تتكون عندهم حاسة النقد أو على الأقل تمتد سباته.
وهاتان الشخصيتان، جحا العاقل وجحا المغفل، تدلان على تعدد الأصل لهذه الفكاهات التي تعزى إلى ما نسميه «جحا»، والتفسير لهذه الظاهرة يمكن أن نصل إليه بأن نفرض أنه كان هناك رجل عاقل يرسل كلماته نكات حكيمة خفيفة كأنها فقاعات، فلما طارت شهرته صارت تعزى إليه فكاهات أخرى لا تبلغ مستواه ولكنها تنحو نحوه، ثم انحدرت هذه الفكاهات إلى العامة فتشممت الحشيش الذي خيمت أبخرته على العقول، وخدرتها، فكانت هذه الكلمات البلهاء التي نقرأها ويقال لنا: إنها من صنع جحا.
ولما ساد الأتراك على الشعوب العربية أخذوا جحا معهم فيما أخذوه من كنوز العرب، فجعلوه «خوجا» وعزوا إليه نكات وفكاهات تدل على حكمته أو على تغفله، ولكن ليس هناك شك في الأصل العربي لجحا، وفي أنه كان حكيما قبل أن تنمو على اسمه، وتستغل شهرته فكاهات سخيفة لا يمكن أن تعزى إلا إلى الحشاشين، ونحن هنا إزاء شخصية اختلطت بروايات التاريخ الصحيحة والكاذبة، كما حدث لشخصية أبي نواس على النظم فوق المستوي، ولكن روحه كانت فاسقة، فأضاف إليه التاريخ بعد موته عشرات أو مئات من القصص التي تجري مجرى فسقه، ولكنها لا يمكن أن تكون صحيحة؛ لأنها كانت على الدوام دون مستواه في الشعر.
كان جحا العاقل يقول حين سأله أحدهم: أيهما أفضل يا جحا؟ المشي وراء الجنازة أم أمامها؟ فقال جحا: لا تكن على النعش وامش حيث شئت.
وكان عاقلا أيضا حين كان أحدهم يغتسل في بحيرة وسألوا جحا: إذا أراد الإنسان أن يغتسل فإلى أي جهة يجب أن يوجه وجهه؟ فقال جحا: يوجه وجهه إلى الجهة التي فيها ثيابه.
ومثل هاتين النكتتين يمكن أن نجدهما عند الجاحظ أو أي أديب عظيم، ولكن جحا المغفل، الحشاش، الذي ظهرت نكاته بعد وفاة جحا الأصلي بقرنين أو ثلاثة قرون، ينطق بالسخف الذي يضحك الفارغين والسذج، فمن هذا مثلا:
ورث جحا نصف دار عن أبيه، فقال: أبيع حصتي من الدار وأشتري الباقي، فتصير الدار كلها لي.
وأيضا: أكل يوما مع قوم رؤساء، فلما فرغ من الطعام دعا للقوم فقال: أطعمكم الله رءوس أهل الجنة.
وسمع قائلا يقول: ما أحسن القمر، فقال: أي والله خاصة بالليل.
وتوضأ يوما ولم يكف الماء رجله اليسرى، فلما قام يصلي وقف على رجله اليمنى ورفع اليسرى، فقيل له: لماذا فعلت ذلك؟ قال: طروف رجلي هذه غير متوضئة. •••
Неизвестная страница