وعرف صلاح الدين هذه الممالآت أو المحالفات، فقدم إلى مصر وجعل يعمل في السياسة وفي الحرب معا، وكانت مصر تعاني انهيارا في كلا الفنين، وذلك لأن العرش الفاطمي كان قد وصل إلى آخر أنفاسه من حظه من الحياة، ولم يكن للخليفة الفاطمي أية سلطة إزاء رجال قصره، ورأى صلاح الدين عرشا فارغا فاعتلاه وملأه.
ولكن صلاح الدين أحس أن له رسالة، ليست هي أن يملأ العرش ويتولى الحكم، وإنما هي مقاتلة الصليبيين حتى يخرجهم من فلسطين، ولم يعرف وهو ملك، ملذات القصور ودعة السلطان الذي يؤدي عنه وزراؤه الثقيل من الوجبات المدنية، وجعل يقاتل الصليبيين في كل مكان، ووجد في ريتشارد قلب الأسد قريعا، وكان القتال ينقطع من سنة إلى أخرى ولكنه كان يعود أحر مما كان.
ولم تكن العلاقات التجارية بين المسيحيين والمسلمين مقطوعة؛ ذلك لأن كلا من الفريقين رأى من الحسن لهما كليهما، أن يبقى شيء من الصلات قائما، ولذلك عندما نقرأ كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، الذي عاش في الحروب الصليبية، نجد أن الاختلاط بين المدنيين لم يكن منقطعا.
ويذكر الأوروبيون قصصا وأساطير عن صلاح الدين، كلها برهان الشهامة والترفع والإنسانية، من ذلك مثلا أن امرأة رأته فصارت تضرع وتولول وتنادي باسمه فاستدعاها وسألها عما تشكوه، فأخبرته بأن ابنها قد أسر، أي: أنها كانت مسيحية وأن ابنها كان يقاتل المسلمين، وتضرعت إليه كي يفك إسار ابنها وخاصة لأنه وحيدها، فلما تأمل صلاح الدين حالها، وهي حال الأم التي تفقد وحيدها، رق لها وأسلم إليها ابنها، وعندما نتأمل هذه القصة يجب ألا نقيم الشبه بينها وبين أسرى الحرب في أيامنا، فإن لهؤلاء حقوقا تعترف بها الدول، أما في أيام صلاح الدين فكان الأسير يقتل أو يباع.
ويذكر الأوروبيون أيضا أن ريتشارد قلب الأسد لزم فراشه لمرض ألم به فلما سمع صلاح الدين ذلك أرسل إليه أطباءه لمعالجته.
هذا شيء من أخلاق صلاح الدين التي جعلت الأوروبيين يقدرونه ويحترمونه، وهو يبدو من مؤلفاتهم، وكذلك من مؤلفات المؤرخين العرب، أنه كان شخصية فذة.
وحسبنا أن نذكر حادثة أثرت عنه، فإنه لما أحس باقتراب الموت، وهو في فراشه، أمر بتهيئة الكفن، وهو قطعة من القماش لا تزيد على ثلاثة أمتار طولا في متر ونصف متر عرضا، ثم أمر أحد الخدم بأن يحمل هذا الكفن ويخرج به إلى شوارع دمشق ويسير فيها مناديا، هذا هو كل ما سيأخذه صلاح الدين إلى قبره حين يموت، ومات بعد أيام ووسد التراب.
ما أعجب هذه العظة، ليس للملوك وحدهم، بل لكل إنسان على هذا الكوكب. •••
الحرب قطيعة وإحنة وشر، وليس من شك في أن الحروب الصليبية حوت كثيرا من الشرور والآثام، ولكنها مع ذلك أوجدت كثيرا من التعارف بين الشرق والغرب وهدمت السور الذي كان يفصل بينهما.
والذي يقرأ كتاب أسامة بن منقذ، الذي عاش هذه الحروب وروى الكثير من حوادث حياته الاجتماعية والسياسية فيها، يحس بأن ما يتوهمه من قطيعة فاصلة بين العرب والأوروبيين لم يكن حقيقيا؛ إذ كان هناك الكثير أيضا من الاتصالات التجارية بل الإنسانية.
Неизвестная страница