خرج إلى التلال والنهار يلج في الليل، وأخذ يسمع صوتا كصوت زقزقة أو دندنة. غير أنه كان يعرف كل الأصوات التي يمكن أن تصدرها الطيور، وكان يدرك أن هذا الصوت ليس بصوت طائر. وبدا له أن هذا الصوت خرج من حفرة عميقة غير بعيدة؛ لذا أخذ يزحف ويزحف برفق إلى حافة الحفرة، ثم انبطح أرضا، ورفع رأسه بالقدر الذي يمكنه فقط من رؤية ما أمامه.
لم ير بالأسفل سوى مجموعة من المخلوقات لم يبلغ طول أي منها طول طفل في عامه الثاني، إلا أنه لم يكن بينهم طفل على الإطلاق؛ إنهن نساء صغيرات ذوات طلة جميلة ويرتدين فساتين خضراء اللون. وكن مشغولات بشدة؛ فبعضهن يخبز الخبز في تنور صغير، وبعضهن يصب الخمور من براميل صغيرة في أوعية زجاجية، وغيرهن يمشطن شعر أخريات، وكن يدندن ويزقزقن طوال الوقت، ولا ينظرن إلى أعلى أبدا ، ولا يرفعن رءوسهن أبدا، ولا ينظرن إلا على ما يقمن به. لكن كلما واصل الإنصات إليهن، ظن أنه يسمع شيئا يألفه، ثم اتضح الصوت - أو الأغنية القصيرة التي كن يغنينها - أكثر فأكثر. وأخيرا، صارت واضحة كدقات الجرس. «ويل أوفوب، ويل أوفوب، ويل أوفوب.»
الكلمة الوحيدة التي كن ينطقن بها هي اسمه. ولم تعد تلك الأغنية عذبة كما بدت له عندما سمعها لأول مرة؛ فقد صارت كلها قهقهات، غير أنها قهقهات غير لطيفة جعلت ظهره يتصبب عرقا باردا. وتذكر في الوقت نفسه أن تلك الليلة كانت ليلة عيد القديسين أو ما يسمى بالهالوين؛ وفي هذا الوقت من كل عام تفعل هذه المخلوقات ما يروق لها مع أي مخلوق بشري؛ لذا نهض وركض عائدا إلى بيته بسرعة كبيرة لا تمكن أي عفريت من اللحاق به.
وظل طوال الطريق يسمع أغنية «ويل أوفوب، ويل أوفوب» ترن خلف أذنيه مباشرة دون أن يعلو الرنين أو يخفت أبدا. وصل إلى البيت، ودخله وأغلق الأبواب وجمع أولاده كلهم حوله، وبدأ يصلي لربه بأعلى صوت، ولم يكن يسمع هذه الأغنية طوال صلاته. لكنه عندما سمح لنفسه أن يتوقف قليلا عن الصلاة ليلتقط أنفاسه، وجد أن الصوت يأتي إليه من المدخنة، ومن شقوق باب البيت، بل وصار أعلى بينما تشوش هذه المخلوقات عليه صلاته وتخالطها، ولم يجرؤ أن يستريح حتى حلول منتصف الليل عندما دعا ربه قائلا: «رحماك ربي!» وسكت بعدها. لم يسمع بعد ذلك صوت هذه المخلوقات أبدا، ولو زقزقة واحدة. أما خارج البيت، فلم يزل الوقت ليلا كأي ليلة، وكان سلام الرب يغشى الوادي من أقصاه إلى أقصاه. •••
ثم في مرة أخرى في الصيف، ولكن في ساعة متأخرة ليلا وبينما هو في طريقه إلى البيت بعد أن أغلق الحظيرة على الأغنام؛ ظن أنه يرى بعض جيرانه على مسافة منه، وخطر بباله أنهم راجعون إلى البيت من سوق بلدة موفات، حيث كان ذلك اليوم يوم سوق موفات حقا؛ لذا ظن أنه سوف ينتهز الفرصة ويسرع قليلا ليتحدث إليهم ويعرف أخبارهم وكيف كان يومهم في السوق.
وما إن اقترب منهم بالقدر الكافي، حتى نادى عليهم.
لكن لم ينتبه أي منهم له؛ لذلك نادى عليهم مرة أخرى، ولكن لم يستدر أو ينظر إليه أي منهم. يستطيع أن يتبينهم جيدا من ظهورهم، بملابسهم الريفية وقبعاتهم، رجالا ونساء بأحجامهم الطبيعية، لكنه لم يكن بإمكانه النظر إلى وجوههم؛ إذ كانوا ما يزالون يعرضون عنه. ولم تكن تبدو عليهم العجلة، بل كانوا يتلكئون ويتسامرون ويثرثرون، وكان بإمكانه سماع كلامهم وإن لم يستطع تفسير ما يقولونه على وجه التحديد.
لذا أسرع الخطى في تتبعهم، وفي النهاية ركض خلفهم حتى يلحق بهم، لكنه لم يستطع مهما زاد من سرعته، وإن كانوا لا يسرعون في خطاهم على الإطلاق، وما زالوا يتسكعون وحسب. ولم يخطر بباله - وهو مشغول بالتفكير في اللحاق بهم - ولو لبرهة أنهم غير متجهين إلى بيوتهم على الإطلاق.
إنهم كانوا لا يسيرون باتجاه الوادي، بل باتجاه واد جانبي صغير وضيق بعض الشيء به جدول صغير يتدفق إلى وادي إتريك. ومع خفوت الضوء، كانت الرؤية تزداد ضبابية وتشويشا ويزداد عددهم، وهو أمر يدعو للغرابة!
ومن سفح التلال خرج تيار هواء بارد، وإن كان المساء مساء صيف دافئ.
Неизвестная страница