كنت أعلم أن كون والدتي أكبر من والدي كان أحد الأشياء التي كانت جدتي تراها غير مناسبة منذ البداية. وسرعان ما تكشفت أشياء أخرى، مثل حقيقة أن والدتي قد تعلمت قيادة السيارات، وأن طراز ملبسها من الطراز الحديث، وأنها قد انضمت إلى معهد السيدات العلماني وليس إلى الجمعية التبشيرية للكنيسة المتحدة، والأسوأ من ذلك كله أنها قد شرعت تجوب الريف لتبيع الأوشحة والقبعات المصنوعة من فراء الثعالب التي كان زوجها يربيها، ثم اتجهت إلى مجال التحف حين بدأت صحتها تضعف. وبقدر ما كان التفكير على هذا النحو قد يكون جائرا - وهي نفسها كانت تعرف أنه جائر - ظلت جدتي عاجزة عن منع نفسها من النظر إلى هذا المرض، الذي ظل مجهولا لفترة طويلة، وكان نادرا لمن هم في سن أمي، كمظهر آخر من مظاهر التعمد والافتعال، وسعي آخر وراء جذب الأنظار.
أما زواج جدي، فلم أشهده عمليا، ولكن سمعت عدة روايات له؛ من أمي التي لم تكن تهتم بجدتي مثلما لم تكن جدتي تهتم بها، ومع تقدمي في العمر سمعت روايات من أناس آخرين أيضا لم يكن لديهم أي تحيزات؛ فكان الجيران الذين كانوا يمرون بمنزل جدي في طريقهم إلى منازلهم عائدين من المدرسة عندما كانوا صغارا يحكون عن حلوى المارشميلو المنزلية التي كانت تصنعها جدتي بيديها، وعن مضايقاتها للآخرين وضحكها، ولكنهم قالوا إنهم كانوا يخشون قليلا من جدي. لم يكونوا يقصدون أنه كان سيئ الطباع أو وغدا؛ فقط كان صامتا. فقد كان الناس يكنون احتراما كبيرا له؛ فقد خدم لسنوات في مجلس البلدة، وكان معروفا بأنه الشخص الذي يلجأ إليه الآخرون حين يضطرون لطلب المساعدة في ملء وثيقة، أو في كتابة خطاب عمل، أو حال احتاجوا إلى شرح لإجراء حكومي جديد. كان مزارعا ماهرا، ومديرا ممتازا، ولكن لم يكن هدف إدارته هو كسب المزيد من المال، بل لإفساح مزيد من الوقت للقراءة. كان صمته يجعل الناس في حالة اضطراب، وكانوا يعتقدون أنه لم يكن بالرفيق المناسب لامرأة مثل جدتي؛ فقد كان يقال إنه لم يكن ثمة أي وجه شبه بينهما وكأنهما قد جاءا من جانبين مختلفين للقمر.
لم يقل أبي قط إنه قد وجد هذا البيت الصامت الذي نشأ فيه غير مريح على نحو خاص؛ فدائما ما يوجد الكثير للقيام به في أي مزرعة. وقد كان إنجاز الأعمال والمهام الموسمية هو ما كان يشكل محتوى أي حياة - أو كان كذلك آنذاك - وكان هذا هو أهم ما في معظم الزيجات.
غير أنه لاحظ كيف أن والدته قد أصبحت شخصا آخر مختلفا، وكيف أنها كانت تنفجر فرحا عند قدوم رفقة.
كان ثمة آلة كمان في الردهة، وكان أبي قد نضج وكبر قبل أن يعلم سبب وجود هذا الكمان، وأنه يخص والده، وأن والده اعتاد العزف عليه.
كانت أمي تقول إن حماها كان رجلا نبيلا عجوزا يتميز بالرقة والهيبة والمهارة، وإنها لم تكن تتعجب من صمته؛ لأن جدتي كانت دائما ما تغضب منه لأتفه الأشياء. •••
لو كنت قد سألت الخالة تشارلي صراحة عما إذا كان جداي قد نعما بالسعادة معا، لعادت إلى نبرة التعنيف والتوبيخ مرة أخرى. سألتها عن سمات جدي الأخرى خلاف الصمت، وقالت إنها لا يمكنها تذكره جيدا في واقع الأمر. «كان غاية في الذكاء والعدل، رغم أنه كان عنيفا في غضبه.» «كانت أمي تقول إن جدتي كانت دائما ما تضجر منه.» «لا أعرف من أين أتت والدتك بهذا الكلام.» •••
لو نظرت إلى صورة العائلة التي التقطت حين كانوا صغارا، وقبل وفاة شقيقة جدتي ماريان، لقلت إن جدتي قد خطفت معظم الأنظار وسط العائلة، بطول قامتها، ووقفتها المعتدة بنفسها، وشعرها الرائع؛ فهي لا تبتسم إلى المصور فقط، بل تبدو ضاحكة ضحكة مقتضبة. كانت في قمة الحيوية والثقة، ولم تتغير هيئتها، ولم تقصر قامتها أكثر من نصف بوصة فقط. ولكن في هذا الوقت الذي أتذكره (وقت كانت كلتاهما فيه في نفس عمري تقريبا) كانت الخالة تشارلي هي مثار حديث الناس الذين كانوا يصفونها بالسيدة العجوز الحسناء؛ فقد كانت لها عينان زرقاوان صافيتان، بلون أزهار نبات الشيكوريا، وخفة كبيرة في حركاتها، وميلة رأس لطيفة. لعل أفضل كلمة تصفها هي أنها كانت «فاتنة».
كان زواج الخالة تشارلي هو أكثر الزيجات التي استطعت رصدها؛ لأن العم سيريل لم يفارق الحياة حتى بلغت الثانية عشرة.
كان رجلا قوي البنية مفتول العضلات ذا رأس كبير زاده حجما شعره المجعد الضخم، كان يرتدي نظارة كانت إحدى عدستيها من الزجاج ذي اللون الكهرماني الداكن لتخفي العين التي كانت قد أصيبت حين كان طفلا. لا أعرف إن كان لا يبصر تماما بتلك العين أم لا؛ فلم تتسن لي رؤيتها مطلقا، وكنت أشعر بالغثيان من مجرد التفكير فيها؛ فقد رسمت في خيالي ركاما صغيرا من هلام داكن يهتز. أتيحت له قيادة سيارة أيا كان، وكانت قيادته سيئة جدا. أذكر ذات مرة حين عادت أمي إلى المنزل، وقالت إنها قد رأته والخالة تشارلي في البلدة وكان قد دار بسيارته للخلف في منتصف الشارع ولم تكن لديها أدنى فكرة كيف سمح له بالإفلات بهذه الفعلة. «إن تشارلي تخاطر بحياتها في كل مرة تطأ قدماها تلك السيارة.»
Неизвестная страница