والعقل العلمي هو أعلى صور هذه الملكات العملية المتواضعة، إذن ما العلم؟ إنه معرفة قوانين الطبيعة. على أن القانون هو تعاقب للحوادث يدركه المرء وسط التيار المعقد للظواهر الطبيعية، وهنا نجد فكرة عامة عن التجربة العلمية، متشابهة تماما لفكرة جون ستيورت مل.
15
فإدراكنا لقانون ما، هو أن «نستقرئ».
واستقراؤنا لا يعني إلا أن نجرد، أي أن نقتطع بالفكر تعاقبا محددا من تصورنا المعقد للظواهر؛ فقولنا مثلا إن الماء يغلي في درجة 100o تحت ضغط 76سم من الزئبق، معناه أن نعزل بالفكر المجموع الذي يكونه الوعاء الممتلئ ماء فوق الموقد، ومقياس الحرارة وأنبوبة الضغط الجوي.
وبالمثل يدل «الاستنباط» على التعميم أي أن ننقل بالخيال تجمعا فكريا سبق عزله إلى مجموع جديد. فالبرهنة على نظرية فيثاغورس مثلا معناها أن ندرك، في المثلث القائم الزاوية الذي نسقط فيه عمودا من الزاوية القائمة على الوتر، مثلثات داخلية قائمة الزاوية نعرف على التو أنها مشابهة للمثلث الأصلي والبرهنة على هوية ما، هي أن ندرك فيها هويات أخرى سبقت البرهنة عليها.
ومن هذا ينتج أن الذكاء ليس إلا القدرة على التجريد والتعميم. وأن المعرفة العلمية لا تتجاوز تكوين التصورات. فهو بأسره آلي وفني عملي أو صناعي إن جاز هذا التعبير. وهو يدع جانبا كل ما هو رفيع، وجريء، وتجديدي ومنزه، أعني أنه يغفل كل ما يتصف به «التفكير» الصحيح من عمق وإنكار الذات.
ذلك لأن التفكير ليس هو الذكاء، ومهمة الحدس الحقيقية هي أن يملأ الهوة بين التفكير والذكاء. فالحدس هو العنصر الذي يتجاوز العقل في التفكير. (2) الحدس والشعور
الحدس، كما يقول برجسون هو «رؤية الروح للروح مباشرة، فالحدس إذن يعني الوعي المباشر أولا، والرؤية التي لا تكاد تتميز عن الشيء المرئي، والمعرفة التي هي وعي، بل في اندماج.»
وإذن فبينما يظل العقل خارجا عن التفكير بمعناه الصحيح، ومتجها بأسره نحو المادة، ومتكيفا معها، فإن الحدس هو معرفة للتفكير الصحيح وهو شعور حقيقي أساسي .
وهو يصل في لمحة واحدة إلى تفكير الآخرين، ويتعاطف معه، ويواصل برجسون وصفه للحدس قائلا: «ألا يمضي الحدس إلى أبعد من ذلك؟ أليس هو حدسنا لأنفسنا؟ الحق أن الفارق بين وعينا ووعي الآخرين أقل حدة من الفارق بين جسمنا وأجسام الآخرين، إذ إن المكان هو الذي يحدث التقسيمات الحاسمة. وأن التعاطف أو التنافر التلقائيين، اللذين تصدق نبوءتهما في الغالب، يشهدان بإمكان تداخل الوعي بين مختلف الناس.» (3) الحدس والحياة
Неизвестная страница