إن أصحاب الطباع السلبية يستخفون إلى حد ما بجرائم بريطانيا، ولسان حالهم - في غمرة أمنياتهم بأن يأتي الأفضل - يقول مناديا: «تعالوا، تعالوا، ينبغي أن نعود أصدقاء مجددا.» ولكني أقول لهؤلاء ادرسوا المشاعر والعواطف البشرية، وضعوا مبدأ المصالحة أمام اختبار الطبيعة، ثم أخبروني هل يمكنكم بعد ذلك أن تحبوا، وتحترموا، وتعملوا بإخلاص في خدمة القوة التي أعملت الحديد والنار في بلادكم؟ فإذا لم تستطيعوا فعل كل هذا فإنكم فقط تخدعون أنفسكم، وبتأخركم تجلبون الخراب على الأجيال القادمة. وسوف تكون علاقتكم المستقبلية ببريطانيا - التي لا تستطيعون أن تحبوها أو تحترموها - علاقة قسرية غير سوية، ولأنها تتشكل فقط وفقا لخطة ملاءمة ظرفية، فإن تلك العلاقة سوف تتعرض خلال وقت قصير لانتكاسة أسوأ من الانتكاسة الأولى. ولكن إذا قلتم إنكم ما زلتم تستطيعون ابتلاع الإهانات والتجاوز عن الانتهاكات، فإنني أسألكم: هل أحرقت بيوتكم؟ هل دمرت ممتلكاتكم أمام أعينكم؟ هل لا تجد زوجاتكم وأطفالكم فراشا ينامون عليه أو خبزا يعيشون عليه؟ هل فقدتم والدا أو ابنا على أيديهم لتصبحوا أنتم الناجين التعساء البائسين؟! إذا لم يحدث هذا لكم، فليس بوسعكم الحكم على من تعرضوا له. ولكن إذا كان ذلك قد حدث لكم وما زلتم تستطيعون مصافحة أيدي القتلة، فإنكم غير جديرين باسم الزوج أو الأب أو الصديق أو المحب، وأيا كانت مراتبكم أو ألقابكم في الحياة، فإن قلوبكم قلوب جبناء وأرواحكم أرواح أذلاء.
ليس هذا تأجيجا للنيران أو مبالغة في وصف الأمور وإنما هو محاولة لمعايشتها بالمشاعر والأحاسيس التي تبيحها الطبيعة، والتي بدونها سنكون عاجزين عن أداء الواجبات الاجتماعية في الحياة، أو التمتع بهنائها. إنني لا أقصد عرض هذا الرعب بغرض استثارة مشاعر الانتقام، وإنما أريد أن نستيقظ من غفوات قاتلة خبيثة، لكي يمكننا السعي بحسم وراء هدف ثابت. وليس بمقدور بريطانيا ولا بمقدور أوروبا كلها أن تهزم أمريكا ما لم تهزم أمريكا نفسها بفعل «التأخير» و«الجبن». والشتاء الحالي يساوي في قيمته دهرا كاملا إذا استغل على النحو الصحيح، ولكن إذا ضاع أو أهمل فستعم الكارثة القارة بأسرها، ولن يكون هناك عقاب كاف لأي إنسان يستغل وسيلة للتضحية بشتاء بكل هذه القيمة والفائدة، أيا كان هذا الإنسان وأينما وجد.
إنه لمن المنافي للعقل، وللنظام العام للأشياء، ولجميع الأمثلة من العصور السالفة أن نفترض أن هذه القارة يمكن أن تظل وقتا أطول خاضعة لأي قوة خارجية. إن أكثر الناس تفاؤلا في بريطانيا لا يعتقد ذلك. ولا يمكن لأقصى درجات الحكمة البشرية - في هذا الوقت - وضع خطة لا تحقق الانفصال، الذي يمكن أن يحقق للقارة ولو عاما من الأمان. لقد أصبحت المصالحة الآن حلما زائفا مراوغا. لقد نبذت الطبيعة الارتباط بين البلدين، ولا يمكن للخديعة أن تأخذ مكانها؛ فكما قال ميلتون بحكمة: «لا يمكن أن تنمو مصالحة حقيقية أبدا في موضع اخترقته جراح الكراهية القاتلة بعمق.»
لقد كانت كل الطرق الهادئة لإحلال السلام عقيمة؛ فرفضت تضرعاتنا بازدراء؛ ولم تحقق شيئا سوى إقناعنا أنه ما من شيء يرضي الغرور أو يؤكد تعنت الملوك أكثر من الالتماسات المتكررة؛ وما من شيء أسهم أكثر من ذلك المعيار نفسه في جعل الملكيات في أوروبا ملكيات مطلقة: وانظر حالة الدنمارك والسويد. لذا، لما لم يكن أي شيء سيحقق المطلوب سوى القتال، فدعونا بالله عليكم نصل إلى الانفصال النهائي ولا نترك الأجيال القادمة يذبح بعضها بعضا، تحت شعار مسميات مدنسة مبهمة مثل «الدولة الأم» و«الأبناء».
إن القول بأنهم لن يعودوا لظلمهم مرة أخرى أبدا لهو خيال واهم متبطل، فقد تصورنا ذلك عند إلغاء قانون الطوابع، ثم زالت أوهامنا بعد عام أو اثنين لا أكثر؛ لأنه وإن صح ذلك فيمكننا أيضا أن نفترض أن الأمم التي هزمت ذات مرة لن تقوم لها قائمة أو تجدد الصراع مرة أخرى أبدا.
وفيما يتعلق بشئون الحكومة فإن بريطانيا لا تستطيع إنصاف هذه القارة؛ فهذا الأمر سرعان ما سيصبح أثقل وأعقد من أن تنهض به - بقدر مقبول من الراحة - قوة بعيدة عنا وشديدة الجهل بأحوالنا؛ لأنه طالما أنهم عجزوا عن إخضاعنا، فإنهم لا يستطيعون حكمنا. إن السفر المتكرر مسافة ثلاثة أو أربعة آلاف ميل لعرض حكاية أو رفع عريضة، ثم الانتظار أربعة أو خمسة أشهر للحصول على رد - وعندما تحصل عليه تجده بحاجة إلى خمسة أو ستة ردود أخرى لشرحه وتفسيره - لهو أمر لا بد أن ينظر له بعد مرور بضع سنين على أنه حماقة وسذاجة؛ لقد كان حدوث ذلك في وقت مضى مناسبا، وكذلك هناك وقت مناسب للتوقف عنه.
إن الجزر الصغيرة غير القادرة على حماية نفسها هي الأهداف المناسبة التي يمكن أن تضمها الممالك تحت جناح رعايتها؛ ولكن من الغرابة والسخافة إلى أبعد حد أن نفترض أن تظل قارة كاملة خاضعة على الدوام لحكم جزيرة صغيرة. إن الطبيعة لم تجعل قط قمرا تابعا أكبر من الكوكب الذي يدور حوله، ولما كانت إنجلترا وأمريكا - بالمقارنة بينهما - تعكسان النظام العام للطبيعة، فمن البديهي أنهما تنتميان لنظامين مختلفين؛ إنجلترا تنتمي لأوروبا وأمريكا لنفسها.
إنني لست منقادا بدوافع فخر أو تحيز أو سخط لتبني مبدأ الانفصال والاستقلال؛ وإنما أنا مقتنع بوضوح وإيجابية وضمير حي أن المصلحة الحقيقية لهذه القارة أن تكون مستقلة، وأن كل ما هو دون ذلك هو فقط ترقيع، ولا يمكن أن يحقق السعادة الدائمة؛ وسيعني أن نترك السيف بأيدي أبنائنا، ونتقهقر في خوف في وقت يمكن فيه لقليل من الجهد وقليل من التقدم الإضافي أن يحقق لهذه القارة مجدا لا يدانيه مجد.
ولما كانت بريطانيا لا تظهر أدنى ميل نحو التوصل إلى تسوية، فيمكننا التيقن من أننا لن نحصل على اتفاق يحوز قبول القارة، أو أي سبل تساوي تكلفة الدم والمال التي أجبرنا بالفعل على دفعها.
إن الشيء المتنازع عليه لا بد أن يحمل دائما قيمة تتناسب مع النفقات. والتخلص من رئيس الوزراء البريطاني اللورد نورث، أو وزارته المقيتة كلها، هو أمر لا يستحق الملايين التي أنفقناها؛ فإيقاف مؤقت للتجارة كان سيمثل إزعاجا كافيا لموازنة إلغاء جميع القوانين موضوع الشكوى، لو حدث هذا الإلغاء؛ ولكن إذا كان لا بد أن تحمل القارة كلها السلاح، ويصبح كل رجل جنديا، فلا يمكن أن يكون هذا من أجل النضال ضد وزارة تافهة متعجرفة فحسب. إننا إذن ندفع ثمنا باهظا من أجل إلغاء القوانين، لو كان هذا هو كل ما نقاتل من أجله؛ لأننا - في حساب منصف للأمور - سنجد أنه من الحماقة أن ندفع الثمن الذي دفعناه في معركة «بانكر هيل» مقابل قانون أو أرض. ولأنني اعتبرت دائما أن استقلال هذه القارة حدث سيقع حتما عاجلا أم آجلا، فإنني أعتقد - من واقع التقدم السريع الذي حققته القارة مؤخرا نحو النضج - أن هذا الحدث لا يمكن أن يكون بعيدا. لذا فمع اندلاع أعمال القتال، لم يكن مهما المجادلة في أمر أصلحه الزمن أخيرا؛ وإلا فإن هذا أشبه بإضاعة عقار من أجل رفع دعوى قضائية ضد تجاوزات مستأجر أوشك عقده على الانتهاء. لم يكن هناك من هو أكثر مني حماسا في تمني الصلح قبل تاريخ التاسع عشر من أبريل/نيسان 1775، ولكن في اللحظة التي ذاع فيها خبر ما حدث في ذلك اليوم، كرهت إلى الأبد فرعون إنجلترا الغليظ الحقود؛ واحتقرت ذلك التعس الذي يحمل اللقب المزعوم «والد شعبه» ومع ذلك يستطيع سماع أنباء ذبح هذا الشعب بإحساس متبلد، ويستطيع النوم ملء جفنيه ودماء شعبه معلقة في ذمته.
Неизвестная страница