فغادر الرئيس ومن معه الغرفة وأغلقوا بابها وراءهم، وهم يتساءلون فيما بينهم عن أمر هذا الرجل وهذه المرأة وطفلها، ثم عادوا إلى غرفة التدفئة.
فقال الرئيس: «نحمد الله على نجاتنا من غضب الأمير بشير، فقد كنت خائفا أن يكون الطارق أحد جواسيسه.» فقال راهب: «وما يدريك، لعل هذا الرجل من الجواسيس!» فاعترضه سائر الرهبان معا قائلين: «ذلك لا يمكن أن يكون، ألم تفهم من مجمل حالهما أنهما غريبان، وفي صباح الغد نعلم الحقيقة.» وبعد ساعة أو بعض الساعة، سار كل إلى غرفته للنوم.
سر عميق
وفي الصباح خرج الرهبان مبكرين كعادتهم، لجرف الثلوج التي تراكمت على أبواب الغرف وسطوحها في تلك الليلة. فلما كان الضحى استيقظ الضيوف، وبعد أن تناولوا القهوة والطعام، طلب العبد الأسود الانفراد برئيس الدير فانفردا في غرفة.
فقال العبد: «هل عندكم للسر مكان؟» قال الرئيس: «تكلم ولا تخف فإننا نحن جماعة الأكليروس، قد عهد إلينا بحفظ أسرار الشعوب، وعندنا سر الاعتراف.» فقال العبد: «إني أعلم ذلك، وهذا مما يدعو إلى ثقتنا بك، فاعلم يا سيدي الأب أننا لسنا من دمشق ولا من قراها، وإنما نحن من بلاد مصر وقد جئنا إلى هذه البلاد فرارا من القتل.»
قال الرئيس: «وكيف ذلك؟»
قال العبد: «إن السيدة جميلة التي رأيتها معي، هي زوجة أمير من أمراء المماليك الذين كانوا حكاما لمصر قبل ولاية الوالي الحالي المدعو محمد علي باشا القولي.»
فابتدره الرئيس قائلا: «قد سمعنا أن محمد علي باشا المذكور قد ذبح الأمراء المماليك في السنة الماضية بقلعة القاهرة، بعد أن دعاهم إلى الاحتفال بخروج ابنه طوسون لمقاتلة الوهابيين بجزيرة العرب.»
فقال العبد: «نعم يا سيدي، وكان زوج هذه الأميرة في جملة المدعوين إلى ذلك الاحتفال، وقد ذبح في جملة من ذبح، فإننا لم نسمع أن أحدا منهم استطاع النجاة من تلك المذبحة، ولم يكتف محمد علي باشا بقتل هؤلاء الأمراء بل أباح لرجاله قتل كل من يلاقونه من أتباعهم في كل جهات القطر، فأغارت العساكر المصرية والأرناءوط والمغاربة وغيرهم على دور الأمراء، وأمعنوا فيهم قتلا وفتكا بغير شفقة ولا حساب.
وقد كنت في بيت ذلك الأمير خصيا من خصيان قصره، وكنت أحبه حبا عظيما، وكانت هذه الأميرة حبلى، ولها غلام سنه سبع سنوات اسمه سليم، فطلبت إلي الفرار بها وبابنها من وجه الموت والعار، ولما كنت أعلم أن الإخلاص وصدق الخدمة إنما يظهران في مثل هذه الحال، فقد لبيت طلبها وحملنا ما استطعنا من خفيف الحمل وغالي الثمن، وخرجنا من المدينة في ظلام الليل على ظهور خيل، فلما صرنا إلى خارجها جددنا المسير، مع صعوبة الركوب على تلك السيدة المنكودة الحظ، حتى بعدنا عن المدينة فلجأنا إلى مكان اختبأنا فيه إلى الصباح، ثم تابعنا السير في الصباح التالي. وما زلنا نجد في السير ما استطعنا، حتى دخلنا حدود سوريا، ولا تسل عما قاسته هذه المسكينة من العذاب والمشقة، وما ذرفته من الدموع الغزار.
Неизвестная страница