ثم تقدم إلى الأمير وهم بتقبيل يديه فمنعه، فقال: «إني لا أنسى حسن صنيعك أيها الأمير الجليل»، وقبل وجنات أولاد الأمير، ثم قبل غريبا قبلة حارة لما كان يرى بينه وبين ابنه سليم من المشابهة، ولا بد أن يكون القارئ قد عرف أن هذا الرجل هو زوج تلك المرأة والدة غريب، أما هو فلم يعرف ولده لأنه لم يكن قد ولد يوم فارقه، وكذلك الولد لا يعرف أن له أبا غير الأمير بشير، والأمير بشير لا يعرف من أين أتت جميلة.
ولعل حكاية أمين بك قد ذكرته بسلمى، وربما مر بذهنه الشك في أن تكون هي جميلة بعينها، غير أن سابق اعتقاده بأنها من أهل صيدا واستبعاده نجاة مثل هذه المرأة وهي حامل وفرارها إلى لبنان، دون أن تخشى انكشاف أمرها، كل ذلك قد أبعد الشك عن ذهنه.
وبعد أن قبل أمين بك يد الأمير وأراد الخروج، قال له الأمير: «ما معنى هذا التقبيل يا أمين بك؟» قال: «ها أنا ذا خارج وسأستخير الله فيما أفعل، وأخشى ألا يقدر لي الرجوع إليكم، ولعل الله يجمعنا مرة أخرى.»
قال ذلك وخرج ولم يلتفت وراءه، فأخذ الأمير يفكر في أمره، وقد ساءه خروجه على هذه الطريقة، ولكنه عذره لاضطراب ذهنه وتأثر عواطفه، وظن أنه ربما يكون قد خطر له أن زوجته قد ذهبت إلى مكان يعرفه فذهب للتفتيش عنها.
أما أولاد الأمير وغريب، فلم يفهموا معنى هذا الوداع، لأنهم لم يكونوا يعلمون بالأمر.
وبعد بضعة أيام تلقى الأمير بشير كتبا من لبنان، بينها كتاب من جميلة تقول فيه إنه لم يعد لها صبر على فراق غريب، وتلتمس من الأمير أن يرسله إليها، فسأل غريبا عن رأيه، فقال: «نعم يا أبي، إني أرغب في الذهاب إلى بيت الدين لمشاهدة والدتي.» فأرسل معه بعض رجاله يوصلونه إلى لبنان، فودع رفاقه وقبل يدي الأمير، فأوصى الأمير الرجال أن يعتنوا به، فاستمعوا إليه وتوجهوا قاصدين لبنان.
أما ما كان من أمر أمين بك، فإنه بعد خروجه من عند الأمير بشير سار توا إلى سراي محمد علي باشا، وطلب مقابلته فأذن له فدخل عليه وقبل الأرض بين يديه وشكره على عفوه عنه. ثم قال له: «اعلم أيها العزيز أنه لم يعد يطيب لي المقام في هذه الديار، ولا التوجه إلى بلاد الشام، وها أنا ذا بين يديك، فهل لك أن تقبلني من بعض خدمك، على شرط أن ترسلني إلى جهة يكثر فيها احتمال الموت؛ لأني صرت أفضل الموت على الحياة، بعد فقد زوجتي وولدي، وكنت قد عولت على الانتحار، فحدثتني نفسي أن ذلك ليس من شيم الرجال، فقلت لعل العزيز يرسلني في حرب فأحارب حتى تأتي ساعتي فأموت في ساحة القتال، فذلك خير من أن أقتل نفسي بيدي!»
فتأثر محمد علي من هذا الكلام، واجتهد في أن يثنيه عن عزمه فلم ينجح، فقال: «إذا كان لا بد لك من ذلك، أرسلك إلى جهات السودان، حيث ولدي إسماعيل يحارب السودانيين ويفتح بلادهم، وستسير إليه فرقة من الأرناءوط والدلاة في هذا النهار مددا.» فقال أمين بك: «ذلك جل مرادي، وإنما أسألك أن تدعوني باسم سليمان بدلا من اسمي الحقيقي، إخفاء لحقيقة أمري.»
فقال محمد علي: «حسنا»، وأمر أن يلحق بالفرقة المسافرة على أنه من ضباطها. فسارت الحملة في ذلك النهار، وسار سليمان معها بعد أن ودع العزيز فدعا له بالعودة سالما، ولم يعلم الأمير بشير ولا أحد ممن معه بذلك.
كشف السر
Неизвестная страница