ثم لما جاء الفرنسيون إلى هنا نقموا على المماليك، وبالغوا في طعنهم وثلبهم، ولم يكن ذلك إلا إثارة لعواطف المصريين ليساعدوهم عليهم، رغبة في الاستيلاء على هذه البلاد.
وزد على ذلك أني أراهم بعد تولي جناب والدكم قد أذعنوا له وخضعوا لأوامره، بعد أن ساعدوه على تحقيق أمنيته، وورود العفو عنهم من جلالة السلطان محمد، حتى علمت أن تمكن عرى الألفة والولاء حملهم على تبادل الزيارات العائلية بين زعيمهم شاهين بك وجناب والدكم، أما كان مستحسنا الوقوف عند هذا الحد، والكف عن قتلهم بالطريقة التي علمناها؟!
الباشا :
اعلم أيها الأمير أن هذه الملاحظة قد أبداها كثيرون من كبار القوم الذين تحدثوا مع والدي في هذا الشأن، وقد تبادر إلى الذهن أنهم هم المصيبون، غير أن للمسألة وجها آخر يستوجب لوالدي العذر، هو أن هؤلاء القوم قد عرفوا منذ كانوا في منصب السلطنة على مصر، أنهم ليسوا من أصحاب العصبية، بمعنى أنهم قلما كانوا يتوارثون الملك، بل كانت الحكومة عندهم تصل إلى أشدهم بأسا وأكثرهم أحزابا، وإن الملك لم يكن يصل إليهم إلا خلسة واغتصابا. ثم لما صارت البلاد في حوزة بني عثمان، لم يبقهم السلطان سليم في منصب الأمراء إلا رغبة منه في التخلص من شرهم، ولكي يكونوا عيونا على غيرهم من أعضاء الحكومة.
وقد علمت ما كان من تطاولهم على الباشوات العثمانيين الذين كانوا يتولون هذا القطر، حتى إن الحكومة العثمانية عهدت إلى ولاتها هنا بعد الحملة الفرنسية أن يقتلوهم، وكانت تلك الأوامر سرية، غير أن الباشوات لم يتمكنوا من ذلك.
فلما اعتلى والدي منصب الولاية، كانوا بحسب الظاهر قد أذعنوا له لقاء ما نالوا من العفو السلطاني، ولكنهم ما برحوا سببا لقلقه. فلما عهد إلي والدي سنة 1811م في إخضاع الوهابيين الذين تكاثروا في شبه جزيرة العرب، نمى إليه أنهم سيغتنمون فرصة غياب الجند هناك لنيل مآربهم فسبقهم هو وأهلكهم. ولا بد أنه فعل ذلك بإيعاز من الباب العالي. وإني أؤكد لك أيها الأمير أنه لو لم ينلهم ما نالهم، لكانوا شر عقبة في سبيل أمن البلاد وتقدمها.
الأمير :
مادام إهلاكهم قد تم تنفيذا لأوامر سلطانية، فجناب والدكم بريء من تبعته، ولم يفعل إلا واجبه. غير أنه تخطر لي رواية سمعتها عن والدكم، حدثت يوم مقتل هؤلاء المماليك، هي أنه لما خرج موكبهم من سرايه بالقلعة، كان جالسا على ممشى يشرف على مكان المذبحة يدخن النارجيلة، ولم يكن معه إلا صديقه محمد بك لازغلو وصالح قوش زعيم الإنكشارية، فلما بدأت المذبحة لم يعد يستطيع البقاء على مشهد منها فدخل ديوانه بعد أن أخرج من كان فيه، وبقي فيه منفردا، وقد استولى عليه السكوت والرهبة، وتغيرت هيأته لشدة تأثره واضطراب فؤاده، ولم يشأ أن يشاهد ذلك المنظر البشع، ولعل ذلك من الأدلة على عدم تدبيره لهذه المذبحة اختيارا، والله أعلم. •••
والآن لدي أمر سأعرضه على جنابكم وله علاقة ببحثنا، هو أن أحد هؤلاء المماليك نجا من تلك المذبحة اتفاقا، وهذا الرجل قد أولاني جميلا بإنقاذ أحد أولادي من مخالب الموت، ولم أر لي وسيلة أكافئه بها إلا التماس العفو له من جناب والدكم فهل تظن ذلك ممكنا؟
الباشا :
Неизвестная страница