فقالت جميلة: «ألا تريد أن تخبرني بحقيقة هذه الخلافات، وما هي؟»
قال سعيد: «بلى، لا يخفى على سيدتي أن إمارة سيدي الأمير بشير في لبنان، تحت ولاية عبد الله باشا والي عكا المولى من قبل الدول العلية، وقد اتحد الاثنان في السراء والضراء، وفي هذه الأثناء غضبت الدولة على عبد الله باشا المذكور؛ لما تقدم ضده من الشكاوى، فأمرته أن يسلم زمام الأحكام فعصى، فأمرت درويش باشا أحد وزرائها في دمشق أن يخرج الحكومة من يده قهرا، فابتدأ بسيدي الأمير بشير فأخرج إمارة لبنان من يده إلى أمير يقال له الأمير عباس، فذهب سيدي إلى عكا لإخبار عبد الله باشا بالأمر، فبعث درويش باشا جندا يقطع عليه الطريق، فعزم على المسير إلى مصر ليطلب وساطة محمد علي باشا عزيز مصر لالتماس عفو الباب العالي عن عبد الله باشا.»
فنهضت جميلة مرتعدة قائلة: «ويلاه يا سعيد! كيف نبقى نحن هنا والبلاد في قبضة أعدائنا، وليس من يحمي ذمارنا؟ يا للفضيحة!»
فطمأنها سعيد قائلا: «وقانا الله من الفضيحة يا مولاتي، إننا لا نزال بحمى الأمير في أمن من طوارق الزمان، فإن العرين لا تقربه الثعالب ولو غاب الأسد عنه، ومع ذلك فإن حرم الأمير لا يزلن هنا، وهو أحرص على عرضه منه على حياته، وقد علمت أن الأمير عباسا قد عاهد سيدي سرا أن يحمي ذماره في بيت الدين فغيابه كحضوره.
ولا تظني أن هذه الحال تدوم، فقد علمت أن إمارة لبنان خرجت من يد الأمير منذ تولاها إلى الآن عدة مرات، ثم عادت إليه والناس مجمعون على أنه ما من أحد يليق بها إلا هو، فقد خرجت من يده على عهد أحمد باشا الجزار الذي كان يبيع إمارة لبنان بيعا، فيسلم زمامها إلى من يدفع الرشوة الكبرى، حتى إنه أخرج الأمير بشيرا منفيا غير مرة، وحاربه مرارا، ومع كل ذلك لم تثبت إمارة لبنان إلا له. وأنت يا سيدتي تعلمين أهليته ومحبة الرعية له، فعلى كل حال لا خوف علينا بإذن الله، والذي نجانا من مصر قادر على أن يحفظ حياتنا هنا، وإذا كانت ذنوبنا كثيرة فأظنها قد غفرت بما حل بنا من النكبات.»
فقالت جميلة: «هل أنت واثق من ذلك يا سعيد؟» قال: «نعم، وعلى كل حال أرى أن سفر سيدي غريب أفضل من بقائه هنا، وفوق ذلك ليس لنا حيلة فيما حدث إذ لا يمكننا مراجعة الأمير فيما طلب، وأنت يا سيدتي تعلمين كرهه للمراجعة فيما يقوله - ولو كان خطأ - على أننا نعلم يقينا أنه يحب سيدي غريبا كأحد أولاده، وفي اعتقادي أنه إذا قاسى مشاق الغربة في صغره يشب محنكا عالما بأحوال الدنيا. ويا حبذا لو أستطيع مرافقته منعا لبلبالك، غير أن دون ذلك عدة موانع، منها أنني أخشى انكشاف أمري هناك، ولا آمن أن أتركك وحدك؛ إذ ربما تحتاجين إلى خدمتي خدمة لا يستطيع غيري أن يقوم بها، أما غريب فقد سار بمعية أسد الغاب وبطل هذا العصر، فلا خوف عليه.»
فتنهدت جميلة، وقالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، فليس لنا إلا الاتكال على الله والتمسك بالصبر الجميل.» وبينما هما في ذلك، إذ دخل غريب ووجهه يطفح سرورا، وتقدم إلى والدته وقبل يدها جريا على عادته، ثم قال لها: «إن أبي (يقصد الأمير بشيرا) قد بعث إلي أن أسير إليه مع أخي أمين، ومن هناك نسير جميعا إلى مصر، فهيا بنا نذهب!» فقبلته وقالت: «أنا لست ذاهبة معكم يا ولداه، وإنما أنتظركم هنا.» فاغرورقت عيناه بالدموع وسكت هنيهة، ثم قال: «فليذهب سعيد!» فقال سعيد: «حبذا يا سيدي لو أستطيع الذهاب ، ولكنني باق هنا مع سيدتي ننتظر رجوعكم فعسى أن يحلو لكم السفر؛ لأن بلاد مصر بهيجة، ولا سيما في فصل الشتاء.»
ثم أقبلت عليه والدته تقبله وتودعه قائلة: «سر يا ولدي في رعاية المولى وحراسته، وأستحلفك بمحبة الأم، ألا تنسى والدتك في سفرك!» فبكى الغلام، وقال: «كيف أنساك يا أماه وقد ربيتني في حجرك أعواما؟» فقالت: «أحب منك أن تكتب إلي كلما سنحت لك الفرصة، وتخبرني عما تشاهده في سفرك تعزية لقلبي عن بعدك.»
وبينما هم في ذلك، إذ قرع الباب ودخل الخادم يطلب الأمير غريبا ليسير في ركب الأمير بشير، فنهضت والدته وقبلته فقبل يدها وودعها، وسار مع الرسول ومعهم أولاد الأمير الآخرون، وأعين جميلة وسعيد ترافقهم حتى تواروا.
غريب في مصر
Неизвестная страница