قال فؤاد: كيف علمتم بأني سأتزوج قريبا بالسيدة سعدى ابنة غانم؟
قالت كريمة: علمنا ذلك في وقت قريب، على أنني أرغب أيها الشاب الأريب أن أتحدث معك في أمر ذي شأن لا يوافق أن يطلع عليه الغير، ولأجل هذا السبب صرفت ابنتي كما رأيت، فأرجوك أن تقترب مني فلا تسمع عفيفة حديثنا.
قال فؤاد: لبيك، وأدنى كرسيه منها.
فشرعت كريمة في خطابه وقالت: ربما استغربت مني السؤال ورأيته خارقا، فأرى من الضروري قبل الشروع في الحديث أن أبسط لك الأسباب التي حملتني على ذلك، فقد جمعتني وإياك الأقدار للمرة الثانية، وتوسمت في طلعتك من المروءة وكرم الأخلاق ما ملأني ثقة بك وأطمعني بجودك، كأن لي سابق معرفة بشخصك الكريم وقديم عهد بالصداقة، وكفى لتحقيق ظني ما فعلت بالأمس إذ أنقذت ابنتي من الهلاك غرقا، ولي عندك منة أخرى ألتمسها من جودك وإحسانك، فلا تلمنا أيها السيد إن قصرنا بشكر جميلك، فالمساكين يعجزون عن مكافأة أهل الفضل، وليس لهم إلا الدعاء لهم بطول البقاء ودوام السعادة والخير، ولي إدلال على حضرتك يجرئني على تقديم توسلي إليك أنك ستتزوج قريبا بابنة أخي غانم، فيتصل نسبنا بنسبك الرفيع، وإن كنت من الشهرة والشرف فوقنا كثيرا، فمكارم أخلاقك وجميل صفاتك أعظم وأرفع، فما تجد في ملابسة الفقراء عارا.
قال فؤاد: إن تم زواجي بابنة أخيك أو لم يتم، فإني لك محب مخلص قائم بفائق اعتبارك ومزيد إكرامك، وأنا لا يمنعني القيام بقضاء حاجاتك عدم زواجي بابنة أخيك، فأنا على الحالين مجيب طلبك. وكان قد رأى فؤاد أن يجاري كريمة على خطابها فأوهمها الرغبة في زواجه بسعدى ابنة أخيها لتفيض في الحديث الذي توسم أنه يتعلق بعفيفة.
قالت كريمة: أنقذت يا سيدي ابنتي من الموت، وعما قليل ستصبح لنا قريبا، أمران يجعلاني أتجاسر بالتثقيل عليك، وأنت أفضل من يعذر، لمن يبح الناس بأسرارهم إن لم يبوحوا للأهل والمحبين والأنسباء؟!
قال فؤاد: لك أخ تلقين إليه أسرارك.
قالت: ليس لي سند من أخ ولا زوج، وأنا في هذا الكون وحيدة ليس لي سند، وعلى عاتقي ابنة هي سلوتي من الدنيا وعذابي فيها، وقد التزمت الصبر مديدا حتى آن الأوان لأتكلم وأكشف النقاب عن وجه ضمير، وأفتح كنوز أسراري والحال داعية، وفي الكتمان ذنب أحمله وإثم لا يغتفر. ثم إنها سكتت لتستريح قليلا، ثم قالت: لا ريب أن تكون قد قلت في نفسك إذ رأيتني لأول مرة هذه المرأة مسكينة موجعة، لو أن في إمكانك العلم بمقدار أوجاعي وأحزاني، وإذ دخلت إلى هذه الحجرة فلا بد أن تكون قد قلت أيضا هذا مكان الشقاوة والتعاسة، لو يخطر على بالك أن عندي من النوائب ما لا يستطاع وصفا، فاعلم أن في البيت ثلاثة أشخاص قد اجتمعوا الواحد إلى جنب الآخر: ملك كريم هي ابنتي عفيفة، وامرأة متعوسة على مشارف الموت هي أنا، وذئب كاسر شرير هو زوجي خليل. وهنا انقطعت كريمة عن الكلام، وجعلت يدها على قلبها كمن يشعر بألم، ثم قالت: إن في حياتي التي قضيتها لعبرة للنساء القليلات البصر، العديمات الفهم، اللواتي يتزوجن برجال أصغر منهن سنا، فلقد تزوجت بزوجي الأول، وليس بيني وبينه في السن تفاوت، فعشنا بأرغد عيش وأهنأ بال وأتم وفاق، وكانت فيه - رحمه الله - صفات جميلة ومحاسن، لو ذكرتها ولو تدبرتها بعد وفاته؛ للزمني أن أقاطع الرجال فلا أتزوج بعده، ولكن غلب نحس سعدي فخطفت المنية روح ذلك الزوج المحبوب، وهذه ابنتي تلبس السواد حدادا عليه من تسع سنوات، وكان يلزمني أن أفعل فعلها، فقد أخطأت وكابدت جزاء خطيئتي، ولا أطيل عليك الشرح في إخبارك عن تبديد ثروتي التي ورثتها وسقوطي السريع من بحبوحة اليسر ومراحه إلى مضايق العسر وعذابه، والتزام ابنتي العمل الجهيد للقيام بأودنا ومعيشتنا، فهي تشتغل فلا تقطع عن عملها آناء الليل وأطراف النهار، وقد أنهكها التعب حتى أصبحت كالخيال كما رأيتها، فلو طال المدى عليها وهي على هذه الحالة هلكت لا محالة، وفضلا عن ذلك فإنها لا تأمن كيد خبيث يريد بها شرا، وهي في مخزن خياطة تتعامل مع الشبان الفنانين والسفهاء من كل قوم.
قال فؤاد: في الحقيقة إنها عرضة للأنظار، فحرام أن تكون في هذه الخدمة.
قالت كريمة: لست أحدثك عن أوجاعنا الناشئة عن الفقر، ولا أذكر لك ما أقاسي من الآلام والأحزان بسبب هذه الحالة، فقد كنت حمولة صبورة لا أعتبر الآلام بشيء، وإنما كان أعظم النكد علي نكران الجميل وخيانة زوجي لي بعد أن قربت على مائدة حبه حياتي وجميع ما أملك، فهذا الزوج أصغر مني بعشر سنوات، وربما يرى البعض أنه معذور بسوء تصرفه معي لتفاوت السن بيني وبينه، ولو شكوت أمري إلى الناس لأوسعوني لوما وتعنيفا بما جلبت من التعاسة لنفسي بيدي، وقد جال في خاطري أن أنتحر - كما همت أن تفعل ابنتي بالأمس في نفسها - فما صرفني عن ذلك إلا حبي لها، وخوفي عليها أن تقيم في خطر بعدي، وكنت أتمنى الموت، وأجد قربه لذيذا بقدر ما كنت أكره الحياة وأجدها مرة، فلولا شفقتي على ابنتي لرحلت عن هذه الدار، ولكنني كتمت أمري وصبرت على أوجاعي وأوصابي، وفي كل يوم لي بلاء جديد، وقلبي يتقطع حزنا إذ أرى عفيفة منهوكة القوى لا يطمئن لجنبها مضجع، فأجد بالموت لي ولها راحة، وكثيرا ما حدثت نفسي بأن أوقد فحما فنختنق كلانا بالأسفكسيا، فمنعني عن ذلك خوفي أن أراها تتعذب قبل موتها.
Неизвестная страница