فتضجر سعيد من تحذير فؤاد وقال: قد أزف الوقت ولا بد أن أذهب، فإن شئت أن ترافقني فهذه عربتي تنتظرني على الباب.
قال فؤاد: أرافقك إلى قهوة البورس.
قال سعيد: استحسانك.
ونهضا معا فركبا العربة، ثم قال سعيد لفؤاد يسأله عما جرى له مع صاحبته الصفراء الناحلة المكتئبة.
قال فؤاد: وحياتك يا سعيد إني لم أهتم لاقتفاء أثر النساء، فقد تركت الفتاة وشأنها وحضرت إلى البيت بعد انفصالك عني.
قال سعيد: حسنا عملت، فأنت على وشك الزواج بأختي، ولا يليق بك التشاغل بمرافقة النساء ومعاشرتهن، ولكن بالله عليك أن تخبرني عن حديثنا في الأمس عن أختي، فإني لكثرة ما شربت من الخمرة لم أدر ما قلت، وربما تكون قد سمعت مني قذفا بحقها، فلا تأخذن قذفي على وجهه.
قال فؤاد: لست متذكرا أنك أخبرتني عن شقيقتك بشيء، فإني لم أسألك إلا عن صحتها فأخبرتني أنها بخير.
ولما كان من عادة شاربي الخمرة أن لا يعوا ما يقولون في حالة السكر صدق سعيد كلام فؤاد، وانشرح صدره، واطمأن خاطره. ثم وصلا قهوة البورس، فنزل فؤاد من العربة، واستمر سعيد سائرا إلى جهة باب الجنينة يبحث عن محبوبته، وانطلق صاحبه إلى منزل عفيفة في درب الجنينة.
الفصل التاسع
ندع فؤادا سائرا في سبيله إلى منزل عفيفة، ونخبر بما جرى له من الأمور بعد إنقاذه الفتاة من الغرق وعودته إلى بيته، فقد كان لشدة اضطرابه لم يذق نوما، وظل ليله هاجعا كأنه على شوك القتاد، تخطر على باله حوادث تلك الليلة، من حين شاهد عفيفة في دكان الخياطة واقتفائه أثرها، وإنقاذها من يد الصيدلي، إلى حين إنقاذها من الغرق وإيصالها إلى بيتها. فكانت كل هذه الحوادث تجول في خاطره، فتهزه وتحرم جفنيه لذيذ الكرى، ولو أن رجلا غيره شهد هذه الأحوال، فربما لم يندهش لها كثيرا غير أن ما نشأ عليه فؤاد من التربية، واعتزاله الناس جعله يضطرب لأقل أمر يراه، فكيف لأمور خطيرة كهذه؟ وكان فؤاد من بلوغه سن الرشد مطيعا لوالدته سميعا لقولها، فلم يكن بعيدا أنه يتزوج ابتغاء مرضاة أمه بسعدى وهو لا يحبها، على أن عيشه كان منغصا، ونفسه منقبضة من أخبار هذا الزواج، وقد لحظ ذلك خاله همام حين أدب مأدبته في الفندق الشرقي إكراما لغانم وابنه سعيد، إذ لبث فؤاد - كما تقدم القول - واجما لا يفوه بكلمة. وقد زاد كراهة الفتى في الزواج ما سمعه من سعيد من القول الشنيع على شقيقته سعدى، وذكره عيوبها الخلقية والخلقية، وقد غالبته طبيعته، فلم ير وجها للاستراحة إلا بالمجاهرة في مخالفة أمه كما ظهر للمطالع الناظر في الفصول السابقة، وعلى أن هذا الفتى لم يكن يتخلص من بلية إلا ليقع في شر منها، ولم يكن اقتفاؤه أثر بنت جميلة أنقذها من الموت غرقا ليذهب بلا أثر، فالنساء الحسان نكد في الدنيا على من يقاربهن، فلا يسلم من غوائلهن أحد سواء صنع معهن خيرا أو شرا - كما سيظهر فيما يلي من الحديث - ولما لاح الفجر لبس فؤاد ثيابه وخرج من البيت وهو لا يعلم كيف يتجه، ولم يكن من عادته الخروج باكرا، وكان ذلك داعيا لاستغراب والدته - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في سياق الحديث الذي دار بين غانم وشقيقته - وجعل فؤاد يسير على غير هدى هائما على وجهه في الشوارع، تقيمه الأفكار وتقعده حتى وصل إلى مخزن الخياطة فأبصره مغلقا، فتعجب ثم سقط عجبه إذ تذكر أن ذلك اليوم الأحد ينقطع الناس عن العمل فيه طلبا للاستراحة، فمضى قاصدا درب الجنينة إلى منزل الفتاة، فلما اقترب منه جعل يتروح آتيا رائحا من أول الطريق إلى آخره ناظرا إلى الدور الأعلى من البيت، حيث شاهد في الأمس المرأة ناظرة من الشباك، وحدث نفسه برؤية وجه عفيفة، فخاب ظنه وطال عليه الزمان، فهم أن يقرع الباب، ولكنه تذكر أن الوقت بكور، لا يليق الدخول فيه على الناس ولا سيما الفقراء منهم، وكان من مبادئه التأدب واحترام العادات وإكرام المساكين ومواساة أهل الحاجة ولا سيما الذين يخني عليهم الزمان فيسقطهم من ذروة العز إلى حضيض البؤس والهوان، فقفل راجعا على عقبه محدثا نفسه بالرجوع للزيارة بعد الظهر معتقدا أن الواجب عليه مقابلة والدة عفيفة ليخبرها بما كان من أمر ابنتها في الأمس، فقد كان يخشى أن لا تعدل الفتاة عن غيها، وأنها تصر على قتل نفسها، فرأى أن يحيط أهلها علما بذلك ليتداركوا الأمر وفي الوقت سعة، وكان في نفسه شوق شديد لمعرفة أسباب يأس هذه الفتاة المنكودة.
Неизвестная страница