فتنهدت وقالت: وما حظ النار من أكل لحم البشر وفقد الأرواح.
وكان قد نظر إلى وجه «مندان» فوجد بشائر نور الإيمان تلوح على محياها، فتجرأ على إرشادها إلى طريق الصواب. فقال: مولاتي إن النار مخلوقة من مخلوقات الله تعالى، سخرها لعباده لينتفعوا بها، وليس لها سمع لتعي كلامنا، ولا بصر لتنظر إلى أفعالنا، بل أعجز من العاجز. ولا يجوز لبشر أن يعبد غير الله تعالى الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وأحصى كل شيء عددا، وقدر الأرزاق والأعمار، ونظم الكون بقدرته - سبحانه وتعالى عما يصفون.
فلما سمعت كلامه تلألأ وجهها، وانشرح صدرها، وقالت: وأين هذا الإله العظيم حتى أعبده أيها الأستاذ؟ أرشدني إليه لأني منذ أيام أفكر في أمر النار وعبادتها. ومن هو الإله الحقيقي الذي يجب أن يعبد؟ فمن هذا السبب كنت تراني دائما منقبضة النفس ضيقة الصدر، ولا أجد لي من ألقي إليه نتيجة أفكاري، ولا من يرشدني إلى طريق الهدى!
قال: يا مولاتي! هو الله الذي في السماء عرشه، وفي الأرض بطشه، يرى ولا يرى. وهو في المنظر الأعلى لا ينبغي لأحد أن يراه، وقد جل عن الوصف، وإني قد حيرني أمرك، وأشفقت على نضارة شبابك من ذلك الانقباض، وبحثت فلم أهتد إلى الحقيقة، والآن ها نحن - والحمد لله - قد ضمنا الدين القويم، وسألقي عليك بعض ما علمته من العلوم الدينية.
فشكرته «مندان» على ما أولاها من الهدى، ثم قالت: ولكني أود أن أسعى في خلاص هؤلاء الأطفال قبل سفري من هذا المكان.
قال: يا مولاتي، إن ذلك من أصعب الأمور.
قالت: إنه علي هين بمساعدة الإله الأعظم.
ثم نهضت ودخلت حجرتها، وأحضرت الموبذان الأكبر، وأنعمت عليه بالخلع والهدايا، وأحسنت إليه فدعا لها، وقال: باركت النار فيك أيتها الملكة، وأكثرت فينا من أمثالك!
ولما علمت منه أنه راض عنها، قالت له: إن النار قد رضيت عني، وعلمت ذلك؛ لأنها منحتني ثلاثة أنفار من أسراها.
قال: يا مولاتي، من هم هؤلاء الأسراء الذين غضبت عليهم النار، ولم تقبلهم لها قربانا؟!
Неизвестная страница