وكان البرنس دي بوربون - وكما يصمم البعض على مناداته بصاحب الجلالة ملك فرنسا - قد لاقى نجاحا كبيرا في الهيئة الاجتماعية، فكان يرى - إذا كان الجو معتدلا - في الكوراس وفي أغلب الليالي إما في الأوبرا أو في قاعة اللعب، لا يفارقه طبعه الدمث الذي حببه إلى الرجال والنساء على السواء.
غير أنه كان في صالونه الخاص في فلا إليزابث لويس ملك فرنسا لا أقل من ذلك، وربما كان هذا راجعا إلى تأثير أمه؛ فقد كانت تعمل جهدها لكي يعامله الجميع بأصول الإتيكيت، حتى إنه كان يعقد مقابلات رسمية فيلاقي ضيوفه جالسا على مقعد مذهب مرتفع أشبه شيء بالعرش، فكانت السيدات ينحنين إذا مررن أمامه راكعات نصف ركعة، حتى تلمس أطراف أثوابهن المستديرة أرض الغرفة، كما كان يلبس الرجال في هذه الزيارات ملابسهم الرسمية الكاملة، وكان يعتبر حظا كبيرا أن ينال أحدهم يد الملك لتقبيلها. وكانت الملكة الوالدة تجلس بجانبه على كرسي أقل ارتفاعا عن عرش الملك، ولو أنها تعدت العقد الخامس من عمرها إلا أنها كانت امرأة جميلة تظهر عليها مخايل العظمة ممزوجة بالوقار.
لقد كانت نموذجا جميلا للمرأة الإسبانية؛ فقد كان شعرها المتحول إلى اللون الأبيض لا يزال يوري جمال أصله الذهبي، وكانت عيناها السوداوان تنبئان عن أنها كانت في صباها امرأة جذابة، وكانت تتكلم الفرنسية بلهجة إسبانية واضحة.
على أنه لم يكن يعرف أحد شيئا عن مولدها ولا عن أصلها، وقد ذهبت محاولات الكثيرين في البحث عن هذا سدى.
ولم يكن للبرنسيس دي بوربون إلا أصدقاء قلائل، وكان هناك شخص واحد فقط هو الذي حاز ثقتها، ويجوز أن يعتبر أقرب المقربين إليها، وهو الكونت فريزن الذي كان مديرا لسفارة أوستوريا في باريس، تحت رياسة البرنس مترنيخ، وكان يفد عادة إلى بادن بادن في فصل الصيف، فيزور فلا إليزابث دائما.
لقد كان كل هذا قبل سنة 1858، ولكن منذ هذا التاريخ تغير كل شيء؛ فقد كانت البرنسيس دي بوربون تذهب كالعادة إلى فلا إليزابث، ولكن البرنس كان يرى نادرا في بادن بادن؛ فقد قيل عنه إن صحته ليست على ما يرام، وقد نصح له الأطباء بالإقامة في سويسرا مدة طويلة، وفعلا لم يزر أمه في مدة سنتين إلا بضع زيارات قصيرة.
وكان من النادر أن يرى خارج الفلا إبان هذه الزيارات.
ولم تكن قلة ظهور البرنس دي بوربون في المجتمعات لتثير فضول الناس أكثر من حياة البرنسيس دي بوربون الخاصة؛ فقد قيل عنها إنها تسعى لاستعادة عرش فرنسا لابنها، وأخذ الناس يحسبون عليها حركاتها ويؤولونها بمختلف التأويلات. والواقع أن تلك السيدة التي يندر أن تزور أحدا قامت بزيارة البارون ألبرت كريستوف المالي العالمي الكبير في فلا تريز، وشاهدت مجموعة الصور التي عنده، والتي تعتبر أشهر مجموعة في أوروبا، كما أنها دعته لزيارتها في فلا إليزابث، وقد قال البعض إنها فعلت كل هذا بمشورة الكونت فريزن، إذ إن البارون كريستوف كان أوستوري الجنسية أيضا. وازدادت العلاقة بين السيدة والبارون وكثر تزاورهما، وشوهدت السيدة أكثر من مرة تركب إلى جانب البارون في عربته الفخمة، وتهامس الناس عن كنه هذه العلاقة ومداها، وذهبت الظنون بهم كل مذهب؛ فقد قال البعض إن السيدة تسعى للتأثير على البارون واستمالته إلى جانبها فتستفيد من أمواله لتحقيق أغراضها، وقال آخرون إن البارون نفسه يسعى لاستعادة آل بوربون العرش طمعا في أن يزوج ابنته الجميلة فيرونيك للبرنس دي بوربون، الذي سيصبح فيما بعد ملكا فعليا لفرنسا. •••
وصل سيرل برتراند إلى بادن بادن، وتساقط إليه ما دار على الألسن عن موضوع فيرونيك ومشروع زواجها للبرنس دي بوربون، وذهب فيرونيك أيضا إلى بادن بادن بعده بأسبوع، فكان يراها بعد هذا كل يوم تقريبا تسوق جوادها في طريق ليخنثال، أو في قاعة الملعب بالكوراس، أو في الأوبرا، غير أنها ما كانت تلاحظ وجوده مطلقا، ولم تلق يوما إليه نظرة واحدة وهو يتأمل وجهها بنهم وشغف.
لقد كانت عنده المرأة الوحيدة في العالم التي يفضلها أكثر من حياته، بل ويرغب فيها أكثر من كنوز العالم أجمع، ولكنه كان يدرك رغم كل هذا أنه لا قيمة له إذا قاس نفسه بها، فما هو إلا رسام مجهول قام بعمل صورة لها، ونال أجرته على عمله، وأن الثلاثة الأيام التي قضتها في الاستوديو لا بد أنها قد محيت من صفحة ذاكرتها ... كان هذا ما يدور بخلد الرسام المسكين الذي يقدس الآنسة فيرونيك، وهو ينتظرها يوميا في الطريق وقت خروجها للنزهة، رغم ما ترامى إليه عن مشروع زواجها بأخيه ملك فرنسا غير المتوج.
Неизвестная страница